مواضيع اليوم

مرثية للإسكندرية

أحمد قيقي

2013-11-17 11:12:33

0

 أجلس الآن فى قريتى الكائنة فى وسط دلتا النيل  , هرعت إليها هربا وفرارا من مدينة  الاسكندرية , سحبت معى أيام عمرى  لأتلمس فى ساعاته ولحظاته الأنا  القديم , هذا الذي عشقته  لاننى عشقت  أيامه الجميلات وشبابه الحالم  الذى  حام فى أرض الوطن  وهام به عشقا وجنونا .   كانت الاسكندرية هى هى المدينة التى احتضنت شبابى  ورعت  فكرى وكوّنت  وجدانى , على نسماتها الحانية  اخذت أغزل  أحلام مستقبل  تصورته واعدا  مترعا بآيات الجمال  منطلقا فى آفاق  الحرية . كانت الاسكندرية  عروسا تغسل قدميها فى ماء البحر  فيستقبلهما نشوان  ثملا بما ينضحان عليه من مسك وعنبر ,  كانت  تولى وجهها الصبوح نحو الغرب  تتنفس  عبق حضارته  وتنشرها حولها  فى إبداع  فريد , وتعطى ظهرها للشرق  متلفتة إليه  لتأخذ من حضارته أجمل ما فيها  وأكثرها  سماحة وتحررا  .    /  كنت قد ذهبت  لعروس البجر فى  أغسطس عام 67   ورغم أننا كنا نعيش فجيعة الهزيمة  ونتجرع كؤوس مرارتها  إلا  أنه بقدر حجم الهزيمة كان حجم الأمل  وبقدر قسوة الانكسار كانت قوة الإصرار .  ربما لأن وحدة الشعب وراء الهدف الواحد , ووحدة مشاعره  نحو الوطن الام , ووحدة وجدانه المحب للحياة العاشق للفنون  كان كل ذلك يجعل المتعة بالوجود ممكنة مهما كانت التحديات القادمة من خارج الحدود  . /   كانت الاسكندرية  تنفرد  بتلاقى كل الحضارات على أرضها  وتجانس كثير  من الجنسيات على رمالها  واجتماع جميع العقائد  فى أرجائها دون نفى أو  تنابذ أو  إرهاب  /  بلد  جميل فى موقعه متميز فى صفاء بحرة ,  فريد فى حب أهله للجمال /  كثير من الأغنيات قيلت فى جمال بنات الأسكندرية  اللاتى  كن ّ يتهادين على شاطئها الجميل  تميس قدودهن  جمالا  وتغرد ضحكاتهن بشرا ودلالا ويهفهف  شعرهن الأسود على جباههن الأبية ويسافر فى كل الدنيا  , وقد كانت مدينتى هى الدنيا /   الآن  وبعد رحيل العمر  صرت أفتش عن مدينتى فى كل مكان , وأسأل عنها موج البحر وأسأل فيروز الشطآن , لقد ضاعت مدينتى  التى عشقتها  , لقد تم اغتيالها مبنى ومعنى  , ذلك أنه فى عصر الفساد الذممى والتردى الاخلاقى  تم هدم كل قصورها  وفيلاتها  واغتيال أشجارها وحدائقها  لتقام على انقاضها  غابات من الأسمنت  الى حجبت الضوء والهواء  , وملأت المدينة بملايين الوافدين  بمركباتهم وسياراتهم التى ضاقت بها الشوارع  فأصبح السير فى المدينة  مغامرة غير محمودة العواقب ,/   لقد شاخت المدينة ولم تعد عروس البحر  بل صارت عجوزه الحزينة  /  ويبقى  أن ما أصاب المعانى كان الأخطر مما أصاب المبانى  , بل ربما جاءت مصيبة المبنى من كارثة المعنى , لقد تغير فكر مدينتى  ونضب معين  ثقافتها  بعدأن تعرضت لإعصار  سلفى  عاصف   قضى على خاصيتها  وفرادة ثقافتها   وملأها تعصبا  وإرهابا   ,ولست أبالغ إذا قلت  إننى لم أعد أرى فى المدينة وجوها مشرقة   فقد حل محله التجهم والكآبة  , حتى نساؤها حين غابت الابتسامة  عن وجوههن أخفينها  وراء أسدلة سوداء   بعد أن تعرضن   لهجوم  تجار الدين أعداء الجمال الذين يختذلون الجنة  فى تحجيب النساء  ويرونه الدليل  على تفوقنا وأفضليتنا على الآخرين /   نعم إننى أرثى الاسكندرية  أرثى مدينتى  وأرثى زمنى الجميل الذى  ضاع  وأجلس  أسير الأحزان على أيامه ولياليه   مؤمنا بأن الحياة  ماهى إلا مسرح كبير يرى الإنسان فيه من المشاهد ما لم يكن يخطر له حتى فى الكوابيس




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !