كانت صالة الانترنت خالية في ذلك المساء،و كان الملل قد استحوذ على خاطر" أسعد" المنكمش كالقنفذ وراء الحاسوب المركزي الذي يتوسط مكتبا خشبيا مستطيل الشكل يقع في مركز الصالة ، دخل أول زبون ، مراهق شعره واقف أراد أن يكسر بممازحته رتابة الوقت فسأله إن كان تيار كهربائي قد صعقه ، ابتسم المراهق في ولم يرد إذ كان ذهنه مرتبط بإشعال الحاسوب لاستقبال أشعة العالم الإفتراضي المغرية . دخلت سوسن في خيلاء كعادتها،كانت في كامل زينتها فهي في موعدها الإفتراضي اليومي مع الحماراتي المنتظر، حيته بتحريك أصابع يدها اليسرى وهي تتحدث في الهاتف بصوت منخفض ، أخذت موقعها خلف شاشة حاسوب ،أنهت المكالمة، سألت أسعدا إن كان جهاز الفيديو يشتغل، فأجاب ، ربما بنبرة تراءت لها أنها عصبية :
- لو لم يكن كذلك لما وجدته هناك..
-مالك عصبي اليوم..؟
أجاب بغير اكتراث كأن أفكاره تتداعى أمام محلل نفسي :
-لا، لست عصبيا ،أنا فقط مجاز وأحيانا أكتب ،أعبد الهدوء والسكينة ومثل هذا العمل يصيبني بالغثيان وربما أكون بحاجة إلى سيجارة منتشية..
لم تجب سوسن، لسبب أو لآخر. فعاد إلى مجلسه الذي عطله عن الحياة منذ أشهر أربعة ، فكر أن يقرأ قصيدة "لتأبط شرا" لكنه عدل مؤقتا عن الفكرة فهذا مات وشبع موتا بعد أن عاش في الصحارى صحبة الجمال والجواري ولو رأى عالم القرن 21 لما كتب شطرا واحدا . أراد أن يستمع إلى قطعة موسيقى فوجد ذهنه وصبره متهالكان لا يقويان على التركيز مع أية إشارة لزمن ما أو شخص ما ثم البدء في الاسترجاع بما يحمله ذلك من جلد للذاكرة ووو .والواقع أن البطالة لا تطاق ، وهو في هذه الأثناء بحاجة إلى شيء مالا يدري ما يكون ،ربما الدفء، فالفصل شتاء قارس تتجمد فيه الحياة وتموت مبكرا لذلك يزداد شعوره بالغيض كلما أحس أن هذه الساعة اللعينة التي تؤثث المكتب تسير بطيئة كسلحفاة ، فكر أن يدخن مجددا لكن السجائر لوحدها في مثل هذا الظروف لا تجدي . فتح المسانجر عساه يجود بهنيهة حوار مزعوم مع "رحاب" لكنه لم يجدها على الخط ، ربما تكون لا تزال في المعهد ، وربما يقبلها شخص آخر وعلى كل حال فإن ذلك لا يهم ، فالإنسان يكون أنانيا حتى مع من يدعي أنه يحبه ،فهذا الشعور إنما خلق لمحبة النفس عندما تجاور الآخر أو تكون في حضنه..حب النفس أقوى وازع للبقاء، والتضحية إنما تتجلى فقط في تلك الساعات التي نشعر فيها بفائض الأحاسيس. رحاب قد تدرك ذلك أو لا تدركه، وهو أيضا أمر غير ذي أهمية على الإطلاق . أغلق المسانجر وقام بجولة وزع خلالها على الزبناء الأوراق المؤشرة على زمن الإنطلاق في الإبحار ،اقترب من سوسن حتى لامست شفتيه خصلات شعرها متظاهرا بأنه يخبرها بشيء ما ولم يفعل ذلك إلا ليكسر الملل الذي يعتري الأشياء. عاد إلى مجلسه مرة أخرى.ابتعد رقاص الساعة عن السادسة بعشر دقائق فبدأت جحافل التلاميذ الخارجين لتوهم من حجرات الدرس تستولي على الكراسي، وهو في كل حين يذكرهم بضرورة الحفاظ على الهدوء وهم في نهاية الأمر لا يأبهون بنصحه وهو لا يولي لذلك أهمية كبيرة لأن ذهنه الآن أكثر فوضوية من الفوضى نفسها..وزع عليهم الأوراق واستخلص منهم مسبقا قيمة ما سيبحرونه لكي لا يفروا ، ثم جلس مجددا وركب أغنية فرنسية قديمة يسخر من طريقة أدائها ولا يفهم كل كلماتها لكنه يستمع إليها لأنها حقا خلابة ..
في تلك الأثناء دخل" سليم" الكهل اللعين ضاحك العينين تسبقه نكهة ماء الحياة المقززة ولم يحيه بل قال بصوته الخفيض كثعبان مسالم:
- أووه كم استمعت إليها في كباريهات نيم الفرنسية.. ستشرب الليلة على حسابي
- لا.. لن أشرب ذلك السائل اللعين ، لقد سمعت بأنهم يتبولون فيه..
-حسنا ..لكن في كل الأحوال عندما تفلس ستطلب مني نصف لتر
ضحكا معا ثم مده سليم بسيجارة أشعلها على الفور، نظير ذلك طلب الاستماع إلى أغنية "ليو فيري" مع الوقت.. تبدلت سحنته حينما انطلقت الأغنية وغشيت ملامحه هالة حزن وبدا وهو في نفس عمر "ليو فيري" كهلا أشيب أكل عليه الدهر يبكي ماضيه الذي قضاه في أروبا ولا يجد حاليا للحياة أي معنى يذكر بعدما أذاقته جحيم الفقر والشيخوخة والجحود.إنتهت الأغنية . ربت "سليم" على كتفيه شاكرا إياه بالفرنسية ثم غادر وبعده دخل الأبكم وهو كهل متجهم الوجه فاقد للسمع والنطق يتعبه كثيرا حين يكابد ليشرح له شيئا قرأه في موقع إلكتروني . وحين يستعصي عليه الفهم فإنه لا يني يشير بيديه متمنيا للكرة الأرضي زلزالا وإعصارا يقلبانها عن بكرة خالقها ،يقولون أنه لو لم يعدم السمع والنطق لغير العالم . طلب الأبكم ورقة وقلما ثم كتب –الحرب الأهلية - ، نذير الشؤم هذا مسكون بلوثة الزلازل والحروب والبراكين ، أشار بحركات يديه وإيماءات وجهه وما تركه له قدره من قدرة على نطق ما يشبه الأحرف ليقول انه يفهم معنى الكلمة الأولى التي هي -الحرب- لكنه لم يفهم معنى الكلمة الثانية ، الأهلية ، أطفأ أسعد عقب السيجارة ثم شرع يجيبه بحركات يديه أن الأهلية تعني بين سكان منطقة واحدة أو تجمع وحيد فزم الأبكم فمه محيلا على أنه فهم المقصود ثم طوى الوريقة الصغيرة وقطعها إربا إربا ثم انحشر داخل الغرفة الكبيرة يتحسس مقبس الوحدة المركزية لحاسوب جانبي يختاره لموقعه الذي يتيح له الإبحار خلسة في مواقع البورنو..أما أسعد فقد اندغم مجددا في مسكنه الإفتراضي إلى أن سمع لغطا قرب الباب ولم يأبه لذلك ما دام لا يعنيه في شيء، من خلال ما تلقفته أذناه من كلمات علم أنه عراك بين سكيرين اقتحما فجأة صالة الأنترنت وهما ممسكين بعنقي بعضيهما ، أحدهما فارع الطول والاخر أقل طولا لكن جسمه أكثر امتلاء من الأول ، سقط الطويل على الأرض وسقطت منه قنينة السائل الأحمر .لكمه غريمه بقوة فخار أرضا وبقي أسعد مشدوها لكنه نط من الكرسي محاولا التفرقة بينهما ، سمع زبناء الصالة اللغط فقاموا من مقاعدهم وهلعوا للتفرقة بين المتعاركين، أما أسعد فقد اتصل بصاحب المحل ليعلمه بما وقع ،غادر طويل القامة بعدما حضرت والدته وأخرجته وهي تندب. تبعه القصير وهو يصرخ و يتوعده بالنحر .خرج زبناء المحل لكنهم ما لبثوا أن عادوا بعدما جمعوا كل تفاصيل العراك من بدايته إلى نهايته .هدأت الأمور وعاد الزبناء إلى مجالسهم .بقي الأبكم قرب أسعد يشير بملامح ساخطة بما مفاده أن عقول هؤلاء مليئة بالخراء..لم يأبه له أسعد في البداية لكن خطرت له فكرة أن يشرح له أكثر معنى الكلمة التي سأله عنها قبل قليل ،لقد فكر في طريقة مباشرة ليشرح له معنى الحرب الأهلية ، أشار له بلامح يديه ووجهه بما مفاده :
- ما رأيته قبل قليل أيها الأبكم كان حربا أهلية..
يتبع
التعليقات (0)