تعقيب على مقال :
من أجل دفع جديد للعمل المشترك
I – مقدمة
أوردت جريدة "الموقف" عدد 544 الصادرة بتاريخ 30 أفريل 2010 مقالا للرفيق حمه الهمامي تحت عنوان: "تونس على مفترق طرق" تناول بالدرس الأوضاع التي تمر بها البلاد والتي تتميز بالانغلاق واحتكار الإعلام والاعتداء على النشطاء والزج بهم في السجون ومحاصرة الأحزاب والجمعيات المستقلة والسعي إلى تدجينها في ظرف احتدت فيه أزمة الرأسمالية مسببة صعوبات اجتماعية (تدهور القدرة الشرائية، تردي الخدمات العمومية المختلفة، انتشار البطالة والبؤس...). وفي المقابل تسود المعارضة حالة من التشتت والاحتقان والعجز عن التوحد حول حد أدنى مشترك. وتمر الحركة الاجتماعية بفصيلها العمالي والشبابي بحالة من الانحسار والتراجع ممّا ساعد السلطة على التحكم ولو مرحليا في الأوضاع وافتكاك زمام المبادرة وهي تعد العدة في الكواليس لاستمرار فريقها الحاكم في السلطة سواء بالتوريث أو عبر استفتاء جديد حول الدستور حتى يتمكن الرئيس الحالي من الترشح مجددا بعد 2014.
وبما أني لا أختلف إجمالا عن تقييم الرفيق الذي جاء دقيقا وملموسا فإني أردت فقط، مساهمة مني في إثراء هذا الملف، تناول الجانب المتعلق بأسباب التعطل في صفوف المعارضة وعجزها عن التوحد ومحاولة وضع الإصبع على الداء واستفزاز الأطراف السياسية حتى تقوم بالمراجعات الضرورية وتعمل على التجاوز في اتجاه النضال المشترك باعتباره الشرط الضروري لتخفيف معاناة الشعب والاحتقان وعودة المجتمع المدني من خلال المنظمات والجمعيات المستقلة المحاصرة حتى يلعب دوره كسلطة مضادة بما يراكم من أجل التغيير الديمقراطي المنشود.
II – الصعوبات والعراقيل
تتمثل أولى الصعوبات في اختلاف البرامج والأهداف الاستراتيجية والمنطلقات الفكرية لكل حزب فهناك أحزاب تسعى إلى التغيير الجذري وأخرى تكتفي بالمطالبة وتناضل من أجل فرض إصلاحات. وهذه الخلافات، الطبيعية لا محالة، تنعكس على موقف كل طرف من السلطة. فالأول يعتبرها سببا في الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد والتعطل على كل المستويات وعقبة أمام التغيير ولا يرى بالتالي إمكانية للتغيير تحت سقفها أو بالتنسيق معها. أمّا الطرف الثاني فيذهب إلى إمكانية التعايش معها مع حثها في نفس الوقت على التنازل والإصلاح وهو أمر قابل للتحقيق في تقديره ويمكن أن يؤدي إلى مقرطة الحياة السياسية بما يتيح إمكانية التداول على السلطة وتحقيق الإصلاحات الضرورية لضمان الاستقرار والتعايش لما فيه "مصلحة كل الأطراف".
وتتمثل الصعوبة الثانية في تشكل المعارضة في محورين (هيئة 18 أكتوبر من جهة والمبادرة الوطنية من جهة أخرى) تتسم العلاقة بينهما بالتنافس والتشنج أحيانا بدل الانفتاح على بعضيهما والتنسيق حول الملفات المشتركة. حتى أن البعض أصبح همّه الأول التباين مع هذا الطرف أو ذاك ونقده بأسلوب فجّ والسكوت بالمقابل عن بعض جرائم السلطة وعدم تحميلها مسؤولية تردي الأوضاع بصورة متماسكة. وتعمل بعض الأطراف داخل كل مجموعة من هاتين المجموعتين على توظيف باقي المكونات التي تعمل معها من أجل خدمة أجندتها الحزبية الضيقة فهي تستقوي بهم للوصول إلى مآربها وطرح نفسها كبديل افتراضي عن السلطة الحاكمة التي دخلت في مسار تقهقري وأخذ بريقها في التراجع وأصبحت عرضة للنقد حتى من طرف حماتها الغربيين. وقد تجلى هذا من خلال مسيرة النضال المشترك وبصورة خاصة خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة.
أما ثالث الصعوبات فيتمثل في اختلاف المجموعتين في أسلوب التعامل مع السلطة، ففي حين تدعو الأولى إلى التغيير الديقمراطي والنضال الميداني من أجل ذلك مع التعبير عن حد أدنى من الكفاحية وتحدي منع السلطة دون إسقاط مطلب الحوار الذي ورد في درجة ثانية (موقف 18 أكتوبر خاصة في بدايتها) تدعو المجموعة الثانية بصورة أساسية إلى الحوار بين المعارضة والسلطة من أجل تحقيق الإصلاحات محاولة الاقناع بأن السلطة لها مصلحة في الحوار وقادرة على تأثيثه. ويبدو أن هذه المجموعة ترفض الاحتجاجات والأشكال الراديكالية حتى لا تستفز السلطة ولا تثير غضبها وتعتبر ذلك خطا أحمر. بل إن بعض الأطراف تذهب بعيدا وتقترح السكوت عن بعض تجاوزات وأخطاء السلطة من أجل فتح الطريق للحوار والتعايش (جماعة التوزري والقوماني). وفي هذا السياق أصرت المبادرة الوطنية على المشاركة في كل المحطات الانتخابية غير عابئة بالظروف العامة والإطار القانوني التي تتم فيه.
وفي الأخير شكل الطرف الإسلامي سببا أو تعلة لتعطل مشروع الوحدة بين أطياف المعارضة. فهناك أطراف تعادي الإسلاميين من منطلقات إيديولوجية وفكرية ولا ترى إمكانية للتعامل معهم وتنبه إلى الخطورة التي يمثلونها كمشروع ظلامي قروسطي، وهناك أطراف تفضل عدم التعامل معهم تجنبا لغضب السلطة، وهناك في المقابل أطراف أخرى لا ترى إمكانية لعمل مشترك ناجح بدونهم وتعوّل على أنصارهم وأتباعهم لتوسيع حركة المعارضة. وما ساعد على الإصرار على رفض الإسلاميين مهما كانت المنطلقات هو ضعف حضورهم في الساحة السياسية حاليا واكتفائهم بالتواجد صلب بعض المنظمات الحقوقية والمهنية بما يبرزهم في صورة الطرف الضعيف والمتردد والذي لا يمكن التعويل عليه على الأقل في المرحلة الحالية.
III – العراقيل أمام الحركة العمالية والشبابية
1 – لماذا انحسر دور الحركة العمالية؟
تشكل هيمنة البيروقراطية النقابية على الحركة العمالية بدعم من السلطة أهمّ الأسباب التي تعيق انخراط الحركة العمالية في النضال جنبا إلى جنب مع المجتمع المدني من أجل التغيير الديمقراطي باعتباره يوفر لها فرص النضال في مناخ مناسب من أجل تحقيق مطالبها المادية والمعنوية. لقد ربطت البيروقراطية النقابية الحركة العمالية بخيارات السلطة فزكّت برنامج "الإصلاح الهيكلي" واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي رغم ما سببته من غلق المؤسسات وطرد للعمال... ولعبت دورا في الضغط على النقابات من أجل إنهاء الإضرابات وكل أشكال الاحتجاج واستعاضت عن ذلك بمفاوضات شكلية وباهتة تجري كل 3 سنوات مشكلة غطاء لـ"السلم الاجتماعية" المفروضة بقوانين بيروقراطية مقابل زيادات ضعيفة في الأجور سرعان ما يقع الدوس عليها وتجاوزها بزيادات جديدة في الأسعار.
كما ساهمت البيروقراطية في خدمة المشاريع السياسية للسلطة بتزكية مرشحي "التجمّع" في الانتخابات والسكوت عن تجاوزاتها وتلاعبها بالعملية الانتخابية ولم تسع حتى إلى ربط تلك التزكية بالمطالبة بإصلاحات سياسية يمكن أن تستفيد منها الحركة النقابية ذاتها (حرية الإعلام، العفو التشريعي العام...).
كما شكل تشتت اليسار النقابي وضعف التنسيق بين مكوناته وافتقاده لبرنامج أدنى نقابي مشترك رغم إرثه التاريخي الزاخر بالعمل المشترك، وانخراط جزء منها في المسار البيروقراطي بحثا عن منافع. كل هذا شكل سببا إضافيا لضعف الحركة العمالية وتراجعها في وقت اشتدت فيه الهجمة عليها وخسرت عديد المكاسب التي استطاعت فرضها في السابق: الاستقرار في الشغل، التغطية الاجتماعية والصحية...
هذا إلى جانب فشل حزب العمال في الانغراس بالمقدار اللازم في صفوف الطبقة العاملة باعتباره قيادتها السياسية والميدانية الافتراضية. ولعل التخلف السياسي الذي عليه الطبقة العاملة والتجاذبات الإيديولوجية المختلفة المسلطة عليها إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بأداء حزب الطبقة العاملة، شكلت سببا في عدم حصول هذا التلاقي الموضوعي بين الطبقة وحزبها.
2 – الحركة الشبابية بين قمع السلطة وغياب البرنامج
الشباب هو وقود الثورة وقد ساهم سواء في العهد الاستعماري المباشر أو في ظل دولة الاستعمار الجديد المسماة زيفا بدولة الاستقلال في النضال إلى جانب العمال والفلاحين من أجل التحرر الوطني والاجتماعي والتنديد بالعدوان على شعوب فلسطين والعراق وليبيا ولبنان وفيتنام... وقدّم عديد الشهداء في 26 جانفي 1978 وأحداث الخبز 1984. وساهم الشباب من مواقع أمامية في انتفاضة الحوض المنجمي بل لعله شكل عمودها الفقري برسمه لوحات مشرفة في النضال من أجل الخبز والحرية ومن أجل التنمية العادلة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية... إلا أن الأسلوب القمعي الحاد الذي توخته السلطة تجاه حركة المعطلين عن العمل وحركة الشباب التلمذي والطالبي حيث منعت الأولى من حقها في الاحتجاج والمطالبة بالشغل والعيش الكريم ومنعت بالقوة البوليسية أيضا وفي عديد المناسبات الحركة الطلابية من إنجاز مؤتمرها الموحد في كنف الاستقلالية إضافة إلى غياب البرنامج وانعدام الرؤية البعيدة والآنية لدى الشباب... كل هذا خلق حالة من التراجع والتردد زادها سوءا ضعف التضامن والمساندة من طرف الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات المستقلة وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل للأسباب التي سبق ذكرها والمتعلقة بالدور التخريبي للبيروقراطية النقابية.
IV – الآفاق
شكلت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة مناسبة لإثارة جدل واسع حول تكتيكي المقاطعة والمشاركة: أيّهما أصوب وأقرب إلى ذهنية الجماهير وأنجح من حيث النتائج النهائية. وقد احتد النقاش إلى حد التشنج وتبادل الاتهامات. لكن مسار الانتخابات والعرقلة المفضوحة التي مارستها السلطة تجاه المشاركين رغم حاجتها السياسية لتلك المشاركة (إسقاط أغلب القوائم خاصة في المدن الكبرى، منع البيانات الانتخابية من الصدور دون تحويـر مضامينها بهدف تليينها، عرقلة البوليس السياسي للحملة الانتخابية لبعض القوائم بغير وجه حقّ...) أعادت الجدل إلى مساره الصحيح فخلق التوتر معارضة/معارضة ووجهت أصابع الاتهام من جديد إلى السلطة التي نظمت انتخابات صورية على قياسها حتى تشرّع هيمنتها على المؤسسة التشريعية ومن خلالها على السلطة التنفيذية والقضاء. وطرحت بعيد الانتخابات بعض المشاريع وارتفعت بعض الأصوات الداعية إلى نبذ الخلافات وتأسيس عمل مشترك (دعوات صادرة عن الحزب الديمقراطي وحزب العمال، مبادرة العياشي الهمامي وبن موسى والشماري والبغوري، إلخ.). لقد خفت حدّة التوتر بين الأحزاب وتحديدا بين مكونات 18 أكتوبر ومكونات المبادرة الوطنية وشكلت الاعتداءات على النشطاء والمحاكمات الجائرة في حق الإعلاميين ومناضلي الحركة الطلابية من جهة ومسار الانتخابات البلدية الذي تميّز بالقمع والمنع والتزوير المفضوح للنتائج من جهة أخرى، فرصة لإعادة طرح مسألة العمل المشترك على الطاولة من جديد.
وتبدو المسألة في هذه الأيام جدية أكثر من أي وقت مضى خاصة لاستمرار الاستبداد والانغلاق وتواصل المنع بشكل ممنهج واستفحال الأزمة الاجتماعية الناجمة عن الصعوبات الاقتصادية وعدم بروز مؤشرات تدل على إمكانية تراجع السلطة المنشغلة بالإعداد لانتقال الحكم وفق مصالح البورجوازية الكبيرة العميلة مع ما يلزم من ترتيبات داخلية وخارجية.
إن ضغط الظروف الموضوعية من جهة (استفحال الأزمة الاجتماعية) وصلف السلطة وعنجهيتها واستخفافها بالمعارضة من جهة أخرى إضافة إلى تنامي القناعة بضرورة العمل المشترك باعتباره خيارا استراتيجيا ومحددا في إمكانية فرض إصلاحات والمراكمة من أجل التغيير، كل هذه الأشياء تدفع نحو مشروع شراكة فعلية بين الأحزاب المعارضة خارج المحاور التقليدية التي باتت محدوديتها. وأعتقد أن القضايا المشتركة التي بالإمكان الاتفاق حول طرحها كمحاور نضال عديدة ومتعددة (العفو التشريعي العام، مراجعة قانون الصحافة والمجلة الانتخابية وقانون الأحزاب والدستور وقضية التنمية وملف الفساد واستقلال القضاء، انتقال السلطة...) كما أعتقد أنه بالإمكان الشروع كمرحلة أولى في عمل ميداني مشترك على قاعدة مطالب محددة يقع الإجماع حول أولويتها مع تحديد أشكال نضال مشتركة واضحة وملموسة تراعي حالة موازين القوى والظروف الذاتية والموضوعية مع العمل على تشريك الجمعيات والمنظمات التي بإمكانها المساندة والدعم ولو من خارج هذا الائتلاف مع حق كل حزب في تنظيم نشاطاته الخاصة بمفرده إن أراد ذلك. على أن يتوّج هذا العمل لاحقا وحالما تنضج الظروف الذاتية ببرنامج تغيير وقيادة وطنية وقيادات جهوية ومحلية لتفعيل هذا البرنامج بالاتصال بأوسع الناس من أجل تجسيمه عمليا.
V – خاتمة
يقول المثل الشعبي بأن يدا واحدة لا تصفق. فأي حزب مهما كبر شأنه لا يمكن أن يشكل بمفرده بديلا عن السلطة. كما أن مجموعة صغيرة من الأحزاب لا يمكن أن تجسم مهمة التغيير بسهولة لأن تأثيرها في الجماهير سيكون محدودا. ثم إن خمسين عاما من حكم حزب الدستور أكدت بالملموس أن هذا الحزب لا يؤمن بالتعددية ولا بالديمقراطية بل هو المجسّم الواعي للحكم الفردي المطلق، وهو لا يتنازل وحتى إن فعل ذلك بمناسبة بعض الأزمات فبصورة شكلية ولفترة زمنية محددة بالوقت الضروري لإعادة ترتيب البيت ولحم الصفوف حتى تعود آلة الحزب إلى عملها الطبيعي ولنا أمثلة ملموسة في محطات تاريخية هامة: 26 جانفي 1978، 3 جانفي 1984، 7 نوفمبر 1978...
إن تغييرا جديا مستحيل خارج العمل المشترك بالنظر للحالة التي عليها الأحزاب السياسية في تونس التي تفتقد إلى الجماهيرية والحضور الواسع في الأوساط الشعبية والمهنية من جهة وإلى الحالة التي عليها دولة الاستعمار الجديد من تصلب وعسكرة وقدرة مادية على التحكم في الأوضاع رغم هشاشة اختياراتها وافتضاح شعاراتها وممارساتها المنافية للحقوق والحريات داخليا وخارجيا، من جهة أخرى. وبقدر ما يكون العمل المشترك واسعا يكون قادرا على استقطاب أوسع الجماهير الشعبية وفرض برنامجه.
إن الخلافات الإيديولوجية والبرنامجية والموقف من السلطة والانتماء إلى هذا المحور أو ذاك... لا تشكل موانع جدية في سبيل التوحد حول قواسم مشتركة إذا اقتنع الجميع بضرورة التغيير وبأن العقبة الرئيسية أمام التقدم نحو التغيير هي الاستبداد. وقد أكدت تجربة العشرية الأخيرة أن الاستبداد لا يستثني أحدا ولا يفرق بين هذا الحزب أو ذاك شعاره الأساسي: "من ليس معي فهو ضدي".
إن تونس أخرى ديمقراطية وتعددية ممكنة إذا توحدت الإرادات وهذا ليس بالمستحيل.
مراد الذويبي
(المصدر: "البديـل عاجل" (قائمة مراسلة موقع حزب العمال الشيوعي التونسي) بتاريخ 12 جويلية 2010)
التعليقات (0)