المفترض في الكاتب عدم التراجع عن موقف مبدئي لأن القراء سيخلطون قطعا ما بين التراجع والمراجعة مما يترك أثراً سلبيا ، ويجعل المتابعين لكتاباته يتوقعون أن يُغــيـر أقواله كما يفعل شهود الزور في المحاكم أو.. أقسام الشرطة!
ليس بيني وبين الحُكم الهاشمي أيُّ مودة، ولعل السبب يعود إلــى تخوفاتي من العلاقات السرية والجهرية بين الهاشميين والإسرائيليين، أو لعلها تعود إلــى توجس الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كلما تابع مواقف الحُكم في عــَــمـَّــان .
كنت أظن، وبعض الظن ليس إثماً، أن حضور ملك أردني مؤتمر قمة عربي يعني أن تل أبيب ستعرف ما دار فيه فور البيان الختامي أو.. حتــَّــىَ قبله.
وكان أيضا التحالف الهاشمي مع صدام حسين في أحلامه وأوهامه وتطلعاته وديكتاتوريته حجر عثرة في تليين موقفي من الملك الأردني .. الحسين بن طلال، رحمه الله، خاصة أنه ورث عن جده، ثم عن أبيه توجسات ومخاوف عربية، وكان سبتمبر الأسود غصة في حلق المواطن العربي، ووجعا في قلب عبد الناصر، وآلاما في صدور نصف أبناء المملكة من أصول فلسطينية.
وكانت المخابرات الأردنية قادرة على معرفة عدد أسنان كل كاتب وصحفي وإعلامي ومعارض يخط حرفا في صحيفة مجهولة لا يقرأها إلا محرروها بعيداً عن المملكة وأصدقائها، فكأن حزب البعث العربي الاشتراكي، بفرعيه البغدادي والدمشقي، قد انتقل إلــى سجون الأردن ليــُــعــَــلــِّـم استخباراتها كيفية إكرام المواطن!
ثم جاء الملك عبد الله بن الحسين، وكانت الصورة أفضل من سابقاتها الثلاث: عبد الله، وطلال، والحسين، لكنها لم ترق إلى درجة التربية البريطانية في القصر!
وجاء موقف أردني مبدئي أثار اهتمامي، مراجعة وليس تراجعاً، فالأردن هو الدولة العربية الوحيدة التي لم أفكر في زيارتها قط، ولن أفكر في المستقبل، رغم لقاءاتي الكثيرة طوال أربعة عقود مع أردنيين يمثلون دماثة الخُلق والأدب والثقافة والمعرفة.
الموقف هو استضافة الأردن لمئات الآلاف من السوريين والعراقيين والفلسطينيين واليمنيين، وتحمل الأردنيون ما يثقل كاهل كل الدول الأوروبية الثرية، ولو كان بعضها لبعض ظهيرا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
وفتح أبناء الشعب الأردني بيوتهم المتواضعة والبسيطة، وتقاسموا مع الضيوف الطعام والشراب والسكن والعمل وكل الخدمات، كهرباء، صرف صحي، حدائق، مدارس، جامعات، مستشفيات، دواء، دعم حكومي، طرق، وكان الضيوف على الرحب والسعة دون تحديد زمن أقصى للضيافة.
موقف أردني، ملكي وحكومي وشعبي، مــُـشرّف وكريم، وكان الحـِـمــْـلُ الأكبر على كاهل أجهزة الاستخبارات الأردنية ( التي ذكرت أنني لا أحمل لــهــا أي ودٍّ أو تعاطف )، أما الآن فعليها مراقبة الصغير والكبير والإرهابي والداعشي والبعثي والجاسوس والمتعاون والمتطرف والموالي للأقربين والأبعدين.
موقف أردني رائع ويستحق دعماً ماليا من الشرق والغرب، من رجال الأعمال والمغتربين، فالأردن لا يستطيع أن يستمر في تحمل تبعات التهجير والحروب والداعشيين، فينفق ويستضيف ويعالج ويُسكـِـن ويضاعف فقر دولة ليس لديها مصادر دخل إلا من أبنائها.
الموقف الثاني هو اعجابي الشديد والمدهش والمفاجيء لوجود مسؤول عربي خرج من بطن أمه منذ عشرين عاما فقط، ويتحدث ويقرأ اللغة العربية كأنه رضع المعلقات في طفولته، وتعلــَّـم قواعد اللغة العربية في بيت عائلة تحتل لغة شكسبير المقام الأول قبل المتنبي!
شاب صغير، الأمير الحسين بن عبد الله، ينطق ضادَنا كما لم يعرفها أي زعيم أو أمير أو رئيس أو ملك عربي ( باستثناء أحمد الشقيري وحافظ الأسد). مخارج حروفها، وتشكيل كلماتها يؤذن بعودة الروح إلى لغة القصر، رغم الكراهية التاريخية بين أي قصر عربي وبين .. لغة أهل الجنة!
مراجعة لا تراجع، وتمنيات بأن نقف جميعاً مع الموقف الأردني العظيم من أهلنا اللاجئين الذين احتلوا كل شبر من المملكة الأردنية، برغبة مضيفيهم ، ولم تبهت ابتسامة الأردني، ملكا أو مواطنا، فالبيت بيت المساكين ولو كان يسكنه الأمراء.
تحية قلبية لكل عائلة أردنية استضافت عراقيين أو سوريين أو يمنيين ، وتقاسمت معهم خبز الفقراء، وضاقت عليهم الأرض، لكن الرضا والقناعة والكرم كانت أرحب وأوسع وأسمى لاحتضان الغرباء من أبناء أمة عربية مقسمة، يأكل كل من هب ودب قطعة منها.
نعم! للسياســة الأردنية ألف وجه قبيح على مدى ثلاثة ملوك، ونصف وجه جميل لعبد الله بن الحسين، وربما، والله أعلم، وجه مشرق وعادل ومتواضع وجميل للأمير الصغير، الحسين بن عبد الله، عندما يصبح ملكاً.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 25 ابريل 2015
التعليقات (0)