لفصل السادس
حكومة السيد عبدالحميد البكوش
بعد استقالة السيد عبدالقادر البدري من رئاسة الحكومة بتاريخ 25 أكتوبر 1967م اختار الملك السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة خلفًا له، وكان أصغر رئيس حكومة لليبيا ولا يزيد عمره عن ثلاثة وثلاثين عامًا. كان السيد عبدالحميد البكوش وزيرًا للعدل في حكومة السيد عبدالقادر البدري والحكومات السابقة وكان تعيينه مفاجأة للكثيرين، وخاصة من طرف جيل السياسيين القدامى الذين احتكروا أهم المناصب منذ بداية الاستقلال.
شملت حكومة السيد عبدالحميد البكوش بعض العناصر القديمة مثل السادة سالم لطفي القاضي كوزير للمالية وحامد العبيدي للدفاع وأحمد عون سوف للداخلية وعمر جعودة للصحة. ورغم أن السيد البكوش أوضح في أول اجتماع لمجلس الوزراء بأنه اختار أعضاء الوزارة بنفسه ولم يفرض عليه الملك أي وزير، إلا أن شمول من ذكروا أعلاه لعضوية الحكومة من جيل الساسة القدامى يعطي الانطباع أن الملك أوصى على بقائهم في الحكومة ليكونوا صمام أمان للشباب الذين شملهم السيد البكوش في حكومته.
وقد ضمت حكومته، بالإضافة لمن سبق ذكرهم، خليطًا من الإداريين القدامى والوزراء السابقين، كالسادة ونيس القذافي للتخطيط والتنمية، وحامد أبوسرويل للعمل والشئون الاجتماعية، وأحمد صويدق للشباب والرياضة، والمهدي بوزو للدولة للشئون البرلمانية، وخليفة موسى للبترول، والهادي القعود للمواصلات، ومن الجدد السادة حسين الغناي لشئون الخدمة المدنية، وأحمد الصالحين الهوني للإعلام والثقافة، وعبدالكريم لياس للزراعة.
السيد عبدالكريم لياس السيد المهدي بوزو
ولأول مرة تشمل الحكومة عددًا كبيرًا من المؤهلين جامعيًا والإداريين المتخصصين، مثل السادة الدكتور أحمد البشتي وزيرًا للخارجية، والأستاذ مصطفى بعيو وزيرًا للتعليم، والمهندس علي الميلودي وزيرًا لشئون البلديات، والمهندس فتحي جعودة وزيرًا للاشغال العامة، وطارق الباروني وزيرًا للصناعة والمهندس عمر بن عامر وزيرًا للاقتصاد والتجارة ووزيرًا للسياحة بالوكالة، وقد عينت وزيرًا للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء خلفًا للسيد سليمان الجربي، الذي استقال منذ عهد حكومة السيد عبدالقادر البدري ولم يبت فيها حتى استقالة وزارة السيد البدري.
الدكتور أحمد البشتي السيد على الميلودي
كان السيد عبدالحميد البكوش وجهًا جديدًا لمثل هذا المنصب، فلم يكن من جيل الساسة القدامى أو من كبار الموظفين المعروفين، كما لم يكن من رجال القبائل البارزين. وكان قد تولى الوزارة لأول مرة في عهد السيد محمود المنتصر كوزير للعدل، وقد أثار تعيينه في ذلك الوقت لغطًا وتكهنات وتعليقات. وقد كان قبل تعيينه وزيرًا محاميًا ناجحًا، وكان السيد محمود المنتصر قد عرفه كمحامي سبق أن تعامل معه. وقد انتقد الكثيرون السيد محمود المنتصر على تعيينه وزيرًا، لأنه كان صغير السن وغير معروف لدى معظم الليبيين، كما أنه تردد في قبول الوزارة وقدم استقالته عدة مرات. وقد خرج السيد البكوش من وزارة السيد محمود المنتصر الثانية وعاد إليها من جديد، وقد أفاده ذلك، فرجع بنشاط ملحوظ، وتكرر خروجه من الوزارة في عهد السيد حسين مازق، ثم رجع وزيرًا للعدل ليحل محل الشيخ أبوبكر نعامة.
كان خروج السيد البكوش من الوزارة ورجوعه إليها عدة مرات دليلًا على تعلقه بالمنصب العام، وكذلك رغبة رؤساء الحكومات للاستفادة من خبرته القانونية. كما أشيع أن المستر إيريك دي كاندول مستشار شركة شل للبترول هو الذي أوصى به لدى الملك لتعيينه. والمستر دي كاندول كان المفوض المقيم للحكومة البريطانية في برقة في عهد الإدارة العسكرية البريطانية وصديقًا مقربًا للملك، وكانت الحكومة البريطانية تعتمد عليه في جس نبض الملك، وأخذ رأيه في أمور الدولة وسياسة حكوماته المتتالية، وكذلك نقل النصائح والتوجيهات إليه عن طريق غير مباشر بدلًا من تقديمها عن الطريق الرسمي بواسطة السفير البريطاني، الذي قد يعتبر تدخلًا في شئون ليبيا الداخلية.
وقد وصل السيد عبدالحميد البكوش إلى قمة نفوذه في وزارة السيد عبدالقادر البدري، حيث كان أقرب الوزراء إليه وجليسه الدائم ومستشاره في العمل اليومي، وكان الملك يعرف هذا، فهو لا تخفى عليه خافية. وكانت أخبار الحكومة وما يجري في مجلس الوزراء ينقل إليه عن طريق بعض الوزراء القدماء المعروفين، وكانت هناك تكهنات باستقالة السيد عبدالقادر البدري وعلى من يخلفه. وكان الملك أحيانًا يعين الوزير الذي على رأس قائمة وزراء الحكومة المستقيلة رئيسًا للوزراء، إلا أن الملك غير عادته. فعند استقالة السيد حسين مازق عين السيد عبدالقادر البدري بدلًا من السيد سالم القاضي الذي كان على رأس قائمة الوزراء وعمل رئيسًا للوزراء بالوكالة، ولهذا لم يكن أحد يعرف من سيكون رئيس الوزراء بعد السيد عبدالقادر البدري.
بداية مرحلة جديدة في تاريخ ليبيا السياسي
كان تعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة مفاجأة أخرى للجميع، واستُقبل تعيينه من قبل جميع الأوساط بردود فعل مختلفة. فساسة الجيل القدامى اعتبروا تعيينه تحديًا لهم من الملك الذي خدموه بإخلاص، ومنافسًا يهدد مصالحهم ومكانتهم. كما اعتبره زعماء القبائل في برقة خطرًا كبيرًا على مصالحهم ونفوذهم، فهو غير معروف لديهم ولن يجدوا منه تفهمًا لمطالبهم ومطالب قبائلهم الكثيرة كما تعودوا من رؤساء الحكومات القدامى، وخاصة من كان منهم من برقة، وقد جاهر البعض منهم بعدم رضاهم بحجة أن القبائل لم تمثل تمثيلًا عادلًا في الوزارة. كما أنه لم يكن معروفًا في بنغازي، رغم أنه كان وزيرًا سابقًا للعدل لكنه ليس له تاريخ سياسي معروف، واستُقبل من سكانها ببرود.
أما أفراد الشعب في طرابلس فقد استبشروا به خيرًا، فلأول مرة في تاريخ البلاد تطل عليهم حكومة بوجوه شباب معروفين بتخصصهم في مجالات عملهم، رغم أنهم ليسوا من الوجوه الوطنية المعروفة لديهم بنضالها الوطني. وكان السيد عبدالحميد البكوش معروفًا بين الشباب المتعلم بأنه ماركسي التفكير في سنوات دراسته في القاهرة، وكان له أعداء كثيرون من أنصار القوميين والبعثيين، ولكنه تغير عندما دخل الحياة العملية وأصبح محاميًا ناجحًا ثم سياسيًا بارزًا، مما جعله يغير أفكاره ويصبح رأسماليًا.
أما رجال الصحافة والمثقفون فقد استقبلوا حكومته بترحيب، فهو من جيلهم ويمثل تفكيرًا متجانسًا وطموحات واحدة. كما أن ردود الفعل لدى السفارات كانت إيجابية بصفة عامة، وخاصة لدى السفارتين الأمريكية والبريطانية على أساس أن مثل هذه الحكومة تضم شبابًا متعلمًا أقدر على الإصلاح والسير بالبلاد نحو التقدم وتفهم العلاقات الدولية والمصالح المشتركة واكتساب ثقة رجل الشارع العادي، مما يساعد على حماية جالياتهم ومصالحهم.
كان مجئ حكومة السيد عبدالحميد البكوش مرحلة جديدة في تاريخ السياسة الليبية، وبداية تغيير سياسي داخلي وخارجي كانت تتوق إليه جماهير الشعب. وقبل الاسترسال في الحديث عن أعمال هذه الحكومة ومنجزاتها أود أن أتعرض بإيجاز إلى ظروف دخولي فيها كوزير للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء.
ظروف دخولي للحكومة كوزير للدولة
لم تكن معرفتي بالسيد عبدالحميد البكوش طويلة، ورغم أنه كان يدرس في جامعة القاهرة خلال فترة دراستي في نفس الجامعة، إلا أني لا أذكر أننا تلاقينا كثيرًا للأسباب التي ذكرتها وهو ابتعادي عن الأنشطة السياسية والاجتماعية للطلاب، بالإضافة إلى تخرجي قبله بسنتين. وفي فترة ما بعد الدراسة لم نلتق كثيرًا فقد التحقت أنا بوزارة الخارجية بينما دخل هو المحاماة. ولظروف عملي كنت معظم الوقت إما في مدينة البيضاء أو مدينة بنغازي أو في السفارات في الخارج، وابتعدت بذلك عن المجتمع في طرابلس وعن جميع أصدقائي وزملائي وعائلتي. ولكنني عرفت السيد عبدالحميد البكوش جيدًا عندما عين وزيرًا للعدل في حكومة السيد محمود المنتصر الثانية والحكومات التالية، حيث كنت أراه باستمرار لوجودي في رئاسة مجلس الوزراء، وأستطيع القول بأنه لم تكن لي معه علاقات صداقة وطيدة.
والآراء في السيد عبدالحميد البكوش متضاربة، فالبعض يرى فيه شخصية ناجحة وعنصرًا ممتازًا قادرًا على تقديم أفضل الخدمات للبلاد، بينما يرى نفر من رفاقه في الدراسة ومن الشباب المتعلم أنه شخص لا يؤتمن جانبه ويكنّ بغضًا لبعض رفاقه في الدراسة لأسباب مذهبية وسياسية، وكان ضد البعثيين والقوميين حسب ما علمت منهم وقد يكون ذلك لكونه ماركسيًا أثناء الدراسة، إلا أنه كما ذكرت غير أفكاره بعد تخرجه وأصبح رأسماليًا وغربي الانتماء سياسيًا ومذهبيًا. كما أنه كان يتميز بمهارات مهنية وشخصية قوية، طليق اللسان، كاتبًا ماهرًا، وعليمًا بشئون البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومثقفًا ملمًا بما يجري في العالم، ولكن كانت تنقصه الخبرة في مجالات العلاقات الإنسانية والدبلوماسية في أول حياته السياسية.
السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء مع بعض من أعضاء حكومته أمام قصر دار السلام في طبرق بعد أداءهم قسم اليمين أمام الملك وبقية الوزراء أقسموا في وقت لاحق ويظهر على يمين السيد البكوش السيد أحمد عون سوف وزير الداخلية وعلى يساره السيد سالم لطفي القاضي وزير المالية
لم أكن أتوقع تعييني وزيرًا في حكومته فلم يكن ذلك ضمن طموحاتي لأني كنت عارفًا بمجرى الأمور في البلاد، ولم يكن هناك ما يشجعني على العمل السياسي في ظروف البلاد آنذاك. وأذكر أنه في اليوم السابق لسفر رئيس الوزراء السيد عبدالقادر البدري إلى طبرق لمقابلة الملك، بعد توتر علاقاته مع القصر بسبب وضع أبناء الشلحي في بنية الدولة، وعدم رضا بعض قبائل برقة على تصرفاته، كان السيد عبدالحميد البكوش يتناول العشاء معي تلك الليلة في بيتي في البيضاء، ولم يتعرض في حديثنا عن هدف السيد عبدالقادر البدري من مقابلة الملك بصورة مستعجلة أو لاحتمال استقالته وقيامه هو بتأليفه للحكومة، خاصة أنه رافقه في رحلته إلى طبرق. إلا أني لاحظت أنه كان يتكلم بثقة عن الفترة المقبلة للحكومة، وهذا ليس غريبًا لعلاقته الوطيدة بالسيد عبدالقادر البدري ومشاركته له في اتخاذ القرارات وتسيير أمور الدولة، فقد كان السيد عبدالقادر البدري يركز نشاطه على الوضع الأمني للبلاد والشئون المحلية والجيش الليبي تاركًا بقية أمور الدولة للأستاذ عبدالحميد البكوش.
ولما كانت هناك إشاعات بقرب استقالة السيد عبدالقادر البدري من رئاسة الحكومة فإن كلام السيد البكوش معي عن مشاريعه في المستقبل في الحكومة كان يدل على أنه كان يتوقع على الأقل بأنه سيعين رئيسًا للحكومة، غير أن ذلك لم يلفت نظري ولم يدر بخلدي على الإطلاق. وأذكر أني أثرت معه موضوع قصر تعيين السفراء على السياسيين والوزراء السابقين وتوقف ترقية موظفي الخارجية عند درجة مستشار، مما ألحق غبنًا لكثير منهم الذين قضوا سنوات طويلة دون ترقية، بينما واصل زملاؤهم في الخدمة المدنية الترقية إلى مناصب الدرجة الخاصة دون صعوبة، وقصر وظائف السفراء على جيل السياسيين القدامى نتج عنه حرمان السفارات الليبية من الدبلوماسيين ذوي الكفاءة والمتخصصين في هذا المجال. وقد علق على كلامي بالقول إنه سيغير هذا الوضع قريبًا، وسيرقي المستشارين القدامي الأكفاء إلى درجة سفير وسيعينون في السفارات في الخارج وقد ذكر بعضهم بالاسم، مما يدل على أنه كان يفكر في الموضوع قبل أن أثيره معه، وفعلًا قام بتنفيذ ذلك أثناء توليه رئاسة الحكومة كما سنرى.
الحياة الاجتماعية في البيضاء
كان بيتي في مدينة البيضاء مفتوحًا لزيارة الأصدقاء من وزارة الخارجية وزملاء العمل، وكان من بينهم أيضًا بعض الوزراء ووكلاء الوزارات وكبار الموظفين الشباب الذين يأتون لمدينة البيضاء في مهام رسمية للاجتماع بوزرائهم الذين يقضون معظم وقتهم في البيضاء لحضور جلسات مجلس الوزراء. وكان زوار البيضاء هؤلاء يقضون سهراتهم في بيوت المقيمين في البيضاء دون عائلاتهم من أمثالي ولعب الورق إلى ساعات متأخرة من الليل. وكانت سهراتنا في بيتي تنتهي بأكل المكرونة "المبكبكة" وهي الأكلة الشعبية الليبية الشائعة، والتي زاد عزاب البيضاء على مختلف مناصبهم ووظائفهم من شعبيتها، كما أنها سهلة الإعداد ورخيصة التكاليف.
كان جاري السيد سالم لطفي القاضي الوزير شبه الدائم ووزير المالية آنذاك يصر دائمًا على أن أقضي السهرة معه، وكان بيته بدوره يعج بزملائه الوزراء وموظفي وزارته وكبار زوار البيضاء لتناول العشاء معه ولشرب الشاي ولعب الورق. كنت أجد صعوبة في التوفيق بين استقبال ضيوفي الشباب في بيتي وتلبية دعوة السيد سالم لطفي القاضي الذي أعزه كثيرًا وأعامله كوالدي، وكان يحبني ويغمرني دائمًا بعطفه وكرمه ويعتبرني كابنه.
هكذا كانت الحياة في مدينة البيضاء، وكان هذا الوضع غريبًا إذ كانت البيضاء هي مقر رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، كما يوجد بها مكاتب لبعض الوزارات كالإسكان والأشغال، بينما كانت كل الوزارات بأجهزتها في طرابلس. وكان الوزراء يقضون بعض الوقت في البيضاء لحضور جلسات مجلس الوزراء والتشاور مع رئيس الوزراء الموجود دائمًا في البيضاء. وكانت الحكومة في البيضاء بعيدة عن الشعب وعن ما يجري في طرابلس أو بنغازي.
كما كان رجال السلك الدبلوماسي المقيمين في طرابلس وبنغازي يضطرون إلى السفر الدائم إلى البيضاء، لوجود وزارة الخارجية فيها ولمقابلة رئيس الوزراء والوزراء. وكان الملك دائما في طبرق، والأعمال تسير معظمها بالهاتف والتنقل المستمر بالطائرات والسيارات. ورغم كل ما كان يسببه هذا التناقض من سوء إدارة وعدم تواصل مع الشعب، لم يستطع أحد من رؤساء الحكومات أن يقنع الملك بأن هذا الوضع غير سليم وسيؤدي إلى انهيار النظام. كان رؤساء الحكومات البرقاويين يفضلون البيضاء على طرابلس، بعد أن فقدوا الأمل في نقل الحكومة إلى بنغازي العاصمة الثانية حسب الدستور الليبي، لأن الملك منع نقل الحكومة إليها بسبب مقتل السيد إبراهيم الشلحي فيها.
كان وضع الوزراء البرقاويين لا يختلف عن وضع الوزراء الطرابلسيين، فقد كانوا يقيمون في البيضاء عزابًا تاركين وزاراتهم في طرابلس وعائلاتهم في بنغازي ولا يزورونهم إلا نهاية الأسبوع، وعلى كل حال فهم أقرب لعائلاتهم من وزراء طرابلس الذين يحتاجون للسفر بالسيارات والطائرات لمسافة 1300 كم أسبوعيًا للالتحاق بوزاراتهم وبعائلاتهم هناك. وقد علق المستر أدريان بيلت على هذا الوضع أثناء اجتماعي به في جنيف سنة 1965م، بأن الملك تنقصه معرفة الإدارة الحديثة ومتطلباتها التي تعتمد على اللجان والمستشارين والاجتماعات اليومية للوزراء مع موظفيهم وضرورة وجودهم قريبًا من الكثافة السكنية، والملك يعتقد أن الوزراء يستطيعون تسيير شئون وزاراتهم من البيضاء بالهاتف كما يفعل هو نفسه مع رؤساء حكوماته من طبرق.
البدري يرشح البكوش لرئاسة الوزراء
كان السيد عبدالقادر البدري يرغب في ترشيح السيد عبدالحميد البكوش للملك ليكون خلفه لتولي رئاسة الحكومة، خاصة كما أوضحت، كان أقرب الوزراء إليه. وكما جرت العادة في الماضي كان الملك حريصًا دائمًا على تكليف أحد وزراء الحكومة المستقيلة بتأليف الحكومة الجديدة، حتى لا يحصل تغيير كبير وفوري في سياسة البلاد أو يعرض استقرارها للخطر. وفعلًا تحقق ذلك وقبل الملك استقالة السيد عبدالقادرالبدري وكلف السيد عبدالحميد البكوش بتأليف الحكومة الجديدة التي ضمت معظم الوزراء في الحكومة السابقة.
وكان سلفي السيد سليمان الجربي وزير الدولة لشئون الرئاسة قد سبق له أن أعرب عن رغبته في الاستقالة بعد تكليف السيد عبدالقادر البدري بتأليف الحكومة، لأنه كان غير راض كسلفه في نفس المنصب السيد عمر الباروني عن اختصاصات شئون رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولاها كوكيل وزارة، وهكذا تفرغ لما يكلفه به رئيس الوزراء من مهام خاصة لا تدخل عادة تحت اختصاصات الوزراء الآخرين. كما شعر السيد سليمان الجربي بعد استقالة السيد حسين مازق أنه لا يمكنه العمل مع السيد عبدالقادر البدري، لأنه يرى أنه أكثر منه ثقافة وأطول مدة في خدمة الدولة، إلا أنه لم يقدم استقالته رسميًا، رغم أنها كانت مكتوبة وموقعة منذ ترك السيد حسين مازق الوزارة، وكان يحتفظ بها في جيبه باستمرار، ولم يجرؤ على تقديمها رسميًا للملك خوفًا من أن تعتبر رفضًا لإرادة الملك.
وقد وصل خبر استقالة السيد الجربي شفويًا إلى الملك عن طريق السكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف، ولم يتم البت في استقالته إلا أثناء تأليف السيد عبدالحميد البكوش لحكومته الجديدة، فاضطر السيد عبدالحميد البكوش إلى إيجاد بديل ليحل محله. وقد اختار السيد عبدالحميد البكوش معظم وزراء حكومته من بين وكلاء الوزارات، ولهذا قرر اختياري لأحل محل السيد سليمان الجربي في وزارة الدولة لشئون رئيس الوزراء دون أخذ رأيي مسبقًا. وكان العرف في ليبيا جرى على أن لا يستشار الوزراء قبل تعيينهم، لأن الملك عادة يستعرض أسماء الوزراء مع رئيس وزرائه، وقد يعترض على بعض من يرشحهم رئيس الوزراء أو يفرض أشخاصًا من عنده، كما قد يطلب بقاء بعض الوزراء في مناصبهم. ولهذا لا يستطيع رئيس الوزراء المعين التشاور أو وعد من يريده أن يكون وزيرًا معه قبل صدور المرسوم بالحكومة الجديدة، وكثيرًا ما يطلب الملك من الرئيس المعين الجديد أن يبقي نفس وزراء الحكومة السابقة.
وكان الملك غالبًا لا يتدخل في فرض كل أعضاء الحكومة على رئيس الوزراء أو يخبر الوزراء الذين أوصى بهم بأنه اختارهم، ليشعر الوزراء جميعًا أن الاختيار كان من طرف رئيس الوزراء. وكان العرف الشائع أن أي اعتراض من طرف المعينين بعد صدور المرسوم يفسر على أنه عدم ولاء للملك، وقد يشطب اسمه من يرفض التعيين من الترشح لأي منصب عام مستقبلًا. وكان الملك يوافق على اقتراحات رئيس وزرائه بتغيير وزرائه كلما رأى ذلك ضروريًا، ونادرًا ما يعدل الوزارة دون طلب من رئيس الوزراء سوى في حالات نادرة أو في حالة غيابه بطلب من رئيس الوزراء بالوكالة.
سمعت خبر تعييني في وزارة السيد عبدالحميد البكوش من الإذاعة في نشرة الأخبار كما سمعها الجميع، وقد كنت في البيت ومعي بعض الأصدقاء. وقد كان الخبر مفاجأة لي لأني لم أكن أسعى إلى منصب وزاري، ولو أردت العمل في المجال السياسي لرشحت نفسي في الانتخابات في مصراته منذ فترة وحتى قبل دخولي في العمل الحكومي. كما أن وجودي في وظيفة وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء لفترة تقارب أربع سنوات ومعرفتي الكاملة بالوضع السياسي المتردي زاد من تصميمي على عدم دخول المجال السياسي لأسباب كثيرة.
كما أني كنت أعتقد أن اختصاصات شئون الرئاسة بمكتب رئيس الوزراء غير واضحة، وقد عجزت عن إقناع رؤساء الحكومات السابقين بوضع اختصاصات محددة لها. وقد استطاع وكيل الوزارة السابق السيد علي المسلاتي، كما ذكرت، وضع اختصاصات لها أثناء حكومة الدكتور محي الدين فكييني، إلا أنها ألغيت لمعارضة الوزراء بحجة تداخلها مع اختصاصاتهم كوزراء مسئولين عن كل مجال وزاراتهم أمام رئيس الوزراء مباشرة، ولا يريدون جهازًا في رئاسة مجلس الوزراء يشرف عليهم أو يتدخل في شئون وزاراتهم أو حتى يشاركهم في اختصاصاتهم، ولهذا رأيت أن تعييني وزيرًا لشئون رئاسة مجلس الوزراء لن يغير من اختصاصاتي كوكيل للوزارة بل يزيدها تعقيدًا. وقد أدى هذا الوضع في السابق إلى استقالة الوزيرين اللذين توليا هذه الوزارة قبلي وهما السيدان عمر الباروني وسليمان الجربي. إن أهمية ومسئولية وزارة الدولة لشئون الرئاسة قد تكون كبيرة في النظام الرئاسي، حيث تكون حلقة الوصل بين رئيس الجمهورية والوزراء، ولكن ليس لها مكان في حكومة يترأسها رئيس وزراء يتعامل مع الوزراء بشكل يومي مباشرة، كما كان الحال في ليبيا آنذاك.
كان السيد عبدالحميد البكوش يعرف أني أرغب في الانتقال إلى وزارة الخارجية، لأنه كان وزيرًا للخارجية بالوكالة لعدة مرات، وقد فاتحته في الموضوع مرارًا ولكنه لم يفعل شيئًا. ولهذا استغربت من تعييني وزيرًا معه، لأن معنى ذلك خروجي من كادر الخدمة المدنية بمجرد صدور المرسوم بتعييني وزيرًا ومن العمل الحكومي مستقبلًا في حالة استقالة الحكومة. وكنت غير مستعد لمثل هذا الوضع، فقد اخترت طريق الوظيفة في الحياة، ومنصب الوزير مؤقت، وفقدانك للمنصب احتمال وارد في أي وقت. كما أن الظروف السياسية السائدة كانت لا تساعد على العمل في منصب وزاري، فسياسة الحكومات المتعاقبة في ليبيا أصبحت لا تعكس مطالب وتطلعات الشعب، وهذه سياسة غير صحيحة وتؤدي، لا محالة، إلى نهاية النظام. وقد ظهرت بوادرها في موجة الاحتجاجات والمظاهرات التي سادت البلاد في فترات متعددة نتيجة مواقف الحكومة من القضايا العربية وتلك التي تلت هزيمة يونيه 1967. كان استعمال العنف أحيانا لقمع المظاهرات وإلغاء الدور الشعبي بإلغاء الأحزاب السياسية قد أفقد الحكومات الليبية المتتالية الوسيلة والقنوات المباشرة للتعامل مع الجماهير والاتصال المباشر بالشعب.
كما كنت ومازلت أعتقد أن المناصب الوزارية يجب أن تسند، مع مراعاة المؤهل العلمي، إلى أعضاء مجلس الأمة أو السياسيين الذين لا يعتمدون على المرتب الحكومي في معيشتهم، وذلك لكونهم يتمتعون باستقلال مادي يمكنهم مقاومة الضغوط من أية جهة، وهم عادة في غنى عن المنصب وقادرون على الاستقالة في أي وقت. كما أني لست من الذين يسعون إلى المناصب الوزارية من أجل تقوية مراكزهم الاجتماعية أو تحسين أوضاعهم المالية أو زيادة ثرواتهم بطرق بعيدة كل البعد عن النزاهة والشرف، فقد تربيت، والحمد لله، في عائلة طيبة وذات سمعة حسنة شبت على خدمة الناس ومصالحهم وتقديم العطاء لهم وليس الأخذ منهم.
كان أفراد عائلة المنتصر التي أنتمي إليها من الملاك الميسورين القادرين في الماضي، ولكن معظم أفراد العائلة أصبحوا من الطبقة المتوسطة الذين يعتمدون على العمل الحكومي في خدمة المصلحة العامة، بعد فقدانهم لأملاكهم بالتوارث والإنفاق للمحافظة على مستوياتهم ومسئولياتهم الاجتماعية، كما أنهم أبعد الناس عن معرفة العمل في المجال التجاري الذي لا يتمشى وطبيعتهم التي تربوا عليها.
بعد سماعي لخبر تأليف الحكومة الجديدة ذهبت إلى جاري وصديقي السيد سالم لطفي القاضي الوزير المخضرم والذي احتفظ بمنصبه في وزارة السيد عبدالحميد البكوش الجديدة. وكان منزله كالعادة مليئًا بالزوار من أعضاء مجلس الأمة وكبار الموظفين وزوار البيضاء من طرابلس وبنغازي. وقد بادرني الجميع بالتهنئة بتعييني وزيرًا، وقد استغرب بعضهم من عدم رضائي بهذا التعيين. وأذكر أن عضو مجلس النواب السيد محمد السيفاط كان حاضرًا، فثار في وجهي قائلًا إن الوزارة أمنية لكل سياسي ومسئول في البلاد، وهذه ثقة سامية أسبغت عليك رغم صغر سنك ويجب أن تكون فخورًا بها. أما السيد سالم لطفي القاضي فلم يكن سعيدًا بتعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للوزراء، إذ كان يعتبر نفسه أحق الوزراء بها لأقدميته، فقد كان وزيرًا ولا زال منذ وحتى قبل إعلان استقلال ليبيا، حيث كان وزيرًا في حكومة طرابلس المؤقتة.
مبادرة البكوش بتعيين الوزراء من الشباب
قضيت تلك الليلة في التفكير في وضعي الجديد والخيار أمامي، إما رفض المنصب وهذا إجراء لم يقدم عليه، حسب علمي، أحد من قبلي في العهد الملكي، وكثيرًا ما يحرم الرافض لتولي المناصب العامة أو حتى الوظائف الحكومية الرئيسية من أي عمل حكومي مستقبلًا، وهذا ما لم أكن مستعدًا له ماديًا في ذلك الوقت، أو قبول منصب الوزير وعمل ما أراه صحيحًا في حدود إمكانياتي واستطاعتي، ثم المحاولة مع رئيس الوزراء لإعادتي إلى وزارة الخارجية بأي شكل وفي الوقت المناسب كما كانت رغبتي.
السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء مع أعضاء حكومته في اجتماع مجلس الوزراء
ويظهر في الصورة بشير السني المنتصر على اليمين في أول الصورة
وقد تفاءلت خيرًا بتعيين عدد كبير من الشباب المؤهل من وكلاء الوزارات كوزراء في تعديل حكومة السيد البكوش الأول، مما يجعل العمل في مجلس الوزراء أكثر تجانسًا. وأود هنا أن أذكر أن دخول هذه النسبة الكبيرة من الشباب المتخصص في المجالات المختلفة في الوزارة يرجع إلى مبادرة من السيد عبدالحميد البكوش، ولو استمر فترة أطول في الحكم لاستطاع الاستغناء عن بعض المخضرمين الغير قادرين على التغيير والانفتاح على الشعب، الذين كانوا منتشرين في جميع مناصب ووظائف الدولة لأسباب سياسية وقبلية وإقليمية، ولو تم تحقيق ذلك لتغيرت الأمور في ليبيا عما آلت عليه لاحقًا. هكذا بدأت العمل مع السيد عبدالحميد البكوش بروح من التعاون والإخلاص المتبادل، رغم أني لم أكن أعرف الكثير عن أسلوبه في العمل وسلوكه مع الناس، وسأحاول أن أكون موضوعيًا في تقييمي لعمله أثناء فترة رئاسته للحكومة.
شخصية السيد عبدالحميد البكوش
لاحظت منذ الأيام الأولى لحكمه أن السيد البكوش كان جريئًا في إصدار قرارته التي كان يوقعها في بعض الأحيان باسم مجلس الوزراء دون عرضها على مجلس الوزراء. كما أنه كان يتصرف مع زواره بأسلوب غريب عن العادات الليبية. فقد كان يستقبل ويودع زواره وهو جالس في مكتبه والغليون (البيبة) في فمه، وأحيانا يقوم بقراءة ما أمامه من أوراق والاستماع إلى زواره في نفس الوقت. ورغم أني أعرف أن المقابلات لا تترك للمسئولين في ليبيا فرصة التفرغ للعمل أو وقتًا لدراسة ما أمامهم من ملفات كثيرة وعاجلة، إلا أن معاملة المسئولين للزوار في ليبيا تتميز دائمًا بالاهتمام والاحترام، خاصة أن معظم زوار رئيس الحكومة وفي مدينة البيضاء بالذات هم من النواب ومستشاري ومشايخ القبائل وأعيان بنغازي الذين يتوقعون استقبالًا وديًا ومعاملتهم وفقًا لمراكزهم، وكذلك كبار السن منهم يتوقعون معاملة خاصة كما عودهم رؤساء الوزراء السابقين الذين كانوا يقفون لهم عند دخولهم للمكتب ويجاملونهم بالطرق المتعارف عليها في المجتمع الليبي ويودعونهم حتى الباب عند خروجهم.
وقد لاحظت أثناء عملي في رئاسة الوزراء أن الترحيب بالزوار بالطرق المتعارف عليها في ليبيا، بغض النظر عن مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، يبعث في نفوسهم الراحة والرضا والشعور بأهميتهم وهو بالنسبة لهم أهم من قضاء مصالحهم التي جاءوا من أجلها. كنت دائمًا أرحب بزواري واستمع إلى شكواهم ومطالبهم، وأعرب عن استعدادي لمراجعة المسئولين عن حالاتهم وشكواهم مبينًا لهم أيضًا الصعوبات التي قد تعترض تلبية مطالبهم. لهذا حرصت على إنشاء إدارة خاصة في رئاسة مجلس الوزراء تهتم بشكاوى المواطنين وطلباتهم منذ عهد حكومة السيد محمود المنتصر، يقوم فيها موظفوا الرئاسة بدراسة هذه الشكاوى والتظلمات وإحالتها إلى الوزراء المختصين بتوقيعي، وبتكليف من رئيس الوزراء للنظر فيها والرد على أصحابها، كما حرصت على أن ترسل صورة من هذه الرسالة إلى صاحب الشكوى أو الطلب لتمكينه مراجعة الوزارة المختصة.
وقد استغل بعض أصحاب هذه الشكاوى والطلبات هذه الرسائل التي تبعث لهم في التردد على مكاتب الوزراء، والإلحاح على معرفة ما تم في موضوعهم، وأحيانًا الإصرار على مقابلة الوزراء المختصين. وقد أثار هذا الإجراء غضب الوزراء وأثاروا الموضوع في مجلس الوزراء موضحين بأن هذا الأسلوب عطل أعمالهم وأدى إلى تجمع أصحاب الشكاوى أمام مكاتبهم طلبًا لمقابلتهم، وأن الشكاوى المحولة من الرئاسة كثيرًا ما سبق للوزارات أن درستها وأرسلت بردود لأصحابها، لكن أصحاب الشكاوى والطلبات الخاصة لا يقفون عند حد. لذلك اقترحت على الوزراء إنشاء مكاتب في وزاراتهم للشكاوى والتظلمات للبت فيها، وفعلًا تم ذلك. وقد أنشأنا بعد ذلك إدارة قانونية خاصة بالتظلمات والشكاوى برئاسة مجلس الوزراء يرأسها قاض للنظر فيها، مما جعل الوزراء وكبار المسئولين في الوزارات يعطونها أهمية خاصة، وعين فيها أحد القضاة المعروفين بالنزاهة وهو القاضي محمد هويسة.
وقد حدث في عهد حكومة السيد محمود المنتصر أن أحد وكلاء الوزارات المهندس بشير الحنش وكيل وزارة الأشغال، وهو زميل وصديق، اتصل بي بالهاتف وقال لي إنه يتولى فتح الرسائل التي ترسل من الرئاسة إلى وزيره السيد حامد العبيدي بخصوص الشكاوى بأمر منه، وأنه لاحظ بأن بعضها ضده شخصيًا، أي ضد السيد الحنش، وأنها لا تقوم على أسس، فمعظمها من المقاولين المتأخرين في تنفيذ المشاريع التي تعاقدوا عليها مع الوزارة، ويريدون أن يسلموا مشاريعهم إلى الحكومة وهي غير جاهزة، رغبة في استلام المبالغ المتبقية لهم، وهذا ما كان يرفضه، ويريد أن يعرف هل أن إرسال مثل هذه الشكاوى من طرف مكتب رئيس الوزراء إلى الوزير معناه عدم الثقة به كوكيل للوزارة. وقد حاولت طمأنته بأن إحالة مثل هذه الشكاوى على الوزير لا تعني أننا نؤيد ما جاء فيها، ولكن بإمكانه الرد على رسائلنا بأن الموضوع سبق أن تم النظر فيه من طرف الوزارة، وأحيط صاحبها علمًا برأي الوزارة في شكواه، وستقوم رئاسة مجلس الوزراء بدورها بإعلام صاحب الشكوى بذلك ولفت نظره بعدم تكرار ذلك، وإفهامه بأن اتهام موظفي الدولة كذبًا سيعرضه للملاحقة القانونية. هذه واحدة من المشاكل التي نتجت عن هذا الإجراء الذي خصص للمظلومين والمحتاجين لإيصال شكواهم وأصواتهم إلي الجهات الحكومية المختصة والذي كنت أهدف به خدمة المواطنين، فاستُغل من طرف أصحاب المصالح الخاصة للإساءة إلى سمعة بعض موظفي الدولة.
تعيينات جريئة وتفعيل لدور الصحافة الحرة
ومن ملاحظاتي على السيد عبدالحميد البكوش أنه على الرغم من مهنته القانونية، إلا أنه كان لا يتمسك بالقانون في قراراته السياسية والإدارية، وأذكر هنا حادثة كمثل. لقد طلب مني السيد عبدالحميد البكوش عندما كنت وزيرًا للعدل بالوكالة أن أعزل قاضيًا في زليطن قام بشتم كبار الموظفين المحليين ومن بينهم المحافظ والحكمدار، الذين كانوا يشرفون على توزيع طلاب المدارس للعمل التطوعي وإرسالهم إلى أماكن العمل، وهو البرنامج الذي وضعه رئيس الوزراء السيد البكوش. ونظرًا لأن القاضي يتمتع بالحصانة ولا يجوز للبوليس والنائب العام التحقيق معه فقد رفع الأمر إلى رئيس الوزراء، ولهذا كلفني بعزله لأنه اعتدي على مسئولين رسميين وهم يؤدون مهامهم الرسمية. وعندما لفت نظر رئيس الوزراء إلى أنه ليس من سلطاتي كوزير عدل أو من سلطات رئيس الوزراء عزل قاض حسب القانون، فالسطلة القضائية لا سلطان عليها من السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية وتخضع فقط لسلطتها العليا وهي مجلس القضاء الأعلى الذي من حقه تعيين وترقية وعزل القضاة. كان رد السيد عبدالحميد البكوش بأني (رجل طيب) يتمسك بالمثاليات في عالم تحكمه شريعة الغاب.
وقد شرحت لرئيس الوزراء بأني اتصلت بالقاضي عندما وصلتني الشكوى وواجهته بها ولكنه أنكر أنه شتم أحدًا، واعترف بأنه انتقد الأسلوب في أخذ الأطفال الصغار إلى أماكن بعيدة مهجورة، وأنه أوقف ابنه من الذهاب معهم، وهذا من حقه، وقد بلغت القاضي بأني سأحيل الشكوى ضده إلى مجلس القضاء الأعلى للنظر فيها. وفعلًا بعد مشاوراتي مع النائب العام، الذي رفض بدوره أمر رئيس الوزراء بالقبض على القاضي، اتصلت برئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة العليا السيد محمد خليل القماطي، وهو شخص نزيه يحترمه الجميع، وشرحت له الوضع، وقد نصحني بأن أقتصر على نقله إلى جهة أخرى بدلًا من تركه في زليطن التي أثار فيها المشكلة، وهذا إجراء إداري من اختصاص وزير العدل ولا لزوم لتحويل الموضوع على مجلس القضاء الأعلى، لأن هذا يأخذ وقتًا طويلًا. أخذت برأي السيد القماطي ونقلت القاضي من زليطن إلى الجبل الغربي وأرجع إلى زليطن بعد أسابيع، وقد قبل رئيس الوزراء هذا الحل الذي اقترحه السيد محمد القماطي واعتمدته بدوري.
كذلك كان السيد البكوش لا يثق في موظفي الدولة، وأعتقد إن ذلك راجع إلى أنه لم يشتغل في الحكومة قط في الماضي. ولهذا سلك أسلوبًا مغايرًا في الإدارة ولم يلتزم بنصوص قانون الخدمة المدنية في بعض الترقيات والتعيينات التي كان يجريها، مما أثار موجة من الاحتجاجات بين الموظفين المتضررين. وكانت حجته أن الإدارة الحكومية فيها تضخم موظفين غير مؤهلين علميًا وليست لهم خبرة إدارية، ومعظمهم عين بطريق الواسطة الإقليمية والقبلية والمحسوبية ولا يؤدون عملًا انتاجيًا. ولكن رغم أن ما قاله رئيس الوزراء كان صحيحًا، إلا أن الوضع كان يستدعي علاجًا شاملًا وفقًا لقانون يخضع له الجميع.
وأود هنا أن أسجل أن جرأته في ترقية المستشارين القدامى في وزارة الخارجية إلى درجة السفراء واعتمادهم في كثير من الدول، بعد أن كانت وظائف السفراء مقصورة على السياسيين ورؤساء الحكومات والوزراء السابقين، أعادت الثقة إلى موظفي وزارة الخارجية. ومن منجزاته الهامة أيضًا أنه فتح المكاتب الحكومية أمام الصحفيين، وأصبح يعقد مؤتمرات صحفية ويصدر بلاغات عن أية إجراءات وأعمال تقوم أو تنوي الحكومة القيام بها. وكان يخاطب الشعب مباشرة والكلام باسم الشعب، الشئ الذي كان يتجنبه رؤساء الحكومات السابقين، لأن ذلك كان مقصورًا على الملك. كما أنه أصبح يقيم علاقات مع رؤساء تحرير الصحف والمثقفين وعين بعضهم في جهاز الدولة، كما اتبع نهجًا مغايرًا في تشجيع حرية الصحافة والمجالات الفكرية والاجتماعية.
أبدى السيد البكوش اهتمامًا أكبر بضباط الجيش وبالطلبة بإلقاء المحاضرات والاجتماع بهم، وخلق باب العمل التطوعي للطلاب في أيام العطلات الصيفية للعناية بالمرافق العامة والتشجير وتنظيف المدن وإزالة الأنقاض، وهو أسلوب سليم للسيد عبدالحميد البكوش قد يراه البعض سعيًا للشعبية والنفوذ، ويراه البعض الآخر عملًا إصلاحيًا. وقد لاقت هذه الخطوات الإصلاحية رضا معظم المثقفين وفئات الشعب والسفراء الأجانب ومن بينهم سفيري أمريكا وبريطانيا. أما بخصوص مواقفه السياسية فلم يكن السيد عبدالحميد البكوش قوميًا ولا يجاري الشعب في طموحاته الوطنية والقومية وانتماءاته العربية، ويعتقد أن الدول العربية لا تستطيع تقديم أي شئ لليبيا، وأن الدعم الذي تقدمه ليبيا للدول المتضررة من عدوان 1967 حسب قرارات مؤتمر الخرطوم وهو 30 مليون جنية سنويًا هو عبء ثقيل على الخزينة الليبية العامة ويجب التخلص منه.
إصدار لائحة علاوة السكن
من أهم إنجازات السيد عبدالحميد البكوش إصداره للائحة علاوة السكن للموظفين. لقد كان موضوع علاوة السكن وتخصيص البيوت الحكومية مشجعًا للفساد والمحسوبية والانتهازية، فقد كان يتمتع بالعلاوات والبيوت الحكومية نفر من الموظفين المحظوظين دون قواعد ولا قيود. كما كان تأجير البيوت الحكومية مشجعًا لكبار المسئولين والنواب ورجال الأعمال لأخذ قروض من الحكومة والمصارف وتشييد البيوت وتأجيرها للحكومة بأسعار عالية، مما ساعد على انتشار الفساد. وبصدور لائحة علاوة السكن أصبحت علاوة السكن تدفع لجميع الموظفين كجزء من المرتب حسب درجاتهم ليتولوا بدورهم دفع أجور بيوتهم التي يسكنونها، وألغيت عقود البيوت المؤجرة من طرف الحكومة. وهكذا أصبح الموظفون متساويين في المعاملة حسب درجاتهم. أما البيوت المملوكة للدولة فتملك لساكنيها على أن يتولوا دفع أقساط ثمنها من علاوة السكن التى تدفع لهم.
ودفع العلاوة لجميع الموظفين كلف الدولة مبلغًا كبيرًا يساوي الميزانية المخصصة لمرتبات جميع الموظفين، واستلم صغار الموظفين في قرى المملكة ومدنها مبلغًا إضافيًا يزيد عن مرتباتهم الأصلية كعلاوة للسكن. وقد استقال السيد سالم القاضي وزير المالية احتجاجًا على القرار بحجة أن غالبية الموظفين لهم بيوتهم الخاصة ولم يطالبوا بمثل هذه العلاوة. وضرب مثلًا بالفلاح في القرية الذي يسكن بيته العادي ويعمل في الدولة كمباشر أو عامل، وفي يوم وليلة تقرر له علاوة تزيد عن مرتبه، كما يوجد موظفون أغنياء لهم بيوتهم الخاصة وليسوا في حاجة إلى علاوة للسكن ما داموا يعملون في مدنهم الأصلية ولم يغتربوا. ورغم أن وجهة نظر السيد سالم القاضي لها ما يبررها في الظروف السائدة وانخفاض الموارد المالية آنذاك، إلا أن إقرار العلاوة للجميع فيه عدالة اجتماعية ورفع مستوى المرتبات لصغار الموظفين.
الضرائب التصاعدية
أصدر مجلس الوزراء في عهد السيد عبدالحميد البكوش قانون ضرائب الدخل. وقد استحدث هذا القانون الضرائب التصاعدية لأول مرة، مما أغضب كبار الملاك والتجار وبعض المسئولين القدامى، واتهم رئيس الوزراء بالشيوعية. وفي الحقيقة كان السيد البكوش من أنصار المعتدلين في المجلس في اقتراح نسب الضرائب على شرائح الدخل، بينما كان هناك فريق من الوزراء وأنا منهم يطالبون بنسب أعلى على الدخول الكبيرة لأن دخل البترول خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال والملاك تتضاعف ثروتهم بسرعة، وكان من الضروري تحصيل المزيد من الأموال منهم لصرفها على المشاريع الصحية والتعليمية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة التي أصبحت تتذمر من الفوراق الجديدة في الطبقات. بالإضافة إلى ذلك تم إصدار العديد من القوانين لتشجيع الاستثمار والصناعة وتنظيم الاستيراد والتصدير والإصلاح الإداري.
الدعوة إلى "الشخصية الليبية"
دعوة السيد عبدالحميد البكوش إلى "الشخصية الليبية" لم تكن في رأية دعوة إلى الإقليمية والتقوقع وضد القومية العربية كما اتهمه البعض، ولكنها كانت أولًا تهدف إلى القضاء على النعرات الإقليمية والقبلية القبيحة التي شجعتها بريطانيا وأمريكا في ليبيا بتقسيمها إلى ثلاث دويلات شبه مستقلة هي طرابلس وبرقة وفزان تحت مسمى النظام الاتحادي الفيدرالي، والتي بقت مخلفاتها رغم إلغاء هذا النظام. والهدف الثاني للشخصية الليبية الذي شجعته بريطانيا وأمريكا والغرب هو التخفيف من حدة الاندفاع الشعبي في ليبيا مع تيار القومية العربية الجارف بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي جعل الجماهير الليبية وخاصة الشابة منها تهتم كليًا بما يجري في الوطن العربي دون إعطاء أي اهتمام بما يجري في ليبيا. وسبب هذا التصرف الشعبي كان تفشي الإقليمية والقبلية وغياب مبدأ المنافسة الديمقراطية في رسم وتقرير السياسات الداخلية والخارجية وتولي المناصب والوظائف القيادية في الدولة، واحتكارها على أساس أقليمي وقبلي وشخصي. وأعتقد أن الاهتمام بالشئون الوطنية عنصر أساسي في بناء الصرح القومي على أسس سليمة، والدعوة إلى تقوية الشخصية الوطنية وسيلة لتقوية الدعوة القومية، ولكن لا يجب أن تتعارض معها.
كانت الدعوة التي أطلقها السيد عبدالحميد البكوش لما عرف آنذاك بـ "الشخصية الليبية" اعتبرها البعض محاولة لإخراج ليبيا من مجالها العربي وانتهاج سياسة تقدمية غربية أوروبية دون مراعاة للإرتباطات الوطنية والقومية والإسلامية للشعب الليبي، مما أثار معارضة الفئات القومية والعربية في الداخل والخارج، وهذه جبهة قوية، بالإضافة إلى معارضة الزعامات القبلية والعشائرية والإقليمية في ليبيا له لأسباب أخرى ومنها أنه لا يخدم مصالحها. وقد حاولت نصح السيد البكوش بأن مثل هذه السياسة غير واقعية ولن تساعده على البقاء في الحكم لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، ولكنه لم يأخذ بنصيحتي، لأنه كان يرى فيّ الشخص الطيب المثالي في عالم السياسة وهو يعتبر هذا ضعفًا.
لقد كنت واثقًا أن نظام الحكم في ليبيا يقوم على ركيزتين أساسيتين، الأول: العامل القبلي والجهوي، الذى شجعته بعض الحكومات الليبية والولايات السابقة واستشرى بين فئات كثيرة من الشعب، والثانية: العامل القومي وتحمس جماهير الشعب الليبي في المدن التى تسيطر عليها دعوة القومية العربية، وإن أي تجاهل لهذين الاعتبارين السياسيين من طرف أي زعيم أو سياسي ليبي لا يكتب له النجاح في النظام الليبي.
كان السيد عبدالحميد البكوش واثقًا من نفسه ومن ثقة الملك فيه، وكان يردد بأن رؤساء الحكومات السابقين يهولون من تدخل الملك في أعمال الحكومة وعدم تجاوبه لسياسة الانفتاح والتكلم باسم الشعب، وأنه شخصيًا لم يسمع من الملك شيئًا من هذا القبيل، بل كان يشجعه على الاقتراب من الشعب وعمل ما يراه صالحًا. وهذه ولا شك قراءة خاطئة منه لتفكير الملك ولا يعرف طريقة تعامله مع رؤساء الحكومات، وكنت أقول له سوف ترى وليس ذلك اليوم ببعيد، وهذا ما حصل له كما حصل مع غيره من رؤساء الحكومات.
تضارب المصالح ودور الحكومة في العهد الملكي الليبي
كانت مهام الحكومات الليبية المتعاقبة من أصعب المهام في ظل النظام الملكي الليبي، فهي تحاول التجاوب مع الحركات الشعبية القومية ودعوتها إلى الانفتاح على العالم العربي والوحدة العربية والتعاون العربي في كل المجالات، وتلبية مطالب فئات محلية قبلية وإقليمية يدعمها الملك ويشجعها ويحافظ على مصالحها وامتيازاتها، بالإضافة إلى ظهور طبقة جديدة من الشباب المثقف الذي يريد الإصلاح والمشاركة في شئون الحكم وإبداء رأيه بحرية وممارسة المسئوليات السياسية، وكذلك التعامل مع فئة رجال الأعمال والتجار التي لها وزنها لدى الملك وأصحاب النفوذ وأعضاء البرلمان، وخاصة بعد بداية تصدير البترول وتعاظم النشاط الاقتصادي.
السيد البكوش مع عدد من الوزراء والمسئولين في حفل عام بجامعة بنغازي وهم من اليمين في الصف الأول السادة: إبراهيم البكباك سكرتير عام مجلس النواب، حامد أبوسريويل وزير الشئون الاجتماعية، بشير المنتصر وزير الدولة لرئاسة مجلس الوزراء، عمر جعودة وزير الصحة، أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام وعبدالحميد البكوش رئيس الوزراء وعلى يمينه يجلس المستر ديفيد نيوسم السفير الأمريكي بليبيا
سياسة السيد عبدالحميد البكوش
أرى أنه يوجد تضارب بين سياسة السيد عبدالحميد البكوش الوطنية الليبية
المؤيدة للغرب وبين تمسك الشعب بالقومية العربية والوحدة العربية والإخلاص
للرئيس عبدالناصر، وبين سياسته الوطنية الإصلاحية ومطالب ومصالح القوى الإقليمية والقبلية وذوي النفوذ لدى الملك. كان السيد عبدالحميد البكوش متكلمًا بارعًا قادرًا على مخاطبة الطبقة المثقفة، وكان يحاضر الطلاب في الجامعة ويتكلم عن الإصلاح والقضاء على الفقر والجهل والمرض والتخلف واللحاق بالعالم المتقدم ويلاقي كلامه هذا تأييدًا وتجاوبًا من سامعية. وكان دبلوماسيًا عندما يتعرض في كلامه عن ارتباط ليبيا القومي بالعرب، ويرى أن الشعب الليبي لا يستطيع ان يشارك في خدمة القضايا العربية إلا إذا استطاع الاعتماد على نفسه وتحقيق تقدم مادي وحضاري، كما أن الدول العربية لا تستطيع مساعدة ليبيا في تحقيق مثل هذا التقدم المادي والحضاري لأنها هي نفسها تفتقر إليه، وليس أمام الشعب الليبي سوى الاستفادة من الغرب المتحضر والمتقدم وتحسين العلاقات معه.
شعر السيد عبدالحميد البكوش في أواخر عهده بفقدان نفوذه بين الفئات الشعبية القومية، وازدياد معارضة القوى القبلية له في برقة، فحاول تعزير مركزه في مجال السياسة الخارجية، خاصة أنه وجد دعمًا من بريطانيا وأمريكا اللتين وجدتا فيه المصلح والمنقذ للنظام الملكي الذي فقد ثقة الشعب وانتشر فيه الفساد السياسي والمالي، بالإضافة إلى عدم وضوح الرؤيا لمستقبل ولاية العهد، كما أن دعوته الوطنية إلى اعتماد "الشخصية الليبية" وعدم الاندفاع نحو مصر والحركات القومية في العالم العربي وتوجهه للتعاون مع الغرب كانت مصدر ترحيب الدول الغربية.
أما في المجال الداخلي فقد شعر السيد البكوش بحاجته إلى دعم من قوى سياسية معينة عندما فقد ثقة جيل الساسة القدامى وزعماء البلاد التقليديين. والغريب أنه كان يرى أن الخطر على حكومته يأتي من زعماء طرابلس التقليديين مثل السيد محمود المنتصر وغيره وليس من قبائل برقة أو البرلمان. وقد ذكر السيد البكوش ذلك للسفير البريطاني السير ساريل في مقابلة خاصة معه، وقد نقل السفير فحوى هذه المقابلة في تقرير له إلى وزارة الخارجية البريطانية نشر أخيرًا بعد مضي 30 عامًا عليه. ولهذا اتجه السيد البكوش إلى الحاشية الملكية، ووجد في الأخوين العقيد عبدالعزيز والسيد عمر الشلحي مستشار الملك الخاص ضالته، فأقام علاقات وطيدة معهما ووجد فيهما دعمًا سياسيًا لدى الملك، وهو ما كان يطمح فيه لتنفيذ سياسته وما كان يسعى إليه الأخوان الشلحي عمر وعبدالعزيز من توسيع نفوذهما في الحكومة، الشئ الذي فشلا فيه كما فشل أخوهما السيد البوصيري في عهود الحكومات السابقة لوقوف رؤساء الحكومات المتعاقبة ضد تدخلهم. فالأخوان عمر وعبدالعزيز الشلحي رغم رعاية الملك لهما الذي كان يساعدهما في تحسين أوضاعهما وخدمة مصالحهما، إلا أنه كان لا يسمع منهما كثيرًا عند تدخلهما في الشئون السياسية للحكومات المتعاقبة صراحة.
كانت أهداف الأخوين الشلحي وأصهارهم لا تقتصر على حماية وتوسيع مصالحهم وتقوية نفوذهم فقط بل كانوا يفكرون في مستقبلهم بعد وفاة الملك. فهم يشعرون بأن أفراد العائلة السنوسية يكنون لهم عداء خاصًا وأن أحد أبناء العائلة السنوسية قتل والدهم السيد إبراهيم الشلحي احتجاجًا لدوره في السلطة وعلاقته الوطيدة مع الملك. وقد لاقى السنوسيون الاضطهاد والظلم نتيجة ذلك مما زاد من سخطهم، وأن ولي العهد الأمير الحسن الرضا في رأي أبناء الشلحي لن يخرج عن إجماع العائلة السنوسية إذا تولى الحكم بعد وفاة الملك، وكانوا يصارحون الملك بمصيرهم غير الآمن. وكانت النساء منهم لا يترددن في لوم الملك صراحة بأن قتل والدهم كان بسبب خدمته له، ولهذا كان الملك يعطف عليهم جميعًا ويعتبر نفسه في مقام أبيهم، وكان هذا مصدر قوتهم ونفوذهم مع الحكومة وسعيهم لتحسين أوضاعهم.
كما بدأ السيد البكوش في آواخر أيامه السعي لكسب ود بعض سكان المناطق الشرقية الذين أهملهم في أول حكمه وذلك بوقف تسريح العمال الحكوميين غير المنتجين الذين تغص بهم المكاتب الحكومية في برقة، وتأجير الحكومة للبيوت الشاغرة في البيضاء التي بنيت بقروض حكومية في عهود الحكومات السابقة، واستئناف منح القروض العقارية، وصرف مرتبات مستشاري قبائل برقة غير المدرجة في الميزانية، وإعطاء القروض الزراعية والصناعية والتعيينات الحكومية.
علاقات السيد عبدالحميد البكوش
في المجال الخارجي ورغم أن السيد البكوش كان يحظى بدعم وتأييد سفراء بريطانيا وأمريكا والدول الغربية، إلا أنه شعر أنه في حاجة إلى دعم وتأييد سياسي على مستوى العواصم الغربية في واشنطن ولندن وباريس وبون. وبدأ جولاته الخارجية في دول المغرب العربي وتأييد اتحاد المغرب العربي الكبير لإبعاد ليبيا عن تعلقها بمصر والمشرق العربي، وبعدها زار فرنسا واجتمع بالرئيس الفرنسي شارل ديجول وبدأ ترتيباته لزيارة لندن وواشنطن التي لم تتم لأسباب سيأتي ذكرها.
إن نقطة الضعف لدى السيد عبدالحميد البكوش هي عدم فهمه لعقلية الملك فقد اغتر بتأييده ودعمه له في أول عهده، ولكن فاته أن الملك يحكم بفلسفة الحكم العربية القديمة المبنية على عدم ثقة الحاكم في وزرائه ومساعديه الأقربين الذين يوليهم شئون الحكم، وهو يقرأ التاريخ الإسلامي وقصة البرامكة في العهد العباسي ليست غريبة عليه. والتاريخ السياسي العربي ملئ بدور المؤامرات على الخليفة والحاكم من طرف أفراد عائلته ووزرائه وأقرب مساعديه. كما أن الملك خبير بمواقف الدول الأجنبية وخاصة بريطانيا نتيجة علاقاته الطويلة معها. ورغم أن الملك غربي في سياسته الخارجية صراحة، إلا أنه شعر بأن أمريكا وبريطانيا وجدتا في السيد عبدالحميد البكوش غايتهما، فهو شاب مثقف قريب من الجماهير حريص على "الشخصية الليبية" والتعاون مع أمريكا وبريطانيا وفي إمكانه خدمة مصالحهما، مما قد يدفعهما إلى مساعدته لتولي حكم البلاد.
كما أن معظم زعماء قبائل برقة والساسة الذين يترددون على الملك حذروه من رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش وأعربوا له عن عدم ثقتهم به، وأن معظم العواصم العربية ومنها القاهرة غير راضية عنه. وقيل إن الملك فيصل ملك المملكة السعودية أعرب للملك إدريس عن طريق سفرائه عن رأيه في السيد عبدالحميد البكوش، وأنه وجد فيه أثناء زيارته للسعودية شابًا مغرورًا جريئًا في حضور كبار القوم ولا يمثل دولة ملكية مثل ليبيا لها تقاليدها العربية الإسلامية ولا يؤتمن جانبه، وأشار إلى رفضه أداء العمرة عند زيارته للسعودية، وهو تقليد تحرص المملكة العربية السعودية على توفيره لجميع كبار الزوار المسلمين، وهذا ما أكده لي في جنيف بعد ذلك السفير السعودي المتقاعد الدكتور مدحت شيخ الأرض.
وكانت مصر، رغم علاقة السيد عبدالحميد البكوش الودية بالأخوين عمر وعبدالعزيز الشلحي اللذين يرتبطان بعلاقة قوية بالرئيس عبدالناصر منذ أيام السيد البوصيري الشلحي، تشعر بأن السيد عبدالحميد البكوش أصبح يدفع بليبيا في أحضان الغرب ( بريطانيا وأمريكا ) بشكل أقوى من غيره من رؤساء حكومات ليبيا السابقين، الذين حرصوا جميعًا على المحافظة على علاقات قوية بالقاهرة وتأييد القضايا العربية رغم ارتباطاتهم الغربية.
استقالة السيد عبدالحميد البكوش
كان الملك يتابع تحركات السيد عبدالحميد البكوش الأخيرة عن كثب وشعر بأن حرصه على زيارة لندن وواشنطن يهدف إلى إثارة موضوع مستقبل النظام في ليبيا، والاتفاق معهم على حلول للوضع القائم دون رضاه، وهو لا يثق في إخلاصه لتناول مثل هذا الأمر الهام على هذا المستوى العالي، وأنه، أي البكوش، قد يفكر في إقامة نظام جمهوري في ليبيا بالاتفاق مع الأمريكيين والبريطانيين، خاصة وأنهم أصبحوا قلقين على مصالحهم في ليبيا بسبب عدم وضوح مستقبل نظام وراثة العرش، وتعرض ليبيا للضغط من جانب الرئيس عبدالناصر. ولهذا سارع الملك بأن يطلب من البكوش تقديم استقالته في المقابلة التي كان المفروض أن يتناول فيها معه دراسة زيارته إلى لندن وواشنطن التي تمت إجراءات الإعداد لها. وبقبول استقالة السيد عبدالحميد البكوش بتاريخ 4 سبتمبر 1968م كلف الملك السيد ونيس القذافي بتأليف الحكومة الجديدة.
الفصل السابع
حكومة السيد ونيس القذافي
كان إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش تحذيرًا لبريطانيا وأمريكا وتأكيدًا لهما بأنه الشخص الوحيد الذي له الحق الفصل في تقرير مستقبل النظام الليبي والبت في علاقات ليبيا مع الدول الأجنبية. وقد كان رد فعل إعفاء السيد عبدالحميد البكوش وإلغاء زيارته لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سيئًا في لندن وواشنطن، وزاد من شكوك الدولتين في عدم رغبة الملك في الإصلاح، وأنه يفضل أن يستمر في إدارة شئون الدولة بأسلوبه القديم وعدم إعطاء حكومته والبرلمان مبادرة التحرك، وعدم قدرته على التجاوب مع المستجدات في البلاد، وهذا في نظرهما غير صالح للنظام واستقراره، ويعرض المصالح البريطانية والأمريكية والغربية بصفة عامة في ليبيا الغنية بالبترول إلى الخطر في حالة حصول أي حركة شيوعية أو قومية ضد النظام أو في الجيش، بتشجيع من جيرانها مصر برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر والجزائر برئاسة الرئيس أحمد بن بلة.
وأعتقد أن إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش من رئاسة الحكومة كان القشة التي قسمت ظهر البعير، إذ فقد الملك بهذا القرار حليفيه الأقربين بريطانيا وأمريكا ولم يأخذ رأيهما مسبقًا. ومنذ ذلك التاريخ أصبحتا في حل من حلفهما معه، ولم يعد الملك في مركز يعتمد فيه على مساعدتهما في أي أزمة قد تواجهه مستقبلًا، ويظهر أن بريطانيا وأمريكا قررا منذ ذلك التاريخ عدم الوقوف ضد أي تغيير داخلي أو أية حركة ضد النظام في ليبيا. وبالنسبة لأمريكا كانت لا تمانع حتى ولو كان التغيير ناصريًا، لأن علاقاتها مع الرئيس جمال عبدالناصر أصبحت تتميز بالتعامل المتبادل معه على أساس احترامه لمصالحها في المنطقة مقابل لجم التوسع والعداء الإسرائيليين.
حيرة الملك في اختيار رؤساء حكوماته
أعتقد أن الملك إدريس كان في حالة نفسية سيئة وغير قادر على التفكير السليم عند إعفائه السيد عبدالحميد البكوش من منصبه. ويبدو أن الملك فقد الأمل في الجميع، إذ جرب الساسة القدامى مثل السيد محمود المنتصر والسيد حسين مازق فوجد منهما تساهلًا مع التيار الناصري الشعبي ورغبة كل منهما في السير مع هذا التيار. كما جرب الساسة الشباب مثل الدكتور محي الدين فكيني والسيد عبدالحميد البكوش، فوجد في سياستهما خطرًا عليه وعلى النظام الذي رسمه لليبيا. وقد انعكست حالته النفسية أيضًا في اختيار السيد ونيس القذافي كشخصية إدارية لتسيير الأمور بصفة مؤقتة، وإعطاء نفسه مزيدًا من الوقت في التفكير في مشروعه الخاص بتعديل الدستور وإقامة نظام جمهوري، وفي اختيار العناصر المخلصة القادرة على التجاوب مع رغباته وسياساته، ومساعدته في الخروج من الحيرة التي يعيشها.
كانت استقالة السيد عبدالحميد البكوش غير متوقعة، خاصة أنها جاءت في فترة كان يستعد فيها لزيارة لندن وواشنطن، وقد أعدت الترتيبات للزيارتين من طرف لندن وواشنطن، كما دلت على سوء تقدير السيد عبدالحميد البكوش لعقلية الملك وتفكيره، ولهذا لم يكن يتوقع قرار الملك بإعفائه. وكان يرغب في الفترة الأخيرة تعديل الوزارة وإخراج الوزراء القدامى، وقيل أيضًا إخراج السيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام وأنا أيضًا وبعض الوزراء كما أخبرني السيد أحمد الصالحين، الذي كان على اتصال برجال القصر. لكن الملك تلكأ ولم يحدد للأستاذ عبدالحميد البكوش موعدًا للمقابلة لتعديل وزارته لفترة طويلة، ولهذا شعر السيد البكوش بإمكانية إعفائه من منصبه، وكان يتمنى أن يخلفه صديقه الدكتور علي أحمد عتيقة في مثل هذه الحالة، ويقال إنه أوصى به الملك عندما طلب منه تقديم استقالته. ولكن الملك لم يأخذ بنصيحته ربما لأنه كان يعتقد أن الدور لبرقة، فهو كما رأينا يوزع منصب رئيس الوزراء بين طرابلس وبرقة، وأتى بالسيد محمد عثمان الصيد ليرضي فزان أيضًا. (علمت من الدكتور علي عتيقة أخيرًا أن السيد عبدالحميد البكوش اقترح عليه فعلًا أن يعرض اسمه على الملك إدريس ليخلفه لرئاسة الحكومة ولكن الدكتور علي عتيقة طلب منه أن لا يفعل ذلك).
وبعد مقابلته للملك ورجوع السيد عبدالحميد البكوش إلى طرابلس استدعى السيد ونيس القذافي وزير الخارجية من القاهرة، حيث كان يحضر اجتماع وزراء الخارجية العرب، وطلب منه الذهاب رأسًا إلى طبرق لمقابلة الملك. وبتاريخ 4 ستمبر 1968 صدر مرسوم ملكي بقبول استقالة السيد عبدالحميد البكوش وتعيين السيد ونيس القذافي رئيسًا للوزراء، وقد أبقى السيد ونيس القذافي كالعادة نفس التشكيل الوزاري.
رجوعي إلى وزارة الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء
كنت في فترة استقالة السيد عبدالحميد البكوش وتعيين السيد ونيس القذافي في إجازة في لندن، وقد سمعت بخبر الاستقالة من السفير الليبي في لندن آنذاك الدكتور عمر محمود المنتصر، وكان والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي موجودًا أيضًا في لندن للعلاج. وقد سررت بخبر استقالة السيد عبدالحميد البكوش، لأن ذلك معناه خروجي من الحكومة وعليّ البدء في إيجاد عمل غير حكومي في المجال الخاص. ولكن فرحتي لم تدم طويلًا إذ أخبرني السفير في اليوم التالي بأن اسمي ورد في قائمة حكومة السيد ونيس القذافي الجديدة كوزير دولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء ومطلوب عودتي بسرعة لحلف اليمين، وهذا يعني عودتي إلى وزارة شئون الرئاسة بعد أن قضيت فترة وزيرًا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء في أواخر عهد حكومة السيد البكوش، على أساس أن قرار مجلس الوزراء بتكليفي بوزارة العدل بالوكالة كان سيعتمد في التعديل الوزاري الذي كان متوقعًا حسب ما ذكره السيد البكوش لمجلس الوزراء.
وأعتقد أن تكليفي بمهام وزير العدل بالوكالة كان المقصود منه إبعادي عن شئون رئاسة مجلس الوزراء، وخاصة بعد أن ساءت علاقة السيد البكوش مع السيد محمود المنتصر الذى تربطني به علاقات وطيدة. ومما زاد من اعتقادي هذا أن السيد البكوش، رغم تكليفي رسميًا بقرار من مجلس الوزراء بوزارة العدل بالوكالة، إلا أنه، أي السيد البكوش، استمر في توقيع القرارات الهامة لوزارة العدل بصفته وزيرًا للعدل. وقد طالت الفترة دون أن يتمكن السيد البكوش من الحصول على موافقة الملك على التعديل الوزاري حتى طلب الملك منه الاستقالة.
بقيت وزيرًا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء وهو وضع قانوني اختلفت فيه الآراء نظرًا لوجود الوزير الأصلي وهو رئيس الوزراء في البلاد وبقائي رسميًا وزير رئاسة مجلس الوزراء بمقتضى المرسوم الملكي. ويرى البعض أن مسئولية مجلس الوزراء مسئولية مشتركة ويجوز للمجلس تكليف أحد أعضائه بأي نشاط. هذا وبعد أن أخبرني السفير الليبي في لندن بخبر دخولي لحكومة السيد ونيس القذافي تفضل والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان برفقة ابنه السفير الليبي بلندن بزيارتي في مقر إقامتي في لندن لتهنئتي، وبعدها رجعت إلى طرابلس ومنها إلى طبرق لحلف اليمين، وكنت غير متحمس برجوعي إلى الحكومة وخاصة إلى وزارة الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء كما ذكرت.
عدم تحمس السيد ونيس القذافي لتكليفه برئاسة الحكومة
كان السيد ونيس القذافي غير متحمس لعمله كرئيس للوزراء وقيل أنه طلب من الملك إعفاءه نظرًا لحالته الصحية ولكن الملك أصر عليه للقبول. وأشك في ذلك، لأنه لم يسبق لأحد من الساسة في العهد الملكي أن رفض مهمة كلفه بها الملك. عرف السيد ونيس القذافي بكونه إداريًا من الطراز الأول، مترددًا في اتخاذ القرار، يعمل في مكتبه طوال ساعات اليوم ويستمر في العمل في بيته ليلًا. ليس له أعداء، وتربطه علاقة وطيدة بالسيد حسين مازق، فقد كان رئيسًا للمجلس التنفيذي لبرقة أثناء ولاية السيد حسين مازق لها. وعلاقته ودية مع السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي والحاشية الملكية. كما كانت علاقته وثيقة بالسيد عبدالحميد البكوش وجميع رؤساء الحكومات السابقين. استُقبل تعيينه بفتور في طرابلس، لأنه غير معروف شعبيًا، وكذلك في برقة، لأنه معروف هناك بعدم الحسم في سياسته وقراراته، ولكنه استُقبل بترحاب من بعض قبائل برقة لعلاقته الوثيقة بالسيد حسين مازق.
كان السيد ونيس القذافي غير طامح في السلطة. وأذكر أني عندما طلبت منه أن يساعدني في الرجوع إلى وزارة الخارجية رفض بشدة قائلًا إنه هو نفسه كان سعيدًا كسفير في بون، ولو خير بين منصب سفير ومنصب رئيس الوزراء لاختار منصب سفير في أي بلد كان ولكن هذا أمر الملك، وطلب مني عدم التفكير في النقل ما دام هو رئيسًا للوزراء. وبذلك يكون السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء الخامس بعد السادة محمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري وعبدالحميد البكوش الذي يرفض إعادتي إلى وزارة الخارجية ويصر على استمراري في العمل في رئاسة مجلس الوزراء.
سياسة السيد ونيس القذافي
حاول السيد ونيس القذافي في فترة حكمه عدم الاصطدام مع أحد، كما حاول إرضاء الجميع حسب قدرته وتوفر الإمكانيات وعدم تغيير أي موظف أو وزير، ولم تكن له سياسة مرسومة وغايات يريد تحقيقها كالسيد عبدالحميد البكوش. وكان يختلف مع السيد عبدالحميد البكوش في سياسته العربية، فقد كان يعتقد ـ كالسيدين محمود المنتصر وحسين مازق ـ أن الشعب الليبي قومي الشعور وناصري الاتجاه، ولهذا كان حريصًا على تأييد القضايا العربية. وعمله السابق في وزارة الخارجية ساعد على اهتمامه بالشئون العربية والوفاء بالتزامات ليبيا العربية، كما كان يرحب باستقبال زوار ليبيا من كبار المسئولين العرب.
كان السيد ونيس القذافي لا يعترض على موقف دول الجوار لفلسطين ودخولها في مفاوضات مع إسرائيل على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر بعد حرب 1967م، الذي كانت تعارضه معظم الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل ومن بينها ليبيا في عهد السيد عبدالحميد البكوش، وعذر السيد ونيس القذافي أن دول الجوار يجب أن تعطى حق وحرية تحرير أراضيها المحتلة من إسرائيل بأية طريقة تراها، ولا يجب إحراجها والمزايدة على مواقفها من طرف الدول العربية البعيدة عن إسرائيل.
حرب الاستنزاف والوضع الأمني في ليبيا
في فترة رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي كانت حرب الاستنزاف التي شنتها مصر على إسرائيل على أشدها وكانت تنذر بحرب إسرائيلية عربية آتية لا محالة. وكانت السلطات الليبية، وقد مرت بتجربة حرب 1967م وأثارها على اختلال الأمن وما أدت إليه من خسائر في الأرواح والأموال، قد تأهبت لعدم تكرار هذه التجربة والاستعداد لها مقدمًا. وأذكر أنه في شهر أغسطس 1969م وصلتنا في رئاسة مجلس الوزراء برقية من السيد عبدالسلام بسيكري السفير الليبي في القاهرة عن طريق وزارة الخارجية حوّلها السيد محسن عمير وكيل وزارة الخارجية آنذاك على رئيس مجلس الوزراء، نظرًا لغياب السيد علي حسنين وزير الخارجية في مهام خارجية، وتحذر البرقية من تأزم الحالة على قناة السويس وتوقع حرب وقائية تشنها إسرائيل.
وقد كلفني السيد ونيس القذافي بإبلاغ وزير الداخلية السيد معتوق آدم بذلك، وإعلان حالة التأهب القصوى (الطوارئ) لتجنب ما يحدث من إخلال بالأمن في حالة انفجار الحرب فجأة. كما تولى السيد ونيس القذافي نفسه إبلاغ قيادة الجيش ووزير الدفاع السيد حامد العبيدي. وفعلًا تم إبلاغ المسئولين في الداخلية والدفاع بتعليمات رئيس الوزراء لتنفيذها حالًا. وبعد أيام جاءت برقية من سفيرنا في القاهرة عن طريق وزارة الخارجية بأن الأمور هدأت على قناة السويس ولم يعد قيام حرب وشيكة واردًا، فأمر رئيس الوزراء برفع حالة التأهب القصوى. وقد تكرر هذا الإنذار من السفير الليبي بالقاهرة أكثر من مرة، كما تكرر إعلان حالة التأهب القصوى ورفعها، وفي أواخر أغسطس 1969م رفعت حالة التأهب القصوى نهائيًا.
السيد معتوق آدم السيد عبدالسلام بسيكري
مجاملات السيد ونيس القذافي لـزواره
كان السيد ونيس القذافي عفيفًا نظيف اليد نقي القلب، يقابل من يطلب مقابلته، رغم أنه متقلب المزاج ويحاول أن لا يفقد أعصابه المتوترة دائمًا نتيجة إكثاره من شرب القهوة إلى درجة الإفراط. ورغم ترحيبه بالجميع في حضورهم، إلا أنه كثيرًا ما ينتقدهم في غيابهم بأسلوبه الفكاهي اللاذع الذي يميزه عن غيره، وكثيرًا ما يستعمله في حل المشاكل مع الغير.
وأذكر مرة كنت معه أثناء مقابلته لمستشار قبيلة من برقة، وكان لقب المستشار يستعمل لمشايخ القبائل في برقة لإعطائهم أهمية خاصة رسمية، والمستشار من المترددين دائمًا على الملك فاستقبله رئيس الوزراء مرحبًا. وبعد أن مدح المستشار رئيس الوزراء للخدمات الجليلة التي يؤديها للشعب والملك، وهذا في رأي المستشار ليس غريبًا على السيد ونيس القذافي فهو خليفة الرجل الكبير العظيم السيد حسين مازق، وانتهى المستشار بالقول إن لديه ثلاثة مطالب. الطلب الأول يريد بيتًا كبيرًا لنفسه لأن له عائلة كبيرة وبيته الحالي صغير لا يتسع لها، وأن الحكومة لها بيوت جديدة جاهزة كبيرة وأشار إلى بعضها بالتحديد. فقال له رئيس الوزراء إن هذه البيوت أعدت للوزراء، وخاصة الطرابلسيين الذين تركوا عائلاتهم في طرابلس، لأنه ليست لهم مساكن في مدينة البيضاء، وأضاف لا شك أن السيد المستشار يريد بقاء الحكومة في البيضاء، وهذا لن يتحقق إلا إذا أعددنا بيوتًا للوزراء الطرابلسيين ليأتوا بعائلاتهم ويستقروا فيها، والبيوت التي أشار إليها المستشار قد خصصت فعلًا لأصحابها.
كان السيد ونيس القذافي يعرف أن المستشار حريص على بقاء الحكومة في البيضاء ومستعد للتنازل عن طلبه عن طيب خاطر في صالح بقاء الحكومة في البيضاء، ولكن السيد ونيس القذافي لا يريد أن يخيب أمل المستشار، فسأله إذا كان بيته الحالي به أرض فضاء يمكن البناء عليها لتوسيعه، لأنه في هذه الحالة سيطلب من وزير الإسكان بناء غرف إضافية فيه. وفعلًا قبل المستشار العرض وتكلم رئيس الوزراء بدوره مع وزير الإسكان آنذاك وكان المهندس أنور أبوبكر ساسي لتنفيذ هذا الطلب. والطلب الثاني للمستشار هو الموافقة على سفره للعلاج في الخارج ومرافقة ابنه له، فوافق رئيس الوزراء على الطلب واتصل بوزير الصحة لتنفيذه. وعندما أراد المستشار ذكر طلبه الثالث طلب منه رئيس الوزراء مازحًا تأجيل طلبه الثالث إلى مقابلة أخرى. ولكن المستشار أصر على طلبه الثالث وقال إنه يريد من رئيس الوزراء تعيين ابنه الذي لم ينجح في المدرسة (بسبب مضايقة المدرسين المصريين له) في رئاسة مجلس الوزراء في البيضاء ليكون إلى جانبه. وهنا استعان الرئيس بي للإجابة، فقلت له في الوقت الحاضر لا توجد وظيفة شاغرة في الرئاسة لابنه وسننظر في طلبه إذا توفرت شواغر مستقبلًا، وهنا وافق المستشار على تأجيل البت في الموضوع لجلسة قادمة.
وكان رئيس الوزراء يستشهد بي ليبرهن للمستشار على صدق أقواله، خاصة أني من طرابلس ومن الحكومة، وكان المستشار يتقبل رأيي مجاملة. فأنا في رأيه ضيف في البيضاء ويحترمني رغم صغر سني كما يقول ولأنني من عائلة معروفة. وبعد أن شكر المستشار رئيس الوزراء على مقابلته له وخرج من مكتبه انفجر السيد ونيس القذافي معلقًا على تصرف المستشار قائلًا إن هؤلاء المستشارين يزورون الملك ويدّعون بأنهم يخدمون مصالح المواطنين ويصرون على مقابلة رئيس الوزراء والوزراء لخدمة مصالح مواطنيهم كما يدعون، وهم كما رأينا يعملون على تحسين أوضاعهم ومصالحهم الخاصة، ولم يذكر المستشار طلبًا واحدًا يهم مواطنيه أو أفراد قبيلته، وإذا رفضت طلباتهم للمقابلة يذهبون إلى للملك ويقولون له إن الحكومة لا تهتم بمطالب الشعب وتغلق الأبواب أمامهم، والملك يصدقهم طبعًا.
لقد سردت هذه القصة كمثل لما يجري، لأن أمثالها كثيرة تحدث يوميًا في مكاتب الحكومة في البيضاء ويقضي رئيس الوزراء والوزراء معظم وقتهم لمقابلة مثل هؤلاء الناس والاستماع إلى مطالبهم وتلبية ما يمكن من طلباتهم الخاصة، وهذا هو السبب في إصرار زعماء القبائل والملك على بقاء الحكومة في البيضاء لتكون قريبة منهم. وقلّ أن يأتي إلى البيضاء مواطن عادي أو شيخ قبيلة من إقليم طرابلس للمراجعة باستثناء نواب البرلمان أو موظفي الحكومة. وفي طرابلس لم يتعود مشايخ القبائل والناس العاديين على طلب مقابلة رئيس الوزراء أو حتى الوزراء أو كبار موظفي الدولة أو التقدم بمثل هذه الطلبات لهم، وكل ما كانوا يسعون إليه هو الوصول إلى المسئولين الصغار في السلطات المحلية لمتابعة الأمور التي تهمهم وتهم قبائلهم. وكانت اتصالات السيد ونيس القذافي بالملك تتم عن طريق السكرتير الخاص للملك، وفي الفترة الأخيرة عن طريق السيد عمر الشلحي أيضًا بعد أن أصبح مستشارًا للملك.
أسلوب السيد ونيس القذافي فـي العـمل
كان السيد ونيس القذافي يتجنب المشاكل ويكره الاحتجاجات ومظاهرات الطلبة ويتخوف منها، ولا يحب أن يرفض رأيًا لوزير، ومستعد لسماع أي اقتراح دون إبداء رأي حاسم حوله. وكانت اجتماعات مجلس الوزراء تستمر أيامًا للحصول على إجماع الوزراء في أي قرار مهما كانت أهميته. وكان يعرض كل القرارات على مجلس الوزراء حتى الروتينية والإدارية التى جرى رؤساء الوزارات على توقيعها رأسًا أو بالاتفاق مع الوزير المختص دون عرضها على مجلس الوزراء، اختصارًا للوقت والجهد، والاكتفاء بتوزيعها على باقي الوزراء للمعلومية.
كان السيد ونيس القذافي يتمتع بأسلوب هادئ في الكلام والإقناع، وأحيانًا يلجأ إلى السخرية والتهكم واستعمال النكات لتجنب أي نقاش حاد. لا يثق في الغير بسهولة ولهذا يحرص على عمل كل شئ بنفسه. يناقش ما يعرض عليه ويريد معرفة كل التفاصيل حوله، ولهذا يصر على دراسة مذكرات الوزراء أثناء عرضها على مجلس الوزراء ويتعرض لتفاصيل المواضيع، مما يحرج بعض الوزراء الذين لا يعرفون تفاصيل ما يوقعونه من مذكرات تاركين ذلك لكبار موظفيهم والخبراء. وإذا أعطى خبرًا للإذاعة أو للنشر في الصحافة تابعه بنفسه حتى يذاع أو ينشر ليتحقق بأنه يتمشى والنص الذي أعده أو وافق عليه. وكانت عدم ثقته في الموظفين والوزراء راجعة لخبرته الطويلة في الإدارة، حيث تولى رئاسة المجلس التنفيذي لولاية برقة لفترة طويلة.
وكان معظم الموظفين في برقة يفتقرون إلى الخبرة في السنوات الأولي للاستقلال ويتصرفون وفقًا لآرائهم الخاصة دون تقديرهم للمسئولية وعدم الخوف من العقاب لاستنادهم إلى الدعم القبلي، بعكس ولاية طرابلس التي حافظت على بعض الموظفين من الليبيين الذين اكتسبوا الخبرة في الإدارة الإيطالية السابقة لفترة غير قصيرة ثم في الإدارة البريطانية حتى الاستقلال، وكان هناك إصرار على التقيد بالقوانين واللوائح وتنفيذها وتطبيق العقوبات على المخالفين مهما كانت انتماءاتهم ودرجاتهم، حيث المحسوبية نادرة والحماية القبلية معدومة.
وكان السيد ونيس القذافي إذا أراد إعداد كلمة للمناسبات العامة يقضى وقتًا
طويلًا في إعدادها وكتابتها ومراجعتها كأنه يعد مذكرة دبلوماسية، فيحذف كلمة
ويزيد أخرى ويتمعن معناها، حتى لا يساء تفسيرها في الداخل والخارج، ولا يلجأ للاستعانة بالأرقام الإحصائية إلا إذا تأكد من مرجعها. لا يحب الأضواء والدعاية ويكره أن يذكر اسمه أو مدحه في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، ويقول إن ليبيا بلد صغير يعرف الناس بعضهم بعضًا ورأيهم في المسئولين لن يتغير بالدعاية التي تثير السخرية بينهم. ولهذا كان أسلوبه لا يتفق مع أسلوب السيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، وقد حاول مع السيد الصالحين لتغيير أسلوبه دون جدوى.
بشير المنتصر وزير الدولة والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام
والسيد أحمد الصالحين لا يمكن تغيير أسلوبه المبني على المبالغة في إسباغ كل صفات الكمال والمدح للملك، وقد نال وسامًا من الملك على ذلك. ويبدو أن الثناء يعجب الجميع، حتى من عرف عنه الورع والتقشف، مثل الملك. كانت علاقة السيد ونيس القذافي مع مجلس النواب جيدة، فهو لا يحب النقاش في المجلس ويحاول حل أية خلافات مع أعضائه خارج القاعة، مما يضطره إلى الاستجابة لطلباتهم العامة لمناطقهم وطلباتهم الخاصة في حدود مقدرته وإمكانيات الدولة.
السيد ونيس القذافي لم يكن منحازًا
لم يكن السيد ونيس القذافي منحازًا لبرقة ولا يحابيها في تخصيص المشاريع التنموية، فهو غير قبلي، ولكن له أصدقاء كثيرين في مدينة بنغازي التي يحبها ويعطيها اهتمامًا خاصًا ولا يستطيع البعد عنها. لا تعجبه مدينة البيضاء ويغادرها في العطلات الأسبوعية والأعياد وكلما سنحت الفرصة إلى بنغازي. وكان يتضايق من زيارات مشايخ ومستشاري القبائل وطلباتهم التي لا تنتهي، رغم أنه يخاف شكواهم لدى الملك ويلبي ما يستطيع من طلباتهم. كذلك لا تعجبه مدينة طرابلس لأنه لم يعش فيها وليس لديه أصدقاء ومعارف كثيرين فيها.
علاقات السيد ونيس القذافي مع وزرائه
كان السيد ونيس القذافي صديقًا للأستاذ عبدالحميد البكوش وكان يستقبله كثيرًا للمشاورة، وكان يجامل الدكتور علي أحمد عتيقة ولكنه لا يتفق معه في بعض آرائه. كما كان معجبًا بالسيد خليفة موسى وزير البترول، الذي يتمتع بامتيازات خاصة من رؤساء الحكومات جميعهم بعدم حضوره جلسات مجلس الوزراء في البيضاء. وكان السيد خليفة موسى صريحًا بالمجاهرة برأيه بأنه ليس له ما يعمله في البيضاء فكل الشركات البترولية في طرابلس، ولهذا يفضل البقاء في طرابلس أو السفر للخارج لحضور المؤتمرات الدولية والاجتماعات العديدة لمنظمة الأوبك، ويتشاور مع رئيس الوزراء بالهاتف إذا استدعى الأمر، حتى مذكرات وزارة البترول إلى مجلس الوزراء يتولى رئيس الوزراء تقديمها والإجابة عن الاستفسارات حولها. السيد خليفة موسى، وكما ذكرت، صديق لي ويصر على أن أتولى أنا وزارة البترول بالوكالة في حالة سفره للخارج وخاصة في عهد السيد ونيس القذافي، ولا يرغب أن يتولاها الدكتور علي أحمد عتيقة وزير التخطيط وأقرب الوزراء إلى اختصاص وزارة البترول، وأعتقد أن سبب ذلك يرجع إلى عدم ثقته في الدكتور عتيقة وخوفه من أن يجري بعض التغييرات أو يتخذ بعض القرارات الهامة في غيابه.
كان السيد ونيس القذافي حريصًا على بقاء الوزراء في مدينة البيضاء ولا يرحب بسفرهم إلى طرابلس أو خارج ليبيا حتى للإجازة. وكانت علاقته مع الذين يعملون معه ممتازة يحترمهم ويستمع إليهم، ولم يفكر في استبدال موظف أو حتى سكرتير خاص طول فترة حكمه، لأنه يثق ويعامل الجميع على قدم المساواة.
لم يستجب السيد ونيس القذافي إلى مقترحاتي بتعديل اختصاصات رئاسة مجلس الوزراء، لأنه لا يريد أن يشعر الوزراء أنه يريد أن يحدد من اختصاصاتهم نتيجة تقوية جهاز واختصاصات رئاسة الوزراء، رغم أنه كان يوافقني على إدخال مثل هذه التعديلات ويعدني بدراستها ولكنه لم يفعل شيئًا بشأنها. لم أكن أعرف السيد ونيس القذافي معرفة جيدة قبل توليه رئاسة الوزارة لكنني حزت على ثقته، وبدأ بتكليفي دائمًا للقيام بأعباء وزارة البترول بالوكالة عند غياب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي أو بالقيام بأعباء وزارة الخارجية بالوكالة أثناء غياب الوزير الأصلي السيد علي حسنين في الخارج لحضور الاجتماعات الدولية والإقليمية التي لا تنتهي طوال العام. كان يثق في وكيل وزارة الخارجية السيد محسن عمير وكان يراجعه رأسًا دون الرجوع إلى الوزير، وخاصة في أول عهده عندما كان وزير الخارجية السيد شمس الدين عرابي بن عمران والذى استبدله بالسيد على حسنين في أول تعديل لحكومته.
كان السيد القذافي حريصًا على معاملة بعض الأشخاص بما لا يحرجهم مع الآخرين. وأذكر مرة أن السيد عمر الشلحي مستشار الملك الخاص كان في مكتبه قادمًا من طرف الملك من اليونان ليدرس مع الحكومة زيارات الملك إلى بعض دول البلقان وتركيا، فاستدعى السيد محسن عمير الذي كان معي في مكتبي دون استدعائي، رغم أني كنت وزيرًا للخارجية بالوكالة، وذلك لاعتقاده بأن السيد عمر الشلحي قد لا يرحب بحضوري لمناقشة مثل هذا الموضوع الخاص بالملك لعلاقتي الوطيدة بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، الذي تحرص الحاشية الملكية على عدم استشارته أو إطلاعه على الأمور التي يكلفهم بها الملك، خاصة أن رئيس الديوان لم يكن مع الملك في زيارته لليونان وتركيا، بل كان طوال هذه الفترة الهامة في إجازة في لندن وروما للعلاج.
بشير المنتصر وزير الدولة والسيدان أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام (في وسط الصورة) والأستاذ طارق الباروني وزير الصناعة
كان السيد ونيس القذافي يرجع إلى ولي العهد في بعض الأمور العادية أثناء غياب الملك، ولكنه كان وثيق الصلة بالأخوين عبدالعزيز وعمر الشلحي ويرجع إليهما عندما يريد الاتصال بالملك في الأمور الهامة، مما لا يرضي السكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف الذي كان دائمًا حلقة الاتصال بين رؤساء الحكومات والملك، ولكن السكرتير الخاص كان يعرف مدى مكانة الأخوين الشلحي عند الملك ويخشاهما ولا يعترض على تدخلهما في شئون الدولة والاتصالات بين الملك ورئيس الحكومة.
الملك يمدد فترة بقائه في الخارج
كانت رحلة الملك إلى اليونان ثم إلى تركيا في صيف 1969م قد طالت كثيرًا، وقد بعث هذا الغياب الطويل كثيرًا من الارتياب والتساؤلات في دوائر الدولة العليا. وأذكر أن السفير الليبي في اليونان السيد الطاهر القرامانلي قد بعث ببرقية إلى رئيس الوزراء يقول فيها بأن انطبعاته بعد مقابلته للملك أنه ينوي البقاء لفترة طويلة في الخارج، كما أنه يفكر في اتخاذ إجراء دستوري لكنه لم يصارحه في الموضوع. وبعد فترة أرسل الملك إلى رئيس الوزراء برقية يقول فيها بأنه سيقوم بجولة في يوغسلافيا والنمسا وإيطاليا، ولهذا أرسل السيد عمر الشلحي للتدارس معه حول هذه الزيارات. وفعلًا تقرر إعداد هدايا من المصنوعات الليبية التقليدية ليأخذها الملك معه إلى رؤساء الدول وزوجاتهم في البلدان التي سيزورها، وكلف وزير الصناعة السيد طارق الباروني بإعدادها، كما كلفت وزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات الرسمية بشأنها.
إشاعـة استقالة المـلك
أمور كثيرة كانت تجري في الخفاء وبسرية تامة. فقيام الأخوين عبدالعزيز وعمر الشلحي بأدوار الاتصال بين الملك ورئيس الحكومة في هذه الفترة وعدم إطلاع مجلس الوزراء وكبار رجال الأمن والجيش على ما يجري وراء الكواليس يشير إلى توقع أحداث هامة. وزاد ذلك تأكيدًا طلب الملك رجوع رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب من الإجازة في أوروبا إلي البيضاء بسرعة لحضور الاحتفالات بمناسبة 9 أغسطس عيد الجيش السنوسي.
وأشيع أن الشيخ عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ مر على تركيا وقابل الملك قبل عودته إلى ليبيا، مما جعل رئيس الوزراء يشك في الأمر ولهذا منع خروج الوزراء في إجازة في هذه الفترة التي توافق العطلة الصيفية المدرسية، والتي يحرص فيها المسئولون على السفر في إجازاتهم مع عائلاتهم. والغريب أن كل هذا كان يجري دون علم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان، الذي كان في إجازة طويلة للعلاج، كما أخبرني هو في مطار طرابلس يوم عودته من أوروبا يوم 27 أغسطس.
وقد رفض رئيس الوزراء أن آخذ إجازتي في شهر أغسطس أيضًا وهو الشهر الذي أفضله للإجازة، رغم أنه سمح لوزير البترول السيد خليفة موسى بالخروج في إجازة بصفة استثنائية. وكان عليّ ان أتولى وزارة البترول بالوكالة في غيابه، ولهذا كنت في بنغازي وطرابلس في الأسبوع الأخير من أغسطس للاهتمام بشئون وزارة البترول. كما أن السيد علي حسنين وزير الخارجية سافر إلى أديس أبابا لحضور مؤتمر القمة الإفريقي وأسندت مهام وزارة الخارجية بالوكالة إليّ ايضًا. وكان رئيس الوزراء يتولى تسيير العمل في وزارة الخارجية مع السيد محسن عمير وكيل وزارة الخارجية في البيضاء أثناء انشغالي بالعمل في بنغازي وطرابلس لشئون تتعلق بوزارة البترول واستقبال بعض كبار الزوار بصفتي وزيرًا للخارجية بالوكالة.
في هذه الفترة كان رئيس الوزراء قلقًا ويتوقع أخبارًا هامة من الملك لم يفصح عنها. وسرعان ما انتشرت الإشاعات بأن الملك سيستقيل أو أنه سيعلن تغييرًا دستوريًا هامًا، الشئ الذي كان موضع تكهنات منذ فترة طويلة. وفي الأسبوع الأخير من شهر أغسطس كنت في بنغازي لحضور اجتماع للمجلس الأعلى لشئون البترول والاجتماع بأعضاء المجلس الذين استقال بعضهم، بسبب عدم موافقتهم على قرار مجلس الوزراء الخاص بإعطاء عقود بترولية لا تتمشى مع توصيات المجلس الأعلى لشئون البترول.
مجلس الوزراء يبحث إشاعة استقالة الملك
سافرت إلى طرابلس لاستقبال السيد عبدالهادي بوطالب وزير الخارجية المغربي، الذي يزور ليبيا حاملًا دعوة الملك الحسن الثاني إلى الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي الذي كان سيعقد في المغرب، وكذلك الإعداد لزيارة الأمين العام للأمم المتحدة المستر يوثانت إلى ليبيا يوم 5 سبتمبر. وسمعت أثناء ذلك أن اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في البيضاء في غيابي أثير فيه موضوع الإشاعات حول غياب الملك وأن رئيس الوزراء أكد للوزراء بأنه لا يعلم شيئًا.
وقد طلب مجلس الوزراء من السيد ونيس القذافي السفر إلى تركيا لرؤية الملك واستجلاء الحقائق منه وفيما إذا كان الملك يفكر في الاستقالة حقًا، وإذا كان مصرًا فيجب أن تتم بطريقة دستورية والتنازل عن العرش لولي العهد بالطرق الرسمية وعدم تعريض البلاد لفوضى لا يعرف مصيرها إلا الله. وقد أكد رئيس الوزراء للوزراء بأنه طلب الإذن للسفر لمقابلة الملك ولكن طلبه رفض ووعدهم بإبلاغهم بأية تطورات قد تحدث.
زيارة الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب
وبعد وصولي إلى طرابلس استقبلت الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب الذي وصل إلى طرابلس يوم 30 أغسطس، ونظرًا لغياب الملك أعددت له مقابلة مع ولي العهد لتسليمه دعوة الملك الحسن الثاني إلى أخيه الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي في الرباط. وقد اعترضتني مشكلة مع سكرتير ولي العهد السيد بلقاسم الغماري، عندما أعلمني بأن ولي العهد يرغب في استقبال الوزير المغربي منفردًا دون حضوري معه، وقد أفهمته بأن العرف جرى أن يحضر وزير الخارجية مقابلة الوزير الزائر للملك أو ولي العهد، ولكن سكرتير ولي العهد أبلغني بأن هذا قرار الأمير وهو مصر عليه. وقد يكون رفض الأمير حضوري المقابلة يرجع إلى علاقتي الوثيقة بالسيد محمود المنتصر الذى يشك في إخلاصه له.
أثار هذا التصرف غضبي، واتصلت برئيس الوزراء وأبلغته بالأمر محتجًا، وطلبت من رئيس الوزراء إعفائي من مهام وزارة الخارجية بالوكالة احتجاجًا على تصرف ولي العهد، ولكنه كعادته بدلًا من أن يراجع الأمير لتغيير رأيه ذكرني بالظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد وطلب مني عدم إثارة مشكلة أخرى وأن أترك الوزير المغربي يقابل ولي العهد بمفرده كما طلب. أبلغت الوزير المغربي بوطالب قرار ولي العهد، وقد استغرب بدوره هذا التصرف وشعر بغضبي. وهكذا تمت مقابلته لولي العهد صباح يوم 31 أغسطس، وبعدها جاء السيد بوطالب إلى مكتبي وأبلغني بما جرى في المقابلة وسلمني صورة من دعوة الملك الحسن إلى الملك إدريس. ودعته بعد ذلك ليستريح في الفندق على أن نتلاقى في المساء في حفلة العشاء التي سأقيمها على شرفه في فندق الودان.
مشكلة توقيع عقد للتنقيب عن البترول مع شركة أمريكية
بعد ظهر ذلك اليوم ذهبت إلى وزارة البترول، وأبلغني السيد إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول آنذاك، بحضور السيد عيسى البعباع وكيل الوزارة المساعد، بأن مدير شركة البترول "شباكوا" التي وافق مجلس الوزراء على منحها عقد امتياز التنقيب يصر على توقيع العقد اليوم لأنه سيسافر غدًا إلى أمريكا. واستغربت هذا الطلب، وسألت لماذا لم يوقع الوزير الأصلي السيد خليفة موسى قبل سفره للإجازة العقد مع هذه الشركة كما وقع العقود الأخرى مع باقي الشركات التي منحت امتياز التنقيب، فالعقد كان كغيره من العقود موقعًا من طرف رئيس شركة البترول الوطنية السيد محمد الجروشي.
كان رد السيدين إبراهيم الهنقاري وعيسى البعباع بأن السبب ورود نص اختياري في العقد لم يرد في قرار مجلس الوزراء يستثني هذه الشركة من مشاركة الحكومة بعد اكتشاف البترول بكميات تجارية، وعليه قرر السيد خليفة موسى حفظه حتى رجوعه من الإجازة. كما أوضحا لي بأن الشركة يدعمها بعض أفراد من الحاشية الملكية، وقد اتصل بهما القصر الملكي صباح ذلك اليوم وطلب منهما التوقيع على العقد مع هذه الشركة أسوة بالشركات الأخرى، وكانا يعتقدان بأنني على علم بالموضوع. وبعد اتصالي بالسيد ونيس القذافي رئيس الوزراء وافقني على الإصرار على التمسك بشروط قرار مجلس الوزراء أسوة بالشركات الأخرى وعدم التوقيع تحت أي تهديد. وفعلًا طلبت من السيد عيسى البعباع إعداد رسالة إلى مدير الشركة المذكورة برفضي توقيع العقد لعدم تمشيه مع قرار مجلس الوزراء، وإرجاعه إلى رئيس شركة البترول الوطنية لإعادة صياغته وفقًا لقرار مجلس الوزراء، وإبلاغ فحوى الرسالة بالهاتف إلى مدير الشركة إذا عاود الاتصال.
تكريـم الوزيـر المغربـي
خرجت من وزارة البترول إلى فندق الودان حيث أقمت مأدبة عشاء فخمة على شرف الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب، حضرها كل الوزراء الموجودين في طرابلس، ونواب رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وكبار المسئولين، ورئيس أركان الجيش اللواء السنوسي شمس الدين ومدير عام الأمن في طرابلس اللواء سالم بن طالب وكبار ضباط الأمن. وبعد العشاء ودعته على أساس أن أراه صباح اليوم التالي لمرافقته إلى المطار للتوديع. ورجعت إلى البيت في تلك الليلة متعبًا بعد يوم ملئ بالعمل والمشاكل مع ولي العهد حول مقابلته للوزير المغربي وموضوع رفضي توقيع عقد الشركة البترولية التي يتبناها بعض أفراد الحاشية الملكية. وكان التلفزيون الليبي يركز في تلك الليلة على زيارة الوزير المغربي وحفلة العشاء الرسمية التي أقمتها على شرفه.
وقبل أن أنام اتصلت برئيس الوزراء في بنغازي وأعطيته تقريرًا مفصلًا عما جرى في ذلك اليوم في مجالي البترول والخارجية، خاصة زيارة الوزير المغربي وبعض التفاصيل عن برنامج زيارة السكرتير العام للأمم المتحدة المستر يوثانت إلى ليبيا يوم 5 سبمتبر، والذي كان من المفروض أن يكون رئيس الوزراء في استقباله في مطار طرابلس. ولكن السيد ونيس القذافي كان مترددًا في المجئ إلى طرابلس ويريدني استقباله نيابة عن الحكومة ومرافقته إلى البيضاء للاجتماع به هناك، وهذا ما كان يرفضه مكتب الأمين العام، الذي كان يصر على أن يكون رئيس الوزراء في استقبال السكرتير العام عند وصوله إلى طرابلس. وكانت المشاورات لاتزال تجري عن طريق السفير الليبي لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك الدكتور وهبي البوري، وبعد ذلك أويت إلى فراشي.
الفصل الثامن
الفاتح من سبتمبر 1969م
عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969م رن جرس الهاتف في بيتي فاستيقظت، إذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الأمم المتحدة بنيويورك الدكتور وهبي البوري لتأكيد تفاصيل زيارة المستر يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا يوم 5 نوفمبر، وهي التفاصيل التي سبق لي دراستها مع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي. وبمجرد إجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن اسمي ومتحججًا أنه يريد شرطة النجدة، الأمر الذي أثار غضبي فأجبته بأنه كان الأولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلًا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وأنهيت المكالمة.
وفي الساعة السادسة صباحًا رن جرس الهاتف من جديد، وكان المتكلم الحاج صالح اهميلة رئيس مستودع سيارات رئاسة مجلس الوزراء، وكان غاضبًا، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف السيد عبدالهادي بو طالب ومودعيه إلى المطار من الخروج، وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم استغرابي لمثل هذا الإجراء الأمر الذي جعلني أعتقد أن شيئًا جديدًا قد حدث أثناء الليل، وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا اتخذوا إجراءًا مستعجلًا بإعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي الأمن في البلاد، خاصة وأننا جميعًا كنا نتوقع أخبارًا هامة مثل استقالة الملك، أو إجراء تغيير في نظام الحكم، ولهذا طلبت من الحاج اهميلة أن يتقيد بأوامر الجيش وعدم إخراج السيارات حتى اتصل به بعد أن أتحرى عما يجري.
التعليقات (0)