مراكش الحمراء التي اكتوت بعذابات أبنائها
ماريا الزويني تحكي التفاصيل:
كنت رفقة اجبابدي وبودة والبواب والبيه والبخاري نتناوب على الـمرحاض
إعداد: عادل تشيكيطو
مراكش الحمراء ...أو مدينة النخيل ...أو كما يحب أن يطلق عليها أبناؤها(البهجة )...مدينة مغربية تقع في وسط المملكة... اسم مراكش تبسيط لعبارة أمور ن أكش التي تعني بالأمازيغية أرض الله أو أرض الرب... وصفت مراكش بأنها المدينة الحمراء، الفسيحة الأرجاء، الجامعة بين حر وظل ظليل وثلج ونخيل، عاصمة دولة المرابطين والموحدين والسعديين، قال فيها صاحب وفيات الأعيان: مراكش مدينة عظيمة بناها الإمام يوسف بن تاشفين... وذكرها صاحب معجم البلدان وقال: مراكش أعظم مدينة بالمغرب وأجلها... ووصفها مؤرخها ابن المؤقت المراكشى وقال بأنها: مدينة لم تزل من حيث أسست داشر فقه وعلم وصلاح، وهى قاعدة بلاد المغرب وقطرها ومركزها وقطبها، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، بسيطة الساحة ومستطيلة المساحة، كثيرة المساجد، عظيمة المشاهد، جمعت بين عذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة، وسعة الحرث، وعظيم بركته.
و تحدد المصادر التاريخية بناء النواة الأولى لمراكش سنة 1070 م من قبل المرابطين ، وهم مجموعة قبائل أمازيغية رحل أتت من الصحراء، وقد تطورت هذه المدينة تحت حكم السلطان يوسف بن تاشفين( 1061 - 1107) إلى حد كبير من نتائج التوسع المرابطي في افريقية والأندلس لتصبح المركز السياسي والثقافي للمغرب الإسلامي، بعد استتباب الامر للموحدين عقب دخولهم المدينة سنة 1147م،حيث اتخذوها عاصمة لحكمهم وأنجزوا بها عدة معالم تاريخية لاتزال تشكل مفخرة عصرهم كصومعة الكتبية بمسجديها،الأسوار، الأبواب والحدائق إضافة إلى قنطرة على وادي تانسيفت ظلت تستعمل حتى عهد قريب.
هكذا عرفت مراكش تحت حكم الموحدين إشعاعا كبيرا جعل منها مركزا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا لا نظير له في الغرب الإسلامي.
وأمام ضعف الموحدين استولى المرينيون القادمون من الشرق سنة 1269م على المدينة غير أنهم اتخذوا فاس عاصمة لهم لقرب هذه الأخيرة من موطنهم الأصلي مما أدى إلى تراجع مدينة مراكش وتحولها لمركز ثانوي...و في سنة 1551م استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للسعديين 1589م 1659م. فعلى عهدهم تم تشييد بنايات ومنشآت جديدة أهمها قصر البديع ومجمع المواسين ومدرسة ابن يوسف وقبور السعديين وعدد من السقايات...و تحت حكم العلويين، قام المولى رشيد بترميم مسجد بن صالح المريني، غير أن خلفه المولى إسماعيل أولى كل اهتمامه بعاصمة حكمه الجديدة مكناس...وقد عمل السلطان سيدي محمد على إعادة مراكش إلى مكانتها وذلك من خلال إنشاء أحياء ومعالم جديدة.
ويمكن القول إن مراكش اتخدت شكلها النهائي إبتداء من فترة حكم هذا السلطان إذ اقتصرت المراحل الموالية على ترميم ما تم انجازه منذ العصر الوسيط...ونظرا لما تزخر به من إرث حضاري كبير، أصبحت مدينة مراكش قبلة للسياحة العالمية ومقرا للمؤتمرات الدولية ذات المستوى الرفيع، لتحتل بذلك مكانة خاصة في المغرب الحديث.
وفي الجهة المظلمة من تاريخ مراكش وكما في المدن المغربية الكبرى فقد مورست بهذه المدينة انتهاكات جسيمة في مجال حقوق الانسان تعرض لها موطنون من مدينة البهجة واستهدفت بالخصوص الطلبة المناضلين في صفوف الحركات السياسية والطلابية وكانت بيوتهم تتعرض للحصار والتخريب ومتابعة العائلة بكاملها وكذا تتبع أصغر العناصر فيها حيث يتم التضييق عليهم أينما رحلوا .
وتؤكد مختلف الشهادات، سواء تلك التي تدفقت خلال جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الانصاف و المصالحة، او تلك التي حصلنا عليها من خلال مجالستنا لمجموعة من المتضررين المراكشيين ، أن سنوات الجمر بالمغرب امتدت لتشمل مساحات جغرافية مختلفة بالمدينة الحمراء ، و أن لظاها اتسع ليشمل كافة المقهورين او المحرومين بها ، سواء أولئك الذين تمتعوا بقدر من المعرفة و انتظموا في هيآت علنية أو سرية، أو أولئك الذين بحكم فطرتهم، و غيرتهم على الوطن، رفضوا الانصياع لمسلسل الخنوع، على الرغم من انهم لا يتوفرون على مرجعيات فكرية أو عقائدية.. و غير مهيكلين في تنظيمات سياسية...
و لعل هاته الفئة، الأخيرة، كانت أكثر تضررا من غيرها، على اعتبار ان النظام المغربي استفرد بها، حيث كان يتم اقتيادهم أمام مرأى العموم بعد مداهمة بيوتهم والتنكيل بأهاليهم حتى يكونوا عبرة لكل المراكشيين ويتم في غالب الأحيان الزج بهم في أقبية كوميسارية جامع الفنا ليمارس عليهم العذاب بشتى أنواعه وتنتهك حقوقهم عن سبق إصرار وترصد وتجهض كرامتهم دون رحمة فلا مأكل ولا شراب ولا غطاء بهذا المخفر الرهيب .
يقول منعم السباعي معتقل سابق بالكوميسارية المشؤومة في تصريحه لنا اعتقلت بتلك الكوميسارية وأنا في سن لم يتجاوز السبع سنوات كرهينة بدل أخي الذي كان سيتم اعتقاله خطأ عندما اختلط للجلادين اسمه باسم أحد أبناء كيليز ولما سلم أخي نفسه ذاق زهاء اليومين أمام عيني من العذاب والويلات حتى كاد أن يعترف بما نسب إليه ،لولا أنهم توصلوا بعد ذلك إلا أن المعني بالأمر هو شخص آخر وقد رأيت بعيني جهنم وأنا في سن لا يمكنه أن يميز مايحدث أمامه من أهوال كوميسارية جامع الفنا التي جعلتني اللحظات التي قضيتها فيها لاأرغب حتى في الوصول إلى الساحة الجميلة
مريا الزويني ...مناضلة من مراكش راكمت الألم والحزن بسبب سنوات الجمر
ومن بين الشهادات التي راكمت الحزن والألم من جراء التعذيب والتنكيل بمراكش إحدى المناضلات اللواتي لاقين من الإهانة ما لاقته مجموعة الستة اللواتي مررنا بدرب مولاي الشريف.
تقول ماريا الزويني في إحدى جلسات الإنصاف والمصالحة شهادتي هذه ستنصب أساسا على المعتقلة المغربية والوضعية التي عاشتها في السجون المغربية، وسأركز أساسا على الأخوات اللواتي مررن معي من نفس التجربة لا من حيث المكان ولا من حيث الزمن، واللواتي بطبيعة الحال كنا معهن ننتمي لجيل عانق مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وعايشنا فترة خلال طفولتنا وشبابنا كانت مليئة بعدة أحداث سواء على المستوى الوطني كأحداث 1965 أو على المستوى العربي مثل انتكاسة 1967 أو على المستوى الدولي كأحداث ماي 1958 في فرنسا.
... إذن هذه الأحداث أثرت في جيل بأكمله، وأخص بالذكر المرأة المغربية المناضلة التي كانت تعاني من العنصرية والميز وعدم تكافؤ الفرص... فكان شبه محرما على الفتاة أن تلج فصول الدراسةمن أجل التعلم ... فأنا مثلا كان على والدي أن يتحدى كل العائلة وعقليتها ويرسلني من قرية سيدي الزوين إلى مدينة مراكش لأتابع بها دراستي . إذن في مدينة مراكش بدأت الدراسة واستقريت عند جدتي وبهذه المدينة بالضبط تعرفت على الأحداث عن قرب، بكل عناصرها...أتذكر أثناء أحداث 1965 في أحد الأيام انتظرنا خالي لمدة يوم بكامله ولم يأت. كانت الإضرابات وكان يدرس في ثانوية دار البارود في مراكش وفي المساء رجع ملطخا بالدم ويده مكسرة، و بعد ذلك فسر لنا على أن الثانوية تعرضت لمهاجمة من طرف البوليس ، وبعد حملة من الضرب والجرح والإهانة أخرجوهم إلى ساحة الثانوية وتركوهم بدون ماء، هذا الحدث بالضبط أثار في أعماقي تساؤلات. ماهو ذنب خالي وأصدقاؤه وهم لايزالون تلاميذا صغارا؟ وكنت آنذاك صغيرة عمري 11 سنة كان إحساسي بالظلم استمر مدة طويلة خصوصا من بعدما اعتقل خالي الآخر،خالي(الله يرحموا )معطية أحمد وإبن خالتي أيضا النظيفي مولاي الحسن كانوا أساتذة وهاجم البوليس الدار في الليل واعتقلوهمامع أنني كنت أحترمهما كثيرا .
فبالنسبة لي كانا رمزا للكفاءة والتعقل والرزانة. كنا ننمو و يكبر معنا التعطش لمجتمع عادل وفيه المساواة والحرية وكنا نحن الفتيات بالضبط نتعاطف مع من تطاله يد الجلاد لأن فيهم إخواننا وآباؤنا وأخوالنا...
على أي منذ الاعدادي كنت شديدة الاهتمام بهذه الأحداث كانت نقاشات تدور في الساحة أو داخل أقسامنا مع الأساتذة أو في بيوتنا وهنا أخص بالذكر علاقتنا مع زملائنا الذكور ...كانت علاقة ممتازة جدا..علاقة كلها إخاء واحترام ومحبة، إذن أقول أننا شاركنا في الإضرابات منذ الإعدادي وأحيانا لم نكن نفقه لماذا نحتج ولكن الغضب في داخلنا هو ما كان يجعلنا نتذمر من الوضع .. إذن في ظل هذه الأحداث كلها وعلى مستوى شخصي كان عندي بطبيعة الحال مشروع في دراستي وكنت أحلم أن أصبح طبيبة وفعلا اجتزت الباكلوريا بامتياز وكان هذا هو الشرط الرئيسي كي ألتحق بكلية الطب بالرباط والتحقت بها وكنت أول فتاة في العائلة تحصل على الباكلوريا وهذا بالنسبة لي افتخارا كبيرا وبالنسبة لأبي أيضا. إذن كان على والدي أن يتحدى عائلته من جهة كي يرسلني للرباط لأن مراكش لم تكن فيها كلية الطب .
في سنة 1977 كان الجو الطلابي ساخنا ويعيش مفارقة، فمن جهة كانت الأحزاب تهيئ للانتخابات إذ كانت المناداة بالديمقراطية إلى آخره، ومن جهة كانت محاكمة الدار البيضاء لمناضلي بعض الحركات التي تسمى مجموعة القنيطرة، والتي تضم أساتذة درّسونا وطلبة منا أيضا، كنا نتعاطف معهم بشكل كبير خصوصا مع عائلاتهم وأخص بالذكر الأمهات، فقمنا بإضرابات من أجل إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين ... و كانت الاضرابات مسترسلة طيلة السنة، ومباشرة بعد الانتخابات، ونحن نتهيئ للامتحانات، استغل البوليس هذه الفترة وتجند ليعتقلنا في سنتي 1977 و1978.
تمت مهاجمتنا من طرف البوليس دون احترام لحرمة الأحياء الجامعية ولا المنازل ولا الثانويات والجامعات.. كنا نعرف على أنه لا أحد منا في مأمن من الاعتقال والدليل هو الاعتقال الذي تعرضت له أنا و أخي رشيد الزويني، بحيث اعتقل أخي مباشرة من بعد خروجه من قاعة الامتحانات وهو على دراجته النارية وكان في السنة التحضيرية لمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة... حيث احتلوا البيت الذي كنا نسكن فيه أنا وأخي وكانت فترة الامتحانات ...فذهبت صوب مراكش من أجل أن أخبر عائلتي . وفوجئت بزيارة لأشخاص بلباس عادي وفي سيارة عادية واقفين في الباب ينتظرونني ... بل هجموا على الدار وفتشوا بتدقيق دون أن يحترموا نهائيا الحرمة وحاجيات الوالدة ، إذن اقتادوني للكوميسارية في جامع الفنا بمراكش وخرجت مع بكاء العائلة ... واحتفظوا بي وأخبروني بأن الاستنطاق لن يكون في مراكش بل سيكون في الدار البيضاء إلتقيت بمجموعة من الطلبة لم تكن لي بهم معرفة سابقة وهم وداد بواب والعندليب عبد الحق والمرحوم عبد الحق بنيس وعزيز إد بيهي هو الوحيد الذي أعرفه من هذه المجموعة حيث كان من أبناء عائلتي و أصبح فيما بعد زوجي ..
أمضينا ليلة واحدة في الطابق تحت أرضي من الكوميسارية افترشنا الأرض قدم لنا الخبز اليابس.. لم ننم تلك الليلة وتم أخذنا بعد الإهانة في سيارة شرطة معصوبي العين مقيدين بالأصفاد إلى درب مولاي الشريف حيث وجدنا فيه من العذاب ما لم نشهده في أماكن أخرى....
كنا ست فتيات في المجموعة وهن الأخوات لطيفة اجبابدي، وداد البواب، فاطمة البيه، خديجة البخاري، ونكية بودة، كانت أعمارنا تتراوح ما بين 18 إلى 22 سنة كنا في ظروف جد قاسية و كان الهدف هو إذلالنا وتعذيبنا ، "الحجاج" أو الحراس الجلادين لا يدعون فرصة تمر دون أن يهينونا بالسب والشتم بشكل المستمر، المرحاض بطبيعة الحال كان عليه التناوب أذكر الترهيب المستمر خصوصا بالنسبة للجدد الذين يلتحقون بنا، كنا نسمع نحن الفتيات بأسماء ذكورية ، مثلا أنا إسمي عبد المنعم والأخت لطيفة كانوا يسمونها سعيد وخديجة كانت عبد الله ووداد كانت حميد، فاطمة كانت رشيد الخ... لن أتحدث عن غياب النظافة نهائيا خصوصا بالنسبة للنساء في وقت العادة الشهرية التي تمتزج بالدماء و جراح البعض منا وكانت تصل قذارة الجسم للتقمل.
.... أيضا كان هناك تهديد بالإغتصاب بشكل مستمر وعلى المستوى الشخصي وفي ظل هذه الظروف كلها كان عندي سؤالين السؤال الأول هو لماذا أنا هنا...
التحقنا بالسجن المدني مباشرة بعد عرضني على قاضي التحقيق، حيث وضعت الفتيايات في سجن غبيلة ووضع الفتيان في عكاشة .
..أمضينا من السنوات العذاب القسط الكبير كما لاقاه إخواننا المعتقلون في المعتقلات الأخرى وتعرضنا لمحاكمات صورية وللأهانة أثناء التحقيقات ، جسدت عمق المعانات التي تعرضت لها المرأة المغربية ...
في النهاية أتمنى أن أكون قد وصلت ولو لجزء بسيط من معاناة المرأة في السجون المغربية وأكرر بأني أتمنى أن تحفظ ذاكرة سنوات الرصاص وأن لا تتعرض الأجيال القادمة لما لاقيناه في سنوات الجمر .
التعليقات (0)