مواضيع اليوم

مرافعة ضد الواقع

zakaria zakaria

2009-01-17 16:20:17

0

مرافعة ضد الواقع

سيظل الشجعان يضيئون الشموع في كل زمان ومكان، فرغم كل العراقيل التي تواجه أصحاب الهمم العالية فإنهم يتحدونها ويستطيعون بلوغ أهدافهم النبيلة. هكذا يؤمن المتفائلون أصحاب الفكر المشرق الذين يضعون ثقتهم في إرادتهم وعقولهم. شيء واحد ينقصهم، ألا وهو محاولة صياغة نظرة جديدة إلى الواقع، نظرة متماسكة، تقوم على عدم الانتباه للعراقيل والأشواك التي تملئ الطريق. وكذلك كان لا بد من ميثاق أخلاقي وسياسي، لكي يستطيعوا أن ينطلقوا بحرية لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

 كان هذا ضروريا، مادام لا يمكن تحقيق أي تقدم كبير في أفكار الناس بدون أبطال شجعان وعقلانيون، لا يضعون مصالحهم الخاصة هي الأولى كما يفعل هؤلاء الجهلة الكسالى، الذين يترامون على مصالح العموم وينهبون أموال الناس بامتيازات تمنح لهم من طرف السياسة المخزنية.

كان هذا ضروريا أيضا، إذ يلزم، رغم كل شيء، أن يوجد هناك من يزحزح هذا الواقع الذي يرزح تحت كمية من القديم المتجمد التي تعرقل الأفكار الواضحة والجديدة. إنها الرواسب القديمة والأفكار البالية، مبادئ وقيم تافهة متجاوزة بحكم التاريخ الذي لا يرحم أحدا.

إن الاعتماد على المبدأ القائل بأن الواقع هو الذي تشكله لنا التجربة الواقعية من شئنه أن يجنبنا الأساس الذي يقوم به الموقف النفعي الذي يعتنقه أصحاب المصالح والمنافع الشخصية. هذا النوع من الأفكار لا يقل خطورة عن موقف العامة، لأنه يضع الفكرة في مستوى أدنى من الواقع ولا يؤمن سوى بالمصالح الفئوية.

وهكذا فالحقائق تبلورها الممارسة الواقعية، ولا وجود لموقف مسبق من الواقع، بل يجب أن نسلم به كما هو. فكرة تجد ما يبررها في القديم البالي الذي يزعم أن كل تجديد ضلال وزيغ، وكل فكرة جديدة تعارض بالضرورة فكرة قديمة. إن القديم جوهر والجديد مجرد عرض يزول، وهكذا تصبح القيم الماضية جواهر ثابتة لا تتحرك ولا يجوز أن تتغير مهما كان.

فكرة الجوهر هذه قديمة لها سياق تاريخي لا يجوز إغفاله، حيث يبرز في كل نقاش حول الفعل والممارسة تلك الإشكالات التي تخلط بين سياسة الأمر الواقع وخلفياتها النظرية والقيمية المتخلفة. الأولى تبخس الإرادة المبدعة للإنسان وتستنقص من قيمتها، بينما تعمل الثانية على تقييد الممارسات الحرة بمختلف أشكال الاجتهادات الثقافية والفقهية، تحريما أو تشنيعا.

 وعلى صعيد أخر، تعتقد تلك الأفكار البالية أن الجوهر يتميز دوما بالكمال والوحدانية، ولا يجوز أن يتغير أو ينقسم. ولا يتوقف الأمر هنا، بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن كل جوهر فرد لا يقف عند حد كونه هو عين ذاته، بل يذهب أيضا إلى حد وجوب تمثيله لبقية الأفراد كلها بفضل ما فيه من صفات موهوبة. إنه يمثل الكون كله من وجهة نظره هو، فلا يجوز استبداله أو تجديده، فهو يكتسب الكلية الضرورية التي لا تترك له مجالا للاختلاف و التعدد. إنه يزعم أنه يجمع المختلف ويوحده ويضمه، ويساهم في كمال المجموع ويمثله؛ أما هذا المجموع فلا يكتسب دلالته كمجموع إلا بفضل هذا الجوهر.

هذه الفكرة، قد يظنها البعض نظرية فاقدة لأساس واقعي أو مثال يدعمها، لكن لاحظوا معي كيف أن الساحة الثقافية والسياسية تمثل خير دليل على ما نقوله. ألا ترى كيف يظن الساسة والزعماء والشيوخ أنفسهم جواهر ينبغي أن تبقى في مكانها وكراسيها إلى الأبد؟ إنهم يعتقدون أنهم خالدون، وهم الأجدر بتمثيل المجموع الذين لا يستطيعون أن يعبروا عن ذواتهم إلا من خلال من هو أجدر بتمثيلهم.

هذا الواقع يجب تغييره وتجاوزه نحو جعل العرض نفسه يمثل ذاته، ويصبح الهامش بدوره هو المركز أو على الأقل يصبح مركز ذاته. إن السلطة ليست جوهرا ثابتا لا يتغير، إنها دائمة التجديد والتغير، كما أنه ليس هناك في البشر من يحق له أن يفرض نفسه على غيره بأي مسمى كان دينيا أو سياسيا أو ثقافيا... إننا نتساوى ولا أحد منا يمكن له أن ينصب نفسه جوهرا متعاليا على الأخريين، لأن فكرة الجوهر هذه لا تسري على البشر بل كلنا أعراض زائلة وميتة، والله وحده هو الجوهر.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !