ا
لفصل الثامن
الفاتح من سبتمبر 1969م
عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969م رن جرس الهاتف في بيتي فاستيقظت، إذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الأمم المتحدة بنيويورك الدكتور وهبي البوري لتأكيد تفاصيل زيارة المستر يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا يوم 5 نوفمبر، وهي التفاصيل التي سبق لي دراستها مع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي. وبمجرد إجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن اسمي ومتحججًا أنه يريد شرطة النجدة، الأمر الذي أثار غضبي فأجبته بأنه كان الأولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلًا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وأنهيت المكالمة.
وفي الساعة السادسة صباحًا رن جرس الهاتف من جديد، وكان المتكلم الحاج صالح اهميلة رئيس مستودع سيارات رئاسة مجلس الوزراء، وكان غاضبًا، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف السيد عبدالهادي بو طالب ومودعيه إلى المطار من الخروج، وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم استغرابي لمثل هذا الإجراء الأمر الذي جعلني أعتقد أن شيئًا جديدًا قد حدث أثناء الليل، وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا اتخذوا إجراءًا مستعجلًا بإعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي الأمن في البلاد، خاصة وأننا جميعًا كنا نتوقع أخبارًا هامة مثل استقالة الملك، أو إجراء تغيير في نظام الحكم، ولهذا طلبت من الحاج اهميلة أن يتقيد بأوامر الجيش وعدم إخراج السيارات حتى اتصل به بعد أن أتحرى عما يجري.
وبعد دقائق رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم والدي الذي يصحو مبكرًا لصلاة الصبح، وكان يقيم في وسط المدينة قرب سيدي الشعاب قريبًا من رئاسة مجلس الوزراء، وأخبرني بأنه سمع طلقات رصاص وأن سيارات الجيش تملأ شوارع المدينة واستفسر عما كنت أعرف بما يحدث، وطلب مني الاستماع لمحطة الإذاعة إذ هناك بيانات تذاع. وفعلًا فتحت على محطة الإذاعة وسمعت بيان حركة الجيش والموسيقى العسكرية فتأكدت أن حدثًا خطيرًا قد حدث. فحاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية في البيضاء ومدير الأمن العام في طرابلس ولكن يظهر أن خطوط الهاتف مع برقة قد قطعت كما أن هواتف كبار المسئولين في طرابلس قد قطعت أيضًا، واستغربت بقاء هاتفي شغالًا، إلا أنني تذكرت بأنه لا أحد يعرفه وغير مسجل في دليل الهاتف.
وبعد دقائق اتصل بي السيد محمد الخويلدي، رئيس قسم المراسم بوزارة الخارجية، وكان يسكن في وسط المدينة وقال لي إن قوات الجيش منعت الناس من الخروج من بيوتها ولا يعرف ماذا يفعل، لأنه يريد الذهاب إلى فندق الودان لمرافقة الوزير المغربي إلى المطار حسبما سبق وأن اتفقت معه عليه، فطلبت منه الانتظار حتى تتضح الأمور. وكانت تدور في رأسي تفسيرات عديدة لما كان يحدث بعد سماعي للبيانات التي تبثها الإذاعة، وعن من هم يا ترى زعماء الانقلاب؟
كنت أعرف بعض ضباط الجيش الكبار من رتبة عقيد إلى رئيس الأركان. ومعظم العقداء كانوا من جيلي وقد كان بعضهم زملاء لي في الدراسة في المدرسة الثانوية في طرابلس، كما أن الكثير منهم كانوا في القاهرة في الكلية العسكرية في نفس الوقت الذي كنت أدرس فيه في جامعة القاهرة. وكنت أعتقد أنهم بعيدون عن السياسة رغم تذمر معظمهم من مجرى الأمور في الجيش، وفي البلاد بصفة عامة. كان التفسير الوحيد والذي استقر عليه رأيي هو احتمال استقالة الملك، الشئ الذي عودنا عليها. إذ قد يكون قرر خطة جديدة بعد فقدانه الأمل في السياسيين، بأن يولي الجيش حكم البلاد بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي وضباط وأفراد الجيش الموالين له وللملك، بما فيهم دون شك ضباط قوة دفاع برقة، إلا أن نغمة البيانات والأناشيد والتعليقات التي كانت تبثها الإذاعة لا تتمشى مع مثل هذا التفسير، إذ كانت كلها ضد الملك، ولا أعتقد أن العقيد عبدالعزيز الشلحي يوافق عليها.
وزادت شكوكي عندما أذيع خبر تعيين العقيد سعد الدين أبوشويرب قائدًا للانقلاب، إذ هو زميل لي في الدراسة وأعرفه معرفة جيدة كما أعرف أنه خرج من الجيش. ورغم اطمئناني لشخصية العقيد سعد الدين أبوشويرب لكونه شخصًا معتدلًا ومتعلمًا وذا خبرة في الجيش وعارفًا بشئون البلاد وينتمي إلى عائلة معروفة ومحترمة، إلا أنني لم أصدق ذلك، وكنت أرى أن إذاعة خبر تعيينه ما هو إلا تغطية من طرف الضباط الموالين للعقيد عبدالعزيز الشلحي، حتى يضمنوا بذلك تأييد باقي عقداء الجيش الغير موالين لهم.
بعد تعذر اتصالي بأي من المسئولين وعدم استطاعتي القيام بشيء، إذ لم يكن للوزراء في النظام الملكي، أي دور في شئون الأمن أو سلطة أو اتصال مباشر بقوات الجيش أو الأمن، بل حتى بيوت الوزراء وتحركاتهم كانت بدون حراسة على الإطلاق. ولهذا قررت الانتظار وكلي اطمئنان ولم يساورني أي خوف، حيث كنت واثقًا من أنني لم أرتكب عملًا ضد بلادي، ولم أشترك في أي فساد سياسي أو مالي والحمد لله، فأنا لا زلت في بداية السلم الوزاري، وجئت للوزارة من الوظيفة العامة كخبير، ولم يكن في رصيدي في المصرف حينذاك سوى بعض المدخرات، كنت أوفرها من مرتبي للإجازة التي تعودت عليها سنويا في الخارج، ولم أملك أي حساب بأي مصرف خارج ليبيا أو ممتلكات.
كنت أعيش بمفردي في بيت بحي قرقارش في طرابلس دون حرس، سوى خفير عينته إدارة الأملاك الحكومية لحراسة أثاثها المعار لبيتي، وذلك نظرًا لتغيبي الطويل في مدينة البيضاء. وكان معظم جيراني من الأجانب العاملين في شركات البترول، والذين لم يكن لي اتصال معهم، وكان والدي ووالدتي وإخوتي يعيشون بعيدًا عني وسط المدينة. جاءني الأخوان محمود والأمين بن ناجي اللذان كانا جيرانًا لي، بالإضافة لكونهما ملاكًا للبيت الذي كنت أسكنه، وذكرا لي بأنهما لا يعرفان شيئًا عن هوية من قاموا بالانقلاب، رغم أن السيد محمود بن ناجي كان عقيدًا بالجيش واستقال منذ فترة، وكانا يعتقدان كما اعتقدت أن الانقلاب بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي.
كنت أنتظر اعتقالي وكان هذا واردًا بل توقعته منذ الساعات الأولى من ذلك اليوم، ويظهر أن ضباط الجيش الذين قاموا بالحركة لا يعرفون حتى بيوت الوزراء، فقد سمعت أن رجال الجيش ذهبوا إلى بيت والدي في وسط المدينة يسألون عني، وقيل لهم أنني لا أسكن هناك. وقضيت اليوم كله وأنا لا أعرف شيئا، فقد قطع خط الهاتف عني ولم يبق لدي أي مصدر لمعرفة ما يجري في البلاد سوى ما تبثه الإذاعة. وفي مساء ذلك اليوم ونظرًا لعدم اتصال الجيش بي، ذهبت إلى بيت أحد الجيران، حيث تناولت العشاء معهم وبقيت هناك حتى ساعة متأخرة، قررت بعدها الرجوع إلى بيتي، وعلمت من الخفير أن جنودًا من الجيش قد جاءوا للسؤال عني فأعلمهم بأني غير موجود بالبيت وبأنه لا يعرف مكاني.
كنت أعتقد أسوة بغيري من الشباب المثقف أن النظام الملكي لم يحقق ما كان مرجوًا منه، وأن الإصلاح من الداخل كان متعذرًا في الظروف التي كانت سائدة ويحتاج إلى وقت، كما أن دخل البترول الذي أصبح يتزايد فتح المجال للفساد، الذي بات يسري في أجهزة الدولة وفي دائرة الأعمال التجارية والمالية، كما أن الملك أصبح عاجزًا عن السيطرة على الوضع تتقاذفه، أمواج الحاشية والإقليمية الضيقة بالإضافة لحالته الصحية والنفسية، كما كنت أعتقد أن أي تغيير لن يكون أسوأ مما كان عليه الحال، خاصة إذا كان ضباط حركة الجيش من الشباب المتعلم الواعي.
في صباح يوم 2 سبتمبر وبعد رفع منع التجول، جاءني والدي وأخي الأصغر عبدالعظيم، وقالا لي بأن والدتي تمر بحالة عصبية منذ سماعها خبر الانقلاب، وأنها كانت تصرخ في وجه رجال الجيش كلما جاءوا يبحثون عني، وطلبا مني مرافقتهما إلى بيت العائلة والبقاء معهم فيه حتى يكتب الله امرًا كان مفعولًا. ولكنني رفضت ذلك، وطلبت منهما تطمين الوالدة بأني بخير، ولست خائفأ على مصيري، وليس لدي ما أخشاة، وكل ما أرجوه منها هو الاهتمام بصحتها.
اعتقال الوزراء وكبار المسئولين
أصبحت أحداث الانقلاب تتضح بعد اعتراف ولي العهد وإلقاء القبض على كبار ضباط الجيش والأمن. وبعد منتصف النهار رن جرس الباب، وعندما فتحته وجدت سيارات "لاندروفر" عسكرية أمام البيت، ورأيت عددًا من الجنود بمدافعهم الرشاشة ينتشرون حول البيت، وتقدم مني ملازم وقال إن اسمه أحمد بن حليم، واستفسر مني عن اسمي، ولما أجبته طلب مني مرافقته، فطلبت منه منحي بضع دقائق لأغير ملابسي، فأنتظرني في الخارج ولم يدخل لتفتيش البيت كما فعل غيره مع باقي من اعتقلوا، كما علمت بعد ذلك منهم بأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة أثناء اعتقالهم.
كما علمت بعد ذلك أن أحد رجال المباحث أو الشرطة يدعى حسن المصري كما قيل لي، والذي كان يساعد رجال الجيش ويدلهم على بيوت الوزراء وغيرهم من المسئولين، قد جاء إلى بيت العائلة وطلب من أخي الأصغر عبدالعظيم مرافقته الي بيتي لتفتيشه. وفعلًا رافقه أخي وعند انتهاء التفتيش أخذ رجل المباحث معه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها شهادات دراستي والملفات الرسمية التي كانت على مكتبي، ويظهر، كما قال لي أخي عبدالعظيم لاحقًا، بأن رجل المباحث كان يبحث عن وجود السلاح ولم يهتم كثيرًا بالأوراق. ارتديت ملابسي، وبمجرد خروجي من البيت رافقني جنديان بمدافعهما الرشاشة إلى إحدى سيارات "اللاندروفر" الواقفة أمام البيت وجلست في المقعد الخلفي بين الجنديين، بينما جلس الضابط بن حليم في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، وركب باقي الجنود السيارات الأخرى.
وقد لاحظت أن جيراني الأمريكيين كانوا جميعًا في شرفات منازلهم يودعونني ويتابعون ما كان يجري أمامهم. وبمجرد تحرك السيارات سألني الضابط بن حليم عما إذا ما كنت أعرف بيت إسماعيل التويجيري، أحد ضباط جهاز أمن الدولة، فأجبته بالنفي، ولكن أحد الجنود قال إنه يعرفه لأنه جاء الليلة الماضية مع أحد الضباط للبحث عنه ولكنهم لم يجدوه. عند وصولنا إلى بيته واستفسار الجنود عنه أخبرهم والده بأنه قبض عليه بالأمس، ورغم عدم اقتناع الضابط بأقوال الأب، إلا أنه لم يصر على تفتيش المنزل.
بعد مغادرة بيت السيد التويجيري سألني الضابط بن حليم عما إذا كنت قد أرسلت برقية تأييد للثورة فأجبته بالإيجاب. كما سألني عما إذا كان السيد حامد العبيدي وزير الدفاع في طرابلس أو بنغازي فقلت له بأني لا أعرف ذلك ولكنه لم يحضر مأدبة العشاء التي أقيمت ليلة 31 أغسطس على شرف الوزير المغربي الزائر، وأتيحت ليّ الفرصة لسؤاله عما تم في إجراءات سفر الضيف المغربي، فأعلمني بأنه سافر برًا عن طريق تونس.
عند وصولنا إلى ثكنات باب العزيزية أخذت إلى إحدى الحجرات، وسئلت عما إذا كنت قد أحضرت معي ملابس للنوم، وعندما أجبتهم بالنفي قدموا لي جهاز هاتف وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لإحضار ما سوف أحتاجه من ملابس، وكانت المعاملة طوال الوقت تتم بالاحترام. ووجدت بالحجرة كلا من الوزراء المهندس علي الميلودي والدكتور علي أحمد اعتيقه والسيد حامد أبوسريويل والأستاذ مصطفى بعيو والسيد سالم لطفي القاضي، وكانت الحجرة صغيرة مخصصة لإقامة ضابطين فقط في الثكنات، ويظهر أنهما غادراها على حين فجأة، إذ تركا بها أوراقهما الخاصة مبعثرة والأدراج مفتوحة وملابسهما خارجها.
قضينا ليلتنا الأولى في ثكنات باب العزيزية، وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا في مدينة البيضاء، حيث كان الوزراء يعيشون فيها أغلب الوقت بدون عائلاتهم، ويسهرون معًا، وقدمت لنا تلك الليلة وجبة عشاء بسيطة مكونة من صحن من الشوربة على ما أذكر. وفي ساعة متأخرة من الليل أفقنا مذعورين على أصوات طلقات نار من مدفع رشاش استمر بشكل متواصل لعدة دقائق، مما أثار رعب كبار السن منا، ولما كنت أنا الشخص الوحيد بينهم الأعزب وبدون أطفال قلت لهم مازحًا، وشر البلية ما يضحك، يظهر أن رجال الجيش قرروا إعدام المعتقلين، وأن دورهم قادم. ردوا عليّ بغضب ولماذا يقتلون وما ذنبهم، إن لهم أبناء يريدون تربيتهم وتعليمهم أبنائهم وليسوا مثلي رجل أعزب متشائم. وبعد توقف إطلاق النار انتظرنا أن يدخل علينا أحد ليخبرنا بما جرى. ولكن يبدو أن إطلاق النار كان عملًا فرديًا لأحد ضباط أو جنود الحراسة لبث الرعب فينا نفسيًا. وهكذا نمنا حتى الصباح بدون أن نعرف شيئا عن مصيرنا.
وفي صباح يوم 3 سبتمبر دخل علينا بعض الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا والوقوف أمام أسرتنا، وبعد ذلك طلبوا منا مغادرة الحجرة إلى خارج المبنى، حيث وجدنا عددًا من السيارات الكبيرة لنقل الجنود، وكذلك بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى، وكان بينهم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والسيد أحمد صويدق وزير الاقتصاد، والسيد حامد العبيدي وزير الدفاع، واللواء السنوسي شمس الدين رئيس أركان الجيش، واللواء نوري الصديق إسماعيل رئيس أركان الجيش السابق، والسيد خليل البناني محافظ مصرف ليبيا المركزي، والسيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ وغيرهم، وطلب منا الجنود صعود السيارات وكانت عالية مما تعذر على كبار السن الصعود إليها، فأسرعنا إلى مساعدتهم، بينما وقف الجنود الشباب يراقبوننا دون تقديم يد المساعدة.
تحركت بنا السيارات دون أن نعلم عن وجهتها، ومرت بنا عبر وسط المدينة التي كانت شوارعها تعج بالمظاهرات الشعبية الهاتفة بسقوط الملكية ومرحبة بحركة الجيش، وكما قال لنا حراسنا من الجيش، بأنه لو تم تسليمنا لتلك الجماهير لقطعتنا إربًا إربًا في شوارع طرابلس، وكان كل هذا يدل على مدى غضب الشعب في طرابلس على النظام الملكي. وصلنا ثكنات الجيش في الفرناج حيث وضعنا في نادي الضباط، وانضم إلينا بعض ضباط الأمن الذين كان من بينهم العقيد علي عقيل، وكان يبدوا عليه أنه عومل معاملة قاسية، فقد قيل بأنه رفض الأوامر التي أصدرها له رجال الجيش.
قدمت لنا وجبة الغذاء التي كانت من المكرونة المطبوخة على الطريقة الليبية، فأكل البعض وامتنع البعض الآخر. أخذنا بعد ذلك إلى صالة لعبة الأسكواش التي حوّلت إلى حجرة نوم لأكثر من 16 شخصًا، وكانت الأسرة والأغطية كلها جديدة ونظيفة وفصلونا عن ضباط الأمن، وعلمنا بوجود مجموعات أخرى في غرف أخرى منفصلة عنا. ووضعوا لنا جهاز راديو لسماع أخبار نجاح الانقلاب وتلاوة برقيات التأييد التي كانت تنهال بكثرة على قادة حركة الجيش من المسئولين والسفراء ومن المواطنين على اختلاف طبقاتهم، وكان من ضمنهم أخي علي السني المنتصر السفير الليبي في بلغراد.
كان يزورنا من حين لآخر ضباط من صغار الرتب لا نعرف منهم أحدًا، وكانوا يسألون عما كنا نحتاجة. فشكونا من عدم وجود تهوية كافية في الحجرة لعدم وجود نوافد فيها. فطلبوا من الجنود وضعنا في صالة النادي حتى مجيء وقت النوم، ووافقوا على نقل السيد محمود المنتصر إلى المستشفى العسكري لأنه كان كبيرًا في السن، ومريضًا يعاني من ضغط الدم وتصلب في شرايين القلب وتضخم في غدة البروستاتا، وكان في حاجة ماسة إلى الرعاية الطبية. وقد استلمنا بعض الملابس من عائلاتنا، وقضينا الوقت في الحديث وسط تساؤلات عن هوية ضباط الانقلاب.
وفي تلك الليلة حدث أمر أثار استغرابنا، حيث طلبوا منا عدة مرات ارتداء ملابسنا وجمع حاجاتنا والوقوف أمام أسرتنا استعدادًا للخروج، ثم طلبوا منا ارتداء ملابس النوم مرة أخرى والرجوع لحالتنا العادية. وكان السيد منصور محمد خليفة، عضو مجلس الشيوخ، كثير الحركة، فوضعوا في يديه سلسلة حديدية مثبتة في الحائط أمام الحجرة. وكان الجنود الحراس متعبين وينامون على الأرض ويرافقوننا إلى دورة المياه كلما طلبنا ذلك.
استنكار دعوة التدخل الأجنبي
وفي إحدى الليالي طلبوا منا ارتداء ملابسنا والخروج إلى قاعة النادي فوجدنا عددًا كبيرًا من باقي المعتقلين من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين وكبار المسئولين في النظام الملكي الموجودين في طرابلس يوم قيام الانقلاب، كما لاحظنا وجود رجال الإذاعة والتلفزيون بآلاتهم للتصوير والتسجيل. وتكلم أحد الضباط وقال لقد طلب جماعة الملك الموجودين في الخارج وعلى رأسهم السيد عمر الشلحي من بريطانيا وأمريكا التدخل لقمع الثورة بالقوة، ونريد أن نعرف رأيكم؟ وطلب منا تسجيل رأينا لإذاعته في الراديو والتلفيزيون ضمن برقيات احتجاج المواطنين. وفعلًا ألقى جميعنا كلمات استنكرنا فيها أي تدخل أجنبي في ليبيا مهما كانت الدوافع، وبينا أن ضباط الانقلاب هم من أبناء الوطن وأنهم سيحرصون على مصلحة الشعب وأمن البلاد. الشخص الوحيد الذي لم يتكلم كان السيد محمود المنتصر الذي عندما جاء دوره في الكلام، حسب ترتيب مكانه بين الجالسين، قام متجهًا إلى دورة المياه ولم يطلب منه أحد الكلام بعد عودته.
أذكر أنني قلت في كلمتي بأننا في العهد الملكي حاولنا أن نؤدي واجباتنا وفقًا لضمائرنا في ضوء الظروف السائدة، ولا شك أننا فشلنا في تغيير الأوضاع والقضاء على الفساد بالشكل الذي كنا نأمله ونريده، ولكننا لم نقصر في الحد من ذلك وفقًا لإمكانياتنا، وبأني آمل بأن يتمكن الضباط الشباب الذين قاموا بالثورة من الإصلاح والسير بالبلاد في طريق الحرية والتقدم والازدهار، ونحن ندعوا لهم بالتوفيق. وفي نفس الوقت استنكرت بشدة أية دعوة للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد الداخلية، وقلت إنه لا يجوز لأي من كان أن يتكلم باسمنا او باسم الشعب طلب التدخل الأجنبي. وقد حاول السيد عبدالحميد البكوش نصح ضباط الجيش بالتركيز على العمل بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وشرح الصعوبات التي تواجهها البلاد، كما تكلم الدكتور علي أحمد عتيقة بنفس المعنى. سمعنا بعد ذلك أن كلماتنا أذيعت على التليفزيون، مما طمأن عائلاتنا بأننا بصحة جيدة ولم نتعرض لمعاملة سيئة كما كان يشاع.
وفي إحدى الليالي دخل علينا عدد من الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا وجمع حاجياتنا والتوجه إلى الخارج، وعند خروجنا استغربنا وجود حافلات عسكرية معدة لنا وقوة عسكرية كبيرة وسيارات مدرعة، وجىء بباقي المعتقلين وكان من بينهم الأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية السابق الذي أضيف إلى مجموعتنا. وصعدنا الحافلات، وأذكر أني جلست إلى جانب السيد حامد العبيدي وزير الدفاع السابق، وكان يسألني عن اتجاهنا لكوني من طرابلس وملمًا بمسالك طرقاتها أكثر منه، فقلت له إن الحافلات تتجه نحو مدينة طرابلس.
وعندما وصلنا إلى مفترق الطرق عند باب بن غشير اتجهت السيارات إلى اليسار، فقلت له الظاهر أنهم متجهون بنا إلى المطار ولعلهم يرغبون في نقلنا إلى فزان. ولكن قبل وصولنا إلى مفترق الطرق المؤدي إلى المطار اتجهت الحافلات يمينًا نحو الشارع الضيق المؤدي إلى السجن المركزي المبني منذ العهد الإيطالي، والذي كان يطلق عليه اسم سجن "بورتا بينيتو" وعرف أيضًا باسم سجن "الحصان الأبيض" لوجود تمثال حصان أبيض عند مدخله، وقد أسف السيد حامد العبيدي لهذا المصير المهين.
بعد وصولنا دخلنا إلى السجن بين صفين من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة، وخصص لكل سبعة أشخاص منا حجرة تحتوي على مرحاض على الطراز التركي يصعب على كبار السن منا استعماله، وبها نافذة قرب السقف محصنة بأعمدة حديدية وكان باب الحجرة من الحديد، أقفل بمجرد دخولنا. والسجن ينقسم إلى أقسام مفصولة عن بعضها البعض، وكان قسمنا كله مخصصا للسياسيين، بينما خصص قسم آخر للعسكريين وقوات الأمن وقسم ثالث لرجال الأعمال وغيرهم، بينما أودع ولي العهد والعقيد عبدالعزيز الشلحي في قسم مستقل كما قيل. كانت الأسرة والأغطية كلها جديدة. وكانت المجموعة التي شاركتني الحجرة تتألف من السادة سالم لطفي القاضي وزير المواصلات، وأحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والهادي القعود وزير المالية، وأحمد صويدق وزير الاقتصاد، وخليل البناني محافظ بنك ليبيا المركزي، ومحمد فخر الدين رئيس تحرير جريدة طرابلس الغرب الرسمية.
السيد الهادي القعود السيد أحمد صويدق السيد محمد فخر الدين
استقر بنا الحال ولم يسمح لنا بالخروج لاستنشاق الهواء والاختلاط بزملائنا الآخرين، أو الاتصال بعائلاتنا هاتفيًا للحصول على ملابس لتغيير ما كنا نرتديه. وبعد أيام سمح لنا بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى. وكانت أسوار وسطوح السجن المحاطه بالساحة مليئة بالجنود المسلحين. وطلب منا غسل ملابسنا بأنفسنا في الساحة، وكان بعض الجنود يضحكون ويتندرون علينا.
وأذكر أن السيد محمد سيف النصر الموجود معنا في المعتقل، نظر إلى الجنود ناهرًا إياهم بحدة على سوء تصرفاتهم. ولم نكلف بتنظيف حجراتنا بل أتي الحراس بالمساجين العاديين للقيام بذلك، وحذرونا منهم بعدم ترك حاجات ثمينة في متناولهم أثناء تنظيفهم للحجرات لأنهم كانوا من اللصوص المحترفين أصحاب السوابق. وفعلًا وفي كل مرة بعد تنظيفهم للحجرات يعود إلينا الجنود بالساعات والحاجات الثمينة التي سرقها السجناء من حاجيتنا واسترجعها منهم الجنود.
وكان من بين المساجين سجين قديم من عائلة اعبيد التي أعرفها بمصراته، وكان يعرف أفراد عائلتي، جاءني وقال لي بأنه مفرج عنه صباح اليوم التالي وسألني فيما كنت أريد تبليغ رسالة شفوية لعائلتي، فشكرته على ذلك، ولم أطلب منه شيئًا حتى لا أسبب له أية مشاكل قد يتعرض لها بسبب ذلك.
بعد أيام سمح لنا بترك باب الحجرة مفتوحًا، كما سمح لنا بعد ذلك بزيارة زملائنا في الحجرات الأخرى، وفي الليل كان بعض الضباط وبالأخص الخويلدي الحميدي وعبدالمنعم الهوني يزوروننا باستمرار، ويسألوننا عما كان يجري في البلاد، وكان السيدان الخويلدي والهوني يتصرفان معنا باحترام وتفهم كاملين. كما زارنا بعض الضباط الآخرين، وقد عرف الشيخ سالم لطفي القاضي أحدهم وقال إن اسمه عمر المحيشي، وكان يعرفه لأنه كان منافسًا لأبيه السيد عبدالله المحيشي في الانتخابات النيابية في مدينة مصراته.
أما عبدالسلام جلود فزارنا مرة واحدة وكان شديدًا في كلامه معنا، وخاطبنا بلهجة غير لائقة ووجه للمعتقلين التهم بسوء السلوك، وخص بكلامه السيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ من فزان. وكذلك كان المقدم موسى أحمد وزير الداخلية في زيارته الوحيدة لنا، فقد وجه التهم للمعتقلين متوعدًا بالعقاب. وقد اعتذر الضابطان الخويلدي والهوني لنا على تصرفات الضابطين عبدالسلام جلود وموسى أحمد.
وفي هذه الفترة أخبرنا الضباط المشرفين بأنه تقرر وقف صرف مرتبات الوزراء وستصرف مرتبات الموظفين لعائلاتهم. وأذكر أن الضابط عبدالمنعم الهوني طلبني لمقابلته خارج الحجرة، وسألني عما إذا كنت في حاجة إلى مبلغ من المال للانفاق على عائلتي، لأنه لاحظ أني علقت على هذا القرار بقولي وماذا يفعل الوزير الذي كان موظفًا قبل تعيينه وزيرًا. فشكرته وقلت له بأني أعزب وليست لي عائلة، وبأني سأشتغل عندما أخرج من المعتقل في أي عمل ولا أحتاج مالًا الآن، رغم أني علمت أن جاري السيد محمود بن ناجي، الذي هو في نفس الوقت مالك البيت الذي أسكنه، أرسل لعائلتي رسالة طالبًا إخلاء البيت لأن مصلحة الأملاك أنهت العقد معه، وقد طالب بإيجار البيت في حالة تأخر تسليم البيت، كما كانت لي التزامات مالية أخرى.
كان السيد محمود المنتصر، الرئيس السابق للديوان الملكي، مريضًا وأخذ إلى المستشفى عدة مرات وأعيد في اليوم التالي في كل مرة، وكنا نسمع وقع عكازه على الأرض عندما يعاد في الساعات المتأخرة من الليل. وفي أحد الأيام وقع في دورة المياه، ولم يستطع الوقوف لكبر سنه لفتح الباب، فاضطر السيد شمس الدين محسن رفيقه في الحجرة إلى الدخول من الفتحة الموجودة في أعلى الباب لإخراجه. وكانت حالته الصحية سيئة. واجتمع المعتقلون وطالبوا ضباط الجيش بنقله إلى المستشفى وتركه هناك، لأن حالته الصحيه تزداد سوءًا كل يوم. وأذكر ان السيد محمود عبدالمجيد المنتصر ابن عمه ثار في وجه الضباط قائلًا إن هذا الشخص مريض جدًا ويجب تركه تحت الحراسة في بيته إذا كان لابد من اعتقاله، وإن وفاته في المعتقل سيشوه سجل الثورة، مما جعلنا جميعًا نخاف على ما قد يلاقيه السيد محمود عبدالمجيد المنتصر نتيجة شجاعته التي قد تؤدى بوضعه في زنزانة منفردة، ولكن الذي حصل كان العكس، إذ أفرج عنه ضمن المفرج عنهم تلك الليلة.
بداية الإفراج عن المعتقلين
بعد فترة لا تزيد عن شهر بدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، والغريب أنه أطلق سراح بعض السياسيين القدامى مثل السادة سالم لطفي القاضي وحامد أبوسريويل وأبوبكر نعامة في أول دفعة في شهر رمضان، ولكن أعيد اعتقالهم بعد ثلاثة أيام، وقيل أن ضباط حركة الجيش لاحظوا كثرة زوارهم للتهنئة، فلم يعجب هذا التصرف ضباط الجيش فأعادوهم إلى المعتقل وبقوا بعدها فترات طويلة.
السيد حامد أبوسريويل السيد أبوبكر نعامة
وفي شهر رمضان سمح للعائلات باحضار الطعام للمعتقلين، فتراكمت الموائد في السجن. وكانت مطابخ أهم وأرقى بيوت طرابلس المعروفة ترسل بكل ما لذ وطاب من طعام إلى نزلاء المعتقل من رجال العهد الملكي، مما حدا بالبعض إلى تسمية المعتقل تنذرًا باسم "هيلتون طرابلس". وكانت سهريات رمضان صاخبة في المعتقل نتيجة الدردشة ولعب الورق. وفي أحد الأيام أرسلت بعض الجرائد المصرية إلى أحد زملائنا المعتقلين، فرأينا فيها صورة الملك على الصفحة الأولى لجريدة الأهرام وهو يهبط من الباخرة في الإسكندرية، ويستقبل معززًا مكرمًا من طرف محافظ الإسكندرية نيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر، وخصص له قصر السلطان بحي الدقي في القاهرة لإقامته. وبقدر ما سر البعض له بسلامة المصير وحسن المعاملة شعر البعض بعدم الرضا عن اختلاف المعايير في المصير، فبينما يسجن وزراء العهد الملكي يستقبل الملك بالترحيب من الرئيس عبدالناصر الذي ساعد حركة الجيش على النجاح.
خروجي من المعتقل
في يوم 3 ديسمبر بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المعتقل، شعرت بمعاملة ودية جدًا من طرف الجنود والضباط المشرفين علينا، وخاصة من الملازم المبروك القويري، مما جعل زملائي في الحجرة يتوقعون خروجي في تلك الليلة. وفعلًا طلب مني بعد تناول العشاء إعداد حاجياتي وارتداء ملابسي والخروج. وبعد توديع الزملاء مررت على إدارة المعتقل حيث قدمت لي ورقة وقعت عليها متعهدًا فيها بعدم مقاومة الثورة وأن لا أقوم بأي عمل ضدها. وكنت كباقي المعتقلين جميعًا قد سبق وأن وقعت على إقرار بذمتي المالية عن أية ممتلكات لي في داخل البلاد وخارجها.
وكلف أحد الجنود بنقلي إلى بيتي في سيارة "لاندروفر"، فطلبت من السائق نقلي إلى بيت والدي في الهضبة الخضراء، لأني لم أكن أعرف ما تم في بيتي الحكومي المؤجر في قرقارش وهل سلمّ لمالكه أم لا. عند دخولي لبيت الوالد وجدته بمفرده يؤدي صلاة التراويح، وبمجرد ما رآني بعد أن أنهى صلاته قام وعانقني وفرح كثيرًا لرؤيتي طليقًا، وأخبرني بأن والدتي وأخي عبدالعظيم ذهبا إلى بيتي في قرقارش لإحضار ملابس لي لإرسالها لي في المعتقل. وشاع خبر الإفراج عني بين عائلات المعتقلين، إذ يبدو أن بعض أفراد هذه العائلات الذين كانوا أمام المعتقل ينتظرون الدخول لزيارة ذويهم المعتقلين قد رأوني خارجًا من المعتقل في السيارة العسكرية فأخبروا أهاليهم بذلك. انهالت المكالمات الهاتفية علىّ، وسمعت الوالدة بالخبر قبل رجوعها للبيت ففرحت تلك الليلة فرحًا عظيمًا. وقد علمت بأنها كانت خلال فترة وجودي في المعتقل في حزن وعذاب شديدين أثرا في صحتها بقية حياتها.
كنت شابًا قادرًا على الحياة الخشنة، ورغم أني لم أتعرض للتعذيب أو الإهانة، إلا أنني وجدت أن نزيل المعتقل يقاسى دائمًا آلامًا نفسية صعبة. فشعوره بأنه تحت رحمة الغير ولا يستطيع عمل أي شئ تضعف من معنويته وكرامته كإنسان.
كنت الشخص الوحيد الذي أفرج عنه في تلك الليلة الأمر الذي لم يحدث من قبل، فقد كان المعتقلون يفرج عنهم في مجموعات صغيرة من حين لآخر، ولا أعرف من الذي أمر بالإفراج عني تلك الليلة، ولا كيف يتم اختيار من يفرج عنهم. ورغم أن مسئولياتي في النظام الملكي لم تكن بأهمية مسئوليات بعض زملائي الوزراء، إلا أنني أنتمي إلى عائلة لعب بعض أفرادها دورًا بارزًا في النظام الملكي، وأعتقد أن ذلك كان سبب الإبقاء عليّ لفترة ثلاثة أشهر بدلًا من إخراجي مع أول دفعة. كنت آخر معتقل يفرج عنه طوال شهر ديسمبر، لأنه بعد الإفراج عني بأيام اعتقل المقدمان موسى أحمد وآدم الحواز بعد أول محاولة انقلاب فاشلة على النظام الجديد وأغلقت أبواب المعتقل لفترة نتيجة لذلك.
أول شيء عملته بعد الإفراج عني هو الانتقال إلى بيتي الجديد في جوار الوالد، وسلمت البيت المؤجر إلى صاحبه والأثات إلى إدارة الأملاك، ولم أطلب إجراءات تمليكي للأثاث بعد نصيحة السيد سليمان الكبير مدير إدارة الأملاك آنذاك بعدم شرائه من الإدارة، لأن ثمن الأثاث الحكومي غالبًا ما يكون عاليًا جدًا كعادة المشتريات الحكومية، وهكذا أعدته لإدارة الأملاك وفرشت بيتي الجديد بأثاث بسيط.
وفاة السيد محمود المنتصر
بقيت في بيتي ولم أخرج منه بالرغم من عدم وضعي تحت الإقامة الجبرية كبعض المعتقلين الذين أفرج عنهم. وفي هذه الفترة حصلت أحداث أولها قيام المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بحركة تمرد على حركة الجيش التي كانا من المشتركين فيها، وفرضت قيود جديدة على التحركات وتوقف الإفراج عن المعتقلين السياسيين من العهد الملكي السابق.
أما الحدث الثاني فكان وفاة السيد محمود المنتصر في المعتقل يوم 30 ديسمبر 1970. وقد تأثرت لذلك كثيرًا إذ كان يحبني كأحد أولاده ويحترمني ويعاملني في العمل معاملة حسنة، ولا أعتقد أنه وثق في إنسان أكثر من ثقته بي. ولم أتمكن من رؤيته منذ نقله من المعتقل إلى المستشفى بعد حادثة وقوعه في دورة المياة. ورغم أني كنت أقيم في حجرة غير الحجرة التي كان يقيم فيها في المعتقل، إلا أنني كنت أقضي معه بعض ساعات النهار والليل عندما كان في المعتقل، وكان حراس السجن ينقلونه إلى المستشفى للكشف والعلاج ثم يعيدونه إلى المعتقل باستمرار، ورغم مرضه ووضعه الصعب كانت حالته النفسية حسنة ومتفائلًا.
ولقد خرجت لأول مرة من بيتي بعد مغادرتي للمعتقل لحضور جنازة السيد محمود المنتصر وللمشاركة في مراسم العزاء في بيته. وقد قيل أن ضباط الجيش لم يبلغوا أو يسلموا جثمانه إلى عائلته إلا في اليوم الثاني لوفاته، حتى لا يصادف دفنه يوم تشييع جثمان الرئيس عبدالناصر، لأن ذلك قد يدفع ببعض الآف من المواطنين الذين تجمعوا يوم تشييع الرئيس عبدالناصر في طرابلس للمشاركة في جنازة السيد محمود المنتصر طبقًا لعادات الليبيين في احترامهم لجلال الموت.
وفاة الرئيس جمال عبدالناصر
وفاة الرئيس عبدالناصر كانت أيضًا مبعث أسى وحزن كبيرين لي. فقد أحببته منذ قيام ثورة 23 يوليو والتي عشت السنوات الأربع الأولى منها في مصر، وقد تشبعت بمبادئها وطموحات الرئيس عبدالناصر القومية، الذي كان وبدون منازع باعث القومية العربية والداعي إلى الوحدة والحرية في الوطن العربي. ولأول مرة في تاريخ العرب الحديث تتوحد الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تحت زعامة عربية واحدة تعبر عن آمالها وأمانيها رغم الحدود المصطنعة والأنظمة الحاكمة التي فرضها الاستعمار على العالم العربي. عندما أذيع خبر وفاته على التلفيزيون انهمرت دموعي مدرارًا وبكيت بمرارة، وكانت والدتي تراقبني باستغراب، وقالت لي إن هذا الرجل هو سبب المشاكل التي تعرضت لها بعد الثورة لها فكيف أبكيه؟ لم يكن ذلك كرهًا من والدتي للرئيس عبدالناصر، والذي أصبح في جوار ربه، إنما كان ذلك راجعًا إلى حنان الأم على ابنها الذي اعتقلته حركة الضباط التى شجعها الرئيس عبدالناصر ودعم نجاحها.
أداء فريضة الحج
بعد أن أحالت الثورة والدي على التقاعد، وكان وكيلًا لكلية العلوم في جامعة طرابلس، قرر الذهاب لآداء فريضة الحج برفقة والدتي وأخي الأوسط الحاج الهادي الخبير في شئون الحج، لأنه رافق عماته وخالته للحج عدة مرات، فتوكلت على الله وقررت مرافقتهم للحج. وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهتني تكمن في حصولي على الإذن بالسفر، إذ كان معظم المسئولين في النظام الملكي ممنوعين من السفر إلى خارج البلاد. وبعد عدة اتصالات ومراجعات وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على سفري وحصولي على وثيقة سفر وتأشيرة الحج، وذلك بعد تأكده من عدم وجود أي تهمة ضدي في ملفات القضايا التي ستنظر أمام محكمة الشعب.
1970م - بشير المنتصر ووالده فوق جبل عرفات لأداء مناسك الحج
وهكذا غادرنا طرابلس للحج وكانت هذه أول رحلة لي للخارج بعد تغير نظام الحكم في البلاد. وبعد وصولنا إلى الأراضي المقدسة ساعدنا السفير الليبي السيد حسين بلعون، وهو من سفراء النظام الملكي السابق الذي لم يتم تغييره بعد، على الحصول على وسائل النقل والحجز لنا في فنادق "تيسير" المريحة في جدة والمدينة ومنى.
كان الحج راحة لي ولأعصابي بعد الأحداث التي مرت بي من اعتقال واعتكاف في البيت إلى هجران قسري واختياري للأصدقاء والأحباب. كان جلال الكعبة المكرمة وزيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أثر في نفسي بقية حياتي، وزاد قوة إيماني بالله والاعتماد عليه، وثقتي بنفسي لخوض مرحلة حياتي الجديدة القادمة التي أقبلت عليها بعد الفاتح من سبتمبر 1969م.
بعد الحج غادرنا الرحاب الطاهرة إلى بيروت، وبعدها سافر الوالد والوالدة إلى طرابلس وأخي الهادي إلى دمشق لمواصلة دراسته الجامعية بها، وبقيت أنا في بيروت لعدة أيام، اتجهت بعدها إلى القاهرة المدينة التي ارتبطت بها عاطفيًا حيث كنت قد قضيت فيها أحسن سنوات حياتي، سنوات الدراسة الجامعية وسنوات الشباب، وبعد فترة راحة قصيرة فيها عدت إلى طرابلس. لم تكن زيارتي هذه للأراضي المقدسة هي الأولى، فقد سبق وأن زرتها للعمرة سنة 1964م عندما رافقت الوفد الليبي برئاسة رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر لتهنئة الملك فيصل عند توليه عرش المملكة العربية السعودية. وكذلك قمت في الثمانينات بعمرة أخرى إلى مكة المكرمة عندما كنت في الأمم المتحدة أحضر مؤتمرًا للأمم المتحدة في الرياض.
بداية العمل في شركات البترول
بعد رجوعي إلى أرض الوطن شعرت بضرورة هجر حياة الانزواء التي فرضتها على نفسي. وقد سنحت لي فرصة زيارة السيد سليمان قرادة لي في البيت، وهو صديق وزميل لي في العمل حيث كان أحد المدراء في رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولى وزارة الدولة فيها، والذي اختير بعد الفاتح من سبتمبر ليكون السكرتير الخاص لرئيس الوزراء آنذاك العقيد معمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة. وذكرت أثناء زيارته لي في البيت بأني أرغب في العمل، إلا أنني لا أعرف عما إذا كان مسموحًا لي من قبل نظام الحكم الجديد بالعمل أم لا، فأنا كما هو يعلم لا أملك شيئًا وأعيش على المرتب الوظيفي. واقترح عليّ مشكورًا بأنه في إمكانه أن يسلم رسالة محررة مني إلى رئيس الوزراء الأخ العقيد معمر القذافي أطلب فيها الإذن بالعمل. وفعلًا سلمته رسالة مني لرئيس الوزراء بهذا المعنى طالبًا السماح لي بالعمل في شركات البترول. وبعد يومين أخبرني الأخ سليمان قرادة بالهاتف بأن رئيس الوزراء العقيد معمر القذافي لا يرى مانعًا في أن أعمل في القطاع الخاص، بما في ذلك مجال البترول، ولكنه لا يسمح لي والعاملين في المناصب العامة في العهد الملكي بالعمل مع الحكومة في النظام الجديد. وهكذا بدأت البحث عن عمل في شركات البترول.
وخلال زيارتي للسيد محمد الكاديكي، المدير الليبي للعلاقات التجارية بشركة شل، الذي عمل معها لأكثر من 17 سنة، علمت منه أن الشركة تبحث عن عنصر ليبي لتولي مهام مدير إدارتها لشئون الموظفين، لأن وزارة البترول أصرت على تلييب هذه الوظيفة في جميع شركات البترول، ونصحني بالتقدم إليها، وفعلًا تقدمت بطلب مكتوب للعمل بها. وقدمني السيد محمد الكاديكي إلى مدير عام الشركة المستر بيتر هولمز، الذي كان يعرفني لقيامي بمهام وزارة شؤون البترول بالوكالة في العهد الملكي، وقد رحب بي بكل احترام واستعرض معي ملخص حياتي الدراسية وخبرتي والمسئوليات الإدارية التي توليتها، وقال لي بأنه يسر شركة شل أن تضمني إلى فريق مدرائها، ولكن نظرًا لمناصبي السابقة إبان الحكم الملكي فإنه يود أخذ موافقة وزير النفط قبل أن يقدم لي عرضًا رسميًا بالوظيفة، الأمر الذي اتفقت معه على وجوب اتباعه. وبالمناسبة المستر بيتر هولمز المدير العام لشل ليبيا آنذاك أصبح رئيسًا لمجلس إدارة شل العالمية ومنح لقب "سير" بعد ذلك.
كان وزير النفط آنذاك السيد عزالدين المبروك وهو صديق لي وزميلي في المدرسة الثانوية في طرابلس، وكذلك تشاركنا في السكن إبان دراستنا الجامعية في القاهرة. وبعد أيام اتصل بي المستر هولمز وأبلغني أن وزير النفط وافق على تعييني في الشركة بالإضافة إلى تزكيتي وبأنني سأكون مفيدًا للشركة ولعملياتها في ليبيا.
بداية عملي بشركة شل ليبيا للاستكشاف
باشرت العمل مع شركة شل في أوائل سنة 1971، وقد أوضح لي المدير العام للشركة بأنه يتحتم عليّ قضاء فترة تدريب بمركز الشركة في لندن، وحضور دورات مكثفة في الإدارة وشئون الموظفين قبل تسلمي لمهام وظيفتي من مديرها الإنجليزي آنذاك المستر جراهام هيل. كان هذا الإجراء شيئًا جميلًا بالنسبة لي، إلا أني أشرت له بإمكانية وجود صعوبة في حصولي على إذن للسفر إلى بريطانيا. وعليه بدأت اتصالاتي للحصول على إذن السفر وبعد جهد وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على السماح لي بالسفر إلى لندن.
سفري إلى لندن للتدريب
التحقت في لندن بالمركز الرئيسي لشركة شل العالمية للبترول في مبنى الشركة الشاهق في منطقة (ووترلو)، والذي يعتبر أحد معالم المدينة لزوار لندن من السواح. حضرت أثناء وجودي في لندن عدة دورات عالية المستوى في الإدارة على مختلف مستوياتها، سواءً كان ذلك فيما يتعلق باتخاد القرارات أو علم السلوك الصناعي والعلاقات بين المستخدمين والإدارة، بالإضافة إلى مواضيع شتى في معاهد عالية متخصصة. كانت بيئة العمل في شركة شل ممتازة تتناسب ورغبتي في مواصلة الدراسة في ميادين البترول التي لها مستقبل في ليبيا والبلاد العربية. كما كان عملي في لندن فرصة ذهبية للعودة إلى الحياة في هذه المدينة التي أحببتها وقضيت فيها حوالي أربع سنوات أثناء عملي في السلك الدبلوماسي.
وفي شهر ديسمبر من سنة 1971م استلمت رسالة من مدير عام الشركة في ليبيا يخبرني فيها بأن السلطات الليبية مصّرة على الإسراع في تلييب وظيفة مدير إدارة شئون الموظفين وسفر المدير الإنجليزي (جراهم هيل)، وعليه فهو مضطر إلى أن يطلب مني قطع فترة التدريب التي كنت ملتحقًا بها، واستدعائي للعودة إلى طرابلس لاستلام مهامي، التي عينت من أجلها، كمدير لإدارة شئون الموظفين بالشركة. وهكذا عدت إلى طرابلس وبدأت عملي الجديد في شركة شل ليبيا. وبهذا دخلت فترة جديدة من حياتي لا تشملها هذه الذكريات عن النظام الملكي في ليبيا، والتى سأتناولها بالتفصيل في الجزء الثاني من الذكريات، إذا كان في العمر بقية.
الفصل التاسع
أحـداث ومنجزات هامـة
كما أوضحت في المقدمة، إنني عندما كتبت هذه الذكريات لم يكن هدفي استعراض تاريخ النظام الملكي، ولهذا حرصت على التركيز على المواقف السياسية لرؤساء الحكومات ودور الملك في تسيير أمور الدولة والعلاقات بينه وبين رؤساء الحكومات وكبار المسئولين، وعلاقات المسئولين مع بعضهم البعض وتنازع الخلافات والاختصاصات في تسيير أمور البلاد. وقد وجدت أن الصورة الكاملة للعهد الملكي لا تتم دون التعرض باختصار لبعض المجالات والأحداث الهامة ومواقف الحكومات المتعاقبة منها.
الانتخابات
تعرضت في الفصول السابقة لمجرى انتخابات سنة 1964/1965م باختصار، إلا أنني لم أتعرض لانتخابات سنة 1960م لأنني كنت دبلوماسيًا في السفارة الليبية في لندن، ولم أتعرض كذلك لانتخابات سنة 1952 و1956م لوجودي في مصر للدراسة. أما بالنسبة لانتخابات سنة 1965م، فرغم أني كنت في ليبيا وفي مدينة البيضاء مع رئيس الوزراء آنذاك السيد حسين مازق، إلا أنه لم يكن بإمكاني معرفة الكثير عنها لتعامله مباشرة مع وزير الداخلية آنذاك السيد فاضل الأمير ومحافظي ومدراء أمن المناطق، ولم يصدر تعليمات مكتوبة عن طريقي، لكن بعض الأخبار كانت تصلني
عن طريق السيد فاضل الأمير وزير الداخلية عن طريق التقارير العامة المكتوبة، وشكاوى المرشحين التي كانت تصل رئاسة مجلس الوزراء والتي كنت أحيلها بدوري إلى رئيس الوزراء، وقد تعرضت إليها في الفصل الرابع.
تسليح الجيش الليبي
كان موضوع تسليح الجيش الليبي يحوز اهتمام كل رؤساء الحكومات المتعاقبة في الفترة ما بين سنة 1964م والفاتح من سبتمبر سنة 1969م.
موقف حكومة السيد محمود المنتصر من تسليح الجيش
في سنة 1964م اعترض الملك إدريس على محاولة وزير الدفاع آنذاك السيد سيف النصر عبدالجليل تسليح الجيش الليبي بأسلحة حديثة وثقيلة أثناء حكومة السيد محمود المنتصر، مما دفع الملك إدريس إلى إقالة السيد سيف النصر عبدالجليل وزير الدفاع من منصبه، وعين بدله السيد عبدالسلام بسيكري وزيرًا للدفاع. وكان سفر السيد سيف النصر عبدالجليل المتكرر إلى مصر، وإقامته الطويلة في القاهرة، وعلاقاته الخاصة والمشبوهة ببعض أعضاء السفارة المصرية في ليبيا عاملًا هامًا للاستغناء عنه.
تسليح الجيش في عهدي حسين مازق وعبدالقادر البدري
بعد استقالة حكومة السيد محمود المنتصر اقتصرت الحكومات المتتالية على تسليح الجيش الليبي وقوة دفاع برقة بالأسلحة التقليدية، وكانت السفارة البريطانية ترسل عروضًا لشركات بريطانية وكاتولوجات لأسلحة ثقيلة وصاروخية إلى رئيس الوزراء السيد حسين مازق. وكانت هذه العروض تسلم إلى وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء آنذاك السيد سليمان الجربي، لدراستها وإعداد قوائم بها وتقديرات لتكاليفها، إلا أن الوقت لم يسمح للسيد حسين مازق وكذلك السيد عبدالقادر البدري اتخاذ قرار بشأنها. وكان الملك قد أبدى موافقته للسفير البريطاني على هذه الأسلحة وكلف الحكومة بدراستها واتخاذ قرار بشأنها. ويظهر أن السيدين حسين مازق وعبدالقادر البدري كانا غير موافقين على تسليح الجيش بأسلحة ثقيلة خوفًا من الإخلال بالتوازن بين الجيش وقوة دفاع برقة الذي كانا يصران على المحافظة عليه.
ورغم الاجتماعات العديدة التي كان يعقدها رئيس الوزراء مع كبار ضباط الجيش لدراسة عروض هذه الأسلحة، كانت توصية السيدين حسين مازق وعبدالقادر البدري للملك برفضها لارتفاع تكاليفها، وعدم توفر العناصر الفنية المتخصصة في الجيش لاستيعابها، كما كانا يشكان في تصرفات بعض الضباط في الجيش وتذمر كثير منهم. وكان اللواء نوري الصديق بن إسماعيل رئيس أركان الجيش كثير الشكوى من تصرفات العقيد عبدالعزير الشلحي وتدخلاته في شئون الضباط وتسليح الجيش، كما كان يشكو اللواء السنوسي الأطيوش من قبله. ورغم أن الملك كان يؤمن بضرورة وجود توازن بين قوات الجيش وقوة دفاع برقة في الحصول على أحدث الأسلحة الحديثة، إلا أنه تحت إلحاح السفير البريطاني لإقناعه بفائدة نظام الصواريخ الدفاعي ضد أي اعتداء محتمل من مصر أو الجزائر وافق على تسليح الجيش أخيرًا. وكان العقيد عبدالعزيز الشلحي وهو موضع ثقة الملك يؤيد ويدافع عن قبول العروض البريطانية لتسليح الجيش.
السيد عبدالحميد البكوش وقرار تسليح الجيش الليبي
بقي موضوع تسليح الجيش دون قرار حاسم، حتى جاء السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للوزراء، وكانت علاقاته وطيدة مع العقيد عبدالعزيز الشلحي وعلى اتصال
به رأسًا، كما أن السيد البكوش كان يحظى بثقة وصداقة السفير البريطاني السير رودريك ساريل. وحال استلامه لمنصب رئيس الوزراء بدأ في الإسراع في البت في موضوع تسليح الجيش. وكان اللواء نوري الصديق بن إسماعيل ينتقد السيد البكوش بدوره لمساعدته العقيد عبدالعزير الشلحي والتعامل معه من وراء ظهره لإنجاز صفقة الأسلحة الصاروخية والثقيلة. وقد اجتمع السيد عبدالحميد البكوش بضباط الجيش في مدينة بنغازي، وأوضح لهم رأيه في ضرورة تقوية وسائل الدفاع عن ليبيا، وأفهمهم أن الخطر الخارجي الذي يهدد ليبيا لن يأتي من الشمال، أي أوروبا وأمريكا، وإنما من جيران ليبيا ويقصد مصر والجزائر، ولهذا لابد من إقامة نظام دفاع جوي وصاروخي يعتمد على التقنية المتقدمة، وليس على القوة البشرية، لأن ليبيا بلد قليل السكان بالنسبة لجيرانه، ومساحتها واسعة يصعب الدفاع عنها بالأسلحة التقليدية.
الملك إدريس في افتتاح ميناء الزويتينة البترولي في أبريل 1968 ويظهر على يمين الملك السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء وعلى يساره المستر آرماند هامر رئيس شركة أوكسيدنتال وخلفهما باللباس المدني العقيد عبدالعزيز الشلحي
وفي يوم الاحتفال بافتتاح ميناء الزويتينة البترولي سنة 1968م الذي حضره
الملك، استدعى السيد عبدالحميد البكوش مجلس الوزراء في اجتماع عاجل بعد
الاحتفال مباشرة، وأعلم المجلس بأنه نظرًا لحاجة البلاد إلى سلاح دفاعي يعتمد
على التقنية الفنية العالية، تقرر تسليح الجيش بشبكة من الرادار والصواريخ الدفاعية لتغطية معظم المناطق الليبية الشمالية والجنوبية، وأضاف بأن هذه الصواريخ المتحركة التى وقع الأختيار عليها تعمل على مدى 500 كيلومتر، وأن لجنة من ضباط الجيش قامت بدراسة عرض بريطاني دراسة دقيقة، ووافقت على نظام دفاعي يحقق هذا الغرض. وتكلم بعد ذلك وزير الدفاع السيد حامد العبيدي وأكد كلام رئيس الوزراء، وأضاف بأن النظام الصاروخي المقترح، يعتبر من أحدث الأسلحة ولا يوجد له مثيل في دول المنطقة سوى لدى دول حلف الأطلسي، بالإضافة إلى رغبة وزارة الدفاع في الاستمرار في تسليح الجيش بالأسلحة التقليدية الأخرى مثل الدبابات البريطانية والطائرات الأمريكية.
وقد تساءل بعض الوزراء ومنهم وزير التخطيط الدكتور علي أحمد عتيقة عن تأثير مثل هذا المشروع على مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تكون لها الأولوية في تقديرات الميزانية، فمشاريع الدفاع الحديثة باهظة التكاليف، خاصة أن ليبيا ملتزمة بدفع ثلاثين مليون جنية ليبي، أي ما يساوي تسعين مليون دولار أمريكي سنويًا لدعم الدول المجاورة لإسرائيل طوال فترة الخطة الخماسية للتنمية. كما طلب وزير المالية السيد الهادي القعود ضرورة معرفة تكاليف المشروع قبل الالتزام بأي عقد، وأضاف بأن مصروفات وزارة الدفاع الحالية تزيد على مخصصاتها في الميزانية العامة، وأية نفقات إضافية يجب الموافقة على تخصيص أموال لها قبل تنفيذها. كما تساءل وزير السياحة السيد معتوق آدم عن سبب عرض موضوع هذه الأسلحة الهام بصفة مستعجلة على المجلس، وهل الغرض من ذلك هو مجرد عرضه للمعلومية بعد أن تمت الموافقة عليه.
وأوضح رئيس الوزراء بأن هدفه من عرض الموضوع على المجلس هو أخذ رأيه نظرًا لأهميته، رغم سريته، بعد أن تمت دراسته الفنية من قبل لجنة عسكرية متخصصة من كبار ضباط الجيش الليبي، وأكد الخبراء الأجانب من بريطانيين وأمريكيين على أن الضباط الليبيين على درجة عالية من الكفاءة والخبرة لا تقل عن كفاءة وخبرة ضباط حلف الأطلسي، وطالب مجلس الوزراء بأن يثق في ضباط الجيش الليبي. كما أوضح أن المشروع قد حظي بموافقة الملك وهو الآن قيد التنفيذ، وأنه كان حريصًا على عرضه على مجلس الوزراء وأخذ رأيه في الموضوع، حتى لا يفاجأ أعضاء مجلس الوزراء عند إذاعة خبر الموافقة عليه في الإذاعة.
وكان رأيي أن الموضوع ليس إجراءًا روتينيًا عاديًا يمكن لرئيس الوزراء بالتشاور مع وزير الدفاع اتخاذ قرار فيه دون الحصول على موافقة مسبقة من مجلس الوزراء، فالموضوع يتعلق بتسليح الجيش بأسلحة ضخمة متطورة بتكاليف باهظة، والناس في ليبيا أصبحوا يشكون في المشاريع والصفقات الكبيرة، وأخشى أن إعلان هذا المشروع فجأة سيفتح مجالًا للإشاعات والأقاويل وتهم الفساد وهو الشئ الذي حرصت هذه الحكومة على محاربته، كما يجب إعطاء وقت كاف لدراسته من طرف اللجان الفنية ومجلس الوزراء وإحاطة الرأي العام عن تفاصيله لتقبل مثل هذا القرار الخطير. كان رد رئيس الوزراء بأنه إذا تخوفنا من ما يقال في الشارع من إشاعات عن الفساد، فلن تستطيع الحكومة عمل أي شئ يعود بفائدة على البلاد، وإن الحكومة يجب أن تنطلق من قناعتها بسلامة القرارات والإجراءات التي تتخذها. وأنهى الجلسة عند هذا الحد مؤكدًا بأنه سيطلع المجلس على مزيد من التفاصيل في الجلسات القادمة.
وخرج الوزراء غير مقتنعين بإجابة رئيس الوزراء وعرض الموضوع عليهم بهذه الصورة المستعجلة، رغم تسليمهم بأن الحكومة ملتزمة أمام مجلس الأمة بتسليح الجيش بأسلحة حديثة، كما أن اختيار نوع السلاح هو عادة من اختصاص وزير الدفاع ومساعديه في الجيش. وبعد هذه الجلسة أعلن رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي موافقة الحكومة على تسليح الجيش الليبي بشبكة من الصواريخ والرادارات. وبعد فترة أعلن توقيع عقد الشراء وعقد المساندة مع الشركات البريطانية بإشراف الحكومة البريطانية، دون عرض المزيد من المعلومات على مجلس الوزراء حول الموضوع والاعتمادات المالية لتغطية تكاليف المشروع، بالإضافة إلى العقود السابقة لشراء دبابات وطائرات وسفن حربية التي سبق وأن وافقت عليها حكومة السيد حسين مازق ووزير الدفاع آنذاك السيد أبوسيف ياسين. وبرر وزير الدفاع السيد حامد العبيدي عدم تقديم العقود لموافقة مجلس الوزراء، بأن عقود التسليح سرية وتتناول الصواريخ ومواقعها، والدبابات والطائرات وقدرتها وكفاءتها وتكاليفها، وتاريخ التعاقد وتاريخ التسليم والانتهاء من إنشاء المنشأت لها، كلها معلومات تعتبر أسرارًا عسكرية.
تسليح الجيش في عهد السيد ونيس القذافي
استمر تنفيذ مشروع التسليح في سرية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي. وكانت لجنة تسليح الجيش التي ألفها وزير الدفاع تجتمع وتوافق على العقود وترسل البعثات التدريبية ووفود التفاوض مع الشركات المعنية في بريطانيا، وطلبت اللجنة استعارة المستر بيت هارديكر المستشار المالي والاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء للاستعانة به في أعمالها، ودراسة العقود وتمشيها مع القوانين المالية والجمركية المعمول بها في ليبيا. وكنت عن طريق المستر بيت هارديكر أعرف ما يجري في اللجنة. وأذكر أنه أخبرني بأنه أستطاع تخفيض تكاليف العقود، لأن الشركات البريطانية المتعاقد معها وضعت تقديرات مبالغ فيها لعدم إلمامها بمستوى المرتبات في ليبيا ومستوى المعيشة فيها، كما حرص على مراجعة أسعار الأسلحة والمعدات التي تطلبها الشركات ومقارنتها بالأسعار المعروفة عالميًا وفي بريطانيا.
إن تفاصيل هذا المشروع وأسعار الأسلحة الصاروخية وخدمات التدريب يتعذر ذكرها في هذه الذكريات، خاصة أنها لم تكن معروفة لدينا آنذاك عندما بدأ تنفيذ المشروع. وفي السنوات الأخيرة نشرت تقارير مفصلة عن مشروع التسليح في ملفات الحكومة البريطانية التي رفع عنها الحجر بعد مضي فترة 30 عامًا عليها، وتتضمن مراسلات وزارة الدفاع وتقارير السفير البريطاني ومراسلات الحكومة البريطانية مع وزارتي الخارجية والدفاع الليبيتين، والشركات المتعاقدة مع ليبيا، ومراسلات هذه الشركات مع ليبيا. وأنصح من يريد معرفة المزيد عن الموضوع الرجوع إلى هذه الوثائق البريطانية في دار الوثائق البريطانية في منطقة كيو جاردن بلندن.
البـترول
أنشطة البترول ودور وزارة البترول في السنوات الأولى للتنقيب والاكتشافات موضوع شائك طويل ويحتاج إلى مجال أوسع من هذه الذكريات. وفي الفترة الأخيرة للعهد الملكي الليبي السابق توليت منصب وزير البترول بالوكالة لفترة قصيرة وعرفت بعض المشاكل التي ترافق عادة منح الامتيازات البترولية والتي سأحاول تلخيصها فيما يلي باختصار.
الامتيازات التي أعطيت في عهد السيد حسين مازق
عرضت على شركات البترول العالمية سنة 1966 مناطق للتنقيب، وقد تقدمت هذه الشركات بعروضها التي عرضت على ما يسمى آنذاك بالمجلس الأعلى لشئون البترول، وقد رفض هذا المجلس بعضها لعدم توفر الشروط المطلوبة. فقد كانت بعض الشركات صاحبة هذه العروض لا تتمتع بسمعة مالية طيبة، وبعضها على ما قيل شركات جديدة أنشئت خصيصًا للمشاركة في العطاءات التي أعلنتها الحكومة الليبية لامتيازات عقود البترول.
وقد علقت على عملية فتح امتيازات جديدة كثير من الصحف الغربية والعربية آنذاك. وكان هناك خلاف بين وزير البترول الأستاذ فؤاد الكعبازي الذى كان مساندًا من بعض أفراد الحاشية الملكية، وبين كبار موظفي وزارة البترول وأعضاء المجلس الأعلى لشئون البترول. وقد أدى هذا الخلاف في النهاية إلى استقالة الأستاذ فؤاد الكعبازي من منصبه كوزير للبترول في أبريل 1967 واستبداله بالسيد خليفة موسى وكيل وزارة البترول بالوكالة، بالإضافة إلى عمله الرئيسي في وزارة المالية كوكيل للوزارة لشئون الجمارك.
ورغم أن رئيس الوزراء آنذاك السيد حسين مازق كان لا يتفق مع وزير البترول الأستاذ فؤاد الكعبازي حول مجرى عروض شركات البترول، لكن يظهر أنه لم يستطع إقناع الملك بإخراجه من وزارة البترول في أول تعديل له للوزارة، ولكن رئيس الوزراء استطاع إخراجه بعد ذلك بعد أن تمت الموافقة على عقود الامتياز للتنقيب عن البترول. وقد عرضت على مجلس الوزراء قرارات المجلس الأعلى لشئون البترول حول العطاءات المقدمة ووافق عليها وأضيفت شركات أخرى دون عرضها على المجلس الأعلي لشئون البترول، وعلى إثر ذلك استقال ثلاثة من أعضاء المجلس وهم السادة د. على عتيقة، سالم عميش وإبراهيم الفقيه حسن.
ومن الإشاعات التى صاحبت هذه العروض، أن الملك أمر رئيس الوزراء السيد حسين مازق بالموافقة على عرض شركة أوكسيدنتال، التى يملكها الأمريكي آرماند هامر، لأنها تقدم مزايا ترمي إلى تخصيص نسبة 5 بالمائة من أرباحها لتنمية منطقة الكفرة، رغم أن المجلس الأعلى لشئون البترول لم يوافق على هذا العرض لعدم أهلية الشركة المذكورة التي تنقصها الخبرة والأهلية المالية للقيام بعمليات التنقيب والإنتاج وتصدير البترول، كما أنه يشتبه بعلاقاتها مع أحد أفراد الحاشية الملكية. بالإضافة إلى أن مجلس الوزراء لم يكن موافقًا بالإجماع على قرار منح بعض الامتيازات بسبب معارضة بعض الوزراء لها.
كان رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار المسئولين في الدولة يبررون مواقفهم، في المجالس الخاصة، بأن الملك نفسه أصدر تعليماته بالموافقة على بعض العروض، بما فيها عرض شركة أوكسيدنتال. وقد وصلت بعض هذه الأقوال إلى مسامع الملك، مما جعله يأمر سكرتيره بإصدار بيان بنفي هذه الإشاعات والتأكيد بأن الملك لم يتدخل إطلاقًا في عروض شركات البترول ولكنه نصح الحكومة بالموافقة على العقود التي تقدم ميزات وخدمات إضافية من أرباحها للبلاد، وكان يقصد بذلك شركة أوكسيدنتال. وقد جاء البيان تأييدًا ضمنيًا للإشاعات بأن بعض العقود أعطيت بأمر الملك دون مراعاة لنتيجة العطاءات. عقب هذا البيان صدر مرسوم ملكي بتعديل الوزارة وخروج بعض الوزراء.
المستر آرماند هامر رئيس مجلس إدارة شركة أوكسيدنتال للبترول
آرماند هامر (1898-1990م) ابن مهاجر من الاتحاد السوفيتي وكان من أذكى وأخطر الشخصيات العالمية في الأنشطة السياسية والتجارية العالمية، وقد سخر ثروته لبناء سمعته الشخصية. وربط آرماند هامر علاقاته مع الزعماء السوفيت منذ أيام لينين، وكانت علاقاته وثيقة بالبيت الأبيض والكونجرس في أمريكا. وقد ساعد على إزدهار التجارة بين روسيا وأمريكا، ولعب أدوارًا هامة وسرية ومخابراتية بين روسيا وأمريكا، كما اكتسب صداقة ملوك ورؤساء الدول العربية البترولية. كان نشاطه في ليبيا أهم مصادر ثروته الكبيرة، وقد استطاع الحصول على امتيازات بترولية مهمة، وأصبحت شركة أوكسيدنتال إحدى أكبر الشركات البترولية المصدرة للنفط الليبي، واستفادت ببلايين الدولارات من تصدير البترول الليبي وتكريره وبيعه.
لقاء هامر بزعيم الحزب الشيوعي السوفيتي نيكيتا خروتشوف
توثقت علاقات هامر بالملك إدريس عندما تقدم للحصول على امتيازات بترولية في ليبيا، واستطاع بدعم من بعض أفراد الحاشية الملكية إقناع الملك إدريس بأنه في حالة حصوله على امتيازات بترولية في ليبيا، فإنه سيخصص 5% من أرباح شركته لتمويل مشروع زراعي كبير في الكفرة مركز الحركة السنوسية القريبة إلى قلب الملك. وفعلًا أوصى الملك بإرساء العطاء على شركة أوكسيدنتال كما أوضحت. وهنا لا أريد الدخول في نشاط هامر البترولي وعلاقاته مع كثير من المسئولين الليبيين ولكني سأتعرض إلى لقاء لي معه.
دعاني المستر هامر في إحدى زياراته إلى ليبيا، وكنت وزيرًا للبترول بالوكالة، لمرافقته في زيارته لمشروع شركته الزراعي في الكفرة. وسافرنا برفقة زوجته في إحدى الطائرات العادية لشركة أوكسيدنتال، لأن طائرته النفاثة الصغيرة لا تستطيع الهبوط في الكفرة. وأتيحت ليّ الفرصة للتعرف على هذا الشخص الغريب الأطوار. كان طوال الرحلة يتكلم عن نجاحاته وعلاقاته، ودوره في القضاء على احتكار الشركات البترولية الكبرى للأنشطة البترولية وخاصة في ليبيا. وعندما سألته عن سر نجاحه كرجل أعمال ذكي ومميز قال لا شك أن هناك مبالغة في مقدرتي الشخصية، ولكني رجل عملي في طريقة تسيير أعمالي، فمثلًا عندما وقعت عقد التنقيب عن البترول مع الحكومة الليبية، مررت في طريقي إلى أمريكا على زيورخ في سويسرا وحصلت من إحدى البنوك على قرض بالمبلغ المقرر صرفه في ليبيا للتنقيب وفق العقد بضمان العقد نفسه، لهذا لم أدفع شيئا من جيبي، وكانت العملية بالنسبة لي عبارة عن رحلة ترفيهية من أمريكا إلى ليبيا ثم أوروبا، وهكذا تتم كل عملياتي التجارية وتوطيد علاقاتي مع الجميع.
وكان في بعض الأحيان يغفو وينام واعتذرت زوجته لسلوكه هذا، وقالت إن زوجها لا ينام في حجرة نومه كما يفعل الناس، بل يستغني عن ذلك بغفوة النوم هذه أثناء سفره اليومي وتنقلاته بالسيارة والطائرة وفي مكتبه أحيانًا. كان هامر ملمًا بتفاصيل النشاط البترولي في ليبيا ودور المسئولين الليبيين فيه. وأذكر أننا تعرضنا للحديث عن السيد خليفة موسى وزير البترول آنذاك، والذي كان مسافرًا في مهمة رسمية، فقال إن خليفة موسى رجل ذكي ويعرف مسئولياته جيدًا، ونصحني بالاستمرار في علاقاتي مع السيد خليفة للتفرغ للنشاط البترولي لتولي مسئوليات كبيرة مستقبلًا في هذا المجال البترولي الذي يميز ليبيا عن غيرها من دول المنطقة، بالإضافة إلى مركزها الاستراتيجي الممتاز بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقد دعاني إلى زيارة أمريكا والإطلاع على نشاط شركة أوكسيدنتال في لوس أنجلس وبيكرسفيلد.
كان مشروع أوكسيدنتال الزراعي في الكفرة في بدايته، وكان يديره في تلك الفترة شخص أمريكي مشهور من العاملين في هذا المجال، وكما قال لي المستر هامر أن هذا الشخص يعتبر من أثرياء أمريكا، لكنه حريص على العمل بنفسه في مشاريع شركته، ولا تهمه مشقة الحياة في الصحراء مع مساعديه وعماله. وكانت آلات المياه تروي مساحة كبيرة خضراء وسط الصحراء، مزروعة بنباتات خاصة لتقوية التربة لتكون صالحة للزراعة. وقد تفقدنا الأعمال الجارية، والتخطيط للمستقبل، والمرافق العامة التي أعدت للموظفين والعمال. وأذكر أنه أثناء عودتنا إلى طرابلس قابلت الطائرة عاصفة قوية على خليج سرت ومرت بفراغات هوائية كبيرة جعلت الطائرة ترتفع وتهبط بشكل لم نستطع فيه حفظ توازننا داخلها، ومع كل هذا لم يظهر على وجه المستر هامر أي شعور بالانزعاج لأنه أدمن ركوب الطائرات طوال حياته.
وفي زيارة أخرى له إلى ليبيا كان في البيضاء، وكنت مسافرًا مع بعض الوزراء
إلى بنغازي ومنها إلى طرابلس كالعادة دائما في نهاية الأسبوع، وكنا نستعمل طائرات صغيرة للخطوط الليبية من مطار لبرق إلى مطار بنغازي، لنأخذ طائرة الخطوط
الجوية الليبية النفاثة إلى طرابلس. وفي مطار لبرق وجدنا المستر هامر يستعد للسفر
بطائرته النفاثة الصغيرة إلى طرابلس ومنها إلى أمريكا عن طريق أوروبا. ولما كان
عددنا ثلاثة فقط فقد عرض علينا السفر معه بطائرته إلى طرابلس بدلًا من ركوب
طائرة الخطوط الليبية، فقبلنا العرض لأنه أسرع لنا بمواصلة السفر رأسًا إلى طرابلس.
وبعد أن استقر بنا المقام في طائرة المستر هامر وغادرت طائرة الخطوط الليبية مطار
لبرق، جاء قائد الطائرة وهمس في أذن المستر هامر، فظهر على وجه الأخير الانزعاج وشعر بالحرج، وقال بأسف ظاهر إنه يأسف لوجود خلل ميكانيكي في الطائرة ولا يمكنها الطيران إلا بعد وصول قطع الغيار اللازمة لها من باريس بطائرة خاصة، واقترح أن يأتي لنا بإحدى طائرات شركة أوكسيدنتال العادية المستعملة في الحقول وذلك لأخذنا
إلى بنغازي لنلحق بطائرة الخطوط الليبية الذاهبة إلى طرابلس. وفعلًا تم ذلك وودعنا وبقي المستر هامر مع طائرته التي لم تستطع الطيران إلا في صباح اليوم التالي بعد وصول قطع الغيار من باريس.
كان هامر عراب (godfather) الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في مراسم تعميد الأمير
عقود مشاركة بترولية مع الشركات الفرنسية
بعد زيارة السيد عبدالحميد البكوش لفرنسا في إبريل 1968 منحت عقود امتياز بترولية مشاركة لشركتي ( ألف أكتين وإيراب ) الفرنسيتين، مما أثار مخاوف أمريكية وبريطانية لفقدان احتكارهما للتنقيب وإنتاج البترول في ليبيا، كما دارت حولها بعض الإشاعات حول الرشوة والفساد.
عقود المشاركة مع شركات البترول سنة 1968
استحدثت عقود المشاركة بعد إنشاء المؤسسة الليبية للبترول التي بدأ التفكير فيها منذ عهد حكومة السيد محمود المنتصر، وصدر قانون بإنشائها سنة 1968 في عهد حكومة السيد البكوش. وبناء على اقتراح لوزير البترول السيد خليفة موسى ثم طرح بعض المناطق التي استرجعت من شركات البترول في مناقصة عالمية، وطلب من الشركات التقدم بعروضها للدخول في مشاركة مع الحكومة ممثلة بالشركة الوطنية للبترول.
وقد تقدمت عدة شركات بعروضها التي عرضت على مجلس مؤسسة البترول فوافق عليها باستثناء عرض شركة "شباكوا" الأمريكية الذي رفضه المجلس لعدم توفر الشروط المطلوبة. وكانت بعض الشركات الأخرى التي تقدمت بعروضها هي من الشركات الكبرى المعروفة ومعظمها لها نشاط سابق بليبيا. وقد حصل انقسام في مجلس مؤسسة البترول بصدد قراره بشأن شركة شاباكو المذكورة فرفض عرضها عدد من أعضاء المجلس أذكر منهم السيدين مصطفى رشيد الكيخيا وشكري غانم.
وقد عرض وزير البترول قرار مجلس مؤسسة البترول على مجلس الوزراء، واقترح إضافة عرض شركة "شباكوا"، وقال إنه بالرغم أن عرض شركة "شباكوا" لم يوافق عليه مجلس مؤسسة البترول، إلا أنه رغبة في إعطاء هذه الشركة فرصة أخرى، فقد طلب منها التعهد بشروط تتعلق بالأسباب التي رفض العقد من أجلها وهي الأهلية المالية ولكونها شركة جديدة ليست لها الخبرة المطلوبة، واشترط عليها تقديم ضمان مالي من مصرف عالمي موثوق به، والتعهد بعدم التنازل عن امتيازها لشركة أخرى، وذلك ضمانًا لعدم المتاجرة وبيع امتيازها لإحدى الشركات العاملة في البلاد. وقد وافقت الشركة على كل هذه الشروط. ولهذا اقترح وزير البترول على مجلس الوزراء بصفته السلطة العليا المختصة بالموافقة على عرض الشركة، رغم معارضة مجلس مؤسسة البترول الوطنية.
وقد أيد رئيس الوزراء رأي وزير البترول. وكان واضحًا لدى أعضاء مجلس الوزراء أن وزير البترول ورئيس مجلس الوزراء واقعان تحت ضغط من الحاشية الملكية. وكان وزير البترول رغم تقدمه باقتراح الموافقة غير متحمس لعرض الشركة المذكورة. وقد وافق مجلس الوزراء على عقود المشاركة الأخرى التي وافق عليها مجلس مؤسسة البترول وكذلك على عقد شركة "شباكوا" بالشروط التي ذكرها وزير البترول. وقد رفض مجلس الوزراء عرض شركة إسو للبترول بقبول امتيازات لبعض المناطق المعروضة دون التقيد بمبدأ المشاركة، الذي لا يتمشى مع سياستها الدولية، رغم تقدمها بامتيازات إضافية مغرية بإنشاء صناعات بتروكيميائية كبرى في ليبيا. والمعروف أن منظمة الأوبك اعتمدت مبدأ المشاركة، إلا أنها تركت الباب مفتوحًا لعقود الامتياز التقليدية.
أحيل قرار مجلس الوزراء بالموافقة على عقود البترول على وزارة البترول، التي حولته بدورها على المؤسسة الوطنية للبترول لتنفيذه، وإعداد العقود للتوقيع عليها وإصدارها وفقًا لقانون البترول. وقام رئيس المؤسسة السيد محمد الجروشي بالموافقة على العقود وتوقيعها نيابة عن المؤسسة، وأحالها على وزير البترول آنذاك السيد خليفه موسى للتصديق عليها وإصدارها حسب القانون.
بشير المنتصر والسيد خليفة موسى وزير البترول (في وسط الصورة) والسيد إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول
وفعلًا صادق السيد خليفة موسى ووقع كل العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء باستثناء العقد مع شركة "شباكوا" المشار إليه أعلاه نظرًا لإدخال تعديل عليه بالاتفاق بين الشركة ورئيس مؤسسة البترول الوطنية، يعطي الشركة معاملة خاصة في التقيد بالمشاركة مما لا يتمشي مع قرار مجلس الوزراء. ومن المصادفات أنه أسندت لي مهام وزير البترول بالوكالة في هذه الفترة، عندما ذهب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي لوزارة البترول في إجازته السنوية.
في يوم 31 اغسطس 1969 عرض علي وكيل وزارة البترول السيد إبراهيم الهنقاري والوكيل المساعد السيد عيسى البعباع عقد شركة "شباكوا" المشار إليه للتوقيع، وذكرا لي بأن ممثل الشركة يصر على توقيع العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء، وأنه مسافر إلى أمريكا ويرغب في أخذ العقد معه موقعًا. وقد اعتراني الشك في الموضوع فسألت السيدين إبراهيم الهنقاري وعيسى البعباع عن سبب عدم توقيع السيد خليفة موسى وزير البترول الأصلي على العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء، فكان جوابهما بأن العقد مع شركة "شباكوا" يتضمن بنودًا استثنائية تعفي الشركة من الدخول في مشاركة مع الحكومة، وهو استثناء غير وارد في قرار مجلس الوزراء ولم يذكر في العقود مع الشركات الأخرى، وأن السيد خليفة موسى أمر بحفظ العقد إلى حين عودته لدراسته مع رئيس مؤسسة البترول الوطنية، والسبب في عرضه عليّ اليوم هو أن القصر الملكي في طبرق اتصل بهما وطلب منهما تقديم العقد إليّ للتوقيع.
وفوجئت بعد ذلك برسالة من ممثل شركة "شباكوا" يعلمني فيها بأنه إذا لم يتم التصديق اليوم على عقد شركته الموقع من طرف رئيس مؤسسة البترول، فإن شركته ستلجأ إلى القضاء والمطالبة بالتعويض عن أي تأخير. كما استلمت مكالمة هاتفية بهذا المعنى من القصر الملكي من إحدى سيدات الحاشية الملكية بحجة أن مدير الشركة اتصل بها وطلب منها التوسط لدي، وقد أوضحت لها ظروف العقد والصعوبات التى تواجه توقيعه ورفضي التوقيع على العقد حتى يعدل وفق قرار مجلس الوزراء.
وعلى الفور طلبت من السيادة إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول، والسيد عيسى البعباع الوكيل المساعد، والسيد سهيل السعداوي نائب رئيس مؤسسة البترول، الذي صادف وجوده في الوزارة، دراسة عقد الشركة المشار إليه أعلاه وتقديم تقرير مكتوب إليّ حالًا. وفعلًا تقدموا بتقرير مفصل فحواه بأن العقد مخالف لقرار مجلس الوزراء لأنه تضمن استثناءات غير واردة في القرار. وعلى الفور طلبت من السيد عيسى القبلاوي الوكيل المساعد إعداد رسالة إلى رئيس مؤسسة البترول وإعادة العقد إليه لتعديله وفقًا لقرار مجلس الوزراء، وعلى أن يتضمن أيضًا الشروط الإضافية التي التزم بها وزير البترول أمام مجلس الوزراء بالنسبة لشركة "شباكوا" وتقديمه من جديد للتوقيع والمصادقة عليه من وزير البترول، كما طلبت منه إرسال رسالة مستعجلة تسلم في حينها إلى ممثل الشركة بهذا المعنى، والإعراب له عن أسفي لعدم إمكاني توقيع العقد حتى يتم تعديله ليتمشى مع قرار مجلس الوزراء.
كما أخبرت السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء بما اتخذته من إجراءات ولفت نظره إلى مخالفة رئيس مؤسسة البترول لتوقيعه على عقد شركة "شباكوا" بما لا يتمشى وقرار مجلس الوزراء، وقد وافقني رئيس الوزراء على الإجراء الذي اتخذته، ووعد بالنظر في وضع رئيس المؤسسة الذي كثرت الشكوى منه وخلافاته مع مجلس مؤسسة البترول ومع كبار الموظفين في الوزارة. وقد أحضر لي السيد عيسى القبلاوي الرسالتين المشار إليهما أعلاه، إلى كل من رئيس مؤسسة البترول الوطنية، وإلى ممثل شركة "شباكوا" فوقعتهما في مكتب وزير الخارجية في نفس اليوم، رغم انشغالي مع السيد عبدالهادي بوطالب الوزير المغربي الذي كان في زيارة رسمية إلى ليبيا لتسليم دعوة الملك الحسن الثاني ملك المغرب إلى الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة الذي كان سيعقد في الرباط في سبتمبر.
وقد سررت عندما كنت في المعتقل عندما أذيع قرار إلغاء العقد مع شركة "شباكوا" من طرف الحكومة التي ألفت بعد قيام الثورة، استنادًا على رسالتي التي أرسلتها إلى ممثل الشركة المشار إليها أعلاه. وما أثار غضبي أن وزير البترول الأصلي السيد خليفة موسى لم يعلمني مسبقًا بالمشكلة قبل سفره في إجازة. وقد قابلته بعد ذلك في روما وأثرت معه الموضوع ولمته على عدم إعلامي قبل سفره بتفاصيل المشكلة مع شركة "شباكوا".
زيارات بعض الشخصيات العربية والأجنبية
أود في هذه المرحلة من الذكريات سرد ملخص للزيارات التي قامت بها بعض الشخصيات العربية والأجنبية لليبيا.
السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة
قام السيد حسين الشافعي بزيارة إلى ليبيا أواخر 1967 رافقه فيها السيد عصام الدين حسونه وزير العدل المصري، وقد أسندت لي مهمة مرافقته أثناء الزيارة. كان في استقبال السيد الشافعي في المطار الدكتور أحمد البشتي وزير الخارجية نيابة عن الملك وأنا نيابة عن رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. قابل رئيس الوزراء بمكتبه السيد الشافعي وبرفقته وزير العدل المصري والسفير المصري في ليبيا، وكنت حاضرًا لهذه المقابلة. وذكر السيد الشافعي خلال المقابلة بأنه جاء إلى ليبيا حاملًا رسالة إلى الملك إدريس من الرئيس عبدالناصر، وفي نفس الوقت سيشرح للمسئولين الليبيين الحالة العسكرية على الجبهة الغربية مع إسرائيل. وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة تقوم بإعداد قواتها المسلحة على أسس جديدة لتجنب ما حدث في نكسة 1967م، كما ذكر بأن مساعي الحل السلمي لازالت جارية، ولكن لابد من الاستعداد لمعركة قادمة مع إسرائيل لاسترداد الأرض التي احتلتها إسرائيل سنة 67 مع الإعداد للمعركة جيدًا.
قدم السيد الشافعي شرحًا وافيًا للاتصالات الجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية والوضع العربي. واستمع بعد ذلك إلى تعليق رئيس الوزراء السيد البكوش الذي أكد له حرص ليبيا على تأييد الجهود والمساعي العربية لاسترداد الأراضي العربية المحتلة، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في استقلاله واسترداد أراضيه المغتصبة، كما أن ليبيا تتفهم مشاكل الدول المجاورة لإسرائيل وحقها في إستعادة أراضيها بالأسلوب الذي تراه مناسبًا لها، ولكن الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل ومن بينها ليبيا ليست في حاجة إلى التفاوض مع إسرائيل أو الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242.
في يسار الصورة السفير المصري السيد صلاح بدر ثم السيد عبدالحميد البكوش (وجهه غير ظاهر)، تحت العلم من اليسار السيد حسين الشافعي ثم وزير العدل المصري السيد عصام الدين حسونة ثم بشير المنتصر، على اليمين اثنان من مستشاري السفارة المصرية
كما قابل السيد الشافعي بعد ذلك الملك إدريس وحضر المقابلة عن الجانب الليبي رئيس الوزراء، وجرى الحديث مع الملك على نفس النهج الذي جرى عند مقابلته لرئيس الوزراء، مع التأكيد على مشاركة ليبيا في الجهود الجارية لتقوية الجبهات العربية مع إسرائيل. ولم تثر أثناء المقابلة مسائل المساعدات المالية، خاصة وأن ليبيا ملتزمة حسب مؤتمر القمة في الخرطوم بدفع ثلاثين مليون جنية ليبي للدول المواجهة لإسرائيل.
وقد سنحت لي فرصة مرافقة السيد الشافعي ومناقشته حول الوضع العربي ودور الكفاح العربي من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وكان الشافعي واثقًا كل الثقة من مقدرة الأمة العربية على الصمود، ويرى أن العرب يجب أن يواجهوا حملة التشكيك التي يروجها الغرب للنيل من إرادة الأمة العربية بدعوى التخلف العلمي والتكنولوجي حتى يفقدوا الثقة بأنفسهم. كما لاحظت على الشافعي تدينه العميق، واستخدامه للآيات القرآنية في أحاديثه، وكان على جانب كبير من المعرفة بالفنون والنهضة الثقافية العربية، بالإضافة إلى تحليلاته السياسية الثرية. وكنا قد أعددنا له برنامجًا حافلًا مليئًا بزيارات المتاحف والمدن الأثرية في وخارج العاصمة طرابلس.
بشير السني المنتصر في رفقة السيد حسين الشافعي نائب الرئيس عبدالناصر أثناء زيارته الرسمية إلى ليبيا ويظهر معهما في الصورة السيد علي لاغة محافظ الزاوية
كان رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش غير متحمس لهذه الزيارة، لأن برنامجه السياسي لا يركز على الاهتمام بالتضامن العربي أو القضية الفلسطينية، بل كان منصبًا على تقوية التعاون مع الغرب وخاصة مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا، مع تركيزه في المجال العربي على التعاون مع دول المغرب العربي، ويظهر أن مصر كانت تعرف ذلك كما فهمت من سياق الحديث مع السيد الشافعي. كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية السيد أحمد عون سوف غير مرتاحين للزيارة تخوفًا من احتمال قيام استقبالات شعبية في المدن الليبية يصعب التحكم فيها، فقد كان أغلب الشعب الليبي متحمسًا قوميًا ويكن حبًا وإخلاصًا منقطع النظير للرئيس عبدالناصر والترحيب بنائبه كان من تحصيل الحاصل.
اتخذ وزير الداخلية السيد أحمد عون سوف احتياطات أمنية خاصة وخاصة في مدينة طرابلس، وأصر على حصر تحركات الشافعي في نطاق ضيق. وقد سببت هذه الإجراءات الأمنية إحراجًا كبيرًا لي بصفة خاصة لأني كنت الوزير المرافق، ومن واجبي الحرص على راحته ورغباته كضيف على البلاد. وكان رئيس الوزراء يؤيد وزير الداخلية في تحفظاته وكانا يحذراني بأني سأكون مسئولًا عن أية حوادث شغب أو مظاهرات قد تحدث أثناء الزيارة.
بشير المنتصر برفقة السيد حسين الشافعي أثناء زيارته لمتحف السراي الحمراء بطرابلس
وقد طلب مني رئيس الوزراء تعديل برنامج الزيارة وإلغاء زيارة السيد الشافعي لمدينة ترهونة لحضور الاحتفال الشعبي المقرر إقامته هناك للحفاوة بالضيف الكبير، وذلك بعد سماعه خبر الاستعدادات الكبرى، واحتمال تجمع جماهير شعبية كبيرة من المناطق المجاورة ومن معظم أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك أن وزير الداخلية أخبر رئيس الوزراء البكوش بأن السيد أبوبكر نعامة، الوزير السابق وعضو مجلس النواب، يريد استغلال الفرصة لإقامة احتفالات ضخمة لتقوية نفوذه في المنطقة وتأكيد زعامته أمام ممثل الرئيس عبدالناصر، وكان السيد البكوش على علاقة غير ودية مع السيد أبو بكر نعامة.
وفعلًا تم إلغاء الزيارة إلى ترهونة واستبدالها بمدينة الخمس ولبدة، وعدل البرنامج وفقًا لذلك. وقد حدث بعد ذلك أن أبلغ السفير المصري مدير إدارة المراسم بوزارة الخارجية الليبية، وكان بالمصادفة أخي السفير علي السني المنتصر، بأن السيد الشافعي يشعر بألم في ساقه ويود الراحة في طرابلس يوم الجمعة إذا أمكن، كما أبدى رغبته في أداء صلاة الجمعة في مسجد أحمد باشا القرامانلي الواقع في وسط مدينة طرابلس.
وقبل بدء الحفلة التى أقيمت على شرف السيد الشافعي في فندق الودان ناقشت طلب السيد الشافعي بالصلاة في مسجد أحمد باشا مع رئيس الوزراء بحضور وزير الداخلية، فعارضا الاثنان ذلك بحجة أن وجوده في المسجد سيشجع الجماهير في طرابلس للتجمهر والتظاهر تحية للرئيس عبدالناصر مما يعرض الأمن للخطر، وأصرا على أن يصلي السيد الشافعي صلاة الجمعة في المسجد المركزي لمدينة الخمس الواقعة على بعد 100 كم شرقي مدينة طرابلس بعد زيارته لمدينة لبدة الأثرية المجاورة لمدينة الخمس، وتناول طعام الغذاء في فندق الخمس والرجوع إلى فندق الودان بطرابلس الذي يقيم فيه الضيف. وقد طلبت من مدير المراسم بوزارة الخارجية إبلاغ السفير المصري بعدم إمكانية تعديل برنامج الزيارة والصلاة في مسجد الخمس بدلًا من مسجد أحمد باشا في طرابلس. وهكذا ذهبنا في اليوم التالي في موكب كبير إلى مدينة الخمس، فوجدناها تعج بالجماهير هاتفة للرئيس جمال عبدالناصر والوحدة العربية، وقد استغربنا كيف سمعت الجماهير بالزيارة غير المعلنة، وعرفنا بعد ذلك أن الجماهير التي كانت تنتظر الضيف في ترهونة علمت بتغيير زيارته إلى الخمس فاتجهت إليها.
وبعد صلاة الجمعة وتناول الغذاء عدنا إلى طرابلس. وكان الشافعي رائعًا وفهم ما كان يجري وراء الكواليس، وقال لي إنه سعيد بزيارة ليبيا، وتمكنه من زيارة مدينة لبدة التاريخية ومشاهدة أثارها العظيمة، وتأثر بالحفاوة والترحيب التي أبدتها جماهير الخمس والمدن الأخرى التي مررنا بها. وكانت الجماهير في طرابلس تتجمع وتظهر ترحيبها بالضيف كلما تحرك موكبه في المدينة دون تنظيم أو إعداد مسبق. وعند مغادرته عائدًا لمصر ودع بنفس المراسم التي استُقبل بها وأعرب عن تقديره لترحيب الملك ورئيس الوزراء به وشكرني على مرافقتي له طوال فترة الزيارة، كما شكر المرافقين الآخرين من وزارة الخارجية ورجال الأمن.
كانت زيارة السيد الشافعي فرصة لي للتعرف عليه، وقد سر كثيرًا عندما أخبرته بأني درست العلوم السياسية في جامعة القاهرة وقضيت خمس سنوات في الدراسة بمصر من سنة 1951م ولغاية سنة 1956م، بالإضافة إلى عملي بالسفارة الليبية في القاهرة طوال سنة 1962م، كما ذكرته بأني كنت ضمن الطلبة العرب الذين دعيوا من طرف أعضاء مجلس ثورة 23 يوليو بعد قيلمها بفترة وجيزة.
وكان من المصادفة أن الرئيس عبدالناصر ألقى خطابًا هامًا أثناء وجود السيد الشافعي في ليبيا، ولما أخبرته بأني سمعت الخطاب استفسر مني عن فحواه، وكان حسب ما فهمت يتوقع تغييرًا أو خبرًا هامًا. وفعلًا بعد عودته من زيارة ليبيا تم استبداله بالسيد أنور السادات كنائب أول لرئيس الجمهورية. هذا كما فهمت من حديثه مع وزير العدل في السيارة التي كانت تضمنا معًا، بأنهما غير راضيين عن سياسة وتصرفات الرئيس عبدالناصر وأعوانه وكانا ينتقدان الوضع السائد في مصر بصفة عامة.
زيارة السيد محمود رياض وزير الخارجية المصري
زار ليبيا بعد السيد حسين الشافعي السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة وأعد له استقبال رسمي وقابل الملك إدريس. وقد حضرت مقابلته مع رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. وقد بدأ حديثه بسرد تفاصيل اتصالاته المكثفة في أمريكا التي قضى فيها فترة بعد حرب 1967، وقابل فيها العديد من الوزراء وأعضاء الكونغرس. وأوضح أنه فشل في مساعيه في الحصول على أي تأييد أمريكي أو وعد لإلغاء أثار العدوان لحرب 1967م بإجبار إسرائيل على الجلاء عن الأراضي المحتلة. وأضاف بأن المسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية يعرفون ويتفهمون الموقف العربي في النزاع الإسرائيلي العربي وكانوا صرحاء معه، وأوضحوا له بأن أعضاء الكونغرس والبيت الأبيض يسيران بتوجيه من اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل والذي يمثل النفوذ المالي والإعلامي في الولايات المتحدة، كما يمثل الصوت اليهودي في الانتخابات الأمريكية وخاصة في المدن الكبرى مثل نيويورك ولوس انجلوس وكذلك بقية المدن التي لليهود فيها نفوذ مالي وإعلامي رغم ضآلة نسبتهم العددية، كما أن تساوي الأصوات في الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين جعل للصوت اليهودي أهمية خاصة، بينما لم يكن للعرب والمسلمين تنظيم مماثل يؤثر على هذا الحزب أو ذاك.
كان السيد محمود رياض فاقدًا للأمل في أمريكا وشدد على ضرورة التعاون العربي، وقال إن الجمهورية العربية المتحدة تحاول تقوية دفاعاتها بكل إمكانياتها ولكن على العرب تقوية كل الجبهات الشرقية والشمالية، وذكر بأن العرب في حاجة إلى طيارين أكثر من حاجتهم إلى طائرات، فالطائرات يمكن تعويضها في وقت قصير لكن الطيارون يحتاجون إلى وقت طويل للإعداد والتدريب. واستفسر السيد رياض من رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش عن موقف ليبيا من الصراع العربي الإسرائيلي.
وكان جواب السيد البكوش حذرًا وأوضح بأن ليبيا تتفهم موقف الدول العربية المجاورة لإسرائيل في مساعيها من أجل استرداد أراضيها، وليبيا تدعم الفلسطينيين لتحرير أراضيهم وممارسة حق تقرير مصيرهم بكل الوسائل المتاحة، وأن ليبيا كانت ولازالت مستعدة للمساهمة بما لديها من إمكانيات عسكرية ومالية. أما فيما يخص الحل السلمي فإن ليبيا رغم أنها تؤيد الدول المتضررة المجاورة لإسرائيل في اتخاد أي إجراء تراه يتمشى ومصالحها بما في ذلك قبول قرار مجلس الأمن رقم 242 وتنفيذه بدون المساس بحق الشعب الفلسطيني في فلسطين، إلا أن ليبيا لا ترى ضرورة لاعتراف باقي الدول العربية بإسرائيل.
وهنا علق السيد محمود رياض قائلًا إن الدول العربية لا زالت تسير على نهج سياستها السابقة والمغالاة في مطالبها كلامًا لا فعلًا، فقد كان العرب ينادون برمي اليهود في البحر وتحرير كل شبر من فلسطين، وكانت النتيجة دخولهم في ثلاثة حروب خسروا فيها فلسطين كلها وبعض أجزاء من الدول العربية المجاورة، والآن رغم أن قرار مجلس الأمن القاضي بانسحاب إسرائيل من أراض عربية احتلتها إسرائيل في حرب 1967 مقابل سلام دائم معها والذي يقضي في نفس الوقت قبول إسرائيل كدولة بحدودها في 5 يونية 1967، إلا أن الزعماء العرب لازالوا يرددون كلامًا غير محدد حول حقوق الشعب الفلسطيني في تحرير كل أراضيه. وكان يشير ضمنًا إلى جواب السيد عبدالحميد البكوش حول موقف ليبيا، وأضاف أن مثل التصريحات ترجعنا إلى الدخول في متاهات نعجز فيها عن حل المشكلة الفلسطينية. ولم يجب السيد عبدالحميد البكوش صراحة عن ما يحاول السيد محمود رياض الحصول عليه، وهو مدى قبول ليبيا صراحة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي قبلته مصر والأردن.
كان هدف زيارة السيد محمود رياض للدول العربية ومنها ليبيا كما فهمت هو إقناع الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل بنبذ سياسة ذات الوجهين التي تتبعها الحكومات العربية، وإصرارها على عدم مصارحة شعوبها بقبول إسرائيل في حدودها يوم 5 يونية 1967م، وفقًا لقرار مجلس الأمن المشار إليه أعلاه. وكانت الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل وخاصة السعودية والعراق وليبيا غير مستعدة أو مضطرة لقبول قرار مجلس الأمن رقم 242 والاعتراف بإسرائيل، مع ترك الحرية للدول المجاورة لإسرائيل لانتهاج السياسة التي تراها مناسبة لاسترجاع أراضيها دون المساس بحق الشعب الفلسطيني في أراضيه.
زيارة السيد حسن صبري الخولي مبعوث الرئيس عبدالناصر الخاص إلى ليبيا سنة 1969م
يظهر أن زيارتي السيدين حسين الشافعي ومحمود رياض كانتا مقدمة لزيارة السيد حسن صبري الخولي الهامة. استُقبل السيد حسن الخولي رسميًا من طرف السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية مبعوثًا من الملك، وأنا نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، والعقيد عبدالعزيز الشلحي بصفته الشخصية، فالخولي تربطه بعائلة الشلحي علاقات خاصة منذ أيام السيد البوصيري الشلحي وعلاقته الوثيقة بالرئيس عبدالناصر. هذا وقد قابل السيد الخولي الملك وتناول معه الغذاء الذي حضره رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي والعقيد عبدالعزيز الشلحي.
وقد علمت بعد الغذاء من رئيس الوزراء أن الهدف من الزيارة هو الحصول على مساعدة مالية إضافية لتغطية صفقة شراء طائرات عمودية من إيطاليا، لأن السوفيت الذين يزودون مصر بالأسلحة لا يملكون مثل هذا السلاح، وليس لدى مصر نقد أجنبي لذلك، وقد وافق الملك على هذا الطلب كما وافق عليه مجلس الوزراء. وبعدها اجتمع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي بمكتبه وبحضوري مع السيد حسن الخولي وأبلغه موافقة الحكومة الليبية على دفع مبلغ عشرة ملايين جنية ليبي (30 مليون دولار) على دفعتين حسب طلب الجمهورية العربية المتحدة، وبالطبع كان القرار بأمر من الملك. وأذكر أن السيد حسن الخولي استقبل القرار بسرور بالغ كأنه لم يكن يتوقع نجاح مهمته بهذه السرعة، وقال للسيد ونيس القذافي بأن التاريخ سيسجل لليبيا هذا العمل الجليل لأنها بهذا المبلغ ستمكن الجيش المصري من أن يتحول من جيش راجل (بري) إلى جيش طائر (جوي).
وأضاف السيد الخولي بأن التاريخ سيسجل لليبيا بكل فخر واعتزاز مدى المساعدات التي قدمتها وتقدمها ليبيا للصمود العربي في وجه الصهيونية والاستعمار، وأشاد بصفة خاصة بموقف الملك إدريس من القضايا العربية، وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة ترغب في إظهار حسن نيتها وتطلب من ليبيا أن تدفع فواتير شراء الطائرات العمودية رأسًا إلى مصانع الطائرات العمودية في إيطاليا دون تدخل مصر. ولكن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي رفض هذا العرض قائلًا إن ليبيا تثق في الشقيقة مصر وسيحول المبلغ رأسًا إلى الحكومة المصرية وهي حرة لإتمام عملية الشراء حسب إجراءاتها المالية.
وطلب السيد الخولي بعد ذلك موافقة ليبيا على أن يطلق الجيش المصري على فرقة الطائرات العمودية التي سيتم شراؤها اسم ليبيا ووضع شعار الجيش الليبي عليها إظهارًا لمدى مشاركة ليبيا في المعركة المصيرية القادمة مع إسرائيل. ورأى السيد ونيس القذافي إحالة القرار في هذا الشأن إلى قيادة الجيش الليبي للبت في هذا الموضوع، وقال إن هدف الحكومة الليبية هو مشاركة الجمهورية العربية المتحدة في عبء المعركة ولا تريد جزاءًا ولا شكورًا لأنها تعتبر ذلك واجبًا عربيًا ولو توفرت لدى ليبيا قوات عسكرية قوية لما ترددت في المشاركة الفعالة في المعركة.
وقد تقرر بعد ذلك دفع المبلغ على دفعتين وسمح لمصر شراء بجزء من المبلغ أسلحة أخرى غير الطائرات العمودية، كما اعتذرت ليبيا عن قبول اقتراح السيد الخولي بإطلاق اسم ليبيا على فرقة الطائرات العمودية في الجيش المصري وكذلك وضع شعار الجيش الليبي عليها. ومن الصدف أن السيدة أم كلثوم كانت تحي حفلاتها في ليبيا أثناء زيارة السيد حسن الخولي ودعي من طرف السيد عبدالله عابد السنوسي الذي كان يشرف على زيارة السيدة أم كلثوم لحضور حفلتها التي أقيمت في طرابلس، وقد تردد السيد ونيس القذافي في أول الأمر في حضور الحفلة ولكن حضور مندوب الرئيس عبدالناصر السيد حسن الخولي اضطره إلى حضورها، وأصر على مرافقتي له والجلوس إلى جانبه حتى نهاية الحفلة.
زيارة السيد صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي 1968م
زار ليبيا في هذة الفترة السيد صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي يرافقه وزير التربية العراقي بدون دعوة رسمية، وعلمنا بقدومهما بعد دخول طائرتهم الأجواء الليبية. واستقبلتهما في المطار نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، ولم يتمكنا من مقابلة الملك ولكنهما قابلا رئيس الوزراء بمكتبه. وقد حضرت هذه المقابلة حيث قدم السيد عماش شرحًا للوضع في العراق والخسائر التي تكبدها الجيش العراقي في حرب 1967، حيث فقد عددًا كبيرًا من طائراته ودباباته قبل وصول الجيش العراقي إلى جبهة القتال. كما ذكر بأن دخل العراق من البترول قد تضاءل بسبب الصراع بين شركات البترول الأجنبية، ولما كان العراق لم يشمله الدعم العربي الذي قرره مؤتمر الخرطوم للدول المجاورة لإسرائيل، ولهذا فإنهم يأملون في الحصول على دعم مالي من ليبيا لتسليح الجيش العراقي وتقوية الجبهة الشرقية في الصراع العربي الإسرائيلي.
إلا أن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي اعتذر بعدم مقدرة ليبيا في الوقت الحاضر على تلبية طلب العراق، وأضاف بأن ليبيا ملتزمة بالدعم العربي للدول المتضررة المجاورة لإسرائيل والمقرر في قمة الخرطوم، كما أنها ساهمت في دعم الجبهة الغربية مع الجمهورية العربية المتحدة. وأشار إلى التزام الحكومة الليبية بمشاريع خطة التنمية لحاجة البلاد الملحة إلى بناء مرافقها العامة، وافتقار الشعب إلى كثير من الخدمات لفقر البلاد قبل اكتشاف البترول، وعجز الحكومة عن تمويل أية مشاريع تنموية في الماضي، كما أن الاستعمار الإيطالي حرم الشعب الليبي من كل مقومات الحياة الكريمة، بالإضافة إلى أسعار البترول المتدنية. وقد أبدى السيد عماش تفهمًا لظروف ليبيا الحاضرة وقال إن الوفد العراقي جاء بحسن نية، وبرسالة نبيلة لخدمة الأمة العربية، ولم يشعر العراق بالحرج لطلب الدعم من دولة عربية مثل ليبيا لتجهيز الجيش العراقي، فهو جيش العرب جميعًا وحصنهم المنيع ضد الاستعمار والصهيونية.
السيد عماش شخصية فريدة ويحب اللهو والسمر، وفهمت منه أنه يرغب في السهر ليلًا، خاصة أن برنامج زيارته كان متعبًا ويشمل السفر والتنقل جوًا داخل ليبيا. فرغم أن العاصمتين في ليبيا هما طرابلس وبنغازي إلا أن رئيس الوزراء يستقبل زواره عادة في مدينة البيضاء والملك يستقبل زواره في مدينة طبرق، بينما يقيم الضيوف في طرابلس، ولهذا كان برنامج كبار الزوار يستدعي تنقلهم بين طرابلس وبنغازي والبيضاء وطبرق، وتوضع برامج استقبالات رسمية في كل منها. ويقيم كبار الزوار عادة في فندق الودان في طرابلس وقد يستريحون في فندق البرينيتشي في بنغازي لبضع ساعات أثناء سفرهم من وإلى طرابلس والبيضاء وطبرق.
زيارة السيد محسن العيني رئيس الوزراء اليمني
زار السيد محسن العيني رئيس وزراء اليمن ليبيا وكنت في استقباله في المطار نيابة عن رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. لم أكن أعرف السيد العيني شخصيًا ولهذا سألني ونحن في السيارة عن منصبي في الحكومة، وقد ارتاح عندما عرف أني على مستوى وزير، وكان كما شعرت يتوقع أن يستقبله رئيس الوزراء في المطار حسب البروتوكول. شرحت له أوضاع ليبيا ونظام الاستقبالات الرسمية فيها لوجود رئاسة مجلس الوزراء في البيضاء، والملك في طبرق. كما سألني أيضًا عن السيد منصور رشيد الكيخيا الذي كان زميله في الدراسة في مصر. وبعد قضاء ليلته في طرابلس سافرنا في اليوم التالي معًا إلى البيضاء حيث استُقبل في مطار البيضاء من طرف رئيس الوزراء.
ونظرًا لشعوري بعدم رضا السيد العيني على مستوى استقباله في طرابلس اقترحت على السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء استقباله رسميًا في مطار البيضاء بدلًا من استقباله في مكتبه كما كان معدًا في البرنامج المعد له. وعمل رئيس الوزراء بما اقترحته عليه، رغم أن السيد البكوش كان كما ذكرت غير متحمس لزوار ليبيا من العرب، كما أنه يعرف أن هدف زياراتهم كان دائمًا لطلب الدعم المالي، خاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة منتجة للبترول، رغم أن سعر برميل البترول آنذاك كان لا يتعدى دولارًا واحدًا. وأعتقد أن السيد العيني لم يكن راضيًا عن زيارته فهو لم يستقبل بحفاوة من طرف الملك، كما أن السيد عبدالحميد البكوش لا يعرف المجاملة، خاصة عندما يواجه بطلبات مالية.
والشيء الذي لم يكن يعجبني في الزوار العرب هو أن كبار المسئولين العرب يطلبون الزيارة دون إعطاء وقت للإعداد لها في متسع من الوقت، ويطلبون مقابلة الملك ورئيس الوزراء دون أن يعلنوا عن الغرض من زيارتهم، مما يضع المسئولين الليبيين في حرج، بما فيهم الملك، الذي كان لا يريد أن يواجه بطلبات ورغبات من رؤساء دول تضطره لاتخاد قرار فوري في مواضيع هي من اختصاص الحكومة. لكن الزوار العرب يحبذون التوجه بطلبات بلدانهم باسم رؤساء دولهم إلى الملك مباشرة، لأنهم يؤمنون بأن قرار الموافقة على مثل هذه الطلبات لا يتخد إلا على هذا المستوى العالي، كما هو الحال في بلادهم.
زيارة السيد عبدالعزيز بوتفليقة سنة 1967م
وأذكر خلال هذه الفترة زار ليبيا السيد عبدالعزيز بوتفليقة ومبعوث الرئيس الجزائري السيد هواري بومدين (اسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة)، وقد جاء إلى البيضاء وقابل السيد حسين مازق في مكتبه، وقد دعاه هذا الأخير إلى غذاء خاص في منزله لم يكن في برنامج الزيارة، وطلب مني أن أكون معهما على الغذاء الذي لم يحضره أحد من الخارجية. وقد كان السيد بوتفليقة شابًا قريبًا من الرئيس أبومدين. وقد استعرض أثناء الغذاء العلاقات الليبية الجزائرية والعلاقات العربية بصراحة مع السيد حسين مازق، الذي كان معجبًا به وبآرائه الوطنية والقومية الوحدوية. وكان في حديثه يستعين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين في سياق سلس غير متكلف مما دل على تعليمه الديني الرصين رغم دراسته الفرنسية.
استعرض السيد بوتفليقة بوضوح التخطيط الاستعماري للعالم العربي، والخلافات العربية، وسياسة حكومة الجزائر في السعي لتحقيق الوحدة المغربية والتضامن العربي البعيد عن التدخلات الداخلية. وقد كلفة السيد حسين مازق بحمل تحياته إلى الرئيس هواري بومدين وحرص ليبيا ملكًا وحكومة وشعبًا على تقوية العلاقات بين البلدين الشقيقين، وتوحيد مواقفهما على المستوى العربي والإسلامي ودول عدم الانحياز، وبذل كل ما في استطاعتهما لدعم الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق حريته واستقلاله بعيدأ عن المساومات الدولية والإقليمية.
زيارة الرئيس التركي جودت صوناي سنة 1968م
كان الرئيس التركي هو رئيس الدولة الوحيد غير العربي الذي زار ليبيا في هذة الفترة من 27 يناير إلى 2 فبراير 1968، وقد جاء الملك إلى طرابلس حيث كان في استقباله ووداعه. وجرت للرئيس التركي استقبالات كبيرة. وأذكر أنه كانت قد وصلت في هذه الفترة إلى ميناء طرابلس سيارة "كاديلاك" مصفحة ضد الرصاص التي كانت الحكومات السابقة قد أوصت بصناعتها لاستعمال الملك، وقد قمت مع السيد فتحي الخوجة، كبير التشريفات الملكية، بعرضها على الملك والملكة في بيتهما الخاص في سواني بن يادم بطرابلس، إلا أن الملك لم تعجبه السيارة المفتوحة، وذكر لنا بأنه يفضل استقبال الرئيس التركي في سيارته الخاصة "الرولس رويس"، أما السيارة الجديدة فتوجه إليّ مخاطبًا: "انتم يا حكومة استعملوها للضيوف الأجانب".
مراسم استقبال الرئيس التركي جودت صوناي بمطار طرابلس
بشير المنتصر مع الأستاذ منصور الكيخيا (الثاني من اليمين) ويظهر في يسار الصورة شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي أثناء حفل العشاء الذى أقامه الملك إدريس على شرف رئيس الجمهورية التركية جودت صوناي
زيارة الملك حسين ملك الأردن
زار الملك حسين ليبيا سنة 1967 ولم أكن على إطلاع على ما جرى خلالها من مباحثات بينه وبين الملك لأني كنت في إجازة خارج ليبيا. أما زيارته الثانية التي تمت في نفس السنة فقد وافق الملك فيها على تقديم مساعدة للأردن قيمتها خمسة ملايين جنيه ليبي لشراء أسلحة صاروخية دفاعية، بالرغم من أن طلب الأردن كان أكثر من ذلك بكثير. كان الملك إدريس يحب الملك حسين وأخيه الأمير حسن وكان يرحب بأي زيارة لهما.
الملك إدريس في استقبال الملك حسين ويظهر خلف الملك الأمير الحسن الرضا ولي العهد والعقيد عبدالله عبدالكريم مرافق الملك
المساعدات الليبية
بلغت المساعدات الرسمية الليبية للدول العربية المتضررة من العدوان الإسرائيلي والتي وافقت عليها الحكومة نتيجة هذه الزيارات العديدة خلال الفترة 67-69 أكثر من 75 مليون جنية ليبي، بما في ذلك الدعم العربي المقرر في قمة الخرطوم وهو 30 مليون جنية ليبي سنويًا، بالإضافة إلى المساعدات الشعبية من نقدية وعينية وما لدى الجيش الليبي من أسلحة متوفرة وعتاد ومعدات التي قدمت في شكل هبات ومساعدات.
وفي هذه الفترة تلقت ليبيا طلبات عديدة للمساعدة في شكل مساعدات نقدية أو قروض من كل من تونس والمغرب والسودان والعراق واليمن الشعبية ولكن ليبيا اعتذرت عن تلبية هذه الطلبات باستثناء تونس. كما تلقت ليبيا طلبات للمساعدة من حركة اريتريا فقدمت لها المساعدات عن طريق الجامعة الإسلامية ودفعت لها تكاليف إصلاح سفينة شحن كانت سوريا قد تبرعت بها لاريتريا.
كما قدمت ليبيا مساعدات لتشاد والنيجر في ميادين بناء المساجد والمدارس الحديثة وفي المجال الزراعي والمواصلات وتوفير وسائل النقل. كما أن ليبيا التزمت بقبول اللاجئين المسلمين من تشاد، بما فيهم زعيم الطوارق وأولاده في مناطق الحدود مع تشاد وحددت لهم مرتبات ومساعدات. وكان هناك جدل حول هذه المساعدات فيرى البعض أنه من الواجب تقديم هذه المساعدات للمعارضة التشادية ودعمها بالمال والسلاح، ولكن البعض كان يرى أن مثل هذه المساعدات تجر ليبيا إلى مشاكل مع فرنسا والدول المجاورة. ولهذا استقر الرأي على تحسين العلاقات مع تشاد في ميادين التعاون المختلفة المتعلقة بالمسلمين كبناء المساجد والمدارس، وفي نفس الوقت السماح لزعيم الثوار ورجاله بالالتجاء إلى الأراضي الليبية بشرط ألا يهاجموا تشاد من داخل الحدود الليبية وأن تكون المساعدات المقدمة لهم سرية.
وحاولت حكومة تشاد الوصول مع زعيم الثوار الموجود في ليبيا إلى اتفاق وتعهد الرئيس التشادي فرانسوا تومبلباي بعدم التعرض له إذا رجع إلى بلاده، ولكنه رفض هذا العرض وبقى هو وأبناؤه في حركة تمرد على الحدود الليبية التشادية. وفي العلاقات مع تشاد أذكر أن وزيرًا تشاديًا، من أصل فرنسي، زار ليبيا لدراسة إمكانية تصدير البترول التشادي مستقبلًا عن طريق ليبيا، وكانت عمليات التنقيب الفرنسية عن البترول في تشاد تجري على قدم وساق بعد اكتشاف ليبيا للبترول، وقد أعربنا له على استعداد ليبيا لدراسة الموضوع عندما يكتشف البترول في تشاد.
هذا كما أمر الملك بتقديم مساعدات إلى ملك ألبانيا لرعاية أنصاره الموجودين خارج وطنهم لمساعدتهم للعودة إلى بلادهم وذلك بصفته ملكًا مسلمًا في صراع مع الحكم الشيوعي في بلاده. كما أمر بمساعدة المسلمين في يوغوسلافيا في مجال حاجاتهم الدينية كبناء المساجد والمدارس. وامتدت هذه المساعدات لتشمل المساهمة في مشاريع الجاليات الإسلامية الثقافية في الدول الأوروبية والأمريكية، بما في ذلك بناء مراكز إسلامية في روما ولندن، كما فتح الباب أمام الطلاب الإفريقيين المسلمين للدراسة في جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الإسلامية والجامعات والمعاهد الليبية.
مساعدات ليبيا لمنظمة التحرير الفلسطينية
أما بشأن منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمة فتح الفلسطينية فإن ليبيا كانت تقدم المساعدات لهما قبل عدوان 1967م وضاعفت من مساعداتها لهما بعد ذلك، غير أن التركيز كان على فتح، خاصة بعد انضمام السيد ياسر عرفات إلى منظمة التحرير وأصبحت المنظمتان شبه موحدة. وكان موضوع المساعدات قد أوقف في فترة حكومة السيد عبدالحميد البكوش بسبب الخلاف الذي نشأ حول زعامة منظمة التحرير الفلسطينية واتجهت المنظمات الشعبية إلى توجيه مساعداتها إلى منظمة فتح، إلا أنه في عهد حكومة السيد ونيس القذافي أعيدت المساعدات الرسمية والشعبية التي أوقفت بعد استجلاء الموقف بين المنظمتين. وكان رئيس الحكومة السيد ونيس القذافي متحمسًا مع السيد ياسر عرفات ومنظمة فتح ولم يرفض لها طلبًا سوى الإذن لها بالتدريب في معسكرات الجيش الليبي، إذ رفض الملك السماح بذلك.
ياسر عرفات يزور ليبيا
زار السيد ياسر عرفات ليبيا وقدم إلى البيضاء لمقابلة السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء، وأذكر أنه لما وصل إلى مكتب رئيس الوزراء كان رئيس الوزراء غير موجود في المكتب، فأدخله سكرتير رئيس الوزراء آنذاك السيد أحمد كعوان مكتب رئيس الوزراء وأخبرني بذلك. فأسرعت إلى مقابلته والجلوس معه حتى جاء رئيس الوزراء. وكانت هذه أول مقابلة لي للسيد ياسر عرفات، وقد تبادلت معه الحديث حول الأوضاع العربية ونشاط منظمة التحرير الفلسطينية، وكان برفقته زميل له لا أتذكر من هو الآن. وقد أجرى السيد عرفات بعد ذلك مباحثات مع رئيس الوزراء دون حضوري، ولا أذكر أنها تمخضت عن شئ جديد، فمنظمة التحرير تتسلم مساعدة سنوية من ليبيا بمقتضى قرارات القمة العربية.
المغرب العربي الكبير
جرت اتصالات ومساع كثيرة في فترة حكومة السيد عبدالحميد البكوش والسيد ونيس القذافي مع دول المغرب العربي حول وحدة دول المغرب العربي. وكانت ليبيا مترددة في توقيع الاتفاقية الاقتصادية المتعلقة بإنشاء سوق واحدة أسوة بالسوق الأوروبية المشتركة، وكان بعض أعضاء الحكومة مترددين في مدى فائدة ليبيا من الانضمام لهذه الاتفاقية. وقد استقر الرأي بعد ذلك على الدخول في الاتفاقية، وكان من المتوقع التوقيع عليها في نهاية سنة 1969م.
مزيـد من الزيارات
بالإضافة إلى ما تقدم، زار ليبيا عدد كبير من المسئولين العرب والأجانب لتبادل الرأي في الوضع العربي، أو لتوثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية خلال 1968م ومن بينهم وزراء مواصلات المغرب العربي الذين حضروا مؤتمر المغرب العربي للمواصلات السلكية في 20 يناير 1968م، ووزير الاقتصاد الوطني الأردني في 27 فبراير، ووزير التجارة البريطاني من 1 إلى 5 مارس. كما زار ليبيا وزير التجارة الإيطالي يوم 13 مارس، ووزير التجارة المغربي يوم 14 مارس ووزير التجارة التركي من 16 إلى 21 مارس ووزير التجارة المالطي من 17 إلى 21 مارس، ووزير المواصلات التركي يوم 22 أبريل ورئيس وزراء مالطا من يوم 27 أبريل وحتى يوم 1 مايو، والأمين العام للجامعة العربية من يوم 6 إلى 8 يونية، والوزير التركي للخارجية من يوم 17 إلى يوم 22 يونية، ورئيس وزراء مالطا من 8 إلى 14 يونية، ورئيس وزراء السودان من 20 إلى 25 أغسطس، ووزير التجارة السوداني يوم 2 سبتمبر، ووزير الدولة البريطاني من 12 إلى 15 أكتوبر. كما عقد مؤتمر وزراء العمل في طرابلس من يوم 3 إلى 10 نوفمبر.
مرور المستر هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا بليبيا
في مارس 1969م مر بليبيا المستر هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا الذي كان في طريقه إلى نيجيريا أثناء حرب "بيافرا"، وقد كنت في استقباله نيابة عن الملك ورئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، رغم أن مروره كان بالقاعدة البريطانية ( العدم ) في طبرق. ويظهر أن مروره بليبيا لم يكن في برنامج زيارته أو بعلم وزارة الخارجية، ولهذا لم يكن السفير البريطاني حاضرًا، واستقبلته مع قائد عام القاعدة فقط. وكان معه وفد كبير من الوزراء والمستشارين. وقد قضيت معه بعض الوقت مرحبًا واتضح لي أنه لم يكن قد أعطي له ملخصًا عن ليبيا وما هي المواضيع التي قد يتعرض لها في حالة مقابلته للمسئولين الليبيين، ولهذا اقتصر حديثه معي على السؤال عن الملك وصحته وطلب مني إبلاغ شكره على إرسالي باستقباله وكذلك إلى رئيس الوزراء. كان يتكلم بصفة عامة عما يجري في ليبيا دون التعرض لمواضيع معينة. وبعد بعض الوقت استأذن مني للتفرغ إلى اجتماع كان مقررًا مع وزرائه ومستشاريه للإعداد لمباحثاتهم مع الحكومة النيجيرية. وقد انتظرته مع قائد القاعدة حتى انتهى من اجتماعه ثم حضرنا حفلة شاي قدمها قائد عام القاعدة وبعدها سافر وودعناه بمثل ما استُقبل به.
كما زار ليبيا خلال 1969 وزير خارجية هولندا من 8 إلى 12 يناير 1969، ووزير الدفاع البريطاني من 12 إلى 15 يناير، ووزير خارجية الجزائر السيد عبدالعزيز بوتفليقة من يوم 29 يناير إلى 3 فبراير. وزار ليبيا في هذه الفترة وزير ألمانيا الاتحادية للدفاع الهير ستراوس. كما عقد مؤتمر المواصلات لدول المغرب العربي من يوم 15 إلى 17 مارس، وزار ليبيا للمرة الثانية وزير الدفاع البريطاني من يوم 20 إلى 21 ابريل، وفي نفس هذه الفترة زار ليبيا نائب وزير الخارجية الأمريكي لشئون أفريقيا ووزير خارجية أسبانيا.
دوري في استقبال الزوار العرب
كنت في الحكومة كوزير دولة لشئون رئاسة الحكومة غير مسئول عن وزارة معينة، ولهذا كنت أتولى القيام بالمهام العارضة التي يستوجب القيام بها شخص بدرجة وزير يكلفه بها رئيس الوزراء، ومنها مسئولية زيارة كبار المسئولين واستقبالهم ودراسة برامج زياراتهم مع الوزراء المختصين. وقد لاحظت أنه رغم تكليفي باستقبال وحضور جميع مقابلات كبار الزوار من المسئولين العرب مع رئيس الوزراء، إلا أن الوزراء الأجانب في الغالب يستقبلون من طرف زملائي الوزراء كل في اختصاصه لأسباب كثيرة، منها أن زيارات ومقابلات الزوار العرب كانت مجاملات بروتوكولية في الغالب ولا يتوقع منها نتيجة، ولهذا تركوا لي أمر مجاملة مثل هؤلاء الزوار العرب، خاصة أني عشت في مصر وخبرت السياسة العربية أكثر من أغلب زملائي الوزراء. أما الزوار من الوزراء الأجانب فعادة يأتون وفقًا لبرناج معد مسبقًا لدراسة مسائل سبق أن نوقشت مع الوزارات المختصة عن طريق سفاراتهم، ولهذا يحرص الوزراء على استقبالهم للبت في ما جاءوا من أجله وكذلك حضور اجتماعاتهم مع رئيس الوزراء إذا استدعى الأمر.
خطة التنمية الثانية للسنوات الخمس 1968-1972م
إن تفاصيل ميزانية خطط التنمية متوفرة في الوثائق الرسمية والمراجع التاريخية بالتفصيل. وأريد هنا أن أذكر باختصار بعض جوانب ما كان يجرى أثناء إعدادها ومناقشتها في مجلس الوزراء، وكذلك المشاكل الاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة، والتنافس بين الأقاليم، الذي كان عقبة في وضع ميزانية على أسس علمية وحاجات البلاد الحقيقية.
وقبل التعرض لتفاصيل ما تقدم أود أن أسجل بأن ليبيا كانت الدولة العربية الوحيدة التي حظيت بدراسات دقيقة لاقتصادها منذ كانت أفقر دولة في أفريقيا يوم استقلالها إلى أن أصبحت أول دولة أفريقية في معدلات مستوى دخل الفرد في أواخر الستينات، وذلك راجع بالطبع إلى اكتشاف البترول وتصديره في فترة قصيرة لا تتجاوز بضع سنوات. كما أن اقتصادها كان موضوع دراسة دقيقة من طرف خبراء الأمم المتحدة والخبراء الدوليين الأجانب الذين شاركوا في هذه الدراسات وفي التخطيط الاقتصادي ورسم خطط التنمية الخمسية. وكان دور ابن ليبيا الشاب والاقتصادي الدولي القدير الدكتور علي أحمد عتيقة دورًا عظيمًا في دراسة الاقتصاد الليبي ووضع خطة التنمية الخمسية الثانية والتي كانت نتاج جهده وجهد زملائه في وزارة التخطيط.
وكانت الخطة الخمسية الأولى للتنمية التي بدئ في تنفيذها في بداية عهد وزارة الدكتور محي الدين فكيني للفترة 1963-1967م قد مددت وذلك لإنهاء المشاريع التي لم تتم مع الاستمرار في مشاريع الخدمات العامة والمنشآت الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى مشكلة موازنة الدخل مع المصروفات العامة بعد تضخم العجز في الميزانية العامة وتراكمه طوال السنوات الماضية، بسبب تنفيذ مشاريع لم تدرج في الميزانية أو في خطة التنمية، وخاصة في ميزانية السنة المالية 65-1966م. وهكذا استمرت دراسة خطة التنمية الثانية فترة طويلة. ورغم محاولات الدكتور علي أحمد عتيقة لتعميم فرص التنمية على كل المناطق الليبية، ومراعاة الكثافة السكانية، إلا أن الإقليمية الضيقة، مع الأسف الشديد، التي كانت سائدة في تلك الفترة، كانت تعرقل مشاريع التنمية المدروسة والمدعمة بالإحصائيات الدقيقة، وتشجع مشاريع غير اقتصادية، وإنشاءات عامة وخاصة في مدينة البيضاء، التي كانت تستنزف أموالًا باهظة على حساب مشاريع التنمية، وبدون مراعاة للمخصصات المالية، مما ساعد على إرباك الخزانة.
وقد جرت عدة محاولات للحد من نفقات البند المفتوح الخاص بإنشاءات مدينة البيضاء وذلك بإنشاء مؤسسة البيضاء أسوة بمؤسسة المرج حتى يمكن وضع حد لهذه المصروفات والإنفاق في حدود مخصصاتها، وخصص لها مبلغ كبير في الخطة الخمسية، رغم أنه ينقص كثيرًا عن التقديرات المطلوبة والمصروفات الفعلية والتي كانت أضعاف المبلغ المخصص لها في الميزانية. أما ميزانية مشروع مدينة المرج فكانت مفتوحة أيضًا، ورغم المحاولات لتخفيض التقديرات المالية المخصصة لها، إلا أنها باءت كلها بالفشل، فقد كان المشرفون عن المشروع غير متقيدين بالمخصصات المالية بقدر اهتمامهم بجعل المرج مدينة مثالية. وقد كانت هذه المشاريع من الحساسية بمكان.
ازدواج مشاريع التنمية
كان ازدواج المشاريع الكبرى للمنشآت العامة مضيعة للمال والجهد، مثل إنشاء مدينتين رياضيتين وقاعتين عامتين بنفس السعة والخدمات وفي فترة زمنية واحدة، وكذلك مطارين عالميين متشابهين ومينائين متساويين في كل من طرابلس وبنغازي، بالإضافة إلى إنشاء مطار عالمي في البيضاء، وبناء الموانئ في المدن الساحلية والمدارس والمستشفيات بنفس الحجم والسعة والخدمات دون مراعاة للمتطلبات الفعلية والأخذ في الحسبان توزيع السكان. وكذلك الحال في مجال الطرق والخطوط الهاتفية الدولية والداخلية، والإصرار على أن تكون مراكز المصانع البتروكيميائية في المنطقة الشرقية بحجة قربها من مصادر البترول، رغم معارضة شركات البترول لعدم توفر الإمكانيات الإسكانية والمرافق العامة وبعدها عن السوق الاستهلاكية الرئيسية في طرابلس والموانىء في الشق الغربي من البلاد.
لقد حرمت هذه المشاريع والإنشاءات المزدوجة للمرافق وضخامتها وارتفاع تكاليفها في الخطة الخمسية القطاعين الزراعي والصناعي الهامين من الحصول على الاعتمادات اللازمة، خاصة أن ما خصص لهما في الخطة الخمسية كان يسير وفق ما اتبع في مشاريع إنشاءات المرافق وهو الازدواج بين الإقليمين الشرقي والغربي، ففي القطاع الصناعي كان كلما تقرر إنشاء مصنع في المناطق الغربية أضيف مصنع مشابه له في المنطقة الشرقية، دون اعتبار لعامل التكاليف واتساع السوق والعمالة. وكذلك الحال بالنسبة للقطاع الزراعي حيث توجد مشكلة عويصة، فالمناطق الزراعية في برقة تملكها على الشيوع قبائل بدوية، ليس لديها خبرة في الزراعة لاستغلال هذه الأرض، وكان لابد أن تقوم الحكومة بإدارتها وتمويلها والإنفاق عليها بمساهمات من الميزانية العامة لصالح ملاكها، بينما كانت مزارع الشق الغربي تدار من قبل أصحابها الذين كان بعضهم يقترضون الأموال من المصارف على أسس تجارية.
لم يكتب لهذه المشاريع والإنشاءات التي سبق ذكرها أن تنجز، إلا أنني عندما ذكرت الصعوبات التي تعرضت لها خطة التنمية لم أكن أدعو إلى تركيز الإنشاءات في مدينة أو منطقة معينة، فليبيا واسعة الأرجاء ولابد من الاهتمام بمناطقها المترامية الأطراف، ولكن على أساس تكاملي وليس على أساس تنافسي، والأخذ في الاعتبار الأولويات وعامل الوقت وعوامل الكثافة السكانية والأنشطة الاقتصادية والخدمات المتوفرة، حتى لا تصرف الأموال على منشآت تفوق الاحتياجات الفعلية لها ودون مردود اقتصادي كما حصل في بناء مدارس ومنشآت خدمية ومراكز صحية في مناطق نائية بقيت مهجورة لعدم توفر عدد التلاميذ والسكان والزبائن والخدمات، وكان من الأجدي أن توجه معظم أموال خطة التنمية إلى المشاريع الزراعية والصناعية. ومن الجدير بالذكر هنا أن ليبيا كانت تعتمد على المساعدات الأجنبية في تنميتها وميزانيتها الإدارية منذ استقلالها سنة 1951 وحتى بدأ تصدير البترول أواخر سنة 1961. ورغم أن الإنتاج الليبي للبترول زاد عن ثلاثة ملايين برميل يوميًا في أواخر الستينات، إلا أن دخلها من البترول لم يزد عن بضعة مئات من الملايين من الجنيهات، فقد كان سعر البترول لا يتراوح الدولار الواحد.
الفصل العاشر
النظام الملكي الليبي.. نظرة عامة
قبل الحكم على النظام الملكي الليبي يجب استعراض الظروف والأسس التي قام عليها. فقد أنشئت المملكة الليبية المتحدة كدولة مستقلة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة استجابة لرغبات الشعب الليبي، وكانت قبل الاستقلال مقسمة إلى ثلاثة أقاليم تديرها ثلاث إدارات عسكرية بريطانية وفرنسية، بعد تحريرها من الاستعمار الإيطالي في الحرب العالمية الثانية، وتم تنفيذ قرار الأمم المتحدة هذا بواسظة بريطانيا وفرنسا وبإشراف مندوب منظمة الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت ومجلس استشاري عينته الأمم المتحدة لمساعدته.
وقد تقرر بعد التشاور مع الأحزاب السياسية القائمة في البلاد آنذاك ومع زعماء البلاد إقامة نظام ملكي اتحادي تحت تاج أمير برقة آنذاك السيد محمد إدريس السنوسي. وكانت السياسة البريطانية تهدف بعد الحرب العالمية الثانية إلى إيجاد بديل لقواعدها في مصر، التي كانت مضطرة للجلاء عنها نتيجة لمقاومة الشعب المصري لها، وذلك بإقامة إمارة سنوسية غربي قناة السويس يحكمها الأمير إدريس السنوسي، ترتبط سياسيًا واقتصاديًا ببريطانيا مثل إمارات دول الخليج العربية. وكانت الفكرة في بداية الأمر تقتصر على برقة ولكن بعد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا تقرر تعميمها على كل ليبيا.
دسـتور ضمن الحقوق والحريات.. وركـز السلطات في يـد الملك
إنشاء النظام الملكي واختيار الملك والنظام الاتحادي قرارات تمت بدون استفتاء شعبي، ووضع الدستور عن طريق جمعية تأسيسية معينة بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، ولم ينص الدستور على ضرورة المصادقة عليه باستفتاء عام أو من طرف أول مجلس نيابي منتخب لإعطائه الصبغة الشرعية الديمقراطية. ولضمان إقامة هذا النظام الملكي الاتحادي استدعى الأمر اختيار فئة من السياسيين المعتدلين ترتبط مصلحيًا بهذا النظام، وتتعاون مع الدول التي كانت تدير البلاد، خاصة في المراحل الأولى للاستقلال.
ورغم أن الدستور كان من أحدث الدساتير وأشرف على إعداده أكبر خبراء
القانون الدستوري في العالم، وضمن جميع الحقوق والحريات والتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، إلا أن صدوره من طرف هيئة معينة، وإرساء نظام اتحادي يحدد اختصاص الاتحاد ويركز السلطات في أيدي الولايات، وينص على إنشاء ثلاث حكومات لثلاث ولايات، وثلاثة مجالس تشريعية، وثلاثة ولاة بالتعيين المباشر بأمر ملكي وليس بمرسوم تصدره الحكومة الاتحادية، ومراعاة المساواة في التمثيل في مجلس الشيوخ المعين بين الولايات وفي الحكومة والمناصب الهامة والرئيسية، كل هذا جعل من الناحية الواقعية تركيز السلطات الحقيقية في يد الملك. وقد تعززت هذه السلطات بمرور الوقت وأصبحت تقليدًا دستوريًا للبلاد.
وبعد حل الأحزاب السياسية، ومنع إنشاء أي تنظيم سياسي وتقييد الصحافة، لم يجد الرأي العام الليبي منصة للتعبير عما كان يجري سوى القيام بالمظاهرات من حين لآخر أو إنشاء تنظيمات سرية. كان الترشيح والانتخاب لمجلس النواب يجري على أساس شخصي فردي وقبلي وإقليمي وليس على أساس برنامج حزبي يعبر عن رغبات فئات الشعب وتطلعاتها وانتماءاتها ومذاهبها. وكان من بين النواب في المراحل الأولي للاستقلال أفراد معروفين بانتماءاتهم الحزبية السابقة يكوّنون ما يعرف بالمعارضة آنذاك. والحقيقة أنه رغم احتكار القرار السياسي، إلا أن البلاد كانت تتمتع بكثير من الحريات الفردية والاقتصادية وحقوق الإنسان ومتطلبات الأمن التي لم تكن توجد في بقية دول العالم العربي آنذاك، وقد أمكن حتى تحدي السلطة أمام القضاء وإصدار أحكام ضدها.
تاريـخ ليـبـيا
ليبيا لها تاريخ طويل وعرفت بهذا الأسم منذ أيام الأغريق وتقاسمتها روما وبيزنطة بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية شرقية وغربية، وتوحدت بعد الاحتلال العربي ثم في العهد العثماني والحكم القرامانلي. وعرفت بطرابلس الغرب من الإسكندرية حتى تونس، وحتى احتلال إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولي التي أعادت إليها اسمها القديم ليبيا. والشعب الليبي شعب عربي والبربر الذين سكنوا ليبيا قبل الاحتلال العربي استعربوا بالكامل في ما بعد ـ لغة ودمًا ـ ولم تبق سوى نسبة ضئيلة منهم في مناطق زوارة وجبل نفوسة حافظوا على لغتهم الخاصة إلى جانب اللغة العربية.
وقد تعرضت ليبيا إلى ما تعرضت له الشعوب العربية والإسلامية من الغزو والاحتلال الأوروبي، ومرت بظروف متشابهة كان آخرها سيطرة الإمبراطورية العثمانية التي ارتبطت بالعالم العربي بسبب العامل الديني والولاء للخلافة الإسلامية. وقد فشل الحكم العثماني في مواكبة التطور العلمي والتقدم الحضاري، وفي منافسة الدول الغربية القوية مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا، التي سيطرت على مناطق واسعة في العالم وأصبحت تطمع في المناطق الواقعة تحت الحكم العثماني، ومنها المنطقة العربية الهامة التي تتحكم في طرق المواصلات بين الشرق والغرب، والتي تخلفت اقتصاديًا وثقافيًا. وأخذت عوامل الضعف تعصف بالإمبراطورية العثمانية حتى انهارت في الربع الأول من القرن العشرين أمام القوى الأوروبية، التي فاقتها تقدمًا وتسليحًا، وساعدها على ذلك قيام القوميات المختلفة في البلاد الواقعة تحت السيطرة العثمانية بالثورة ضدها، وظهور زعامات قومية ووطنية عملت على التخلص من السيطرة العثمانية.
وكان الشعب الليبي هو آخر الشعوب العربية التى حافظت على ولائها للإمبراطورية العثمانية والحرب تحت لوائها، حتى تنازلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا نهاية 1912. وسرعان ما سيطر العامل القومي على الليبيين بفضل ما كان يجري في المشرق العربي من حركات وطنية وقومية تحررية ضد الحكم العثماني والاحتلال الأجنبي، وتجلى ذلك في استمرار كفاح الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي بعد تخلي تركيا عنهم. وقد تزعمت هذا الكفاح في برقة الحركة السنوسية بزعامة السيد أحمد الشريف السنوسي، ثم الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي والشيخ عمر المختار، وقام زعماء مناطق طرابلس فرادى وجماعات بالوقوف في وجه الاحتلال الإيطالي.
وكان للعامل الديني الدور الأكبر في تولي الحركة السنوسية الدور القيادي في الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، ولم تكن للعائلة السنوسية مطامح سياسية لتولي الإمارة والملك
في ليبيا إلا بعد ظهور زعامات سياسية وعروش عربية في المشرق العربي بالتعاون
مع بريطانيا، مما شجع الأمير إدريس السنوسي على تولي قيادة الحركة السنوسية بعد
السيد أحمد الشريف، وقيامه بالتفاوض مع البريطانيين والإيطاليين لإقامة إمارة في برقة تحت إمارته. وكان إخلاص القبائل في برقة وولاؤها للعائلة السنوسية قد أعطاه سندًا قويًا للمطالبة بذلك.
أما في طرابلس فقد كان الخلاف بين زعماء الإقليم وعدم التفافهم تحت زعامة واحدة قد أضعف الكفاح ضد إيطاليا، وأعطاها فرصة للتدخل ومناصرة بعضهم ضد بعض، وقد اضطر هؤلاء أخيرًا إلى مبايعة الأمير إدريس السنوسي لتوحيد البلاد ضد الاحتلال الإيطالي. ولكن تولي الحزب الفاشيستي بزعامة بينيتو موسوليني السلطة في إيطاليا سنة 1922 غيّر موازين القوى، وقررت إيطاليا احتلال ليبيا بالكامل وضمها الى إيطاليا. واستطاعت إيطاليا السيطرة على كل التراب الليبي بعد استشهاد الشيخ عمر المختار في سبتمبر 1931.
الاحتلال الإيطالي
مرت ليبيا تحت الحكم الإيطالي بفترة ركود سياسي، واستطاعت إيطاليا تهجير عشرات الألوف من الإيطاليين إليها، واعتبار ليبيا جزء من إيطاليا. ورغم الاستبداد والعنف ضد الليبيين فقد استطاع الليبيون الحفاظ على شخصيتهم الإسلامية العربية، وفشلت إيطاليا في القضاء على ثقافتهم ولغتهم أو في إقناعهم بقبول الجنسية الإيطالية مع المحافظة على ديانتهم الإسلامية. كانت إيطاليا حليفة لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى الأمر الذي مكنها من الاحتفاظ بليبيا كنصيبها من تركة الإمبراطورية العثمانية التي خسرت الحرب.
وكان من حسن حظ ليبيا أن إيطاليا دخلت الحرب إلى جانب المحور ضد بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على فقدان إيطاليا لسيطرتها على ليبيا. واحتلت بريطانيا طرابلس وبرقة، واحتلت فرنسا فزان، تمهيدًا لتقسيم ليبيا بعد الحرب بينهما. إلا أن أمريكا أرادت أن تستفيد أيضًا بالحصول على طرابلس، أو إرجاعها الى إيطاليا تعويضًا لها على ثورتها ضد موسوليني في المراحل الأخيرة من الحرب، ولدعم الحكومة الإيطالية اليمينية للوقوف ضد الحزب الشيوعي الإيطالي القوي الذي كانت تسنده روسيا، ولكن مطالبة روسيا أيضًا بالوصاية على إقليم طرابلس، ومنعًا للتنافس بين الدول الكبرى أحيل مصير ليبيا إلى الأمم المتحدة.
السياسة البريطانية وضم ليبيا إلى منطقة نفوذها في الشرق الأوسط
كانت بريطانيا، وهي تخوض معركة الحياة والموت ضد ألمانيا تفكر في إمبراطوريتها في الشرق الأوسط، ووجدت أن احتلال ليبيا قد يساعد على وضع مصر وسوريا وفلسطين ـ وهي الدول التي كان يتوقع تمردها على الاحتلال الأجنبي ـ بين كفي كماشة قواعدها في الخليج العربي وليبيا. وفعلًا بعد الحرب أعلنت بريطانيا عن رغبتها في البقاء في برقة شرقي ليبيا تلبية لوعدها للأمير إدريس السنوسي بعدم عودة برقة للاستعمار الإيطالي، مقابل مشاركة جيش التحرير السنوسي في المعركة ضد إيطاليا، بينما استمرت في المناورات الدبلوماسية دوليًا وفي داخل ليبيا للاحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا، شمالها وجنوبها. اتبعت بريطانيا سياسة مخالفة لسياسة إيطاليا في ليبيا فسمحت لليبيين بحرية التعبير وإنشاء النوادي الاجتماعية والأحزاب السياسية، مما شجع الحركة القومية والوطنية للمطالبة بالاستقلال والوحدة والانضمام لجامعة الدول العربية بمقتضى حق تقرير المصير، والتجاوب مع الاشقاء العرب في كفاحهم القومي من أجل التحرر والوحدة العربية.
بعد تنازل إيطاليا عن مستعمراتها السابقة في معاهدة الصلح فشلت الدول الأربع الكبرى، بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، في الاتفاق على تقرير مصير ليبيا، وتقرر إحالة الموضوع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تجدد الخلاف بين الداعين الى تأييد استقلال ليبيا والدول الاستعمارية الداعية إلى تقسيمها ووضعها تحت الوصاية. وقد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا لتقسيم ليبيا بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا عند التصويت عليه بصوت واحد، هو صوت دولة هايتي التي صوت مندوبها (إميل سان لو) ضد القرار مخالفًا بذلك تعليمات حكومته بتأييد المشروع.
وبفضل معارضة دول الجامعة العربية والدول الإسلامية والآسيوية وروسيا ورد فعل الشعب الليبي المعارض للقرار، ومساندة بريطانيا من وراء ستار، رغم أنها كانت إحدى الدولتين المقدمة لمشروع بيفن ـ سفورزا، رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة المشروع، ووافقت في 21 نوفمبر 1949 على أن تصبح ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة في موعد لا يتجاوز أول يناير 1952، وإيفاد المستر أدريان بيلت الهولندي الجنسية مندوبًا للأمم المتحدة يساعده مجلس من ست دول وأربعة أعضاء ليبيين لمساعدة الشعب الليبي لوضع دستور الدولة الجديدة، ويطلب من الدول القائمة بالإدارة، بريطانيا وفرنسا، تنفيذ هذا القرار بإشراف مندوب الأمم المتحدة.
ورغم إجماع الشعب الليبي على المطالبة بالاستقلال والوحدة أثناء نظر القضية في مؤتمر الصلح ثم في الأمم المتحدة، إلا أن خلافًا كبيرًا نشب بين زعماء برقة وزعماء طرابلس حول الوضع الدستوري لإمارة السيد محمد إدريس السنوسي على البلاد، وكذلك بين زعماء طرابلس في ما بينهم، وكان ذلك قبل وبعد صدور قرار الأمم المتحدة. واستمر هذا الخلاف خلال فترة الإعداد للاستقلال ووضع الدستور وتأليف أول حكومة ليبية.
بداية النشاط السياسي الليبي بعد الاحتلال البريطاني
كان النشاط السياسي في ليبيا قد بدأ بعد الاحتلال البريطاني مباشرة، وتمثل في البداية في إنشاء النوادي الثقافية ثم إنشاء الأحزاب السياسية، مما شجع عودة المهاجرين الليبيين من الخارج للمشاركة في المطالبة بالاستقلال والوحدة، وكان على رأس هؤلاء العائدين الأمير محمد إدريس السنوسي إلى برقة والسيد بشير السعداوي إلى طرابلس. رجع السيد بشير السعداوي إلى ليبيا في يناير 1948 على رأس هيئة تحرير ليبيا التي تألفت من بعض زعماء طرابلس وبرقة، وبدعم من السيد عبدالرحمن عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية ومصر، وكان الهدف من مجئ هيئة التحرير تنسيق مواقف زعماء ليبيا في مطالبة اللجنة الرباعية، التي أرسلتها الأمم المتحدة لتحري رغبات الشعب الليبي، بأمور ثلاثة والمتمثلة في الوحدة والاستقلال والانضمام إلى الجامعة العربية.
السيد بشير السعداوي في مهرجان خطابي بطرابلس سنة 1950م
وقد دب الخلاف بين زعماء برقة وطرابلس حول الإمارة. فزعماء طرابلس كانوا يرون أن المناداة بالسيد إدريس السنوسي أميرًا على ليبيا يجب أن تتم بطريقة دستورية عن طريق استفتاء عام، والمطالبة باستقلال ليبيا الموحدة ورفض أي حل لتقسيم ليبيا واستقلال جزء معين دون الآخر. أما زعماء برقة فأصروا على المناداة بإمارة السيد إدريس السنوسي بلا قيد أو شرط، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي استقلال برقة إذا تعذرت الموافقة على استقلال كل ليبيا، والعمل سويًا مستقبلًا على استقلال بقية أجزاء ليبيا طرابلس وفزان ووحدتها. إلا أن السيد بشير السعداوي، ليضمن موافقة برقة ويحول دون الانفصال الذي كان يشجعه كثير من زعماء برقة، والذي بدأت طلائعه بإعلان حكومة في برقة دون انتظار تنفيذ استقلال ليبيا، انفرد بقبول مبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي، وعذره في ذلك هو منع تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول قزمية، وأعلن ذلك صراحة، مما أدى إلى خلافه مع الجامعة العربية وأمينها العام عبدالرحمن عزام باشا وبقية الأحزاب الطرابلسية.
وأنشأ السيد بشير السعداوي بعد ذلك المؤتمر الوطني العام على أنقاض الجبهة الوطنية المتحدة بعد استقالة السيد سالم المنتصر من رئاستها، وتأليفه لحزب الاستقلال الذي ساندته ودعمته إيطاليا وشجعته الجامعة العربية بزعامة عزام باشا، بهدف معارضة السيد بشير السعداوي والسياسة البريطانية الرامية إلى الاحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا تحت التاج السنوسي، وربطها بحلف عسكري وأمني وإبقاء قواتها للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في الشرق الأوسط.
ولم يكن زعماء وأحزاب طرابلس، وخاصة حزب الاستقلال، أقل تمسكًا
بمبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي من السيد بشير السعداوي، ولكنهم كانوا أكثر حيطة وحرصًا على ضرورة إقرارها دستوريًا، وربطها بنظام ديمقراطي نيابي، للحيلولة دون قيام حاكم مطلق في المستقبل ينفرد بالقرار. وأدى قبول السيد بشير السعداوي للإمارة بدون قيد أو شرط إلى تحقق ما كانت الأحزاب الطرابلسية تخشاه، وهو إعلان الدستور عن طريق جمعية تأسيسية معينة، والموافقة على النظام الفيدرالي، وإعطاء الملك سلطات غير محدودة، وخلق ولايات شبه مستقلة مرتبطة بالملك رأسا للحد من سلطة الاتحاد. كما أن بريطانيا عملت بالتشاور مع الأمير إدريس السنوسي على إزاحة السيد بشير السعداوي نفسه من أي دور في الحكومة المقبلة، نظرًا لشعبيته التي قد تجعل منه الحاكم الفعلي المطلق إذا كلف بتشكيل الحكومة.
وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باستقلال ليبيا بدأية مرحلة من أهم مراحل الحركة الوطنية في ليبيا وبدأت بريطانيا في كشف مخطاطاتها. فبعد أن أسست إمارة سنوسية في برقة أخذت تعمل لتحقيق هدفها الأوسع وهو خلق مملكة في كل ليبيا تحت التاج السنوسي، وهذا استدعى التدخل في الحركة الوطنية، واختيار الزعماء ذوي الطموح والمخلصين للسيد إدريس السنوسي ولبريطانيا لوضع دستور، يضمن سلطة الملك ويحافظ على كيان ولاية برقة وشخصيتها كوحدة سياسية شبه مستقلة، واختيار حكومة موالية لتسيير شئون البلاد، والدخول في حلف دفاعي وأمني مع بريطانيا. وقد لاقت هذه السياسة تأييدًا من أمريكا ومن فرنسا بعد أن ضمنتا الحصول على امتيازات وتسهيلات عسكرية، الأولى في طرابلس والثانية في فزان، بينما لاقت معارضة شديدة من طرف الدول العربية والإسلامية وإيطاليا والاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية الأخرى.
اختيار النظام الفيدرالي لليبيا
وجدت بريطانيا في النظام الفيدرالي ضالتها بمساعدة المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة في ليبيا، فالدستور الفيدرالي يوزع السلطات بين الولايات، ويمنع سيطرة الحكومة الاتحادية على شئون البلاد، ويجعل القرارات الهامة خاضعة لموافقة المجالس التشريعية والتنفيذية في الولايات الثلاث، مما يضعف سلطات الحكومة الاتحادية، وبمعنى آخر تستطيع ولايتا برقة وفزان، وعدد سكانهما يقل عن ثلث سكان ليبيا، فرض رأيهما على ولاية طرابلس التي تضم أغلبية سكان البلاد.
وما أن وضحت هذه السياسة حتى هب الشعب في طرابلس بزعامة السيد بشير السعداوي ضدها. وقد شعر السيد بشير السعداوي بأن الإدارة البريطانية خدعته واستغلته لإقامة نظام ملكي فردي يملك فيه الملك ويحكم، وأبعدته عن المشاركة في سلطة اتخاد القرار، مما سهل الاستغناء عنه والاستعانة بزعامات أخرى ترتبط بالنظام الفيدرالي بروابط المصلحة. وكان النظام الفيدرالي المقترح يرمي إلى تقسيم البلاد الى ثلاث دول شبه مستقلة ترتبط فيدراليًا برباط ضعيف، ويجعل سلطة القرار الحقيقية في يد الملك. فالملك وحده يعين رئيس الوزراء والحكومة الاتحادية وكبار المسئولين دون الرجوع إلى مجلس الأمة، ويعين الولاة ورؤساء وأعضاء المجالس التنفيذية للولايات بأوامر ملكية دون موافقة الحكومة الاتحادية ومجلس الأمة والمجالس التشريعية للولايات.
وقد اضطر السيد بشير السعداوي إلى أن يتحول إلى المعارضة، وأعلن معارضته لتأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتساوي بين الولايات وبغير انتخابات، كما عارض اختيار الجمعية الوطنية التأسيسية للنظام الفيدرالي، رغم أنه هو الذي كلف من طرف مندوب الأمم المتحدة بتعيين عضو طرابلس في المجلس الاستشاري لمندوب الأمم المتحدة، وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين التي مهدت لإنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية، وذلك اعترافًا بزعامته لولاية طرابلس مثله مثل الأمير إدريس السنوسي في برقة والسيد أحمد سيف النصر في فزان، وقد أدى تحوله الى المعارضة إلى تخلي بريطانيا عنه. وأدى الخلاف بين الإدارة البريطانية والأمير إدريس من جانب والسيد بشير السعداوي من جانب آخر إلى انشقاق عدد كبير من أعضاء المؤتمر الوطني برئاسة نائب رئيس المؤتمر مفتي ليبيا الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم. وكان من بين المنشقين عن حزب المؤتمر كبار التجار وكبار موظفي الإدارة البريطانية من الليبيين وعمداء البلديات ومشايخ القبائل وأعيان الدواخل الذين يتبعون دائمًا سياسة الإدارة الحاكمة حماية لمصالحهم. ولكن مع هذا بقت أغلبية جماهير الشعب في مدينة طرابلس والمدن الكبرى والعمال والشباب والطلاب والمثقفون مخلصة للمؤتمر الوطني ورئيسه السيد بشير السعداوي.
وقد أدى هذا الوضع إلى دخول السيد بشير السعداوي في صراع مع الإدارة البريطانية ثم مع الحكومة والسلطات الليبية المؤقتة، وخاصة خلال الانتخابات الأولى التي فاز فيها مرشحوا المؤتمر الوطني برئاسة السيد السعداوي في مدينة طرابلس، بينما فاز مرشحوا المنشقين عنه وعن المؤتمر الوطني مع عدد قليل من مرشحي حزب الاستقلال في دواخل البلاد بمساندة السلطات المحلية، مما أدى الى قيام مظاهرات في طرابلس متهمة الحكومة بالتدخل. وقد تطورت هذه المظاهرات إلى اشتباكات مع الشرطة اضطرت معها الحكومة إلى اتخاد إجراءات صارمة، مما أدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وأبعدت السيد بشير السعداوي خارج ليبيا بحجة أنه سعودي يحمل جواز سفر المملكة العربية السعودية وكذلك أعوانه من المصريين.
وكانت الجامعة العربية قد عارضت سياسة بريطانيا في ليبيا منذ البداية، وأرسلت وأيدت السيد بشير السعداوي على رأس هيئة تحرير ليبيا ليتولى هذه المعارضة داخل ليبيا، والمناداة بالاستقلال والوحدة والانضمام للجامعة العربية، لكن الجامعة العربية عارضته وتخلت عنه عندما تعاون مع بريطانيا في قبول إمارة السيد إدريس السنوسي دون قيد أو شرط. واضطرت الجامعة العربية إلى التعاون مع حزب الاستقلال وإيطاليا للوقوف في وجه السياسة البريطانية. ولكن تحول السيد بشير السعداوي بعد ذلك إلى معارضة السياسة البريطانية من جديد، جعل الجامعة العربية تبارك خطواته في معارضته لإقرار النظام الفيدرالي وتأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين وبالتساوي بين أقاليم ليبيا الثلاثة، بينما تخلى زعماء حزب الاستقلال بدورهم عن معارضتهم للسياسة البريطانية وقبلوا المشاركة في دعم النظام الفيدرالي وتعزيز سلطات الملك رغبة في المشاركة في الحكم.
17 ديسمبر 1950م: شباب جمعية عمر المختار يتقدمون مظاهرة شعبية في بنغازي للمطالبة بالاستقلال الكامل لليبيا ووحدة البلاد تحت العرش السنوسي
وتجاوبت جماهير الشعب في طرابلس وحتى في بنغازي ودرنة بزعامة جمعية عمر المختار لمعارضة النظام الفيدرالي. ورغم معارضة الشعب العارمة، والجامعة العربية، وبعض أعضاء المجلس الاستشاري التابع لمندوب الأمم المتحدة، استمرت بريطانيا بالتعاون مع الملك وزعماء حزب المؤتمر المنشقين عن السيد السعداوي برئاسة مفتي ليبيا السيد محمد أبوالأسعاد العالم، وحزب الاستقلال بزعامة السيد سالم المنتصر، والمستقلين بزعامة السيد محمود المنتصر. وكان هؤلاء جميعًا يمثلون الزعامات التقليدية والوجوه السياسية المعروفة في مناطق طرابلس، لكنهم يفتقدون إلى دعم وتأييد رجل الشارع الليبي العادي، وقد تم اختيار أعضاء طرابلس في الجمعية الوطنية التأسيسية منهم.
كما اختيرت شخصيات عرفت بحيادها بين الأحزاب في الماضي لقيادة أول حكومة مؤقتة في طرابلس برئاسة السيد محمود المنتصر، وهو مستقل. ولم يكن أعضاء برقة وفزان في الجمعية الوطنية التأسيسية يعارضون الخطوات التي اتخذتها الجمعية الوطنية التأسيسية فكل قراراتها، بما فيها الدستور الفيدرالي، وافق عليها الأمير آنذاك إدريس السنوسي مقدمًا قبل عرضها على الجمعية الوطنية التأسيسية بالاتفاق مع الإدارات الحاكمة البريطانية والفرنسية وممثل الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت.
إن الأسلوب الذي سلكته بريطانيا وسياستها في إضعاف الحركة الوطنية وتشتيت جبهاتها وإقامة دولة ملكية كغيرها من الإمارات العربية التي ترعاها بريطانيا في المشرق العربي، كانت تتعارض مع رغبات أغلبية الشعب الليبي، ومخالفة لقرارات الأمم المتحدة ومبادىء الديمقراطية، واستطاعت بريطانيا أن تضمن موافقة فرنسا وأمريكا وكذلك المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة، الذي اضطر للموافقة على هذه الخطوات حرصًا على تنفيذ قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في موعده المحدد تبريرًا لموافقته كما يقول.
السيد محمود المنتصر والسيد بشير السعداوي
أخذ على السيد محمود المنتصر أنه أبعد الزعيم بشير السعداوي من ليبيا، ولكن الحقيقة أن السيد محمود المنتصر لم يفكر في مثل هذا الإجراء بتاتًا، لأنه من طرابلس ويعرف شعبية السعداوي فيها ولا يستطيع المجازفة بإبعاده، لأن ذلك يعرضه إلى غضب جماهير الشعب في طرابلس. وحتى البريطانيين أنفسهم الذين ساعدوا في تقليص نفوذ السيد السعداوي، وعدم أخذ رأيه في تعيين أعضاء طرابلس في الجمعية التأسيسية وفي تأليف الحكومة المؤقتة، لم يفكروا في إبعاده تخوفًا من رد الفعل الشعبي لمثل هذا الإجراء، وكذلك رغبة بريطانيا في إبقائه في المعارضة مهمشًا لاستخدامه عند الحاجة للتحكم في تصرفات الملك إدريس. ولكن الملك إدريس اتخذ قرارًا صارمًا من تلقاء نفسه بعد أن شعر بأن السعداوي أصبح خطرًا عليه، ووصوله إلى الحكم في انتخابات شعبية سيقوي مركزه، ويجعله يسيطر على شئون البلاد ويهدد سلطات الملك، وربما يعمل على إلغاء النظام الاتحادي وفرض رأي الأغلبية الطرابلسية في البرلمان.
ولهذا قرر الملك إبعاد السيد السعداوي في أقرب فرصه. فحرمه أولًا من دوره في تأليف الحكومة المؤقتة التي كان السيد بشير السعداوي يتوقع أن يكلف بها، فهو زعيم أغلبية الشعب الليبي في طرابلس وهو الذي بايع الأمير إدريس السنوسي، كما أنه كلف من طرف المستر أدريان بيلت مندوب الأمم بمهمة تعيين عضو طرابلس في المجلس الاستشاري لمندوب الأمم المتحدة وأعضاء طرابلس في لجنة الواحد والعشرين اعترافًا بمركزه المساوي للسيد أحمد سيف النصر في فزان والسيد إدريس السنوسي في برقة اللذين عينا بدورهما أعضاء فزان وبرقة في المجلس الاستشاري ولجنة الواحد والعشرين. ولما عارض السيد بشير السعداوي تأليف الجمعية التأسيسية بالتعيين بدلًا من الانتخاب وبالتساوي بين الولايات الثلاث بصرف النظر عن حجمها السكاني، سحبت الإدارة البريطانية والأمير إدريس والمستر أدريان بيلت ممثل الأمم المتحدة ثقتهم في السيد بشير السعداوي كزعيم لطرابلس، وأسندوا بالتشاور فيما بينهم مسئولية تعيين أعضاء طرابلس العشرين في الجمعية التأسيسية إلى سماحة مفتي ليبيا الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم بدلًا من السيد بشير السعداوي.
وقد سنحت للملك إدريس فرصة المظاهرات والأعمال التخريبية التي قامت بها جماهير المؤتمر الوطني بعد أول انتخابات برلمانية بإصدار أوامره إلى رئيس حكومته السيد محمود المنتصر لاتخاذ قرار بإبعاد السيد بشير السعداوي، خاصة وأنه يعلم أنه يحمل الجنسية السعودية وجواز سفر سعودي. وقد جاءت الوثائق البريطانية التي نشرت بعد مضي 30 عاماً عليها مؤيدة لما ذكر أعلاه. فقد جاء في برقيتين من رافانديل المسئول عن السفارة البريطانية في برقة إلى السفير البريطاني السير أليك كيركبرايد ما يلي:
FO1021/55
21/2/1952م
Ravendale to the Ambassador
قابلت رئيس الوزراء محمود المنتصر في مطار بنينة اليوم بعد مقابلته للملك وأكد لي أن الملك مصمم بشكل قاطع على نفي زعيم المعارضة السيد بشير السعداوي حالًا. وكان محمود المنتصر يحاول عدم اتخاذ مثل هذا القرار لأثاره الخطيرة في ولاية طرابلس التي يتمتع السعداوي فيها بأغلبية شعبية ولكنه لا خيار له سوى قبول قرار الملك.
FO1921/55
21/2/1952م
Ravendale to the Ambassador
قابلت جلالة الملك إدريس بطلب منه وأبلغني بأن قراره النهائي هو التخلص من بشير السعداوي وأعوانه غير الليبيين بالنفي حالًا، ويريدك أن تعرف بأنه اتخذ الخطوات التالية وأمر رئيس الوزراء بتنفيذها:-
- النفي حالًا لزعيم المعارضة بشير السعداوي ومعاونيه غير الليبيين.
- على الشرطة الليبية بذل جهد أكبر للسيطرة على النظام بوسائلهم الخاصة.
- طلب تدخل القوات البريطانية في حالة فشل الشرطة الليبية في إعادة النظام إلى حالته الطبيعية.
رأي المستر أدريان بيلت في النظام الفيدرالي
كان عذر المستر أدريان بيلت في تأييده للنظام الفيدرالي ـ كما سمعت منه شخصيًا عندما زرته في جنيف سنة 1965م ـ أن التوفيق كان مستحيلًا بين الدعوة إلى وحدة البلاد التي تؤيدها أغلبية الشعب الليبي في طرابلس، ورغبة ولاية برقة في المحافظة على شخصيتها وكيانها السياسي تحت إمارة السيد إدريس السنوسي. ورغم أن الأمير إدريس بويع من طرف زعماء طرابلس دون قيد أو شرط قبل وضع الدستور، إلا أنه استمر في انحيازه إلى برقة في كل طلباتها أثناء الإعداد للاستقلال.
وقد كان اختيار النظام الفيدرالي الحل العملي لتنفيذ قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في التاريخ الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو أول يناير سنة 1952م. وكان المستر بيلت يخشى استمرار الخلاف بين زعماء طرابلس، المنقسمين على أنفسهم، وزعماء برقة بقيادة الأمير إدريس السنوسي، مما قد يؤدي إلى إعادة موضوع مستقبل ليبيا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك لم يكن في صالح ليبيا، لأن إعادة القضية الليبية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قد يثير موضوع وضعها تحت الوصاية من جديد، وتأجيل البت في استقلالها، ولهذا كان هدف المستر بيلت هو استقلال ليبيا قبل أي اعتبار آخر. أما قضية وحدة البلاد فيمكن تحقيقها مستقبلًا. ولا شك أن هذا العذر كان غير منطقي في ذلك الوقت، فقد كان في استطاعة المستر بيلت أن يفرض اختيار الجمعية الوطنية التأسيسية بالانتخاب لوضع الدستور وعرضه على الاستفتاء الشعبي، بدلًا من تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، والموافقة على الدستور دون الرجوع إلى الشعب، مما يخالف مبادىء الأمم المتحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وحـدة ليـبـيا
إن ما توقعه المستر بيلت لوحدة ليبيا مستقبلًا كان قد تحقق فعلًا. فمع مرور السنوات تقررت وحدة ليبيا الكاملة بدون استفتاء شعبي أو مبادرة من مجلس الأمة، بل تحققت باقتراح من الملك نفسه بعد سيطرته الكاملة على السلطة، وتم ذلك في أواخر عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبداية عهد الدكتور محي الدين فكيني، وكان ذلك كما قيل بتوصية من أمريكا، خدمة لشركاتها وتحاشيًا لتطور الخلاف بين ولايتي برقة وطرابلس حول استغلال الحقول البترولية واستخدام موانئ شحن البترول المتداخلة على الحدود بين الولايتين.
لا شك أن قرار الوحدة استُقبل بالترحيب على كل المستويات الشعبية والعربية، لكن الوحدة رغم أنها قررت في الدستور، وألغيت حكومات الولايات، وقسمت البلاد إلى محافظات، إلا أن الملك حرص على استمرار ما أرساه النظام الفيدرالي من أسس في توزيع السلطات، مثل التعيينات المتساوية بين طرابلس وبرقة لأعضاء مجلس الشيوخ ومجلس الوزراء والمجالس المنبثقة عنه، وفي المخصصات المالية، وحصر التعيينات في المناصب السيادية مثل الأمن والدفاع والجيش والخارجية في أياد معينة من ولاية برقة، مما جعل جماهير الشعب في طرابلس لا تشعر بحصول تغيير في نظام الحكم الفيدرالي.
الدستور الليـبي
رغم الثغرات التي كانت في الدستور الليبي فقد كان من أحدث الدساتير الديمقراطية، ولكن تنفيذه كان يحتاج إلى إدارة حديثة تشرف على انتخابات حرة وترعى الحريات، وحقوق الإنسان، وحفظ التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية دون تدخل من الملك الذي كان من المفروض أن يملك ولا يحكم حسب الدستور. ولكن الملك وضع كل السلطات في يده عندما بويع من الشعب حتى قبل وضع الدستور، ثم حل الأحزاب السياسية بعد أول انتخابات نيابية، ولم يعد للشعب منصات شعبية يبدي فيها رأيه في حكم البلاد، وأصبحت الانتخابات تجري على أساس فردي وقبلي ومساومات بين النواب والحكومة، ولا ترتبط ببرامج مسبقة يطالب بها الشعب، ولم يعد للدستور احترامه الملزم لجميع الأطراف، مما شجع الولايات على تجاهل اختصاصات وسلطات الاتحاد والانفراد بالسلطة المستمدة رأسًا من الملك.
وكما أوضحت، وافقت الجمعية الوطنية التأسيسية التي عين أعضاؤها بالتساوي 20 عضوًا من كل ولاية. وقد عين أعضاء برقة الملك إدريس وأعضاء طرابلس عينهم مفتي ليبيا بصفته رئيس الفريق المنشق على المؤتمر الوطني، وقد شمل ضمن من اختارهم بعض أعضاء من حزب الاستقلال ومن المستقلين، بينما كانت الأغلبية منهم من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السيد بشير السعداوي، وتم ذلك بالتشاور مع الإدارة البريطانية والمستر بيلت. أما أعضاء ولاية فزان فقد عينهم حاكم فزان السيد أحمد سيف النصر بالتشاور مع الإدارة الفرنسية وموافقتها. ولم يكن في استطاعة أحد من الأعضاء المعينين في الجمعية الوطنية التأسيسية أن يعارض أو يناقش مشروع الدستور الفيدرالي الذي أعد مقدمًا وعرض عليهم للموافقة، رغم المناقشة الحامية التى تمت في الجمعية التأسيسية حوله، ومعارضة الجماهير الشعبية والمؤتمر الوطني برئاسة السيد بشير السعداوي، والأحزاب الطرابلسية الأخرى، وجمعية عمر المختار في برقة وممثلي مصر، وباكستان وولاية طرابلس في المجلس الاستشاري التابع للأمم المتحدة.
لم يعرض الدستور في استفتاء عام كما كان يجب، وإنما فرض على الشعب دون النص حتى على إمكانية تعديله من أول مجلس نواب منتخب. كما أن إمكانية تعديله مستقبلًا قيد بشروط لا يمكن توفرها من الناحية العملية، ومنها موافقة ثلثي مجلس النواب، وموافقة الولايات الثلاث ومجالسها التشريعية ومجلس الشيوخ المؤلف بالتساوي بين الولايات. كما حدد الدستور اختصاصات الاتحاد وترك ما لم ينص عليه للولايات، كما نص على ربط الولايات رأسًا بالملك الذي أصبح ملكًا على ليبيا وفي نفس الوقت ملكًا فعليًا لكل من ولايات طرابلس وبرقة وفزان يعين ولاتها ومجالسها التنفيذية ويوافق على تشريعاتها دون موافقة الحكومة الاتحادية، بل أكثر من ذلك، احتفظ الملك بلقب أمير برقة مما يمهد الطريق للانفصال في حالة أية معارضة من ولاية طرابلس للدستور الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية التأسيسية.
استقلال ليـبـيا
أعلنت ليبيا استقلالها، وقد تم فعلًا قيام دولة ملكية تحت التاج السنوسي، وكان لابد من إرساء دعائم النظام في وجه معارضة شعبية لازالت قوية يقودها حزب المؤتمر بزعامة السيد بشير السعداوي، الذي كان في أوج قوته. ولم يكن أمام الحكومة المؤقتة التي ألفها الملك والجمعية الوطنية التأسيسية من خيار لاستقرار نظام الحكم، سوى العمل على هزيمة المعارضة المتمثلة في حزب المؤتمر الوطني برئاسة السيد بشير السعداوي في أول انتخابات نيابية. ولما كان من الصعب هزيمته في مدينة طرابلس وغيرها من المدن حيث كانت الجماهير الشعبية واعية لما يخطط لها، كان لا بد من العمل على هزيمته في الدواخل والريف في ولاية طرابلس، حيث التعصب القبلي والعشائري لا يزالا على أشدهما، وانعدام الرأي العام فيها، وقلة عدد المثقفين الواعين، وسهولة تسخير مشايخ القبائل ورجال الإدارة المحلية للتأثير على المواطنين العاديين والفلاحين وقبائل البدو للتصويت لمرشحي الحكومة. وهكذا ضمنت الحكومة أصوات الأغلبية في هذه المناطق، وفازت الشخصيات المحلية والعناصر المنشقة عن المؤتمر الوطني وبعض أعضاء حزب الاستقلال.
وكما كان متوقعًا انضم نواب طرابلس المنتخبون إلى نواب برقة وفزان وكونوا أغلبية في مجلس النواب مؤيدة للحكومة المؤقتة. وكانت المعارضة تتألف من عدد قليل من النواب من بينهم نواب طرابلس الخمسة الذين فازوا في الانتخابات عن المؤتمر الوطني، ومن المؤيدين للسعداوي، وهم السادة مصطفي السراج، عبدالعزيز الزقلعي، محمد الزقعار، مصطفى ميزران والشيخ عبدالرحمن القلهود.
وقد استُقبلت نتيجة الانتخابات باستياء واحتجاجات شعبية في طرابلس جرت فيها حوادث شغب واضطرابات عارمة استخدمت الحكومة فيها العنف للسيطرة عليها وقمعها بالقوة، واتهمت الحكومة عناصر المؤتمر الوطني بزعامة السيد بشير السعداوي بالقيام بحركة للإطاحة بالنظام، وقررت على إثر ذلك إبعاد السيد بشير السعداوي بحجة جنسيته السعودية ومساعديه من المصريين خارج البلاد، كما تعرض أتباعه الليبيين المقربين في المؤتمر الوطني للسجن.
وبقيام مجلس نيابي موال للحكومة المؤقتة والملك بادرت الحكومة البريطانية بالتعاون مع الملك للطلب من الحكومة الليبية الجديدة بتوقيع معاهدة صداقة مع بريطانيا، والدخول في تحالف معها والموافقة على بقاء القوات البريطانية في ليبيا مقابل مساعدة مالية لتغطية عجز الميزانية الليبية. وفعلًا تمت مصادقة البرلمان على المعاهدة البريطانية الليبية والاتفاقية المالية المرفقة بها. وكذلك تم الاتفاق مع أمريكا لبقاء قواتها في مطار الملاحة مقابل دعم مالي للتنمية في ليبيا، كما ضمنت مصالح فرنسا في فزان ومصالح الأقلية الإيطالية في ليبيا.
أسلوب الملك إدريس السنوسي في الحكم
الأسلوب الذي اتبعه الملك في تعيين رؤساء الحكومات والوزراء وإقالتهم واستبدالهم أحيانًا بخصومهم السياسيين، دون الرجوع إلى مجلس النواب، شجع التنافس بين الطامحين في الحكم والتباري في إرضاء الملك وقبول تعليماته وتوجيهاته دون مناقشة. وكان إلغاء الأحزاب السياسية قد ساعد على عدم وجود سياسيين يعتمدون على قاعدة شعبية قادرين على الوقوف ضد تدخل الملك وحاشيته، وإبداء رأيهم بصراحة في شئون البلاد، ومعارضة أية تعليمات لا تتمشى ورغبات الشعب. ومنع الملك رؤساء الحكومات والوزراء التكلم باسم الشعب على اعتبار أنه هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب، وهكذا أصبح هم الحكومات الليبية المتوالية هو إرضاء الملك وتنفيذ تعليماته.
كانت سياسة الملك تهدف إلى عدم تمكين أي شخص من الوصول إلى مركز يمكنه من زعامة الشعب كما استطاع السيد بشير السعداوي، ولهذا ألغى الأحزاب وواصل ترسيخ سلطته، حتى أصبح يعتقد أن من واجب جميع المسئولين العمل بتعليماته في إدارة شئون البلاد، ومن واجب مجلس الأمة السير بسياسته في تشريعاته وقراراته. وأصبح من حقه التدخل في شئون الحكم، وتعيين من يشاء في المناصب الهامة والحساسة من أهل الثقة، دون مراعاة الخبرة والمعرفة، وبذلك فقدت هذه المناصب حيادها وهيبتها وفاعليتها واستغلت للمصالح والأهواء مما عجل بنهاية النظام.
الغريب في السياسة أن غرور السلطة والحكم يسيطر على الحاكم الذي لا رقابة عليه، حتى الإنسان المتقشف النزية مثل الملك إدريس لا ينجو من ذلك. ويتداول المحيطون بالملك إدريس قصة أن الفريق محمود أبو قويطين قال للملك يومًا: "نريد بناء بيوت إلى جانب القصر للجنود والضباط الذين يحمونك ويحرسونك يا سيدي"، فتوقف الملك عند كلمة يحمونك ويحرسونك وقاطع أبوقويطين في الحال وقال له: "والله يا سي محمود مش عارفين مين يحمي من، أنتم تحموني أو أنا الذي أحرسكم وأحميكم وأسبغ عليكم السلطة والهيبة".
ورغم تعيين الملك للمقربين منه ومن كان في خدمته في المهجر قبل الاستقلال في وظائف هامة في الدولة واستمرار رعايته لهم، إلا أنه لم يعامل كل السياسيين الذين خدموه بإخلاص واحترام كرؤساء الحكومات والوزراء والموظفين الكبار وكبار ضباط الأمن والجيش نفس المعاملة. فمعظم الساسة الذين تولوا الحكم والموظفون في المراكز القيادية وكبار ضباط الأمن والجيش أهملوا بعد خروجهم من مناصبهم. وتعرض بعضهم إلى ملاحقة خصومهم الذين تولوا الحكم بعدهم، وبذلك لم يعد أحد من هؤلاء يشعر بالأمن على نفسه، والولاء للملك، والنظام والتفت كل منهم إلى أموره ومصالحه الخاصة.
وعند تحليل تصرف الملك في حكم البلاد نجد أنه لم يكن يسمع نصائح أحد، حتى من حلفائه البريطانيين والأمريكيين في الشئون الداخلية. فقد كانوا غير راضين عن سياسته، وإصراره على التصرف حسب تفكيره التقليدي، وتعيينه لغير المؤهلين في المناصب العامة، مما ساعد على فقدان ثقة الشعب وإضعاف النظام بصفة عامة وهذا ما كان في رأيهم يهدد المصالح البريطانية والأمريكية أيضًا إذا تعرض النظام الملكي إلى خطر.
علاقة الملك بعائلته ورغبته في إلغاء النظام الملكي الوراثي
كان سلوك الملك نحو عائلته موضع استغراب الجميع، فقد شتت شملهم وجعل منهم أعداء وفقد بذلك سندهم وتأييدهم عند الحاجة، وعاش معظم وقته شبه معزول عن الجماهير، وكبار معاونيه في ركن بعيد من الوطن في مدينة طبرق التي تبعد عن مراكز تجمعات السكان بمئات وآلاف الكيلومترات، كما كان حائرًا في من يخلفه بعد وفاته. ورغم أنه قبل على مضض تعيين أخيه السيد محمد الرضا في أول الاستقلال، وتعيين ابن أخيه الأصغر السيد الحسن الرضا بعد وفاة أبيه، إلا أنه لم يكن يؤمن بفكرة ولاية العهد لأحد من أسرته وكان مصممًا على حرمان عائلته من تولي الحكم بعد وفاته، بعد أن حرمهم من حق المواطن العادي أثناء حياته.
كان الملك قاسيًا على عائلته. فمثلًا، عند وفاة المرحوم السيد صفي الدين السنوسي ـ أحد قادة معركة القرضابية ـ في مصر سنة 1967م أعلم رئيس الوزراء مجلس الوزراء بالخبر، وذكر بأنه استشار الملك أين يدفن السيد صفي الدين وهو عم الملكة، فسأل الملك رئيس الوزراء وماذا كانت وصيته؟ فلما ذكر له بأنه أوصى بأن يدفن في الجغبوب وافق الملك على ذلك، ولكنه أمر بأن يتم الدفن بدون إجراءات رسمية، وأن لا يشترك الوزراء أو ممثلوا الحكومة في مراسم الدفن. وعندما ما قيل للملك إن السيد صفي الدين عليه ديون وأن حالته المالية لا تسمح بدفعها أجاب بأنه له أولاد ويجب أن يدفعوا ديون والدهم.
كان الملك يفكر في تعديل الدستور ولكنه كان حائرًا بين اختيار نظام جمهوري أو نظام ملكي لا سلطة فيه للملك. ورغم أنه كان يحبذ النظام الجمهوري، إلا أنه كان يرغب في المحافظة على التوازن بين إقليمي طرابلس وبرقة، وضمان تبادل منصب رئيس الجمهورية بين الأقليمين، وهذا من الصعوبة بمكان في أي نظام جمهوري يقوم على الانتخاب الحر، مما جعله يتردد في استعجال تعديل الدستور، رغم أنه كلف المستر أدريان بيلت بدراسة التعديل وألفت لجنة من كبار القانونيين الدوليين برئاسة المستر بيلت دون علم أو موافقة الحكومة والبرلمان. وقد درست هذه اللجنة اقتراحات الملك للتعديل وتقدمت بمشروعين للدستور أحدهما جمهوري والآخر ملكي مقيد لا سلطة فيه للملك، ولم يتخذ الملك قراره بشأنهما حتى انتهى الحكم الملكي. وقد تعرضت لذلك الموضوع بالتفصيل في الفصل الثالث.
وتفكير الملك بتغيير الدستور الليبي وتحويله إلى نظام جمهوري لحرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد شئ غريب. ففي عالمنا العربي يعتمد الحاكم على الولاء العائلي والقبلي في تقوية حكمه، لأن فقدان مثل هذا الدعم العائلي يشجع أصحاب الطموح في السلطة للسعي للوصول إليها بشتى الطرق دون خوف. وأعتقد أن هذا ما حدث في ليبيا، فلم يجد الملك من يقف للدفاع عنه وقت حاجته إلى من يحمي عرشه، خاصة أنه لم يكن ملكًا شعبيًا على رأس نظام ديمقراطي يحميه، فقد ألغيت الأحزاب ولم يعد في البلاد أي تنظيم شعبي له دور فعّال في شئون البلاد.
لم يكن الملك إدريس يعايش مواطنيه كفرد منهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويزورهم ويستمع إلى شكواهم وآرائهم، ويلبي طلباتهم العامة ويعطف على حاجاتهم الخاصة، كما يعمل حكام العرب. كما أنه لم يكن يشرف مباشرة على الجيش، أو يختلط بضباطه ويجتمع بهم لمعرفة مشاكلهم وحاجاتهم، كما يعمل ملوك العرب ورؤساؤهم. لقد فقد الملك ثقة الجميع بما فيهم كبار ضباط الجيش، والعائلة السنوسية، وكل السياسيين الذين خدموا البلاد والنظام والملك ثم وضعوا (على الرف) دون تقدير أو رعاية أو حماية بعد خروجهم من الحكم.
ردود الفعل لرغبة الملك في تغيير نظام الحكم
لم يكن تفكير الملك بتغيير النظام الملكي إلى نظام جمهوري أو ملكي دستوري راجعًا إلى تجاوب مع رغبات شعبية أو حبًا في الديمقراطية، بل كان مبنيًا على رغبة الملك في حرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد أو لعب أي دور فيه بعد وفاته. أثار موضوع رغبة الملك في تغيير النظام رد فعل معارض من أنصار النظام الملكي المقربين، بينما لم يعرف الشعب بشئ مما يجري في الخفاء، ولو أعلن ذلك رسميًا لقامت المظاهرات في برقة تأييدًا للنظام الملكي. كان كل شئ يجري في الخفاء حول رغبة الملك في تغيير النظام وسط تكهنات دولية ووطنية حول مستقبل النظام. حتى الذين شاركوا في إعداد المشاريع الخاصة بالتغيير كانوا لا يعرفون ماذا يريد الملك في قرارة نفسه. وكان كذلك سفراء بريطانيا وأمريكا، أقرب الناس إلى الملك، لا يعرفون ماذا يريد الملك، مما زاد من حيرتهم جميعًا.
أسهبت الصحف البريطانية والأمريكية في الكتابة عن العوائق التي تقف في وجه استمرارية النظام الملكي في ليبيا، حتى أن بعض أعضاء البرلمان البريطاني حذر الحكومة من استمرار بريطانيا في دعم النظام القائم في ليبيا وعارضوا تسليح الجيش الليبي بالدبابات الحديثة آنذاك، حتى لا تقع في أيدي معادية للغرب في حالة قيام حركة ضد النظام في ليبيا. ولم تستطع الدول الحليفة التدخل لفرض رأيها على الملك لحماية عرشه لأنه كان واثقًا من نفسه، وإخلاص الشعب له، وسيطرته على الأمور حتى في غيابه، وكان يغضب لسماع أية معارضة حتى في شكل مناشير توزع ضده.
وكان يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية غير مخلصة له وأنها تعامله بصداقة حرصًا على مصالحها في ليبيا، وأنها لن تتردد في التضحية به لتأييد أية حركة ناجحة ضده، كما فعلت في مصر والعراق واليمن. وكان بالعكس يثق ببريطانيا ثقة عمياء، ويتمسك بعلاقاته معها، ولم تتزعزع هذه الثقة حتى بعد تغير السياسة البريطانية بقدوم حزب العمال إلى الحكم، الذي لم يعط الأنظمة الملكية التقليدية أية أهمية تذكر، بل بالعكس كان يؤيد الحركات الاشتراكية في العالم وفي المناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني على وجه الخصوص. وكانت حكومة العمال لا تعطي النظام الملكي في ليبيا اهتمامًا، رغم ضخامة مصالحها فيها وسعيها لضمان الصفقات التجارية المتزايدة نتيجة لبدء تصدير البترول.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت تعرف جيدًا أن الملك لا يثق فيها، ولكنها كانت تعتمد على بريطانيا في التعامل مع النظام الليبي، وكانت تؤيد بريطانيا لإعداد ولي العهد لحكم ليبيا بعد وفاة الملك. وكانت تتشاور في هذا الشأن مع الدول الأخرى الصديقة التي لها مصالح في ليبيا مثل فرنسا وإيطاليا وتونس والمغرب، لأن الأخطار التي قد تعرض ليبيا للخطر قد تعرض مصالح هذه الدول للخطر، خاصة أن الاتحاد السوفيتي كان قوة عظمي تنافس النفوذ الأمريكي، وأن النفوذ الناصري واستقلال الجزائر وسيرها في الركب الناصري يعرض المنطقة إلى سيطرة الاتحاد السوفيتي. وفي ضوء هذه الصورة لما يجري في ليبيا كانت أمريكا تعطي مستقبل ليبيا اهتمامًا متزايدًا للمحافظة على مصالحها، ودورها في المنطقة في حالة قيام بديل للنظام القائم في ليبيا. لذلك اتجهت مخابراتها إلى الوضع الداخلي في ليبيا، والبحث عن زعامات في صفوف المعارضة والجيش لتتولى الحكم في حالة انهيار النظام الملكي.
وكانت السفارة الأمريكية تفتح أبوابها سرًا وعلانية لرجال المعارضة وضباط الجيش وزعماء التنظيمات العمالية والنقابية، وحتى لأفراد الشعب العاديين، لمعرفة ما يجري في صفوف الشعب. وكان رؤساء الحكومات الليبية الملكية المتعاقبة في ذلك العهد، رغم عدم رغبتهم في إثارة المشاكل مع أمريكا، يعبرون عن قلقهم من هذا السلوك الأمريكي المشبوه خلال حديثهم مع سفراء بريطانيا في ليبيا. وقد سجل سفراء بريطانيا في ليبيا هذا في تقاريرهم إلى الحكومة البريطانية. كانت بريطانيا وأمريكا تتابعان حركة التغيير في الرأي العام الليبي، وأصبح واضحًا لهما أن جيلًا جديدًا قد بدأ في الظهور، وأن الجيل القديم من السياسيين قد أصبح عاجزًا عن السيطرة على البلاد وتقديم الحلول للمشاكل الناتجة عن تطور الاقتصاد بعد اكتشاف البترول وتطور الوضع الثقافي والاجتماعي للشعب. ورغم استعانة النظام بالشباب المتعلم للقيام ببعض المهام الفنية على المستوى الوزاري والإداري، إلا أن الوضع أصبح يستدعي تغييرًا جوهريًا.
ولم يكن الملك بغائب عما يجري في ليبيا وما يسعى إليه حلفاء ليبيا الأجانب، ولهذا بادر بدوره إلى إدخال الشباب في أواخر حكمه، وتعيين عناصر شابة متعلمة في مراكز هامة على المستوى الوزاري وضمن كبار الموظفين، ولكنه عمل على الإبقاء على بعض العناصر القديمة المخلصة في الحكومة للسيطرة على وزارات الدفاع والداخلية والمالية والخارجية. وقد استقبلت الدوائر الغربية هذا التغيير والتحول نحو الشباب بترحيب كبير لأن ذلك في رأيها سيساعد على الاستقرار وضمان مصالحها. ولهذا سارعت بعض السفارات الأجنبية إلى التقرب من هذه الصفوة الشابة الجديدة لمعرفة سياساتها وتوطيد علاقاتها بها خدمة لمصالحها، مما أثار مخاوف الملك وكذلك الجيل القديم الذي لا زال يسيطر على المناصب القيادية المهمة، وضمن الحاشية الملكية ذات النفوذ الكبير ورجال القبائل في برقة الذين لهم وضع خاص.
وفعلًا خرجت زعامات شابة استطاعت إقناع الملك باستحداث إصلاحات حديثة مثل تعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة، الذي استطاع بذكائه أن يستفيد من هذا التغيير والاتجاه نحو الشباب. وتجاوب الملك معه ورحب البريطانيون والأمريكيون به، وسارعوا إلى تأييده أثناء توليه الحكومة. ولكن السيد عبدالحميد البكوش في رأيي كانت تنقصه صفات التروي والإلمام بالتركيبة السكانية في ليبيا، فقد اندفع في سياسة التغيير والارتباط بالغرب، والابتعاد عن العرب ومشاكلهم والدعوة الناصرية القوية، والتركيز على مشاكل ليبيا الاقتصادية والاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة لسكانها، ومناداته بـ"الشخصية الليبية"، والتقدم والقضاء على التخلف، واللحاق بالركب الحضاري. كان يدافع عن رأيه وسياسته بأن ليبيا يجب أن تكون متقدمة قوية لتفيد العرب، لأنها في وضعها آنذاك لا تستطيع تقديم أي شئ، لكن سياسته في التقرب من الغرب أثارت الشكوك لدى الجماهير الشعبية حول مصداقيته. فالرأي العام في ليبيا كان قوميًّا ناصريًّا ولا يقبل التضحية بعروبته من أجل فوائد اقتصادية وثقافية لا تعرف أهدافها الحقيقية.
الملك في حيرة من أمره
إن الدارس لتصرفات الملك يقع في حيرة من أمره، هل كان تصرفه نتيجة لعدم انجابه وليًا للعهد أو أن كراهيته لعائلته هو سبب انعزاله والبعد عن حياة البذخ الذي عرف به الحكام العرب، وكذلك الادعاء بسوء صحته المبالغ فيه، فقد كان يتمتع بصحة جيدة، وعاش حتى الثمانينات. كانت تصرفات الملك غريبة وكانت مصدر قلق لرؤساء حكوماته، فكان أحيانًا يتظاهر بقبول النصيحة واقترحاتهم ثم يغير رأيه. ولم يستقر رأيه في اختيار رؤساء حكوماته، فمثلًا عين في أول فترة الاستقلال السيد مصطفى بن حليم ثم الدكتور محي الدين فكيني مما يدل على رغبته في الاستعانة بالشباب المؤهلين جامعيًا لتسيير أمور البلاد، ولكنه سرعان ما تخلص منهما وعاد للساسة المخضرمين مثل السادة محمد عثمان الصيد ومحمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري، ثم غير رأيه وعاد للشباب المؤهل واختار السيد عبدالحميد البكوش، ولكنه سرعان ما تخلص منه وعاد مرة ثانية للإداريين المخضرمين فعين السيد ونيس القذافي.
كان الملك إدريس حريصًا على صحته وأحيانًا يتظاهر بأنه لا يريد الخوض في شئون الحكومة ليبتعد عن مقابلة المسئولين، حتى رؤساء حكوماته قلما يتمكنون من مقابلته لشهور، أما وزرائه فلا يراهم إلا يوم حلف اليمين بمناسبة تعيينهم أو في المناسبات العامة من بعيد. وكان يصدر أوامره لرؤساء وزرائه عن طريق سكرتيره الخاص. ولا أذكر أنه استدعى مجموعة من الوزراء أو وزيرًا بمفرده لمعرفة رأيهم في أمر هام أو دعاهم إلى الغذاء معه لمناقشة مسائل تهم البلاد وشئون وزاراتهم، حتى رؤساء حكوماته لا يراهم إلا نادرًا. وفي نفس الوقت كان حريصًا على مقابلة مستشاري وشيوخ ولاية برقة واستقبال سفراء بريطانيا وأمريكا وكبار موظفي سفارتيهما وعائلاتهم وكبار الزوار من الدولتين، وكان يدعوهم للغذاء معه وبحضور الملكة أحيانًا، وكان اتصاله بهم دائمًا رأسًا وليس عن طريق وزارة الخارجية كما جرى عليه العرف الدبلوماسي.
وقد تعرض سفراء بريطانيا وأمريكا في تقاريرهم العديدة التى بعثوا بها إلى حكوماتهم في تلك الفترة والتي نشرت بعد رفع السرية عنها بمرور 30 عاما عن أحداث العهد الملكي، وسياسات الحكومات الليبية والملك، وحتى حياة الملك الخاصة والعائلية وعلاقاته وحاشيته، وما يجري في القصر الملكي من أحداث وأسماء من يخدم في القصر وجنسياتهم ونشاطهم بشئ من التفصيل. كما تعرضوا أيضًا إلى الحياة الخاصة لكل رؤساء الحكومات وكبار المسئولين الليبيين بشئ من التفصيل، بما في ذلك ما يشاع عنهم بين الناس حول سلوكهم ونسبهم وعلاقاتهم الخاصة والرسمية مع بعضهم البعض ومع الآخرين. وأستطيع أن أقول، بعد الإطلاع على بعض هذه التقارير وفي ضوء ما أعرف، أن تقارير السفيرين البريطاني السير رودريك ساريل والأمريكي المستر ديفيد نيوسوم عما كان يجري من أحداث في العهد الملكي السابق وسياسة الحكومات المتعاقبة وردود فعل السياسة الأمريكية والبريطانية حولها تعبر بوضوح عن حقيقة الواقع الذي كنا نعيشه في تلك الفترة، وهو ما حاولت أنا بدوري في هذه الذكريات التعرض له باختصار، بعد انتهاء العهد الملكي مباشرة سنة 1970م وقبل الإطلاع على هذه التقارير أخيرًا.
المستر ديفيد نيوسوم والسير رودريك ساريل
المستر ديفيد نيوسوم كان سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا من أكتوبر 1965 إلى يونيو 1969م، وعايش فترات أربعة رؤساء حكومات في النظام الملكي السابق، وكان مقربًا منهم ومن الملك يزورهم باستمرار في مكاتبهم وبيوتهم، ويدعى إلى القصر في فترات متتالية للغذاء والعشاء مع الملك والمسئولين الليبيين، والاستراحة في طبرق هو وعائلته وبعض معاونيه. لقد لعب ديفيد نيوسوم دورًا هامًا في الحياة السياسية الليبية مستغلًا نفوذ بلاده القوي، وقد حظي بمثل ما حظي به السير رودريك ساريل السفير البريطاني الذي يعتبر في ليبيا من العائلة، سواء مع رؤساء الحكومات والوزراء أو الملك. كانت الأبواب مفتوحة أمام هذين السفيرين والأذان تصغي لما يقولان، وهذا ليس مبالغة، فقد انعكس هذا في تقاريرهما إلى حكومتيهما التي نشرت بعد مضي فترة الثلاثين عامًا عليها، وقد تم نقلهما معًا من ليبيا قبل الفاتح من سبتمبر 1969م بفترة وجيزة بعد قضاء عدة سنوات كسفيرين لبلديهما في ليبيا.
ورغم هذه العلاقات الوطيدة للسفيرين مع المسئولين الليبيين لم يكن السفير الأمريكي أو السفير البريطاني يتدخلان في القرارات السياسية، فقد كان الملك يحكم ويقرر ما يراه دون الرجوع إلي السفيرين أو إلى أي أحد ليبيًا كان أو أجنبيًا ولم يكن يومًا عميلًا لأية دولة أجنبية. أما رؤساء الحكومات فكانوا يتخذون قرارتهم حسب رؤيتهم للأمور واجتهادهم، أما قراراتهم الهامة فتكون وفق تعليمات الملك دون الرجوع إلى أحد آخر، ولا اعتقد أن أحدًا منهم كان عميلًا لأي دولة أجنبية. وكانت علاقتي بنيوسم وساريل رسمية فلا يزوراني في بيتي ولا يتبادلان معي الأحاديث في غير المعاملات الرسمية العادية.
زارني ديفيد نيوسوم للوداع في مكتبي عندما تقرر نقله من ليبيا، كما زار بقية المسئولين في الحكومة. وقد أثار معي مواضيع هامة لم يكن يتناولها معي في مقابلاته العادية، وأمطرني بأسئلة عديدة عن النظام الملكي وسياسة الملك والحكومة وموقف الشعب من الحكومة وموقف ضباط الجيش. وقد فؤجئت بهذه الأسئلة الغريبة التي تعتبر شئونًا داخلية لا علاقة له بها، رغم أنه قدمها بشكل ودي دبلوماسي. وقد حاولت أن أكون دبلوماسيًا بدوري وبادلته الحديث في ما كنت أعتقده أنه لا يمس سياسة الدولة، رغم أني كنت أعرف أن كثيرًا من المسئولين الليبيين يصارحونه بكل ما يعرفون، وتجلى هذا في تقاريره إلى الحكومة الأمريكية التي نشرت أخيرًا بعد أن رفعت السرية عنها. وكنت أعرف أنه من أخطر الدبلوماسيين الأمريكيين، يخفي وراءة أسرارًا كثيرة عن ليبيا والليبيين، لكثرة اتصالاته وانتشار رجال مخابراته بين فئات المواطنين والمسئولين وكان يرسم وينفذ مخططات وسياسات حكومته ليس في ليبيا فحسب بل في منطقة الشمال الإفريقي.
بدأ السفير نيوسم حديثه معي بالكلام عن علاقته الوطيدة مع الرئيس نيكسون وأنه عائد إلى وزارة الخارجية لتولي مناصب تنفيذية في إدارته. وأنه صديق لنيكسون منذ أن كان الأخير نائبًا للرئيس أيزنهاور، وكان نيكسون يتصل به هاتفيًا في مكتبه لأخذ رأيه في بعض الأمور، مما أحرجه مع رؤسائه وزملائه في وزارة الخارجية. كان ملخص ما قلته له في الإجابة عن أسئلته العديدة، أن الشعب الليبي بدأ يشعر بالأمان والرضا لتوفر الرخاء الذي بدأ يعم مختلف طبقات الشعب بفضل دخول البترول، وأن الجفوة بين الحكومة والشعب أخذت تزول مما يبعث على الاستقرار والأمن، وأن الشئ الوحيد الذي يضايق الشعب والحكومة هو موقف أمريكا المؤيد لإسرائيل، ومعاداتها للرئيس عبدالناصر، مما جعل موقف الحكومات العربية الصديقة لأمريكا ومنها ليبيا في موقف حرج مع شعوبها، وأني آمل أن يستطيع بعلاقاته الوطيدة مع الرئيس نيكسون أن يقنعه بإجبار إسرائيل بالجلاء عن الأراضي التي احتلتها سنة 1967م، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة على أراضية، وفي ذلك خدمة لأمريكا ومصالحها في العالم العربي وخدمة للأنظمة العربية التي ترغب في المحافظة على علاقات صداقة وتعاون مع أمريكا، وحفاظًا على الأمن في المنطقة لتتفرغ لتنميتها الاقتصادية والسير نحو الديمقراطية، ولا يمكن إيقاف الرئيس عبدالناصر من إثارة الشعوب العربية ضد الحكومات المتعاونة مع الغرب، إلا إذا تم الجلاء عن الأراضي المحتلة والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
كان جواب السفير الأمريكي غريبًا فقد قال لي إن أمريكا تدخلت سنة 1956م وأجبرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الجلاء عن كل الأراضي التي أحتلها مقابل وعد من الرئيس عبدالناصر بعدم اللجوء إلى القوة في حل القضية الفلسطينية، ولكن الرئيس عبدالناصر استمر في استعمال القوة ثم أغلق المضايق البحرية أمام التجارة الإسرائيلية في البحر الأحمر وبدأ في الإعداد للهجوم على إسرائيل سنة 1967م. ولهذا عندما احتلت إسرائيل كل فلسطين وبعض أراضي الدول العربية، قررت أمريكا عدم التدخل وإجبار إسرائيل على الجلاء كما فعلت في الماضي، واشترطت أن يتم مثل هذا الجلاء عن طريق المفاوضات الثنائية بين طرفي النزاع للوصول إلى حل يقبله الطرفان، ولن تقدم أمريكا في المستقبل على فرض حل معين على إسرائيل لا ترضاه مهما كانت الضغوط العربية عليها.
1971م- ديفيد نيوسم بعد أن صار مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية في لقاء مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة
وأما بالنسبة لأمن ليبيا ومواقف ضباط الجيش الليبي فقد قلت له رغم وجود خلافات بين ضباط الجيش الليبي فلا أعتقد أن تقدم مجموعة بالانقلاب على النظام، لأن القوات المسلحة الليبية لا تخضع لقيادة واحدة ويصعب حصول إجماع بينها. وقد حاول أن يدخل في بعض التفاصيل التي يعرفها عن الوضع داخل الجيش وموقف الملك ومستقبل النظام الملكي ووضع ولي العهد، ولكني حرصت على عدم الخوض في مثل هذه الأمور. وقد ودعته طالبًا منه أن يكون صوتًا مؤيدًا ومساندًا لقضية فلسطين والجلاء عن الأراضي العربية المحتلة، فهو أعرف من غيره بين المسئولين الأمريكيين بالوضع العربي، ورد فعل الشعوب العربية ضد السياسة الأمريكية غير المحايدة بين العرب وإسرائيل، وتأثير مثل هذا الموقف على الأنظمة العربية الصديقة لأمريكا. وقد وعد بأن يكون خير رسول للقضايا العربية لدى الإدارة الأمريكية.
علاقة الملك بالملوك والرؤساء العرب
كانت علاقة الملك إدريس بالرؤساء العرب غير مستقرة أو واضحة. فمثلًا كان يظهر صداقة قوية للرئيس عبدالناصر ويلبي كل طلباته، وفي نفس الوقت يصدر تعليماته السرية إلى رؤساء حكوماته ويحذرهم من الرئيس عبدالناصر وسياسته التوسعية نحو ليبيا ورفض حتى زيارته لليبيا. كما أن علاقته مع السيد أحمد بن بلة كانت وثيقة قبل استقلال الجزائر وبعده ولكنها تغيرت حالما توطدت علاقات الرئيس بن بلة بالرئيس عبدالناصر. وكان لا يشعر بود أو تقارب للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ربما بسبب عزله للباي، ولا لملك المغرب الحسن الثاني ولا للعائلات الحاكمة في السعودية ودول الخليج والعراق بعد الثورة ولا لسوريا، ولكنه كان يعطف على الملك حسين ملك الأردن، وغضب كثيرًا عندما قتل الملك فيصل ملك العراق وولي عهده، ورفض الاعتراف بحكومة العراق الثورية وحكومة اليمن بعد التغيير لفترة من الزمن.
إضافة خاصة للمؤلف
وقبل أن أنهي هذا الجزء الأول من ذكرياتي أود أن أضيف إلى أنه بعد الفاتح من سبتمبر 1969م وعملي بشركات النفط أعطيت والدي ووالدتي اهتمامًا خاصًا. فقد عشت إلى جوارهما بعد أن فرقتنا سنوات الدراسة والعمل في السفارات وفي البيضاء. فقد سهرت على صحتهما وتمكنت من السفر معهما للعلاج في بريطانيا. وكان مدراء شركة شل وأوكسيدنتال الذين كنت أعمل معهم يشكون من طول الوقت الذي احتجته لهذا الغرض، رغم تفهمهم لمشاعري وواجباتي العائلية.
في سنة 1976م مرضت والدتي إثر وقوعها في البيت، فأدخلتها مستشفى شركات النفط بطرابلس على حسابنا الخاص. وقد انتقلت إلى رحمة الله في اليوم الذي كنت أستعد فيه للسفر بها إلى بريطانيا للعلاج. وقد كان لوفاتها وقعًا أليمًا في نفسي غيّر مجرى حياتي. فقد كانت رحمها الله قريبة إلى قلبي وأحظى منها بحب خاص وجارف، وكانت دائمًا دعمًا لي في مواصلة دراستي وتقديم المساعدة لأحقق هدفي في إتمام دراستي الثانوية والجامعية بعيدًا عنها في طرابلس ثم في القاهرة. ووفاة الوالدة شجعني على العمل في الخارج مع الأمم المتحدة بعيدًا عن الوطن.
وبعد وفاة الوالدة انتقل والدي إلى بيتي المجاور للإقامة معي ولم يعد يستطيع حتى زيارة حجرة نومه التي تذكره بزوجته التي قضى معها العمر كله قريبًا منها، لم يتركها لحظة، حتى الإقامة معها في المستشفى قبل وفاتها. وبعد شهرين تقريبًا أصيب الوالد بمرض في كليتية وشخص الأطباء مرضه بوجود التهاب في الكلية، وقد أخذ إلى لندن وتقرر إجراء عملية جراحية له في "لندن كلينك" بعد أن أثبتت التحاليل وجود ورم سرطاني في الكلية اليمنى. وأخضع للعلاج بالأشعة لفترة من الزمن، ولم يكن الوضع المالي والظروف الاستثنائية التي كنا نعيشها تسمح لنا بالاستمرار في علاجه في الخارج.
رجع الوالد إلى طرابلس، وقبلت في هذه الفترة عرض الأمم المتحدة للعمل معها واضطررت إلى مغادرة طرابلس، ولم يكن في مقدوري أخذه معي إلى جنيف، وتركت الوالد في رعاية الإخوة الهادي وعبد العظيم. ولكن أخي علي، الذي عين سفيرًا في كوبا في تلك الفترة، رجع إلى طرابلس وتزوج وأخذ الوالد ليعيش معه في كوبا ويرعى علاجه لفترة. والأخ علي أفضاله على العائلة لا يمكن حصرها. وبعد فترة رجع الوالد إلى طرابلس، كأنها تناديه، لينتقل إلى رحمة الله في نهاية سنة 1978م ويدفن في مقبرة سيدي منيدر إلى جانب أفراد العائلة.
وخلال عملي في الأمم المتحدة مرض أخي الدكتور المهندس أحمد السني المنتصر، الذي كان يدرس الهندسة في جامعة برلين في أغسطس 1984م، فأسرعت إليه، وقد كنت في جنيف أستعد للسفر إلى مؤتمر الأمم المتحدة للسكان الذي كان سيعقد في مدينة المكسيك في الأول سبتمبر من نفس السنة. وقد صدمت بنتائج الفحص الطبي الذي أجري على أخي أحمد في مستشفى جامعة برلين، فقد أخبرني الأستاذ بالجامعة الدكتور الذي أجرى العملية بوجود ورم سرطاني متضخم في البنكرياس وأنه لا أمل في حياته وهو يعطيه أسابيع للبقاء على قيد الحياة. نزل هذا الخبر كالصاعقة عليّ. وجاء بعض الإخوة من طرابلس إلى برلين، وسافرت بدوري إلى المكسيك لحضور مؤتمر السكان وأنا في دوامة من الألم والضياع. وبعد رجوعي أسرعت إلى برلين وبقيت معه بقية أيامه في المستشفى حتى فاضت روحه إلى بارئها ونقل جثمانه إلى طرابلس ليدفن في مقبرة سيدي منيدر بجانب أبويه.
وأنا أكتب هذه الإضافة إلى ذكرياتي في لندن في الأسبوع الأول من نوفمبر 2007م وصلني خبر أليم من طرابلس وهو وفاة أخي الهادي السني المنتصر بعد مرض عضال طويل في طرابلس. وكان قد قضى كل حياته بعد دراسته للقانون في جامعة دمشق محررًا للعقود بطرابلس. ترك رحمه الله أرملته وولدين وأربع بنات.
المراجع لبعض الصور التاريخية:
- المواقع الإلكترونية: ليبيا الباكور، ناصر، أم السراية، ليبيا المستقبل، مكتوب، الصياد، واحات اليمامة، الأمم المتحدة.
- الهادي إبراهيم المشيرقي: مشاهداتى في بلاد الهند، المطبعة الليبية، طرابلس ـ ليبيا، 1967م.
- الهادي إبراهيم المشيرقي: ذكرياتي في نصف قرن من الأحداث الاجتماعية والسياسية، منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، سلسلة الوثائق التاريخية (7) 1980م.
- جميل عارف: صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية.. عبدالرحمن عزام ـ الجزء الأول ـ المكتب المصرى الحديث، 1977م.
- "الملك إدريس عاهل ليبيا: حياته وعصره"، تأليف إيريك دي كاندول، مانشستر 1989م. ترجمة محمد القزيري ونشر محمد عبده بن غلبون.
- Epstein, E. Dossier: The Secret History of Armand Hammer, Carroll & Graf Pulishers, New York, 1996.
- The Society for Libyan Studies: Seventh Annual Report (1975-1976)
التعليقات (0)