مقــدمـة
إن تجربتي في العمل في رئاسة مجلس الوزراء، كوكيل وزارة، وكوزير دولة، ومراقب عن قرب لما يجري، كانت قاسية، وكانت تجربة تعلمت منها الكثير، وعرفت فيها لماذا تتأخر شعوبنا العربية، ودور الاستعمار في رسم مسيرتها. كما عرفت أن فشل القيادات العربية، يرجع إلى عدم إيمانها بالديمقراطية، وعدم احترامها لرغبات وآمال شعوبها. كما أن استكانة الشعوب العربية، ورضوخها للظلم والكبت والاضطهاد، والتخلي عن حرياتها للحاكم قسرًا أو اختيارًا، قد ساعدت الحكام العرب على التمسك بالحكم والاستمرار فيه.
إن أسلوب الحكم الذي خبرته في العهد الملكي، لا يختلف عما يجري في البلاد العربية الأخرى. فأنظمة الحكم تفرض وصايتها على الشعوب، بسبب عدم وعي الشعوب العربية، وتفشي الجهل فيها، مما يساعد الحاكم على الانفراد بالحكم. لقد تفشى النفاق بين الشعوب العربية، وللأسف، على اختلاف طبقاتها وعودت الحاكم على التطبيل والتصفيق والتهليل والمدح، مما يجعله يتناسى دوره كخادم للشعب.
ولم يعد الحاكم العربي يعتمد على مساعديه ومستشاريه الأكفاء المختصين في تسيير شئون الحكم، بل أصبح يعتقد بأنه فعلًا هو مصدر الحكمة الملهم، وله حق إلهي في عمل ما يشاء، وفق ما يراه، وتعيين من يشاء في مناصب الدولة. ويتوقف مستوى العدالة وتوفر الحريات الشخصية في أي بلاد عربية على شخصية الحاكم. فقد يكون همه التمسك بالحكم، بإذلال زعماء البلاد وممثليها، واستغلال البلاد لمصالحه وعائلته دون اعتبار آخر. وقد يكون الحاكم حسن النية خييرًا عفيفًا، يرغب في عمل الخير، وتوفير الحريات الفردية والاقتصادية للشعب، لكنه يعمل بما يراه هو صائبًا، وليس بما يراه الشعب، وفي كلتا الحالتين يسود حكم غير ديمقراطي.
إن الرغبة في العدل وعمل الخير شيء، والحكم الديمقراطي شيء آخر. فالحاكم الفردي، حتى لو كان يحب عمل الخير، وتوفير الأمن والرفاهية لشعبه، ونزيهًا، لا يستطيع أن يعدل، لأنه يعتقد أنه ولي الأمر وصاحب القرار، وما يقدمه من خير للشعب هو إحسان منه، وإن من حقه أن يحسن لمن يشاء، وأن يحرم من يشاء، وأن يستمر في الحكم ما دام حيًا. بينما الحاكم الديمقراطي هو الذي يؤمن بسلطة الشعب، صاحب الحق وسلطة القرار، ودوره كحاكم هو تنفيذ ما يريده الشعب، وأن يتقبل مبدأ تبادل السلطة، وترك الفرصة لغيره إذا رأى الشعب ذلك. والملك إدريس قد تنطبق عليه صفة الحاكم حسن النية، الذي يرغب في عمل الخير وتوفير الأمن لشعبه، بالشكل الذي يراه هو صالحًا، لكنه يفتقد لصفات الحاكم الديمقراطي المستنير، الذي يؤمن بحكم الشعب وإرادته، ويحترم قراره وحرياته وفقًا للدستور.
وقبل الدخول في التفاصيل أود أن أبدي الملاحظات التالية:
1- رغم نصيحة كثير من الأصدقاء في العهد الملكي، بأن أحتفظ للتاريخ بصورة من كل ما أستطيع من الوثائق التي تتاح لي الفرصة الإطلاع عليها، بحكم عملي القريب من أصحاب القرار، إلا أنني لم أعمل بهذه النصيحة، لاحترامي للثقة التي اؤتمنت عليها. لقد حاولت إجراء تنظيم وتجميع لبعض الوثائق الهامة المهملة في الخزائن السرية لرئاسة مجلس الوزراء، وقمت بحفظها في خزائن المكتب في رئاسة المجلس، ولا يعرف مصيرها الآن.
2- عدد كبير من الوثائق كانت تحفظ في الخزانة الخاصة برئيس مجلس الوزراء بعد اتخاذه الإجراء بشأنها، وعادة ما يأخذ رؤساء الوزارات هذه الوثائق معهم عند استقالتهم، إذا سمحت لهم الظروف بذلك، ولا يعرف مصيرها إلا من تولى منصب رئيس الوزراء.
3- الكتابة عن العهد الملكي الليبي لن تكون دقيقة وموثوقة إلا إذا أمكن الرجوع الى الملفات الليبية، وبالأخص ملفات مجلس الوزراء ومجلس الأمة (يتكون مجلس الأمة "البرلمان" من مجلسي الشيوخ والنواب)، وتقارير الأمن والمخابرات ووزارة الخارجية، والتي لا يعرف مصيرها الآن.
4- يوم الأول من سبتمبر 1969م أخذت مع غيري من مسئولي العهد الملكي إلى ثكنات باب العزيزية. وقد فتش منزلي بعد ذلك وأخذت منه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها الشهادات الدراسية والعائلية، ولم يرجع إلي إلا بعضها بعد ثلاث سنوات، وكان بعضها محترقًا بالنار. وقال رجال الشرطة إنها وجدت في خزانة حديدية في الحقول خارج مدينة طرابلس، وقد حاول خاطفوها فتحها، ولما عجزوا تركوها. وقد فتحتها الشرطة بالنار، ولما وجدوا فيها أوراقي الخاصة جئ بها إلي.
وبعد انتقالي إلى جنيف سنة 1977م هدم منزلي بطرابلس بكاملة بحجة وقوعه في مخطط توسيع الطريق التى أمام منزلي، ووضعت محتويات المنزل، وهى كل ما أملك في تلك المرحلة من حياتي، من أثاث وملابس وكتب وأوراق، في مخزن في أرض المنزل، وجرى بعد ذلك التصرف فيها بالإهمال وتوزعت وضاعت كلها ولم أعرف مصيرها.
5- بعد خروجي من المعتقل يوم 3 ديسمبر 1969م، بقيت ملازمًا للبيت طوال عام 1970م، فلم تفرض علي أية قيود تحدد إقامتي أو تنقلاتي. وقد خطرت لي خاطرة كتابة بعض المذكرات، خاصة وأن الذاكرة كانت نشطة آنذاك. وقد تمكنت من تسجيل تفاصيل بعض الأحداث، كما عرفتها في فترة عملي بالحكومة من أول سبتمبر 1956 إلى أول سبتمبر 1969م، بما فيها الأحداث التي تلت الأول من سبتمبر 1969.
6- إن سردي للأحداث، وسياسات وآراء رؤساء الحكومات، والسفراء ووكلاء الوزارات الذين عملت معهم، لم يكن رواية عن أحد، ولم يؤخذ من وثيقة رسمية أو تقارير صحفية، وإن كل المعلومات التي وردت في هذه الذكريات اعتمدت على ما رأيت وسمعت شخصيًا من أصحاب القرار، الذين عملت معهم أنفسهم، وعلى ما كنت أستنتجه من سياساتهم وقراراتهم التي اتخذوها، أثناء مراحل إعدادها وصدورها، ورد الفعل حولها. وقد أتاح لي عملي كوكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء ووزير دولة، أن أطلع على بريد رؤساء الحكومات والسفراء الذين عملت معهم، وأن أكتب وأشارك في صياغة أغلب خطبهم وتقاريرهم وبياناتهم البرلمانية والصحفية، نيابة عنهم وبناء على توجيهاتهم، وعلى ما كنت أعرفه عنهم، وأستنبط من تفكيرهم وآرائهم.
7- هذه الذكريات كتبت سنة 1970م ولم أغير فيها شيئًا من جوهرها حفاظًا على عفويتها، ولهذا فهي تعبر عن ماض ولا علاقة لها بالحاضر، وهي ليست دراسة مقارنة. أما توقيتها، فقد كنت آمل أن أضيف لها بعض المعلومات وأحولها إلى مذكرات مفصلة، ولكن الوقت والظروف الصحية حالت دون ذلك. أما تعرضي بالنقد لأسلوب الملك محمد إدريس السنوسي في الحكم، فإن غرضي لم يكن النيل منه شخصيًا، لأني احترمه، واحترامي له عائلي موروث للسنوسية منذ قدوم جده السيد محمد بن علي السنوسي إلى ليبيا.
والملك إدريس ليس سنوسيًا شريفًا من أهل البيت فحسب، بل هو أيضًا مواطن ليبي قبل منصبًا عامًا، وأقسم بأن يحترم الدستور ويرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وعلى هذا فهو معرض للنقد والتقييم كغيره من كبار المسئولين في العهد الملكي الليبي. وقد رأيت أنه من واجبي نحو وطني، ونحو كل الرجال الذين أخلصوا لليبيا إبان العهد الملكي، أن يعرف الناس، أن سبب فشل النظام الملكي في ليبيا، لا يقع على عاتق السياسيين الذين تولوا الحكم في العهد الملكي وحدهم، بل يرجع بعضه لسياسات وأسلوب الملك إدريس السنوسي في الحكم، وهذا لا يعني أن رؤساء الوزارات والوزراء وكبار المسئولين في العهد الملكي السابق غير مسئولين أو منزهين، فقد كانوا بشرًا، يحسنون ويخطئون، وكان فيهم الشريف النزيه، والمستغل المستفيد.
8- إن ما كتبته في هذه المذكرات اعتمد على الذاكرة. وقد سنحت لي الفرصة بعد تقاعدي من العمل في الأمم المتحدة سنة 1994م، لزيارة لندن والإطلاع على ملفات وتقارير السفارة البريطانية في ليبيا خلال كل فترة الحكم الملكي. وأقول للتاريخ، إن السفراء البريطانيين ومساعديهم سجلوا تفاصيل الأحداث في ليبيا في تلك الفترة، والتعريف بالمسئولين عليها، وسرد نبذ عن حياتهم، وسياسات الحكومات المتعاقبة، وتفاصيل مقابلات السفراء ومساعديهم مع الملك، ورؤساء الحكومات والوزراء، والنواب وكبار المسئولين، وضباط الشرطة والجيش، وزعماء المعارضة، والطلاب، والمواطنين العاديين، الذين فتحوا صدورهم وأفشوا أسرار عما كان يجرى في البلاد، ظنًا منهم بأن هذه المعلومات لن تنشر. وبعضهم قد لا يعرف أن كل كلمة قالها لدبلوماسي سجلت بحذافيرها، وهذه المعلومات التى سردها السفراء ومساعدوهم لا تتوفر في أي مصدر آخر، كما يفترض فيها الصدق والحياد، لأنها سرية، وصادرة عن مصادر تتمتع بثقة في بلادها لنقل فكرة صادقة عما كان يجري في ليبيا. وعلى كل حال فالذين كتبوا هذه التقارير هم بشر، يتأثرون بما يعتقدون، ويعلمون، وهم عرضة للخطأ. وأتمنى لو ترجمت هذه الوثائق ونشرت ووضعت لإطلاع طلاب التاريخ في ليبيا عليها، وقد قامت بعض دول الخليج العربية بمثل هذا العمل.
9- إن المذكرات والكتب التي صدرت حتى طباعة هذه المذكرات من طرف بعض المسئولين السابقين، وعلى رأسهم السيدان مصطفى بن حليم ومحمد عثمان الصيد، كانت مساهمة مشكورة في توضيح تاريخ ليبيا في العهد الملكي. وأعتقد أن حملة الانتقادات التي ثارت حول هذه المذكرات تنقصها الدقة. فرجل السياسة عندما يكتب، وخاصة إذا كان في مستوى رئيس الوزراء، فإنه يدافع عن أعماله وسياسة حكومته ورأيه، ويجب أخذ كلامه في هذا الإطار، ولكنه رأي يعبر عن واقع مجريات الأمور لا يتوفر في المراجع المروية عن الغير.
10- لقد خصصت الفصل الأول لسيرة حياتي منذ الطفولة وسنوات الدراسة، بهدف إعطاء القارئ صورة عن الحياة السياسية والاجتماعية في ليبيا في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وليس المقصود سرد أحداث شخصية لا تهم القارئ. ويشمل الجزء الثاني من هذه المذكرات ذكرياتي عن الفترة بعد الأول من سبتمبر 1969م وعملي في شركات البترول في ليبيا، ثم في الأمم المتحدة، الذي استمر لأكثر من ربع قرن.
التعليقات (0)