الفصل الثالث
حكومة السيد محمود المنتصر
السيد محمود المنتصر من الشخصيات الليبية التي لعبت دورًا هامًا في استقلال ليبيا، فقد تركزت عليه الأنظار لوقوفه على الحياد بين الأحزاب والشخصيات السياسية المتصارعة. فرغم أنه كان عضوًا مع السيد بشير السعداوي في هيئة تحرير ليبيا، إلا أنه لم ينضم إلى حزب المؤتمر الوطني الذي ترأسه السعداوي، كما أنه لم ينضم إلى حزب الاستقلال الذي كان يرأسه عمه السيد سالم عمر المنتصر. وقد وجد فيه الملك (الأمير) إدريس والإدارة العسكرية البريطانية والمستر أدريان بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة الشخص المناسب الذي يمكنه الحصول على ثقة الأطراف المختلفة، والتي كان التوفيق بينها مستحيلًا.
وبالإضافة إلى مكانته ونفوذ عائلته في طرابلس، كان مقبولًا من ساسة برقة ومن عائلاتها السياسية التقليدية، وحتى من قبائل برقة التي تعرف أن عائلة المنتصر من الإخوان السنوسيين منذ أمد بعيد، عندما حل السيد محمد بن علي السنوسي الكبير ضيفًا على عائلة المنتصر في مصراته وهو في طريقة من الجزائر إلى برقة والأراضي المقدسة وبعد ذلك نشر دعوته وأقام الزوايا السنوسية في جميع أنحاء ليبيا. وكثيرًا ما أشاد مشايخ ومستشارو قبائل برقة بهذه العلاقة التاريخية بين السنوسية وعائلة المنتصر كلما اجتمعت بهم أثناء إقامتي في مدينة البيضاء. ويجمع هذه الفئات السياسية الملتفة حول السيد محمود المنتصر الخوف من البديل، السيد بشير السعداوي، نظرًا لشعبيته الواسعة في إقليم طرابلس والذي قد يتحول إلى حاكم مطلق في ليبيا إذا تولى الحكم.
علاقات السيد محمود المنتصر
كانت ثقة الملك القوية بمحمود المنتصر موضع حذر وشك في برقة، فإصراره على استقرار الحكومة في طرابلس يساعد على تقوية سلطات الحكومة المركزية الاتحادية وتهميش اختصاصات الولايات، كما فعل أثناء فترة حكومته الأولى، ومحاولاته لنقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس في فترة حكمه الثانية. وكان على علاقة غير ودية مع والي فزان السيد أحمد سيف النصر بحجة علاقه السيد محمود المنتصر السابقة مع إيطاليا. لكن السبب الحقيقي تاريخي يرجع إلى خلاف عائلي قديم بين السيد عمر باشا المنتصر قائمقام سرت في العهد العثماني وعائلة سيف النصر، لأن السيد عمر باشا المنتصر عارض محاولات آل سيف النصر ضم سرت إلى إقليم فزان كميناء بحري للإقليم وساند قبائل البدو ضدهم.
والسيد محمود المنتصر لم يكن موضع ثقة مصر لعلاقته الوطيدة ببريطانيا، إلا أنه كان يحظى بثقة الدول الملكية العربية المحافظة، ولم يكن موضع ثقة الأمريكيين أيضًا لكونه من الساسة التقلديين من أنصار البريطانيين. وهو ليس زعيمًا جماهيريًا، وخاصة في مدينة طرابلس، لهذا ترى فيه أمريكا خطرًا، لأنه لن يستطيع السيطرة على القوى المعارضة ويعرض البلاد لانقلاب شيوعي. وهو غير معروف من كثير من الشباب المثقف ويرون فيه شخصية تقليدية قديمة ومن أسرة محافظة لا تشارك جماهير الشعب مشاعرها ومشاكلها، وغير مقبول من رجال الأعمال، لأنه معروف بنزاهته المتناهية ولا يقبل مساومة أو واسطة لخدمة مصالحهم. وهو أيضا غير محبوب من ولي العهد الأمير الحسن الرضا، لأنه يعتقد أنه غير مخلص له وضد ولايته للعرش، وأنه يساند عائلة السيد أحمد الشريف السنوسي التي تعتقد أنها أحق بالعرش بعد وفاة الملك، وتدعي بأن الملك إدريس عندما استلم رئاسة العائلة والحركة السنوسية من السيد أحمد الشريف وعده بأن تكون خلافته لأبناء هذا الأخير، إلا أن الملك إدريس اعتبر أن ذلك العهد يختص برئاسة الحركة السنوسية وليس بولاية العهد لملك ليبيا.
بالإضافة إلى هذا كله، فإن السيد محمود المنتصر لا ينال رضا بعض أفراد عائلته الذين يعتقدون أنه تولى منصب رئاسة الوزارة بسبب انتمائه إلى العائلة، وخاصة عمه السيد سالم عمر المنتصر، الذي كان رئيسًا للجبهة الوطنية المتحدة، وكانت أكبر تجمع لزعماء طرابلس، ثم رئيسًا لحزب الاستقلال حتى حلت الأحزاب بعد أول انتخابات برلمانية سنة 1952م. وكان السيد سالم المنتصر يعتقد بأن ابن أخيه السيد محمود تولى رئاسة الحكومة بفضل دعم حزب الاستقلال له، وكان عليه اختيار معظم أعضاء وزارته وكبار المسئولين من أعضاء حزب الاستقلال وأنصار عائلة المنتصر بدلًا من تعيين معظم وزرائه وكبار موظفيه من أعضاء حزب المؤتمر المنشقين عن السيد بشير السعداوي.
وأهم من ذلك كله كانت علاقة السيد محمود المنتصر مع الحاشية الملكية وبالأخص إبراهيم الشلحي في وزارته الأولى (1951-1954م) على أسوأ حال، وقد عمل هذا الأخير على التدخل في شئون الحكومة الاتحادية وخلق مشاكل لها عن طريق الإيعاز إلى الملك بتعيين شخصيات معارضة في الولايات. وفعلًا عين الملك في طرابلس بإيعاز من إبراهيم الشلحي، السيد إبراهيم سالم المنتصر وكيلًا للديوان الملكي في طرابلس والسيد الصديق المنتصر واليًا على طرابلس دون موافقة رئيس الوزراء.
ورغم أن السيد الصديق المنتصر ليس ضد السيد محمود المنتصر، إلا أنه كان يعتقد أنه جدير بالولاية، وأصبح يتصرف كأنه رئيس دولة مستقلة في إقليم طرابلس وزعيم شعبي، مما أدى إلى صراعه مع الحكومة الاتحادية في سلسلة من الخلافات الدستورية وصلت إلى تحدي أحكام المحكمة العليا، وقد أدت في النهاية إلى استقالة السيد محمود المنتصر من رئاسة الحكومة. كما أن أنصار عائلة المنتصر في مصراته وأنصار حزب الاستقلال في جميع أنحاء إقليم طرابلس شعروا بخيبة أمل عندما شغلت وظائف الدولة بعد الاستقلال بخصومهم السياسيين من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السعداوي، وكان بعضهم يتولى مناصب هامة في الإدارة البريطانية وأصحاب المصالح التجارية والذين قاسوا على أياديهم الأمرين، الاضطهاد والمضايقة، لمجرد انضمامهم لحزب الاستقلال أو مناصرة عائلة المنتصر ومعارضة المؤتمر الوطني.
السيد محمود المنتصر ينتمي إلى عائلة كان لها نفوذ كبير في مناطق مصراته وسرت منذ العهد العثماني. وهو حفيد عمر باشا المنتصر الذي كان قائمقامًا على سرت في العهد العثماني وله نفوذ كبير في مناطق مصراته من الخمس غربًا وحتى سرت شرقًا بما فيها القبائل البدوية المعروفة، وكانت اتصالاته تتم مع السلطان العثماني في الأستانة أو الوالي التركي في طرابلس. وكان والد السيد محمود المنتصر السيد أحمد ضياء الدين المنتصر يتولى عدة مناصب هامة وله نفوذ في العهدين التركي والإيطالي بالإضافة إلى كونه شاعرًا وأديبًا ومؤرخًا.
السيد محمود المنتصر من مواليد العجيلات سنة 1903. عاش حياة محافظة وقد درس الجامعة في إيطاليا. كانت نزاهته تمثل دور المحافظين في خدمة المجتمع والطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة والوقوف ضد طبقة كبار التجار التي تحاول بمالها منافسة الطبقة المحافظة بهدف تولي مناصب السلطة التي كانت تحتكرها الطبقة المحافظة. كان السيد محمود المنتصر يساند أبناء العائلات العريقة، ورغم أنه لم يستعن بأبناء عائلته في الحكومة، إلا أنه كان يستعين ببعض العائلات القديمة مثل عائلات السنوسي والقرامانلي وكعبار والخوجة والمريض ولنقي والكيخيا وميزران، ورغم أنه يرتبط بهذه العائلات برباط المصاهرة، وهو لا يرى في ذلك محسوبية، لأنهم في رأيه مؤهلون لمثل هذه الوظائف والمناصب العامة نظرًا لمراكزهم الاجتماعية والسياسية بين المواطنين، إلا أن هذا الأمر عرضه للانتقاد من خصومه السياسيين.
وهذا الوضع ليس غريباً في عالم السياسة، فالعائلات المحافظة القديمة كانت ترتبط بالمصاهرة حتى في المجتمعات الديمقراطية الغربية. وأذكر أنه لما ألف المستر هارولد ماكميلان وزارته لحزب المحافظين بعد استقالة المستر أنطوني إيدن في يناير 1957 أدخل 35 عضواً من عائلته في حكومته، سبعة منهم أعضاء في مجلس الوزراء. وقد وصف اللورد أندرو كافنديش ( دوق ديفونشاير ) إجراء عمه ماكملان هذا بأنه أكبر محسوبية عرفت في التاريخ. ولما سألت أنا بعض الإنجليز عن سبب ذلك قيل لي إن ذلك ليس غريباً أو مقصوداً، فحزب المحافظين البريطاني يتألف من عائلات محافظة، وهذه العائلات ترتبط بالمصاهرة لأنهم يعيشون في مجتمع واحد ويرتادون نفس النوادي الخاصة. وليس غريبًا أن معظم زعماء ورؤساء حكومات بريطانيا من حزب المحافظين، ومنهم ونستون تشرشل وأنطوني إيدن وهارولد ماكميلان وأليك دوجلاس هيوم، يرتبطون بعلاقات المصاهرة والانتماء أى نفس العائلات الأرستقراطية. وكان زعيم المحافظين عندما يستقيل أو يتقاعد يعين خلفه لزعامة الحزب من عائلته أو طبقته الأرستقراطية دون الرجوع إلى أعضاء الحزب. وكان أول زعيم لحزب المحافظين انتخب من طرف أعضاء الحزب هو المستر إدوارد هيث واتبع هذا الأسلوب مع باقي رؤساء الوزارات من حزب المحافظين منذ ذلك الوقت.
سياسة السيد محمود المنتصر
كان السيد محمود المنتصر يعتمد في الحكم على تقديره الشخصي للأمور والتشاور مع زملائه وثقة الملك إدريس فيه، ويحترمه كل السياسيين بما فيهم خصومه. ولم يحاول أن يستغل مركزه في السلطة لبناء شعبية كما يفعل الساسة المحترفين. فلم يقم بزيارات داخلية حتى لمدينته مصراته، أو لقاء جماهير الشعب والاختلاط بهم والسؤال عن أحوالهم والاستماع إلى شكواهم ومطالبهم كما يفعل الساسة. كما أنه يكره المديح والتطبيل له في وسائل الإعلام، ولم يفتح مكتبه أمام زوار الدعم والتأييد كما يفعل من يسعى إلى النفوذ والحظوة الشعبية. وأذكر أن نواب منطقة مصراته الثلاثة قابلوه بعد توليه الحكومة لتهنئته ولما خرجوا سألني عن أسمائهم، فلم يكن يعرف أحدًا منهم بمن فيهم السيد عبداللطيف المنتصر عضو مجلس النواب وهو من عائلته.
كما أنه لم يفتح مكتبه أمام الصحفيين أو يصدر بيانات صحفية دورية عن سياسته ومناقشتها معهم، ولم يخاطب الجماهير الشعبية مباشرة أو عن طريق وسائل الإعلام. كما يكره المناقشة في البرلمان ويتجنبها، ويكتفى بإصدار بيانات مفصلة عما تقوم به حكومته في خطب العرش وفي الردود على الأسئلة التي تثار في جلسات مجلس الأمة، وكان بذلك يخالف أسلوب السياسيين المحترفين الذين يقولون ما لا يفعلون لكسب ثقة المجالس النيابية والشعب. لهذا فهو لم يكن معروفًا لدى جماهير الشعب وصفاته الفريدة لا يقدرها إلا من كان يعرفه عن قرب، كنزاهته إلى حد المبالغة، وحكمته النادرة، وحنكته السياسية الثاقبة، وخبرته الطويلة في الشئون العامة، وإخلاصه الأصيل للوطن، وحبه للناس، وصراحته الصادقة.
فبراير 1952م: السيد محمود المنتصر يلقي خطاب العرش في افتتاح أول دورة برلمانية وبجانبه عمر باشا الكيخيا رئيس مجلس الشيوخ وخلفه من اليمين السادة منصور بن قدارة وزير المالية وعلى الجربي وزير الأشغال وفتحي الكيخيا وزير العدل، والوقوف من اليمين السادة فتحي العابدية سكرتير الملك وعبدالعزيز جبريل
كانت نزاهة السيد محمود المنتصر النادرة مضرب الأمثال، فلم تبهره السلطة وحافظ على حياته العادية. فلم يشيد قصرًا لسكناه، كما عمل غيره من رؤساء الحكومات، وبقى في بيته القديم الذي يعيش فيه ولم يغير أثاثه القديم، وهو نفس البيت الذي نزل به الملك محمد إدريس السنوسي (الأمير آنذاك) ضيفًا في أول زيارة له إلى طرابلس في يوليو 1949 وهو في طريقه إلى لندن لإجراء مباحثات مع الحكومة البريطانية حول استقلال برقة، والتي وعد فيها جماهير الشعب في طرابلس بإبلاغ رغباتهم في الاستقلال والوحدة إلى الحكومة البريطانية. وكان زوار السيد محمود المنتصر من الدبلوماسيين وكبار الزوار العرب والأجانب يستغربون من بساطة حياته، فلم يوظف الخدم والحراس ولم يشتر السيارات الفاخرة، رغم أنه كان من أوائل الليبيين الذين اقتنوا سيارة في العهد الإيطالي. كان إنسانًا ذا قلب كبير يحب الخير للناس ويثق في كل الناس. لم يعرف الاستغلال في حياته، ولم يسع إلى اغتنام الفرص لاقتناء المال والثروة. كان الجاه يسعى إليه ولم يكن يسعى هو إلى الجاه.
تعلمت منه أن من يمد يده بغير حق إلى الأشياء الصغيرة لا يتردد إلى مد يده إلى الأشياء الكبيرة. كان يرفض أية مستحقات أو علاوات كان يرى أنه لا يستحقها، مع أنها كانت مقررة واستمرت تصرف لرؤساء الحكومات. كان رئيس الوزراء الوحيد الذي يتحمل مصاريف الضيافة في بيته في البيضاء من جيبه الخاص، بينما غيره من رؤساء الحكومات يرون أنها مصاريف عامة يجب أن تتحملها الدولة، وهذا لا يخالف القانون. كان شهمًا بعيد النظر يعمل بما يؤمن به رغم اختلاف الكثيرين معه. كان يطلب الكمال من الجميع في دولة لم يصل فيها الوعي درجة النضج. وكان خصومه يعرفون فيه هذه الصفات فيهاجمونه ويحترمونه، لأنهم لا يفكرون مثله، فمعظمهم كانوا من أصحاب المصالح الشخصية والقبلية والإقليمية. كان سلوكه الشخصي بعيدًا عن الأقاويل، وكان صادقًا في إبداء رأيه.
لاحظت عليه وسمعت من كثير من الشخصيات السياسية، عربية وأجنبية، عن مزاياه وقدراته واحترام الساسة الأجانب الذين تعامل معهم. وأذكر في إحدى جلسات مجلس الجامعة العربية علق السيد عبد الخالق حسونة باشا أمين عام الجامعة العربية على زيارته للعواصم الأوروبية فذكر السيد محمود المنتصر السفير الليبي في روما آنذاك وقال ما معناه: في روما سفير عربي يجب أن نفتخر به يحتل مكانة في إحدى العواصم الكبرى، وأضاف بأنه أثناء مروره بروما طلب مقابلة رئيس الوزراء الإيطالي عن طريق مكتب الجامعة العربية في روما فذكر له بأن رئيس الوزراء مشغول ويستعد للسفر في اليوم التالي. فلجأ إلى السفراء العرب للمساعدة في تحديد المقابلة، فأجمع السفراء العرب بأن الشخص الوحيد الذي لا يرد له رئيس الوزراء الإيطالي طلبًا هو سفير ليبيا السيد محمود المنتصر.
وأضاف أمين عام الجامعة العربية: "فاتصلت بالسيد محمود المنتصر فوعدني بالمحاولة، وعلمت بعد ذلك من غيره بأنه اتصل شخصيًا برئيس الوزراء الإيطالي، الذي أوضح له هذا الأخير، أنه مسافر إلى الخارج غدًا ومشغول مع الوزراء والبرلمان طوال اليوم، وقد خصص الليلة لقضائها مع عائلته خارج روما التي لم يرها منذ أيام قبل مغادرته إيطاليا في اليوم التالي، ولكن ما دام محمود المنتصر هو الذي طلب هذه المقابلة الهامة فإنه مستعد للإعتذار لعائلته وتناول العشاء مع السفير الليبي في بيته، ودعوة الأمين العام والسفراء العرب للاجتماع بهم جميعًا على العشاء". وأضاف السيد عبد الخالق حسونة: "وهكذا قضينا الليلة حتى ساعة متأخرة أنا والسفراء العرب في حديث مطول مع رئيس وزراء إيطاليا، واستطعنا أن نخرج بنتائج طيبة للقضايا العربية وموقف الحكومة الإيطالية منها، والفضل في ذلك يرجع إلى السيد محمود المنتصر". هذه شهادة سمعتها بأذني وسجلت في محضر اجتماع الجامعة العربية.
أما بالنسبة لنزاهة السيد محمود المنتصر، فأذكر أن أحد الوزراء في حكومته عندما عاد من زيارته إلى القاهرة أحضر لي طردًا صغيرًا وطلب مني تسليمه إلى السيد محمود المنتصر رئيس مجلس الوزراء. وفعلًا أخذت الطرد وسلمته إليه في بيته، فلما فتحه وجد فيه قلادة ذهبية مرصعة بالمجوهرات فظهر عليه الغضب، وقال لي خذ هذا الطرد بما فيه إلى هذا الوزير وقل له إني أشكره لكني لا أستطيع قبول الهدية. وعندما ذكرته بأن هذا فيه إحراج والوزير صديقه القديم ويقصد تقديم هدية لا رشوة فقال: "يا ابنى، الهدايا بين الأصدقاء يجب أن لا تزيد عن بضعة جنيهات مثل مذكرة جيب.. قلم حبر عادي.. كرفاته عادية أو منديل عادي، أما إذا زادت عن ذلك فلابد أن وراء الهدية مصلحة ولهذا فهي رشوة".
وفعلًا أخذت الهدية وذهبت إلى الوزير في بيته في البيضاء وبلغته رسالة رئيس الوزراء فخجل الرجل وأقسم بالأيمان أنه لا يعتبر هذه رشوة بل إنه اشترى لزوجته مثل هذه القلادة فقلت اشتري مثلها لزوجة صديقي محمود المنتصر، ورفض الوزير تسلمها ورفضت أنا أخذها معي مرة ثانية لأني أعرف أن رئيس الوزراء لن يرجع عن قرار اتخذه. فأصر الوزير إلى المجئ معي إلى بيت رئيس الوزراء، فوجدناه قد دخل حجرة نومه ورفض مقابلتنا، فاضطر الوزير إلى أخذ هديته معه. وكانت نتيجة هذه الحادثة أن أخرج محمود المنتصر هذا الوزير في أول تعديل وزاري له.
تزوج السيد محمود أحمد المنتصر من ابنة السيد حسونة باشا القرمانلي وأنجب منها خمسة أولاد وخمس بنات، ولما كان سفيرًا في لندن وروما سمي السفير الأب لعشرة أبناء. كان يحب أولاده حبًا عظيمًا. وأذكر لما كنا في المعتقل في أوائل أيام الثورة لم يكن يفكر في نفسه وهو وراء القضبان بل كان يفكر في ابنه الأكبر الدكتور عمر المنتصر الذي كان سفيرًا في لندن، وقد علمنا ونحن في المعتقل أنه استدعى إلى ليبيا على عجل وعرف والده يوم وصوله فلم يغمض له جفن حتى سمح له بالتحدث إلى بيته وابنه هاتفيًا. ولما علم أن ابنه عمر رجع إلى بيته آمنًا ارتاح ونام راضي البال ولم يعد يهمه شيئًا في ما قد يحصل له هو شخصيًا. والدكتور عمر محمود المنتصر كان وزيرًا وسفيرًا في العهد الملكي، وفي سنة 1978م رشح من طرف ليبيا وعين سفيرًا لمنظمة الوحدة الإفريقية وممثلها لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف وتوفي في سنة 1999م.
وأبناء السيد محمود المنتصر هم الدكتور عمر المذكور تزوج من ابنة الحاج مصطفى ميزران، وأحمد وتزوج من ابنة السيد الطاهر القرامانلي، والمهدي وتزوج من ابنة الأستاذ فؤاد الكعبازي، وبلقاسم وتزوج من ابنة السيد محمود الخوجة، وعبدالسلام وقد تزوج من ابنة السيد محمد المرابط (هو أب لاعب الكرة المحترف المشهور جهاد) وقد توفي عبدالسلام في حادث سيارة في طرابلس. أما بناته الخمس فتزوجن السادة عبداللطيف رشيد الكيخيا وعبدالمولى عوض لنقي وفتحي الخوجة وأحمد محي الدين السنوسي والزبير يوسف لنقي. وقد أشرف السيد محمود المنتصر على تعليم أبنائه تعليمًا عاليًا وعاش رجلًا عائليًا متواضعًا يحب أسرته ويرعاها بالود والحب والعطف وتوفي رحمه الله سنة 1970م.
محمود المنتصر والمعاهدة البريطانية
قوبل تعيين السيد محمود المنتصر رئيسًا للوزراء للمرة الثانية في أوائل 1964 بعدم الرضا من معظم طبقات الشعب، واعتبرت الجماهير تعيينه تحديًا لإرادتها من طرف الملك، خاصة أنه جاء بعد حكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي وقف في صف الشعب ضد الشرطة وسياسة العنف. كان الاعتقاد أن محمود المنتصر جاء لتجديد المعاهدة البريطانية وإنهاء الانتفاضة الشعبية، بل حتى البريطانيين والأمريكيين لم يلق هذا التعيين ترحيبًا لديهم. ورغم أنهم لم يتوقعوا منه شرًا على مصالحهم في ليبيا، إلا أنهم كانوا يتخوفون بأن يتهموا من طرف الشعب الليبي بأنهم أوصوا به الملك وأتوا به خدمة لمصالحهم وللقضاء على الجو الوطني الذي نشره الدكتور محي الدين فكيني، مما يزيد من نقمة الشعب على البريطانيين والأمريكيين. ولهذا كانوا غير راضين على الملك بإعادة تعيينه رئيسًا للوزراء بعد حكومة الدكتور محي الدين فكيني، الذي كانوا يعتبرونه الرجل المناسب للمرحلة التى تمر بها ليبيا والأوضاع في العالم العربي والتفاعل مع الجماهير الشعبية، وكانوا يؤيدون خطوات الدكتور محي الدين فكيني التي اتخذها في الأزمة التي قامت أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي الأول لكبح تصرفات الشرطة.
ولهذا عندما استقال الدكتور فكيني كانت بريطانيا وأمريكا تتوقعان تعيين رئيس حكومة بديل من الشباب وشعبي حتى يسير على خطوات الدكتور فكيني ويقوم بإصلاح الوضع الداخلي الذي بدأ يتدهور ويعرض المصالح الغربية للخطر، ووقف الفساد الذي بدأ ينتشر ويهدد مصالحهم التجارية التي أصبحت تنمو بعد ازدياد دخل ليبيا من البترول، خاصة أن بريطانيا لم تعد في حاجة ماسة إلى قواعدها العسكرية في ليبيا بعد حرب السويس وانتهاء سيطرتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط وهيمنة أمريكا على المنطقة، وأصبحت قواعدها في ليبيا التزاما ماليًا وعسكريًا لا مقابل منه ولا تخدم مصالحها الاستراتيجية كما كان عليه الحال في سنة 1952م.
كان عدم ترحيب بريطانيا وأمريكا بحكومة السيد محمود المنتصر لا يرجع إلى الشك في حرصه على المحافظة على علاقات الصداقة المتينة بين ليبيا، وبريطانيا وأمريكا، بل بالعكس، فقد كانت بريطانيا وأمريكا تعتقدان أن هذه السياسة التي عرف بها لدى الشعب الليبي وبأنه حليف وصديق لبريطانيا لا تجعله الشخص الذي يخدم المصالح البريطانية والأمريكية في الظروف الجديدة التي يمر بها الشرق الأوسط وليبيا. وفي هذه الظروف قبل السيد محمود المنتصر تأليف حكومته الثانية على مضض. فالظروف لم تكن عادية والشعب في انتفاضة يتفاعل مع الأحداث العربية والرئيس عبدالناصر اتخذ من مهاجمة الاستعمار والصهيونية سلاحًا لتوسيع نفوذه للسيطرة على المنطقة العربية. كما أن صحة السيد محمود المنتصر لم تكن على ما يرام، فقد كان يشكو من مرض ضغط الدم وأمراض السكر.
كان السيد محمود المنتصر من الساسة القدامى الذين يؤمنون بالتعاون مع الدول الغربية، خاصة بريطانيا. ورغم أنه كان يعمل على أن تكون علاقات ليبيا مع أشقائها العرب قوية وفعالة ويحرص على التزام ليبيا بالقرارات العربية والمساهمة في النشاط السياسي العربي، إلا أنه كان غير مؤمن بقدرة العرب على مساعدة ليبيا اقتصاديًا أو فنيًا، فالعرب جميعًا يعانون من التخلف والفقر والجهل والمرض وهم بدورهم في حاجة للمساعدة، وكان يتوق إلى فرصة لتصحيح سمعته لدى الشعب الليبي التى ساءت بعد توقيعه المعاهدة البريطانية الليبية في حكومته الأولى، ويرى أن فرصة عودته إلى الحكم من جديد قد تمكنه من إلغاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية أو تعديلهما وإنهاء وجود القواعد العسكرية في ليبيا، خاصة أن الأسباب التي فرضت المعاهدة البريطانية في سنة 1953م كانت هى حاجة ليبيا الماسة والضرورية إلى المساعدة المالية لتمويل ميزانية الخدمات الأساسية للبلاد.
ورغم ذلك كان يرى في قرارة نفسه أن إلغاء المعاهدات والاتفاقيات البريطانية والأمريكية قد يعرض ليبيا لأخطار إقليمية عسكرية وهيمنة من دول الجوار، وخاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة بترولية، ولكنه كان مصرًا على إلغاء المعاهدات وتحقيق الجلاء تلبية للرغبة الشعبية العارمة. والشئ الذي كان يخشاه هو مدى استطاعته إقناع الملك باتخاذ مثل هذا الإجراء الخطير، فهو يعرف تمسك الملك بالعلاقات الليبية الغربية وتحالف ليبيا مع بريطانيا وأخذ الحيطة من نفوذ مصر على ليبيا.
ومن حسن حظ السيد محمود المنتصر أن بادر الرئيس جمال عبدالناصر بالمطالبة بجلاء القوات البريطانية عن ليبيا، مما ساعده على اتخاذ قراره حال توليه الحكم. وقد سارع السيد محمود المنتصر حال توليه الحكم إلى إعادة الأمن إلى نصابه في البلاد وتلطيف الجو الشعبي الملتهب في بنغازي ضد قوات الأمن، وقد ساعدته على ذلك علاقاته القوية مع زعماء برقة وصداقته لمدير عام الأمن الفريق محمود أبوقويطين، الذي يرى في السيد محمود المنتصر الشخص الوحيد الأمثل من إقليم طرابلس المخلص للملك وحماية عرشه، كما يرى أن سياسته تختلف كثيرًا عن سياسة الدكتور محي الدين فكيني الرامية إلى إضعاف النظام الملكي وسلطات الملك، وخلافه الوحيد مع السيد محمود المنتصر كان حول نقل الحكومة الاتحادية من البيضاء إلى طرابلس.
الفريق أبوقويطين من قبيلة البراعصة التي تقطن البيضاء وبها يوجد مكتبه. كان يرى أن البيضاء مدينة صغيرة ونقل الحكومة منها سيؤثر في اقتصادها ونفوذها ومصالح قبيلته، ومع هذا قبل التعاون مع السيد محمود المنتصر، خاصة أنه أتى بزعيم برعصي هو السيد حسين مازق إلى حكومته كوزير للخارجية بعد غيابه عن السلطة لفترة غير قصيرة، مما يبعث الأمل في صعوده من جديد وتوليه رئاسة الحكومة الأمر الذي يضمن إعادة الحكومة إلى البيضاء مستقبلًا. وقد تم ذلك فعلًا.
انـتدابي برئاسة مجلس الـوزراء
رجعت من إجازتي في بريطانيا حوالي منتصف يناير 1964م وعلمت بالأحداث التي وقعت في عهد حكومة الدكتور فكيني أثناء وجودي في الإجازة، فقد قامت مظاهرات صاخبة في بنغازي وحدث تصادم بين الجماهير وقوات الأمن وسقوط قتلى. وتجاوبت جماهير طرابلس وبقية المدن الليبية في التظاهر تضامنا مع بنغازي وكان الحماس على أشده لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة. بقيت في طرابلس لأقضي أسبوعًا مع العائلة قبل سفري إلى البيضاء وكان ذلك في شهر رمضان المبارك. وفي هذا الأسبوع استقال الدكتور محي الدين فكيني من رئاسة الحكومة وكلف السيد محمود المنتصر بتأليف الحكومة ولم أعرف بذلك ولم يكن هذا يعنيني كثيرًا.
وفي يوم 22 يناير وبينما كنت أستعد للسفر إلى البيضاء جاءني المهدي، أحد أبناء السيد محمود المنتصر، وأبلغني بأن والده يرغب في رؤيتي بصفة مستعجلة، فاستغربت ذلك، لأن السيد محمود المنتصر مبتعد عن الحكم منذ فترة وهو في حكم المتقاعد، فما هو الداعي يا ترى لاستدعائي بهذه الصفة المستعجلة قبل موعد الإفطار بدقائق؟ وحال ما ركبت السيارة مع المهدي أخبرني باستقالة الدكتور فكيني وتكليف والده بتأليف الحكومة الجديدة وقد أذيع الخبر في الإذاعة. وعندما سمعت ذلك جالت في خاطري تساؤلات: هل يريد السيد محمود المنتصر تعييني في وظيفة؟ هل سأعود إلى وظيفة السكرتير الخاص التي تركتها قبل سفري إلى لندن؟.. إلى غيرها من الاحتمالات حتى وصلنا إلى منزله، فوجدنا معه بعض الضيوف الذين جاءوا للتهنئة.
وأول سؤال فاتحني به السيد محمود المنتصر بعد أن أعطاني قائمة وزراء حكومته ما رأيي فيهم، وكان يمزح، لأنه يعرف أني شاب ولا يعجبني تشكيل الحكومة من شيوخ السياسة المتقاعدين. وأقول الحقيقة فقد ذهلت عندما اطلعت على القائمة، وعندما سألته: لماذا هؤلاء؟ قال إنه لا يعرف غيرهم وقد حاول إقناع الملك بإعفائه ثلاث مرات ولم ينجح، وذكر أنه مريض ولا تسمح حالته بهذه المسئوليات العظيمة في مثل هذه الظروف لكنه دائمًا في خدمة الملك والوطن ولو كان على فراش الموت، ولهذا قبل بعد إصرار الملك. وأضاف أن الظروف السياسية خطيرة للغاية والأمور تسير من سئ إلى أسوأ والحكومة السابقة لم تعمل شيئًا لاستتباب الأمن بل زادته غليانًا ومن الله وحده أرجو التوفيق. وكان أولاده غير راضين عن قبوله الحكم خاصة ابنه الأكبر الدكتور عمر الذي كان وزير العدل في حكومة الدكتور محي الدين فكيني المستقيلة. وأخيرًا فاجأني وطلب مني القدوم اليوم التالي إلى مكتب رئيس الوزراء واستلام المكتب من السيد علي أبوسرويل سكرتير خاص الدكتور فكيني، وكنت أعرف الأخ علي فهو زميل لي في الخارجية، وكان طلب السيد رئيس الوزراء صدمة لي.
فأنا كما بينت سابقًا لا أريد هذه الوظيفة ولا أريد ترك عملي الدبلوماسي بالخارجية، وقد صارحته بذلك وأصر بأنه لا يعرف أحدًا غيري لهذه الوظيفة ويريد شخصًا موثوقًا به وأنه يمكنني تعيين مساعد لي لشئون التشريفات والمقابلات. وقد بينت له وجود وكيل وزارة للرئاسة هو السيد علي المسلاتي ومن واجباته مساعدة رئيس الوزراء في كل ما يحال عليه من مراسلات وهو شخصية قوية ويمكنه الاعتماد عليه، كما أن تعيين السيد عمر الباروني وزير دولة لشئون الرئاسة في حكومته سيمكنه من المساعدة في هذا الشأن. قال لي إنه يعرف السيد علي المسلاتي وليس عنده شئ ضده ولكنه كان من المقربين للرئيس السابق الدكتور محي الدين فكيني وهناك كثيرون لا يثقون به ولهذا يريدني إلى جانبه.
ورغم أني لم أعمل مع السيد محمود المنتصر في الماضي في الحكومة أو السفارات، إلا أنه ذكر لي أن كل الذين عملت معهم في الحكومة أكدوا له أني أتمتع بصفات الأمانة والكفاءة والإخلاص.. أخيرًا شكرته وغادرت بيته. ولم يلق قبولي لهذه المهمة رضا إخوتي بسبب الأحوال السياسية السيئة التي تمر بها البلاد وغضب الناس على الحكومة، بل إن أخي الهادي الذي كان يدرس في جامعة دمشق عندما سمع بخبر قبولي العمل مع رئيس الوزراء أرسل إليّ برقية مفتوحة يعرب فيها عن أسفه لقبولي الوظيفة.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء وتعجب الموظفون من قدومي وكان موقفي من الأخ علي أبوسرويل محرجًا، خاصة أنه ذكر لي علاقات القرابة التي تربط عائلته أبوسرويل بالسيد محمود المنتصر. وكنت أرغب الاحتفاظ به كمساعد إن قبل هو ووافق رئيس الوزراء، لكنه نظرًا لعمله مع الرئيس السابق أصبح بقاؤه في الرئاسة غير مستحسن. وبعد ذلك قابلت السيد علي المسلاتي وكيل الوزارة لشئون الرئاسة الذي رحب بي، إلا أنه كان غير مطمئن لوجودي. وبعد ذلك طلبت من السيد أحمد أبوشاقور عن طريق وكيل وزارة الخارجية أن يتولى مهام مساعدي لشئون المقابلات بمكتب رئيس الوزراء.
كان السيد علي المسلاتي في عهد الرئيس الدكتور فكيني قد قام بإجراء تعديلات جوهرية في جهاز رئاسة مجلس الوزراء ونقل سكرتير مجلس الوزراء ووكيل الوزارة المخضرم السيد مصطفى بن سعود إلى وزارة الشئون الاجتماعية وضم شئون مجلس الوزراء إلى مكتب وكيل الوزارة لشئون الرئاسة، وأوجد إثنتي عشرة وظيفة بدرجة مدير عام في رئاسة مجلس الوزراء وجعل كل مدير مسئولًا عن نشاط وزارة أو وزارات معينة، وعين السيد سليمان الإسكندراني مديرًا لشئون مجلس الوزراء. وكان العمل جاريًا على شغل وظائف بقية المدراء، وكان الهدف إشرافهم على كل شئون الدولة وإخضاع الوزراء إلى رقابة رئاسة الحكومة وتزويدهم بتوصيات باسم رئيس الوزراء.
ومن المؤكد أن قرار التعديل هذا لم يعرض على مجلس الوزراء، لأن الوزراء لن يقبلوا بإشراف جهاز عليهم في رئاسة مجلس الوزراء، فهم مسئولون عن وزاراتهم أمام رئيس الوزراء ومجلس الأمة مباشرة، ولكن يظهر أن رئيس الوزراء وقعه كقرار للمجلس دون عرضه على مجلس الوزراء، كما يجري عادة في المسائل التي لا يريد رئيس الوزراء فتح نقاش فيها. وكذلك بالنسبة للقرارات التي تتعلق بالشئون الإدارية، ولو تم تنفيذ هذا القرار بالكامل وجرى العمل به لأصبح وكيل الوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء الرجل الثالث في الدولة بعد الملك ورئيس الوزراء.
السيد على المسلاتي السيد مصطفى بن سعود
وقد أدى طموح السيد علي المسلاتي هذا إلى خلق جفاء له مع جميع الوزراء وكبار موظفي الدولة وفي البرلمان. ورغم أني كنت أشاركه الرأي بشأن ضرورة مشاركة رئاسة الوزراء في نشاط شئون التخطيط والتنمية والأمن العام والمخابرات بجميع أنواعها والخارجية عن طريق جهاز مزود بالخبراء يلحق برئاسة مجلس الوزراء، يتولى التنسيق مع الوزارات المختصة ومساعدة رئيس الوزراء في الإطلاع على تفاصيل ما يجري في هذه المجالات الحيوية وتمكينه من اقتراح ما يراه هو مناسبًا وعدم الاعتماد كليًا على الوزراء المختصين. وفعلًا تقدمت بمثل هذا الاقتراح عندما أصبحت وكيلًا لرئاسة مجلس الوزراء، ولكن كل رؤساء الحكومات الذين عرضت عليهم هذه الفكرة رفضوها، وسيأتي الكلام عن هذا في موضعه.
أقسمت حكومة السيد محمود المنتصر اليمين أمام الملك وعقدت اجتماعها الأول بعد تكامل أعضائها الذين كان بعضهم في الخارج مثل السيد عمر الباروني الذي عين وزيرًا للدولة لشئون الرئاسة وهو منصب وزاري مستحدث لأول مرة. وتم في هذا الاجتماع إعادة السيد مصطفى بن سعود إلى منصب وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، مما زاد من قلق علي المسلاتي وخلق تصادمًا بين الوكيلين، وتم أيضًا إلغاء وظائف المدراء الإثنى عشر في رئاسة مجلس الوزراء، وتعيين السيد سليمان الإسكندراني مساعدًا لمصطفى بن سعود. ورفض وزير الدولة لشئون الرئاسة الجديد السيد عمر الباروني التدخل في اختصاصات وكيل شئون المجلس ووكيل شئون الرئاسة بحجة أنه وزير دولة ومسئوليته تتحدد بما يسنده له رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء من مهام.
وبعد نقل السيد علي أبوسرويل إلى وزارة الخارجية وتعيين السيد أحمد أبو شاقور مساعدًا لي لشئون التشريفات، بقيت حائرًا بين الوكيلين على المسلاتي ومصطفى بن سعود حول اختصاصاتي، فهما لا يعترفان بمسئوليتي سوى كسكرتير لرئيس الوزراء. ولما كان معظم الوزراء في حكومة السيد محمود المنتصر ضد توجهات وأفكار السيد علي المسلاتي أثاروا ذلك في مجلس الوزراء، وتقرر على إثر ذلك نقله إلى وزارة العدل وتعييني وكيلًا لشئون رئاسة مجلس الوزراء بالوكالة بشكل انتداب من وزارة الخارجية.
وبعد فترة قصيرة عينت رسميًا في منصب وكيل وزارة قبل تنفيذ القانون الجديد للخدمة المدنية للحصول على الدرجة الخاصة ( أ ) باقتراح من وزير الخدمة المدنية السيد عبدالله سكته، الذي أقنعني وأقنع رئيس الوزراء بأن بقائي كوكيل وزارة بالوكالة سوف لا يتمشى مع القانون الجديد، لأن درجتي الأصلية في الخارجية هي درجة أولى لا تسمح لي بأن أتولى مهام وكيل وزارة ( أ ) بالوكالة، واقترح تعييني رسميًا في الوظيفة لأستفيد من القانون الجديد الذي يعطي الدرجات الجديدة لحاملي ألقاب الوظائف الحالية. ورغم أني لم أسع لهذا القرار لأن هذا معناه خروجي بمقتضاه من كادر وزارة الخارجية، ولم يعد في استطاعتي العودة إليها إلا بمرسوم ملكي بدرجة سفير أو وزير مفوض وهي المقابلة للدرجة الخاصة المدنية ( أ )، كما لا يجيز القانون نقلي بدرجة أقل من درجتي، وكانت وظائف السفراء في تلك الفترة لا زالت حكرًا على السياسيين والوزراء السابقين فقط.
تعييني وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء
حال صدور قرار مجلس الوزراء بتعييني وكيلًا للوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء قمت بدراسة التنظيم الإداري للرئاسة الذي أعده السيد علي المسلاتي والذي ألغي بعد استقالة الدكتور محي الدين فكيني وتعيين وكيلين، أحدهما لشئون الرئاسة ليحل محل مدير مكتب رئيس الوزراء سابقًا، والآخر لشئون مجلس الوزراء ليحل محل سكرتير عام مجلس الوزراء سابقًا، ورغم اختلاف الألقاب فإن الاختصاصات بقيت على ما هي عليه. وكما ذكرت لم يقبل السيد عمر الباروني وزير الدولة لشئون الرئاسة التدخل في الشئون الإدارية وجهاز رئاسة مجلس الوزراء والتفرغ لما يسنده له رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء من مهام.
في ضوء هذا الوضع درست مع وكيل شئون مجلس الوزراء ضرورة التعاون بين المكتبين ولم أكن طموحًا للسيطرة كالوكيل السابق السيد علي المسلاتي. وطلبت من وكيل شئون مجلس الوزراء التعاون مع رئاسة مجلس الوزراء وتحويل صور من مذكرات الوزراء قبل عرضها على مجلس الوزراء لدراستها مع مستشاري إدارة الفتوى والتشريع والمستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، الذي عين حديثًا برغبة من السيد محمود المنتصر وهو المستر (بيت هارديكر)، الذي كان سابقًا مسئولًا ماليًا منتدبًا من الحكومة البريطانية بمقتضى الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا، وقد انتهت مهمته هذه وعاش متقاعدًا في النمسا، وتم تعيينه في منصب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء بالتعاقد معه مباشرة كموظف ليبي ولا دخل للحكومة البريطانية في هذا التعيين. وكان هدفي من هذا الاقتراح هو التمكن من دراسة مذكرات مجلس الوزراء قبل عرضها على المجلس لإطلاع رئيس الوزراء برأي الخبراء والتأكد أنها لا تتعارض مع قرارات سابقة أو مع سياسة الحكومة المعلنة في مجلس الأمة، وكذلك طلبت استلام نسخ من قرارات مجلس الوزراء ليتولى مكتبه متابعة تنفيذها مع الوزراء المختصين.
وبعد محاولات وتدخل رئيس الوزراء وافق السيد مصطفى بن سعود على مقترحاتي إلا أنه لم ينفذها، فقد كان معروفًا عنه الحرص على سرية شئون مجلس الوزراء ويعتبرها حكرًا عليه بينه وبين رئيس الوزراء والوزراء المختصين وهو المسئول عن الرجوع إلى المستشارين بشأنها، وهكذا تعذر التنسيق. ولم يكن رئيس الوزراء براغب في فرض المقترحات على وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، الذي يتمتع بثقة جميع الوزراء ويساندونه الرأي، بأن شئون مجلس الوزراء يجب أن تكون مستقلة عن رئاسة مجلس الوزراء.
كما رفض الوزراء إرسال نسخ من مذكراتهم المقدمة إلى مجلس الوزراء إلى وكيل شئون الرئاسة مباشرة لأنهم، كما ذكرت سابقًا، لا يريدون تدخل جهات معينة في الرئاسة بينهم وبين رئيس الوزراء في ما يقدمون من مشاريع وقرارات وقوانين إلى المجلس خوفًا من تعرضها للتعديل أو معارضة رئيس الوزراء بناء على نصيحة مستشاريه في جهاز رئاسة مجلس الوزراء. وهذا الخلاف حول الاختصاصات يعتبر عاديًا بين الدوائر الحكومية ليس في ليبيا فقط بل في كل الأجهزة التابعة لرؤساء الوزارت أو رؤساء الجمهورية في أي بلد في العالم التي تتعرض لمثل هذه الصعوبات والمنافسات من طرف الأجهزة البيروقراطية المختلفة.
لندن 1964 ـ بشير السني المنتصر (وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء) وعلى يمينه السيد الدكتور عبدالسلام البوصيري السفير الليبي في لندن ثم السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء فالسيد المستشار فتحي العابدية
ومن حسن حظ ليبيا أن الملك فصل مسئولية ديوانه في الفترة الأخيرة عن مسئولية الحكومة ولم تكن للديوان الملكي أية سلطة رسمية وقانونية مباشرة على جهاز الدولة بعد وفاة السيد إبراهيم الشلحي. وفي ضوء هذه الظروف وعدم إمكانية التعاون المباشر بين رئاسة مجلس الوزراء وشئون المجلس قررت التركيز على علاقات الرئاسة رأسًا مع الوزراء وما يرسل لرئيس الوزراء من تقارير ومقترحات في مرحلة الدراسة قبل تحولها إلى مشاريع قرارات ترسل إلى وكيل شئون مجلس الوزراء لعرضها على المجلس. كما قررت الاكتفاء بإنشاء ثلاث إدارات بشئون الرئاسة تهتم الأولى بشكاوى أفراد الشعب والهيئات المدنية ودراستها وإحالتها على جهات الاختصاص والطلب بموافاة الرئاسة بما يتخذ بشأنها مع إعلام أصحابها بالجهة التي أحيلت إليها شكواهم لمراجعتها.
وقد لاقى هذا الإجراء احتجاج الوزراء لأن هذه الشكاوى المحولة من الرئاسة أصبحت لها صفة رسمية وتأخد وقتًا كبيرًا من الوزراء والمسئولين في الوزارات المختصة، وكذلك إصرار أصحابها على مقابلة الوزير أو الوكيل بحجة استلامهم رسائل من رئاسة الحكومة تطلب منهم مراجعة شكواهم مع المسئولين في الوزارة. وقد ألحق بنفس الإدارة قسم يختص بالإعلام ومتابعة ما ينشر محليًا ودوليًا في وسائل الإعلام والتقارير الإعلامية التي تصل من وزارة الإعلام والسفارات الليبية في الخارج وتقديم ملخصات لوكيل الوزارة ولرئيس الوزراء ولفت نظر الجهات المختصة في الحكومة إلى ما يثار في الإعلام وأية انتقادات لأنشطتهم المختلفة، وقد عين السيد سليمان قرادة مديرًا لها.
والإدارة الثانية تختص بالشئون المالية والإدارية للوزراء ولموظفي الرئاسة وشئون المجلس. وقد اقترحت ضم إدارة الخدمة المدنية سابقًا إليها، إلا أن إنشاء وزارة دولة مستقلة للخدمة المدنية في أول تعديل وزاري قد ألغى هذه الفكرة، وقد أسندت هذه الإدارة إلى السيد جمعة سعيد. أما الإدارة الثالثة فتختص بالمسائل المتعلقة بشئون الوزارات المختلفة ومتابعتها مع الوزارات والهيئات الأخرى المستقلة، والهدف منها دراسة مشاريع مذكرات الوزراء إلى المجلس ومتابعة قراراته بشأنها. وكما ذكرت، تعذر تنفيذ ذلك لمعارضة وكيل المجلس والوزراء، واقتصر العمل في هذه الإدارة على دراسة تقارير الوزراء والسفراء والمحافظين ومدراء الأمن، وما يبعث به الوزراء وكبار المسئولين من آراء ومقترحات ومشاريع قوانين وقرارات لأخذ رأي رئيس الوزراء فيها مسبقًا قبل إعداد مذكرات بشأنها إلى المجلس، وقد عين السيد محمد خليفة جميل مديرًا لها.
1964م- السيد منصور كعبار يلقى خطاب افتتاح الدورة الرابعة لمعرض طرابلس الدولي باعتباره وزيرًا للاقتصاد، أمام رئيس الحكومة السيد محمود المنتصر، وعلى يساره، الأديب والإذاعى، ووزير المالية الأسبق، السيد أحمد الحصائرى مدير عام المعرض
وقد لاحظت أنه رغم وضع هذا التنظيم موضع التنفيذ فإن الوزراء كانوا يفضلون دراسة شئون وزاراتهم مع رئيس الوزراء شفويًا أثناء مقابلاتهم معه، الشئ الذي لا يسمح به غالبًا وقت رئيس الوزراء، مما يترتب عليه إضاعة وقته وعدم تمكنه من إبداء رأي مدروس بشأن المقترحات والآراء التي يتقدم بها الوزراء شفويًا. كما أن نقل شئون الخدمة المدنية لوزارة مستقلة، وكذلك شئون أمن الدولة والجنسية ومراقبة الأجانب إلى وزارة الداخلية، وشئون مجلس الإعمار والتنمية إلى وزارة مستقلة التي استحدثت بعد إقرار الوحدة وإلغاء النظام الفيدرالي سنة 1963.. كل هذا أدى إلى تقليل اختصاصات رئاسة مجلس الوزراء، فحتى المستشار الاقتصادي لم تعد له حاجة في الرئاسة، وأصبح يقضي معظم وقته منتدبًا في اللجان ومع وزراء التخطيط والبترول والمالية. بالإضافة إلى المدراء الثلاثة عين السيد علي الفرجاني مساعد وكيل وزارة لشئون الرئاسة. وأثناء إجرائي لهذه التعيينات لم آخذ في الاعتبار التوزيع الجغرافي بين برقة وطرابلس، وقد اكتشفت أن المدراء الثلاثة ومساعد الوكيل كلهم من منطقة طرابلس، مما أثار لي بعض الصعوبات بعد ذلك أثناء عملي مع رؤساء وزارات من برقة، وسيأتي ذكر هذا في الفصول القادمة.
اضطراب الأمن في البلاد وخطاب عبدالناصر حول القواعد الأجنبية
بتولي حكومة السيد محمود المنتصر السلطة استمرت المظاهرات في طرابلس، وقد نتج عنها سقوط بعض الضحايا في الزاوية الغربية، وقد غضب رئيس الوزراء بسبب استعمال العنف المبالغ فيه. وأذكر أنه استدعى محافظ الزاوية السيد منصور كعبار بحضوري ولامه على أعمال العنف وتصرف الشرطة التي أدت إلى مقتل مواطن وجرح آخرين، فأخبره السيد كعبار بأن رجال الشرطة حاولوا تجنب الاصطدام مع المتظاهرين فانسحبوا من السوق بعد عجزهم عن فض المظاهرات سلميًا، ولكن المتظاهرين أصروا على مطاردة رجال الشرطة الذين انسحبوا حتى لجأوا إلى مبنى مركز الشرطة طلبًا للحماية، فلحق بهم المتظاهرون وأرادوا اقتحام المركز والاعتداء عليهم، فاضطر رجال الشرطة إلى إطلاق النار دفاعًا عن النفس ولم يكن أمامهم خيار. وهذا عذر رجال الشرطة كلما سئلوا عن المبالغة في استعمال العنف في مثل هذه الحالات، والشرطة عادة لا يمكن لومها على الدفاع عن النفس أمام جماهير غاضبة تريد الفتك بهم أو اقتحام مكاتبهم الرسمية.
بعد عودة الهدوء النسبي إلى مدن المملكة ورجوع الطلاب إلى مدارسهم، التي أغلقت أثناء أحداث الشغب، فاجأ الرئيس جمال عبدالناصر الحكومة الليبية بخطاب قوي هاجم فيه القواعد الأجنبية في ليبيا مطالبًا بجلاء القوات الأجنبية عن التراب الليبي. وخوفًا من تجدد المظاهرات وأعمال العنف اضطرت الحكومة إلى إصدار بيان أعلنت فيه عدم رغبتها في تجديد المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية بعد انتهاء مدتهما التي كانت تقارب النهاية. ورغم رغبة السيد محمود المنتصر في المضي إلى أكثر من هذا وقراره مع نفسه بإلغاء المعاهدة والاتفاقية وجلاء القوات الأجنبية كما بينت، إلا أنه كان غير واثق من رد فعل الملك إذا أشار إلى موضوع الإلغاء. وقد فوجئ الملك بتصريح الحكومة، إلا إنه لم يأخذه بمحمل الجد واعتبره للاستهلاك المحلي لتجنب رد فعل شعبي لخطاب الرئيس عبدالناصر.
بعد ذلك أثير الموضوع في البرلمان الذي طلب من الحكومة إلغاء المعاهدات والاتفاقيات العسكرية وجلاء القوات الأجنبية وإعطاء الحكومة فرصة لإبلاغ ذلك إلى بريطانيا وأمريكا. وبذلك طلبت الحكومة الليبية من الحكومتين الأمريكية والبريطانية الدخول في مفاوضات للنظر في إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية. وفي مارس 1964 أعلن السيد محمود المنتصر بدء المفاوضات في البرلمان، ثم أعقبه بتصريح يوضح فيه بأن الهدف من المفاوضات هو إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وتصفية القواعد العسكرية وتحديد موعد لجلاء كل القوات الأجنبية عن ليبيا.
وكما يظهر من تصريحات السيد محمود المنتصر فإنه لم يفصح عن قرار الحكومة دفعة واحدة، بل واصل إصدار عدد من التصريحات تتفاوت مداها، تجنبًا لرد فعل الملك، الذي كان يتابع تطورات الموضوع دون تدخل لمعرفة ماذا يستقر عليه رأي البرلمان والحكومة. ولكن تصريح رئيس الوزراء الأخير وتمشيه مع كل ما يطالب به البرلمان أثار شكوك البريطانيين والأمريكيين، لأنه يتعدى ما طلب منهم رسميًا في المفاوضات التي بدأت فعلًا على أساس التصريحات الأولية لرئيس الوزراء. وهكذا اتصل السفيران البريطاني والأمريكي بالملك لمعرفة رأيه، ويظهر أنه أخبرهما في أول الأمر بأن الأمر متروك للحكومه والبرلمان ولا يريد التدخل، ولكنه بعد ذلك صارحهما برأيه ومعارضة ما توصلت إليه الحكومة والبرلمان في هذا الشأن كما سنرى في الأحداث التالية.
المطالبة بإنهاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية
كما ذكرت سابقًا قبل محمود المنتصر الرجوع إلى الحكم للمرة الثانية بحجة أن النظام الملكي كان في خطر وأن مهمته الأولى يجب أن تتركز على استتباب الأمن في البلاد. ومن هذا المنطلق بدأ في تنفيذ سياسة حكومته، إلا أن تاريخه المرتبط بالمعاهدة البريطانية وسياسته الرامية إلى التعاون مع الغرب كانت وراء شرارة إثارة موضوع جلاء القوات الأجنبية حال استلامه للحكم. وكان هذا مصدر خوف السفيرين البريطاني والأمريكي إثر تعيينه من جديد رئيسًا للوزراء، لأن رؤساء الحكومات السابقون استطاعوا عدم إثارة موضوع المعاهدات والاتفاقيات والخوض فيها علنًا في مجلس الأمة أو على المستوى الإعلامي لفترة طويلة حتى أصبحت أمرًا منسيًا، خاصة أن الظروف السائدة في الشرق الأوسط كانت هادئة.
ولكن ماضي السيد محمود المنتصر وتطور الأوضاع العربية بعد مؤتمر القمة العربي الأول وخطاب الرئيس عبدالناصر ضد القواعد العسكرية جعل من الصعب على السيد محمود المنتصر تجاهل هذه الأحداث، وكان من الصعب عليه الانتظار، واضطر إلى اتخاذ القرار الحاسم بشأن إلغاء المعاهدات والاتفاقيات وجلاء القوات الأجنبية مع بداية توليه الحكم. وكما ذكرت كان هذا في الحقيقة أحد أهدافه، بينه وبين نفسه، في قبول العودة إلى الحكم، ولكنه كان يأمل أن يتم ذلك في هدوء وتدريجيًا وبموافقة الملك ومباركته.
بعد تصريحات رئيس الوزراء وموقف البرلمان المتشدد شعر الملك بأن الموقف أخذ يخرج من سيطرته وأصبح قرار الإلغاء وتحقيق الجلاء واردًا لا محالة، بعد أن سارع رئيس حكومته الأمين والمخلص والمفضل عنده إلى الاستجابة لجميع مطالب مجلس الأمة وتصريحاته الصريحة بإنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقيات العسكرية وجلاء جميع القوات الأجنبية، وأنه أي رئيس الوزراء الوفي، قد قرر السير مع التيار لتحسين سمعته لدى الرئيس عبدالناصر ومجاراة التيار القومي، وأن شجاعته التي عرف بها أثناء حكومته الأولى قد خانته هذه المرة.
ولم يصدق الملك في أول الأمر السفيرين البريطاني والأمريكي اللذين أوضحا له بأن السيد محمود المنتصر ليس هو الشخص الذي يعرفونه في أوائل الخمسينات، وأن سياسته الجديدة هي التخلص من المعاهدات والقوات الأجنبية بكونه هو الذي وقعها وذلك لكسب تأييد الشعب الليبي ومباركة سياسة عبدالناصر، وتجلى ذلك في تشجيعه للحملة الإعلامية الرامية إلى إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية في أقصر وقت، مما يعرض ليبيا وأمنها للخطر. وأمام تطورات الأحداث اتخذ الملك قرارًا حاسمًا في قرارة نفسه للوقوف ضد محاولات حكومته ومجلس الأمة ووضعهم في موقف لا خيار فيه، ولم يعلن رأيه هذا صراحة وعلنًا ضد الإلغاء والجلاء، لأنه ملك دستوري لا يحكم، وأن القرار في شئون الدولة هو في أيدي الحكومة ومجلس الأمة.
الملك إدريس يـقرر الاستقالة
فوجئ رئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشيوخ والنواب باستدعاء الملك لهم في بيته
بمدينة البيضاء وإبلاغهم بأنه قرر الاستقالة، وأنه سبق له وأن قدمها إلى السيد مصطفى بن حليم والسيد محمد عثمان الصيد عندما كانا في الحكومة، وأنه قرر أن يستريح
ولم يبد سببًا للاستقالة. وطبعًا رفض الحاضرون حتى مجرد التفكير في ما قاله الملك لهم، وبينوا له بأن البلاد لن تستقر بدونه وإنها أحوج إلى زعامته في هذه الظروف، وألحوا
عليه بإعادة النظر في الموضوع. ولكنه في نهاية المقابلة سلم إلى رئيس الوزراء الاستقالة مكتوبة وموقعة منه ليؤكد إصراره. وأذكر أن رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر رجع إلى مكتبه مصفر الوجه وقد ارتفع ضغط الدم عنده وكان يرتعش من هول ما سمعه من الملك، وطلب مني مساعدته على وضع الاستقالة في خزانة رئاسة الوزراء. وبعد أقل من ساعة من وصوله إلى مكتبه سمع بأن الملك سافر إلى طبرق حال انتهاء مقابلة الرؤساء الثلاثة له وقد طلب من حرسه عدم مرافقته، كما أنه رفض وضع علمه على السيارة.
كان من المقرر أن يبقى رئيس الوزراء فترة أطول في البيضاء لمتابعة مداولات مجلس النواب حول المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، ولكن ما أن وصل الملك إلى طبرق حتى رن جرس الهاتف في بيت رئيس الوزراء وكنت معه ورأيت علامات الانزعاج تظهر على وجهه وهو يستمع في التلفون إلى الملك، ولم تستغرق المحادثة ثوان. ولما انتهى أخبرني بأن الملك طلب منه تنفيذ استقالته حالًا. كان المعتقد أن الملك سيسحب استقالته كالعادة لأن الرؤساء الثلاثة (الوزراء والشيوخ والنواب) أثناء مقابلتهم له في البيضاء رفضوا الاستقالة وهو ليس بالشئ الجديد فقد رجع عن الاستقالة مرارًا. كما أن الاستقالة بشكلها الذي قدم لا معنى لها فهي لم تكن تنازلًا عن العرش لولي عهده، الوريث الشرعي حسب الدستور، وهي في رأيهم لا تعدو أن تكون إلا احتجاجًا غير معلن على تمادي وتسرع الحكومة والبرلمان في إعلان إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، رغم أن رئيس الحكومة أحاطه علمًا بهذا قبل إصدار تصريحاته بشأنها.
ولكن الملك كعادته لا يصارح رئيس حكومته برأيه وقت الأزمة أو ينتقده
صراحة، بل يعبر عن ذلك بالتصرف بما يراه هو بعد ذلك. كان الملك يتوقع على الأقل من الحكومة والبرلمان في هذه الحالة أن لا يتسرعا لأن رأيه معروف لديهم وخاصة فيما
يتعلق ببريطانيا، فالمعاهدة البريطانية هي تحالف تاريخي بينه وبين بريطانيا قبل أن تكون بين ليبيا وبريطانيا.
طلب مني رئيس الوزراء بعد استلامه لمكالمة الملك إبلاغ رؤساء الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والجامعة الإسلامية ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن والوزراء القدوم حالًا إلى البيضاء لاجتماع عاجل لأمر هام جدًا وعدم ذكر موضوع الاستقالة. كان الوقت بعد الظهر، ورغم أن مثل هذه الدعوة المستعجلة تحدث كثيرًا، إلا أن كل الوزراء وبعض المطلوب حضورهم كانوا جميعًا في طرابلس على مسافة تزيد على 1300 كم، وقد طلب بعض الوزراء إعداد طائرة خاصة لهم للحضور. ولما تعذر حضور الجميع إلى البيضاء طلب رئيس الوزراء ممّن لا يستطيع القدوم إلى البيضاء في ذلك اليوم الحضور إلى طبرق في صباح اليوم التالي مبكرًا. كان موضوع الاستقالة لا زال سرًا لا يعرفه إلا الرؤساء الثلاثة، أو هكذا كنا نعتقد، والشعب لا يعرف شيئًا بما حدث، ولا يمكن إذاعة مثل هذا الخبر حتى ولو أصبح نهائيًا دون إعلان الإجراءات الأمنية اللازمة.
وفي فجر اليوم التالي غادر البيضاء رتل السيارات الذي كان يحمل رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ومن كان موجودًا في البيضاء من الوزراء. وقد لاحظنا أن الطريق إلى طبرق كان مزدحمًا بسيارات الجيش والشرطة والسيارات المدنية. وما أن وصلنا ضواحي مدينة طبرق حتى وجدناها تعج بضباط وأفراد الجيش والأمن ورجال قبائل برقة عن بكرة أبيهم، وبعض أعضاء مجلس الأمة من المنطقة الشرقية، وكثير من جماهير الشعب من برقة. ويظهر أن رجال القصر والحاشية الذين عرفوا الموضوع سارعوا بمعرفة من الملك أو بإيعاز منه أو بدون علمه بنشر خبر استقالته في جميع أنحاء برقة وطلبوا من الجميع القدوم حالًا إلى طبرق وإعلام الآخرين للتواجد للطلب من الملك الرجوع عن استقالته.
كنت في السيارة مع السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة وكنا واثقين بأن كل شئ مرتب مسبقًا وأن الملك سيسحب استقالته. وتأكد هذا بعد وصولنا إلى طبرق ووجود هذا الكم من المشايخ ورجال القبائل الذين كانوا يهددون الحكومة والنواب في مظاهرات عارمة ويتهمونهم بأنهم السبب في غضب الملك واستقالته بإصرارهم على قرار إنهاء المعاهدة البريطانية وجلاء القوات الأجنبية، وكانوا يلوحون بالسلاح في أياديهم ويهددون بأنهم لن يتركوا أعضاء الحكومة ومجلس الأمة الخروج من طبرق أحياء إلا اذا تراجع الملك عن استقالته. وكانت هتافات الجماهير بهذه المطالب غريبة، خاصة أن الملك لم يعلن سببًا لاستقالته سوى حالته الصحية، ولهذا تأكد لنا أن رجال القصر والحاشية وراء هذه الاحتجاجات.
كان الملك قد غادر قصره الرسمي بعد وصوله من البيضاء وطلب من حراسه ورجال حاشيته وسائقي سياراته أن لا يرافقوه وأن يبقوا في القصر تحت تصرف الحكومة، وأمر بإنزال علمه الخاص من على القصر وذهب إلى بيته خارج طبرق. ولكن جماهير القبائل والشعب الذين وصلوا طبرق في ذلك اليوم ساروا إليه في مظاهرة كبيرة وأحاطوا بالبيت الذي كان فيه وأصروا على عدم مغادرة المكان حتى يجتمع بهم. واضطر الملك بعد ذلك إلى إرسال سبحته لهم، وهي عادة عربية قديمة حسب ما أعتقد للتعبير عن صدق وعده، ووعدهم بالاجتماع بهم في صباح اليوم التالي في قصره الرسمي بطبرق وطلب منهم الذهاب للراحة والنوم. وهكذا نامت مدينة طبرق تعج بالآلاف من الناس الذين افترشوا الأرض بعد أن ضاقت بيوت سكان طبرق بهم، وقام سكان المدينة باستضافتهم ونحروا الذبائح وأكرموهم.
الملك إدريـس يتراجع عن الاستقالة
بعد رجوعهم من الملك ذهبت حشود القبائل إلى مقر رئيس الوزراء بطبرق وطلبوا منه إعطاءهم ورقة استقالة الملك لتمزيقها لعدم اعترافهم بها، كما هاجموا بعض النواب الذين جاءوا من بنغازي بعد سماعهم خبر استقالة الملك. وقد حاول النواب الدفاع عن أنفسهم بأن طلبهم لجلاء القوات الأجنبية لا يمس إخلاصهم للملك أو النظام الملكي وأنهم مع الجماهير لإقناع الملك بالرجوع عن استقالته والبقاء في الملك مدى الحياة. وخرج لهم رئيس الوزراء في شرفة البيت الذي يقيم فيه وألقى فيهم كلمة مؤكدًا لهم رفضه لاستقالة الملك، وأنه أعد استقالة حكومته لتقديمها إلى الملك إذا أصر على رأيه، وقال إن ورقة استقالة الملك لا يمزقها إلا الملك نفسه وقد أحضرها معه لإعادتها إليه، ووعدهم بأنه سيذهب معهم صباح اليوم التالي في مظاهرة إلى القصر الملكي.
وغادرت الجماهير مكان إقامة رئيس الوزراء بعد اقتناعها بصدقه، فإخلاصه للملك يعرفه القاصي والداني، وخاصة في برقة. وعاشت طبرق ليلة ليلاء في هرج ومرج والكل لا يصدق أن الإدريس سيتركهم. كل هذا كان يحدث في طبرق دون صدور أي بيان حكومي في الإذاعة، مما جعل جماهير طرابلس وبنغازي ومدن ليبيا وقراها لا تعرف شيئًا عما كان يجري في طبرق من أمر مهم وخطير.
وفي صباح اليوم التالي تجمعت جماهير القبائل وضباط وأفراد الجيش والشرطة يتقدمهم رئيس الوزراء ورئيسا الشيوخ والنواب ورئيس المحكمة العليا ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن العام والوزراء والنواب وكبار رجال الدولة، وساروا في مظاهرة إلى القصر الذي كان قد سبقهم إليه الملك، وكان محاطًا برجال حاشيته وعلى رأسهم السيد البوصيري الشلحي. واخترقت الجماهير سياج القصر وأحاطت بالقصر وتعالت الهتافات مطالبة الملك أن يطل عليهم وأن يتراجع عن الاستقالة. وكان بعض رجال الحرس الملكي مع المتظاهرين يتسلقون جدران القصر ليصلوا إلى الشرفة لتعليق العلم الملكي عليها بعد ما أنزل بأمر من الملك، وبقي كبار رجال الدولة مع الجماهير ولم يسمح لهم بالدخول إلى القصر.
وكان رئيس الوزراء قبل تحركه إلى القصر قد أملى عليّ استقالته وأخذها معه لتقديمها حال ما تحين فرصة الاجتماع بالملك إذا أصر على استقالته، ولكن رئيس الوزراء والوزراء والنواب وبقية المسئولين كانوا واثقين أنها مجرد احتجاج وأنها ستنتهي بسحب الملك لاستقالته وفرض شروطه المعروفة. وبعد ساعات من الوقوف والهتاف في حر الظهيرة الذي كان صعبًا على كبار المسئولين من كبار السن والمرضى، سمح الملك لرئيس الوزراء ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والوزراء وبعض كبار المسئولين بالدخول إلى القصر، وتحدث معهم عن ظروفه الصحية التي دفعته إلى الاستقالة. وبعد سماع وجهة نظرهم وحاجة البلاد إليه في هذه الظروف وافق على سحب استقالته وأمر حرسه برفع علمه على القصر في الشرفة المطلة على الجماهير.
تعالت هتافات الجماهير المحتشدة في طبرق بالتأييد والدعاء له بطول العمر بعد أن عرفت أن الملك تراجع عن استقالته. وخرج الملك إلى شرفة القصر محاطًا بكبار رجال الدولة وأعلن أنه استقال لأسباب صحية وليس لأي سبب آخر وأن الحكومة تقوم بمهمتها على ما يرام، ونزولًا عند رغباتهم قرر الرجوع عن الاستقالة رغم ما يعانيه من مرض وضعف، ووعدهم بأنه لن يموت إلا بينهم. وفي هذه الأثناء سلمه رئيس الوزراء ورقة استقالته فأخذها منه وقطعها إربًا إربًا صغيرة لا تقرأ. وبعدها فتحت أبواب القصر ودخلت الجماهير بمن فيهم الأطفال للسلام على الملك وتقبيل يديه والدعاء له بطول العمر، وقد وقف الملك يصافح الجميع دون كلل. وبعدها اجتمع الملك برئيس الوزراء ثم رجعنا مع رئيس الوزراء إلى البيضاء في نفس اليوم ولم يكن الشعب، باستثناء من كان في طبرق، يعرف شيئًا عما حدث.
وفي اليوم التالي جاء رئيس الوزراء إلى المكتب ومعه ورقة مكتوبة بخط يده وبدون عنوان يظهر أنها ملخص لما جرى بينه وبين الملك بعد عدوله عن الاستقالة، وطلب مني كتابة نسخة نظيفة من مسودته فكتبتها بخط جميل وسلمتها لرئيس الوزراء الذي وضعها في خزنته في المكتب لأهميتها، وكانت تتلخص على ما أذكر فيما يلي:
"تستمر المحادثات مع البريطانيين لإلغاء المعاهدة الليبية البريطانية مع الإبقاء على التحالف الليبي البريطاني، ويتم جلاء كل القوات البريطانية من طرابلس وبنغازي في الوقت المناسب، والإبقاء على القاعدة البريطانية في مطار العدم، والسماح للجيش البريطاني بإجراء تدريبات الربيع والخريف في صحراء برقة. أما الاتفاقية الأمريكية فهي متروكة للحكومة والبرلمان مع التمهل في المفاوضات مع بريطانيا وأمريكا، وبعدم الانسياق وراء نواب المعارضة بالإسراع، وعدم الاهتمام بضغوط الدول مثل مصر وغيرها. كما طلب الملك تقسيم قوات الأمن التي وحدت بعد إعلان الوحدة إلى ثلاث مديريات عامة مستقلة تتبع وزير الداخلية وبتسليح قوات الأمن، وخاصة القوة المتحركة وقوات أمن برقة بالأسلحة الحديثة والدبابات، ثم حل مجلس النواب وعدم السماح لنواب المعارضة بالعودة إلى المجلس بأي حال من الأحوال".
بعد ذلك عقد مجلس الوزراء جلسة قرر فيها إذاعة بيان على الشعب قرأ على الملك بالهاتف للموافقة عليه، وكان الهدف من البيان هو إطلاع الشعب على ما جرى في طبرق ذلك اليوم. ورغم تسرب الأخبار، إلا أن معظم الناس لم تسمع شيئًا، وخاصة في طرابلس ومدن ليبيا الأخرى، وهكذا عرف الناس باستقالة الملك وفهموا ما وراءها والهدف منها. كان الشعب يعرف تفكير زعمائه وما يدور في الكواليس ولم يكن راضيًا عما يحدث.
وهكذا وقع السيد محمود المنتصر في المحظور وأصبح استمراره في الحكم الآن ملزمًا، لأن استقالته في هذه الظروف تعني أنه يسعى لبناء شعبية على حساب الملك، الأمر الذي لم يفكر فيه السيد محمود المنتصر طول حياته، فإخلاصه للملك كان فوق كل اعتبار، ولهذا لم يجد مفرًا من تنفيذ أوامر الملك. أجرى السيد محمود المنتصر بعد ذلك تعديلًا وزاريًا أدخل بموجبه عددًا من الشباب، مما ساعد على الاهتمام بالمرافق العامة وخطط التنمية، كما عين عددًا من الشباب كوكلاء وزارات من بينهم الدكتور علي عتيقة الذي عين وكيلًا لوزارة التخطيط والتنمية.
استؤنفت المفاوضات الليبية البريطانية والأمريكية في مدينة البيضاء لتحديد مواعيد الجلاء وكأن شيئا لم يحدث، رغم أن بريطانيا وأمريكا كانتا على علم بما جرى بين الملك ورئيس الوزراء عن طريق سفيريهما الذين كانا يجتمعان بالملك باستمرار، وكان الملك يصارحهما برأيه في سياسة الحكومة. بعدها أصدرت الحكومة بيانًا بنتائج المفاوضات الأولية وفاءًا لوعدها بإعلام مجلس الأمة بها في مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، واكتفت الحكومة بهذا الإعلان دون دعوة مجلس الأمة للانعقاد تحسبًا من تجدد المناقشات بين الحكومة والنواب. وفي اليوم التالي لصدور بيان الحكومة صدر مرسوم بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات في موعد لا يتجاوز ثلاثة أشهر.
ورغم أن المفاوضات لم تغلق مع بريطانيا وأمريكا، إلا أنها أخذت نهجًا بطيئًا وغير حاسم للأسباب التي استعرضتها. واستمرت المفاوضات وقبلت بريطانيا وأمريكا مبدأ الجلاء، ووافقت بريطانيا بعد ذلك على تحديد موعد الجلاء من طرابلس وبنغازي، وقبلت أمريكا مبدأ جلاء قواتها لكنها ماطلت في تحديد موعد لها قبل انتهاء مدة الاتفاقية، وقدمت اقتراحات مؤقتة بإعطاء قسم من مطار الملاحة إلى القوات الجوية الليبية ورفع العلم الليبي إلى جانب علم الولايات المتحدة الأمريكية فوق مطار الملاحة. وأوفت بريطانيا بوعدها بعد ذلك وأجلت قواتها عن مدينتي طرابلس وبنغازي وأبقتها في مطار العدم، كما سمح للقوات البريطانية بإجراء تدريباتها في برقة. واستمرت الحكومات المتتالية في الإعلان في تصريحاتها وخطب العرش عن استمرار مفاوضات الجلاء وإنهاء وجود القوات الأجنبية في ليبيا، وهذا لم يقنع الرأي العام الليبي، واستمر في موقفه السلبي مع الحكومات المتعاقبة.
مؤتمر القمة العربي الثاني في الإسكندرية (5-11 سبتمبر 1964م)
بعد أخذ العبرة من مؤتمر القمة العربي الأول (13-17 يناير 1964) وما نتج عنه من مظاهرات واحتجاجات شعبية، قرر الملك حضور المؤتمر الثاني للقمة العربية وبوفد كبير يشمل رئيس الوزراء. وقد سافر الملك برًا مرورًا بمنطقة الحمامات شرقي الإسكندرية حيث كان يقيم في المهجر. وسافرت مع رئيس الوزراء بالطائرة ونزلنا بفندق فلسطين في الإسكندرية الذي أعد لإقامة الملوك والأمراء ورؤساء الدول، وكان الملك قد أعد له قصر خاص في الإسكندرية وقصر الطاهرة بالقاهرة للإقامة فيهما أثناء المؤتمر.
وحال وصولنا استلمت مكالمة هاتفية من السيد عبدالمجيد فريد من قصر رئيس الجمهورية ليبلغ السيد محمود المنتصر بأن الرئيس عبدالناصر سيستقبله الساعة الثالثة بعد الظهر في قصر التين بالإسكندرية. وكان عبدالناصر مشغولًا باستقبال الرؤساء والملوك الذين كانوا يصلون تباعًا، وكانت تلك لفتة كريمة منه، فالسيد محمود المنتصر لم يكن رئيس الوفد الليبي وكان الملك قد وصل فعلًا منذ أيام واستُقبل رسميًا. كان السيد محمود المنتصر يتوق إلى مقابلة الرئيس عبدالناصر، فقد قاسى من خطبة عبدالناصر حال تأليفه للحكومة الثانية وانتقاد عبد الناصر للقواعد العسكرية في ليبيا وما خلفته من جو قاتم ورد فعل من الشعب الليبي والمظاهرات التي تبعته، كما أن موقف الثورة المصرية من حكومته الأولى لم يكن على أحسن حال. وقد استغرب بدوره من تحديد موعد له بهذه السرعة مع عبدالناصر في وقت ينشغل فيه بوصول الرؤساء.
وبعد رجوعه من المقابلة أخبرني السيد محمود المنتصر بما تم فيها وأملى علي ملخصًا لها للاحتفاظ بمحضرها معه، ويتلخص على ما أذكر، بأن الرئيس عبدالناصر استقبله منفردًا بترحيب خاص مستفسرًا عن صحته، وقال له لقد حرصت على مقابلتك حال وصولك لأني أريد توضيح بعض الأمور، لقد سمعت أن البعض أساء تفسير الخطبة التي ألقيتها بعد تأليفك لحكومتك الثانية ومهاجمتي للقواعد العسكرية البريطانية بأنها موجهة ضدك شخصيًا وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فأنا لم أتمكن بالاجتماع بك في الماضي ولا أحمل أي شئ ضدك، بل أقدر جهودك وعملك في بناء الدولة الليبية.
وأضاف الرئيس عبدالناصر بأنه كان في تلك الخطبة يرد على تصريحات ضده في مجلس العموم البريطاني بأنه يعمل ضد بريطانيا ويثير القلاقل في الدول العربية، وكانت القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا وقبرص إحدى النقاط التي أثارها لانتقاد السياسة البريطانية في المنطقة، ولم يخطر بباله بأنه يتعرض لمسألة قد تثير المشاكل للحكومة الليبية في ظرف صعب كما سمعت بعد ذلك، فهو يعرف الظروف التي وقعت فيها المعاهدة البريطانية الليبية ووضع ليبيا المالي الضعيف آنذاك.
السادة محمود المنتصر رئيس الوزراء الليبي وعبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر (الأول من اليمين) ومحمود رياض وزير خارجية مصر وحسين مازق وزير خارجية ليبيا وبشير المنتصر وآخرون أثناء حضورهم لمؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية سنة 1964م.
وقد سر الرئيس عبدالناصر بأن الحكومة الليبية بدأت أخيرًا المفاوضات مع البريطانيين تصفية القواعد العسكرية، وقال إن بريطانيا لا تستحق عطف العرب، فهي مصدر المشاكل في المنطقة العربية، ولهذا فجلاؤها عن ليبيا خطوة لتحرير المنطقة من تدخلاتها المستمرة في شئونها واستغلالها لمواردها ونشر الفتنة بين دولها. أما بخصوص القواعد الأمريكية فإن تصفيتها يجب أن تتم كذلك، ولكني لا أريد من الحكومة الليبية أن تضغط على الحكومة الأمريكية للجلاء حالًا، بل أعطوها الوقت اللازم الذي تطلبه لإيجاد مكان آخر لقاعدتها، فأمريكا دولة عظمى، والكل في حاجة إلى مساعداتها في صراعنا مع إسرائيل وحل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا نريد إجبارها على نقل قاعدتها الكبيرة في طرابلس إلى إسرائيل مثلًا، وهي تستطيع خلق مصاعب لنا كلما زاد ضغطنا عليها، ثم تناول بعد ذلك المشاكل العربية وجدول أعمال مؤتمر القمة. وكان خلال المقابلة بشوشًا ومرحبًا، كما رحب بحضور الملك للمؤتمر الذي خصص له قصرًا خاصًا لإقامته، لأنه أكثر راحة من الفندق المزدحم مع جميع الرؤساء العرب.
سبتمبر 1964م - الرئيس عبدالناصر في استقبال الملك إدريس في الإسكندرية ويرى بشير المنتصر خلف الملك إدريس
حضر الملك افتتاح المؤتمر، وكان عبدالناصر يرحب بالملوك والرؤساء بشوشًا. وأعطى الملك إدريس والوفد الليبي اهتمامًا خاصًا. ولم أشاهد في حياتي بشاشة الملك إدريس وابتسامته العريضة، إلا عندما التقى بالملك حسين وأخيه حسن بن طلال في القاعة قبل بدء المؤتمر، وقد سارع الاثنان إلى تقبيل يده احترامًا لكبير أهل البيت. وقد كان المؤتمر ناجحًا ولعب عبدالناصر فيه دور الراعى والمضيف.
زيارة السيد محمود المنتصر للسعودية
قام السيد محمود المنتصر بزيارة السعودية لتهنئة الملك فيصل باسم الملك إدريس باعتلائه العرش على رأس وفد كبير ضم رئيسا مجلس الشيوخ والنواب ورئيس أركان الجيش وبعض الوزراء، وتأخر مفتي ليبيا الشيخ عبدالرحمن القلهود عن الوصول إلى مطار طرابلس في الموعد المحدد فسافر الوفد بدونه، وكنت أنا وياور رئيس الوزراء الخاص الملازم أول محمد أبو مرداس ضمن الوفد.
وقد استُقبل الوفد استقبالًا عظيمًا، وأذكر أن الملك فيصل استقبل الوفد في مكتبه الخاص بمفرده. بدأ الملك فيصل بشكر الملك إدريس على إرساله للوفد للتهنئة، ثم تعرض بإسهاب عن العلاقات العربية وتساءل عن دوافع الرئيس عبدالناصر في التهجم على المملكة السعودية، وكانت العلاقات في تلك الفترة متأزمة بين البلدين إلى درجة استضافة عبدالناصر للملك السابق سعود في مصر بعد عزله، وكانت الحملات الإعلامية في إذاعة صوت العرب ضد السعودية على أشدها.
قضى الملك أكثر من ساعة مركزًا كلامه على مصر ودورها العربي وتدخلها في الشئون الداخلية للدول العربية، وتساءل ماذا يريدون منا؟ وأضاف أن الموقف العربي يستدعي التضامن والتكتل لا إثارة شعوب المنطقة ضد حكوماتها. وألقى السيد محمود المنتصر كلمة معدة مسبقًا مختصرة أكد فيها أن ليبيا تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، وقد قاست بدورها فعلًا من تدخل بعض الدول المجاورة، ولم يتعرض لمصر أو عبدالناصر بالاسم. وأثناء المقابلة دخل فجأة شخص طويل القامة في ملابس الأمراء دون استئذان فقام الملك فيصل له مرحبًا وقمنا جميعًا معه، وقدمه الملك بأنه الأمير محمد بن عبدالعزيز (على ما أذكر) وجلس الجميع، واستمر الملك في الكلام. وفجأة نهض الأمير وودعه الملك والحاضرون، وخرج كما دخل دون استئذان. وفي المساء أقام الملك مأدبة عشاء على شرف الوفد حضرها عدد كبير من الأمراء السعوديين، وفي صباح اليوم التالي سافر الوفد إلى مكة لأداء العمرة ومنها سافر عائدًا إلى طرابلس.
الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية (1) يتوسط الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا (2) الذي جاء لتهنئته بتولي الملك ويظهر في الصورة إلى جانب الملك السعودي ورئيس الوزراء الليبي السادة عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ (3) وسالم القاضي رئيس مجلس النواب (4) والوزراء عبدالقادر البدري (5) وعبدالمولى لنقي (6) ومنير البعباع (8) والسفير الليبي في السعودية حسين بلعون (9) ورئيس أركان الجيش الليبي اللواء نوري الصديق (7) وبشير السني المنتصر وكيل الوزارة لرئاسة مجلس الوزراء (10) الملازم أول محمد أبو مرداس ياور خاص رئيس الوزراء (11)
زيارة السيد محمود المنتصر إلى دول المغرب العربي
في أول ديسمبر 1964 قام السيد محمود المنتصر بزيارة رسمية إلى تونس والمغرب والجزائر على رأس وفد كبير ضم عددًا كبيرًا من الوزراء في أول زيارة رسمية لوفد ليبي على هذا المستوى. ففي تونس كان في استقبال الوفد في المطار رئيس الوزراء السيد الباهي الأدغم والوزراء التونسيين وكبار المسئولين فيها. واستقبل الرئيس بورقيبة الوفد في منزله في قرطاج، وكان بشوشًا كعادته وصريحًا، منتقدًا للسياسة العربية والرؤساء العرب فردًا فردًا، ورحب بالوفد الليبي وأشاد بالعلاقات المتينة بين البلدين. ولبورقيبة تاريخ طويل مع ليبيا، فقد قضي فيها فترة أثناء كفاحه من أجل استقلال تونس ويعرف كثيرًا من البيوت الليبية، وقد سبق لي أن قابلته على مائدة السيد سالم المنتصر عندما كنت طالبًا في طرابلس في الأربعينات.
بشير السني المنتصر (الأول من اليمين) والسادة حسين مازق (الأول من الشمال) وعبدالله سكتة (في وسط الصورة) وبينهما السيد المنجي سليم على مائدة الرئيس الحبيب بورقيبة تكريمًا لرئيس وزراء ليبيا السيد محمود المنتصر الذي كان يزور تونس في زيارة رسمية على رأس وفد كبير
هذا وبعد المقابلة أدخل الوفد إلى مكتبه الخاص وأطلعهم على صور والده الذي هاجر من مدينة مصراته من ليبيا، وقال إنه تونسي ليبي الأصل، وكذلك السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء، فهو من عائلة باشاغة بمدينة مصراته الليبية، ومن الصدف أن محمود المنتصر هو أيضًا من مصراته، وتلفت الرئيس بورقيبه إلى الوزراء التونسيين حولة، وقال أرجو أن لا تأخذكم الغيرة، فنحن والليبيون أسرة واحدة، ولتونس فضلها عليّ شخصيًا، وحبها لا يدانيه حب. ثم أشار إلى علاقته مع الملك إدريس منذ كانا معًا في المهجر في مصر وإلى الفترة التي قضاها في ليبيا، رغم أن الملك في الفترة الأخيرة لم يكن يشعر نحوه بود قوي بعد استقلال تونس، وقد يكون ذلك لانقلاب بورقيبة على النظام الملكي وطرده للباي من عرش تونس.
كما تعرض الرئيس بورقيبة أثناء مقابلته للوفد الليبي بالنقد للرئيس عبدالناصر وموقفه من بعض البلاد العربية، ومنها ليبيا. وقد أعطى الوشاح الأكبر لرئيس الوزراء الليبي وهدايا من المصنوعات التونسية إلى رئيس وأعضاء الوفد، وأقام مأدبة غذاء فخمة على شرف الوفد، حضرها رئيس وزراء تونس ووزير خارجيتها ورئيس البرلمان التونسي. انتهت الزيارة بعقد اتفاقيات ثقافية وتجارية كالعادة وإصدار بيان مشترك.
ومن تونس سافر الوفد الليبي إلى المغرب، وكان في استقباله رئيس الوزراء المغربي السيد أحمد بحنيني والوزراء. أقام ولي العهد الأمير عبدالله مأدبة عشاء صغيرة على شرف رئيس الوزراء الليبي، كما أقام رئيس الوزراء المغربي مأدبة غذاء على شرف الوفد الليبي. وفي الليل ذهبنا إلى إحدى القصور الملكية لمقابلة الملك، وقد قضينا فترة من الوقت في الانتظار قبل التشرف بالمقابلة، وبعد أن صافح الملك رئيس الوزراء الليبي قام هذا الأخير بتقديم أعضاء الوفد المرافقين له. وبعد أن جلس الملك بضع دقائق مع رئيس الوزراء بمفردهما غادر بعدها القصر، وكانت المقابلة قصيرة عابرة. لم تكن العلاقات بين الملك إدريس ووالد الملك الحسن محمد الخامس على أحسن ما يرام بسبب مرور الملك قبل استقلال ليبيا في رحلته إلى بريطانيا بالمغرب، ومقابلته لمحمد بن عرفه الذي عينته فرنسا على العرش أثناء سجن الملك محمد الخامس ونفيه خارج المغرب.
ورغم أن العلاقات الليبية المغربية بعد الاستقلال لم تكن على ما يرام للأسباب التي ذكرتها، إلا أن العلاقات تحسنت بعد ذلك. وقد استُقبل الملك الحسن أثناء زيارته لليبيا استقبالًا رسميًا وشعبيًا لم يكن يتوقعه، وفي خضم جماهير طرابلس ترك سيارته وترجل في شارع عمر المختار بطرابلس وسار مع عشرات الألوف من الليبيين المتحمسين له، مما أوقع الأمير حسن الرضا ولي عهد ليبيا، الذي كان يرافقه، وكذلك رجال الأمن الليبيين في حيرة.
السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا أثناء وصوله إلى المغرب في زيارة رسمية واستُقبل من طرف رئيس وزراء المغرب السيد أحمد بحنيني والسيد محمد بن هيمة وزير خارجية المغرب ويظهران معه في الصورة كما يظهر معهم بشير المنتصر والقائم بأعمال السفارة الليبية في الرباط السيد محمد هويسة
كان وزير الخارجية المغربي السيد محمد بن هيمة متحمسًا لزيارة الوفد الليبي، وحاول انجاح الزيارة بكل السبل، وشدد في كلامه على التأكيد على الحاجة إلى تقوية العلاقات بين ليبيا والمغرب، خاصة أن كلا منهما دولة ملكية ولهما ظروفًا سياسية مشتركة. وانتهت الزيارة ببيان مشترك يشيد بالعلاقات بين البلدين وتأكيد رغبتهما في عقد اتفاقيات تتناول المجالات التجارية والاقتصادية والثقافية وتبادل الزيارات وتنسيق مواقفهما السياسية، وحاجة ليبيا إلى الاستعانة بالعمال المغاربة في مشاريعها التنموية. وقد صادف موعد سفر الوفد الليبي سفر الملك إلى الخارج، لهذا أخر موعد سفر الوفد الليبي حتى يسافر الملك نتيجة لغلق المطار أمام الطيران لمدة ساعات.
حضر رئيس الوزراء الليبي والوفد المرافق له حفل توديع الملك في المطار وتلطف الملك وأخذ معه رئيس الوزراء الليبي وأخيه الأمير عبدالله للتفتيش على حرس الشرف المعد للملك. وبعد سفر الملك جرت مراسيم توديع الوفد الليبي وشارك في التوديع رئيس الوزراء المغربي والوزراء، وقد تأخر سفر الوفد الليبي إلى الجزائر حتى بعد الغروب. وعلمنا بعد ذلك أن المسئولين الجزائريين قضوا ساعات طويلة في المطار في انتظار الوفد الليبي، وقالوا لنا إن تأخيرنا كان مقصودًا من طرف المسئولين في الحكومة المغربية عندما علموا أن الجزائر أعدت استقبالًا شعبيًا ورسميًا كبيرين وذلك حتى يصل الوفد الليبي الجزائر ليلًا.
بشير السني المنتصر وهو يصافح الملك المغربي الحسن الثاني أثناء زيارة الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء إلى المغرب سنة 1964م
ورغم ما جرى في الرباط من تأخير لسفر الوفد الليبي فقد كان الاستقبال الجزائري منقطع النظير. وكان على رأس المستقبلين الرئيس أحمد بن بلة ونائباه هواري بومدين ومحمد السعيد، وكانت الجماهير على طول الطريق من المطار إلى قصر الشعب تستقبل الوفد الليبي بالزهور والزغاريد. كانت الزيارة أول زيارة يقوم بها وفد ليبي على هذا المستوى والحجم بعد استقلال الجزائر.
الرئيس الجزائري السيد أحمد بن بلة والسيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا وأعضاء الوفد الليبي الذي يزور الجزائر زيارة رسمية
كان موقف الشعب الليبي والحكومة الليبية والملك عظيمًا مع الشعب الجزائري
في ثورته ضد الاستعمار الفرنسي. وكانت الأسلحة تمر بيسر برًا وجوًا عن طريق ليبيا
من مصر إلى المجاهدين الجزائريين، كما كانت مساعدات الشعب الليبي، رغم
ضيق إمكانياته، غير محدودة. لهذا كان من المتوقع أن تكون العلاقات بين البلدين على
أعلى مستوى من القوة والترابط، إلا أن عوامل غير معروفة دفعت السيد محمد عثمان الصيد عندما كان رئيسًا للحكومة إلى عدم التعاطف مع الحكومة الجزائرية الجديدة. ويظهر أنه حاول إقناع الملك بأن الرئيس بن بلة يتعاون مع الرئيس عبدالناصر لإثارة القلاقل في ليبيا وتشجيع المعارضة الليبية من أجل السيطرة علي ليبيا وتقاسمها. وقد سانده في هذا الرأي البريطانيون والأمريكيون الذين كانوا غير راضين عن بن بلة وعبدالناصر، فالحكم الاشتراكي الذي قام في الجزائر شبيه بنظام عبدالناصر الذي يناصبونه العداء.
حاول الرئيس بن بلة ونائبيه هواري بومدين ومحمد السعيد استغلال زيارة الوفد الليبي على هذا المستوى لتحسين العلاقات. وقد رافق نائبا الرئيس، السيدان هواري بومدين ومحمد السعيد، الوفد الليبي طوال إقامته في الجزائر وزيارة كل المرافق والمناطق الجزائرية، وأقيمت العديد من الحفلات والمآدب على شرفه. وكان السيدان عبدالعزيز شوشان وعبدالرحمن الشريف، لعلاقاتهما الوثيقة بليبيا في الماضي، يسهران على راحة الوفد، وأذكر أنهما كانا على اتصال بي دائمًا لمعرفة فيما إذا كان لرئيس الوزراء أية طلبات أو خدمات أو إذا كان في حاجة إلى أطباء، لأنهما يعرفان أن حالته الصحية غير مرضية، وهما من أصدقاء أخي الأصغر الهادي السني المنتصر الذي كان عضوًا في لجنة نصرة الثورة الجزائرية خلال حرب الاستقلال.
السيد محمود المنتصر رئيس مجلس الوزراء مع مجموعة من الوزراء والمرافقين أمام قصر الشعب بالجزائر العاصمة
عند بدء المباحثات بين الوفدين الليبي والجزائري تقدم الجزائريون بمشاريع اتفاقيات عديدة لدمج البلدين في تعاون وتقارب وتكامل في جميع المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، مما كان مفاجأة لأعضاء الوفد الليبي الغير مستعدين لهذا الكم الهائل من مشاريع الاتفاقيات ومستوى التعاون المقترح، وكانوا مترددين في قبول كل هذه المقترحات. كان رأي الوفد الليبي أن وقت الزيارة قصير جدًا ولا يستوعب دراسة كل ما تقدم به الوفد الجزائري من اقتراحات، ولهذا اقترح الوفد الليبي أن تحال جميع المقترحات إلى الحكومتين الليبية والجزائرية لإحالتها إلى الجهات المختصة في البلدين لدراستها قبل تناولها في مباحثات قادمة.
وقد أدى هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى تدخل الرئيس بن بلة الذي ألقى كلمة في الوفدين المتفاوضين، قائلًا إن الجزائر على استعداد للتوقيع على بياض، وعلى الليبيين وضع ما يريدون من الاتفاقيات وبلا حدود لأنني أعتبر البلدين بلدي، فأنا ليبي كما أني جزائري، وحاضر البلدين واحد ومستقبلهما واحد باتفافيات أو دون اتفاقيات، وطلب من الوفد الجزائري قبول مقترحات الوفد الليبي برمتها دون إضافة من الجانب الجزائري.
وهكذا انتهت المفاوضات بالشكل الدبلوماسي التقليدي وصدر بيان رسمي يرسم الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين، كما وقعت معاهدة صداقة بين البلدين. وفي نهاية الزيارة قدمت لأعضاء الوفد الليبي هدايا رمزية من المصنوعات الجزائرية الوطنية اليدوية والبدوية. وغادر الوفد الليبي الجزائر بعظيم الحفاوة، وكان الرئيس بن بلة ونائباه على رأس المودعين، ولا أذكر أن الرئيس بن بلة دعي لزيارة ليبيا كما دعي الملك الحسن.
الدعم الشعبي لثورة الجزائر
وهنا لابد من الإشارة إلى المجهودات التي بذلها الليبيون في دعم ثورة الجزائر في الفترة ما بين 1954 و1962 وعلى رأسهم الشيخ محمود صبحي رئيس لجنة نصرة الثورة الجزائرية، وكذلك السادة الهادي المشيرقي وسعد علي الشريف وأحمد راسم باكير وجميل المبروك ويوسف مادي وسعيد السراج ومحمد بن طاهر، ومختار ناصف، وانضم إليهم عشرات المتطوعين من كافة أنحاء ليبيا، الذين أخذوا على عاتقهم جمع المساعدات المالية والعينية لصالح الثورة الجزائرية.
لقد أفني السيد الهادي المشيرقي، الرحالة ورجل الأعمال المشهور وأحد مؤسسي الحزب الوطني سنة 1944، عمره في خدمة القضايا الوطنية والعربية والإسلامية. وكانت قضية الجزائر قمة عطائه اللامحدود، حتى أنه تعرض لمحاولة اغتيال في ألمانيا في صيف 1960م من قبل منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية الإرهابية أثناء مهمة له لصالح الثوار الجزائريين وذلك خلال حرب التحرير الجزائرية، وقد قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه عدة مرات. توفي السيد الهادي المشيرقي بطرابلس يوم الأحد 14 أكتوبر 2007م ودفن بالجزائر يوم الخميس 18 أكتوبر 2007 حسب وصيته.
في يونيو 1956 اختير الشيخ أحمد راسم باكير من قبل أهالي مدينة طرابلس لرئاسة لجنة جمع التبرعات للجزائر. وقد قام عدة مرات بمهمة توصيل التبرعات بنفسه إلى المجاهدين الجزائريين، كما زار معسكرات جيش التحرير الوطني الجزائري بتونس. وتقديرًا لمجهوداته قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه وتسمية أحد شوارع مدينة الجزائر باسمه. والشيخ باكير والدته جزائرية من عائلة شيخي وهو ابن عم الشيخ الطاهر باكير والي طرابلس السابق ومن كبار المربين الذي اشتغل مدرسًا في مرزق ومصراته وطرابلس منذ أن امتهن التدريس سنة 1933م. وفي سنة 1944م عين إمامًا وخطيبًا بجامع محمد باشا المشهور بشايب العين بسوق الترك بطرابلس، وفي نفس الوقت كان إمامًا لمحلة الظهرة. وفي سنة 1945م بدأ في مزاولة مهنة المحاماة الشرعية وتوفي بطرابلس في 25 نوفمبر 1963م.
ومن الذين ساهموا بقسط وفير السيد أبوبكر محمد البدري الذي قام باحتضان العشرات من أبناء شهداء الثورة الجزائرية والإشراف على تعليمهم وتربيتهم في ليبيا. كما أنه أوصى بثلث تركته من الأملاك إلى أربعة من الأيتام الجزائريين (ثلاث بنات وولد) الذين احتضنهم معه في بيته في طرابلس، وحسب معلوماتي لا زال هؤلاء مقيمين في ليبيا، وقد توفيت منذ فترة إحدى البنات. هذا وقد تبنت السيدة فاطمة أحمد الشريف السنوسي ملكة ليبيا السابقة ابنتها سليمة، وهي يتيمة جزائرية، وذلك تضامنًا منها والملك إدريس مع المجاهدين الجزائريين.
انـتخابـات أكتوبر 1964م
بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات واستعداد المعارضة لها، سافر السيد محمود المنتصر للعلاج في لندن، مما تعذر عليه حضور الانتخابات البرلمانية، وعين السيد إبراهيم بن شعبان وزير المواصلات رئيسًا للوزارة بالوكالة، وكان الأستاذ محمود البشتي وزيرًا للداخلية. وكان رئيس الوزراء يتابع الانتخابات من لندن إلى حد ما، وكنت معه في لندن لمساعدته في اتصالاته ومراسلاته المشفرة مع الملك والتي تصل بشكل دوري ويومي. وكان يتصل هاتفيًا بالمسئولين في ليبيا لمعرفة ما يجري، وكان يستلم عشرات من برقيات الاحتجاج يوميًا يشكو فيها مرسلوها من تدخلات في الانتخابات ويطلبون عودته للإشراف بنفسه على الانتخابات.
استدعى رئيس الوزراء وزير الدولة لشئون الرئاسة السيد عمر الباروني، الذي يحظى بثقته، لمعرفة سير الانتخابات عن كثب، وقد أكد السيد الباروني لرئيس الوزراء بأن تصرفات رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية أثارت تساؤلات وشبهات كثيرة، وساعدت على انتشار الإشاعات بتزوير الانتخابات بشكل كبير. وعندئذ استأذن رئيس الوزراء أطبائه في السفر إلى ليبيا ولكن الأطباء أعطوه إنذارًا بعدم السفر، ولهذا حرر رسالة أملاها عليّ شخصيًا شديدة اللهجة إلى السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، وكان من أقرب أصدقائه، وإلى وزير الداخلية الأستاذ محمود البشتي طالبًا منهما عدم التدخل في الانتخابات وترك المنافسة حرة بين المرشحين وعدم مساندة أحد على الآخر.
السيد إبراهيم بن شعبان الأستاذ محمود البشتي
كان رئيس الوزراء يعرف جيدًا قبل سفره أن الملك كان قد أمر بعدم السماح لنواب المعارضة، الذين أثاروا موضوع إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية دخول البرلمان الجديد بأي حال من الأحوال، ولكنه كان يخشى أن يكون رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية قد استعملا هذا التفويض من الملك للتدخل في مزيد من الحالات لمساندة مرشحين آخرين من أنصارهما وأصدقائهما. عاد السيد عمر الباروني بتعليمات رئيس الوزراء إلى طرابلس واستلم رئيس الوزراء ردًا مستعجلًا موقعًا من السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة والأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية عن طريق السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة يؤكدان فيه حرص الحكومة على التقيد بتعليماته متمنين له الشفاء العاجل.
ورغم هذا توالى سيل برقيات الاحتجاج على تدخلات الحكومة من المرشحين، ثم توالت أخبار عن اعتقالات كثيرة وتجاوزات. واضطر رئيس الحكومة إلى الاتصال بالملك هاتفيًا ذاكرًا له عما يسمعه من تدخلات، راجيًا منه أن يصدر تعليماته إلى رئيس الوزراء بالوكالة لوقف مثل هذه التدخلات، كما طلب منه أن يقبل استقالته نظرًا لعدم سماح الأطباء له بالسفر للعودة إلى الوطن نظرًا لظروفه الصحية السيئة. كان رد الملك عليه صدمة لرئيس الوزراء فقد قال له، وأكده بعد ذلك في برقية مشفرة، بأن لا يستمع إلى ما يصله من إشاعات كاذبة أو شكاوى فردية غير صحيحة، وأن الانتخابات تجري بصورة جيدة ومرضية، وأن على رئيس الوزراء الاهتمام بصحته وعدم التفكير في أمور أخرى، وهو، أي الملك، يتابع مجرى الانتخابات عن كثب طوال فترة غيابه، وطلب منه عدم التفكير في الاستقالة الآن، فهذا موضوع يجب أن يبحث بعد عودته.
وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي بعد ذلك بصفة خاصة أنه يظهر أن الملك يؤيد ما يجري وراض عن ما يتخذ من إجراءات من طرف الحكومة. وكانت علاقتي مع رئيس الوزراء تسمح لي في معظم الأحيان تحليل أوامر الملك وإبداء رأيي فيها بصراحة وانتقاد إجراءات الحكومة، وكان يرى في رأيي انعكاسًا لأراء الشباب المثقف في البلد ويأخذ به أحيانًا. وقد سألته في الأيام الأولى لحكومته سؤالًا مباشرًا عما إذا كان يعني حقًا بما يصرح به من رغبته في إنهاء المعاهدات الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية أو أن ما يقوله هو سياسة لإرضاء الشعب وللاستهلاك الداخلي فقال لي:
اسمع يا ابني، أنا لا أكذب عليك ولا على الشعب الليبي. فعندما قبلت تأليف الحكومة للمرة الثانية وأنا في حالة من المرض لا تسمح لي بهذه المسئولية، كنت آمل وأريد إلغاء المعاهدة البريطانية التي وقعتها عن إيمان بحاجة ليبيا إليها، لأن ليبيا كانت أفقر دولة في القارة الإفريقية وغير قادرة على تغطية مصاريفها الإدارية العادية ودفع مرتبات الموظفين والشرطة، ولهذا فحاجتنا المالية أجبرتنا على تأجير القواعد العسكرية لبريطانيا ثم لأمريكا، والآن أشعر بأننا لسنا في حاجة لمد يدنا إلى بضعة ملايين وعندنا عشرات الملايين تنهال علينا من البترول، ولهذا أدعو الله أن يساعدني الملك في التخلص من المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وجلاء القوات الأجنبية من جميع أنحاء ليبيا، وذلك راحة لضميري أمام الشعب الليبي، وحماية لأبنائي لأن يعيشوا حياتهم دون الشعور بين مواطنيهم بعقدة أن والدهم مهد للأجانب احتلال البلد. هذا رغم أني في قرارة نفسي أعتقد أن بقاء القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية في ليبيا فيه حماية لها من جيرانها وممن يتربص بها، حتى تتمكن من إنشاء جيش قوي رادع لمن يعتدي عليها، وأن الإسراع في جلاء القوات الأجنبية قد يعرضها للخطر، ولكنه لا يريد فرض رأيه على الشعب الليبي الذي يصبو إلى الجلاء، ومن واجب الحكومة الديمقراطية تلبية رغبات الشعب مهما كانت مخاطرها، ولهذا فإنه كان مصممًا على اتخاذ هذا القرار مهما كلفه من تضحيات، وكان يدعو الله أن يمكنه الملك من ذلك.
هذا كان رأي محمود المنتصر وموقفه من موضوع الاتفاقيات العسكرية والمعاهدات وجلاء القوات الأجنبية قبل خطاب الرئيس عبدالناصر، لكن الملك لم يسانده إلى النهاية. ونظرًا لثقة الملك في إخلاصه ورغبة في إرضائه وافق على جلاء القوات البريطانية من مدينتي بنغازي وطرابلس، ولكنه أصر على بقاء الحلف مع بريطانيا وبقاء القوات البريطانية في مطار العدم بطبرق وإجراء التدريبات في صحراء برقة وترك الحكومة حرة في التعامل مع أمريكا، فهو يعرف أن الأمريكيين لن يحموه من أي خطر. ذكرت هذا لأن الموضوع مرتبط بمجرى الانتخابات البرلمانية، وقد سألته عما يجري فيها صراحة، فأنا أعرف أنه قبل شروط الملك بعد رجوعه عن الاستقالة بعدم السماح للنواب المعارضين للمعاهدة البريطانية بالعودة للبرلمان بعد حله.
وسؤالي للسيد محمود المنتصر كان هل أصدر أوامره لرئيس الوزراء بالوكالة لتنفيذ ذلك قبل سفره، لأن هذا ما كان يردده السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، الذي كنت احترمه لأنه صريح دائمًا في آرائه، وهو يكن للسيد محمود المنتصر الاحترام والتقدير. كان جواب السيد محمود المنتصر أن الحالات التي أوصى عليها الملك معروفة وتتناول بعض نواب طرابلس وبنغازي المعروفين ومنعهم من دخول الانتخابات، وكان ذلك يجب أن يتم بطريقة سلمية بالإقناع والترغيب لا بوضعهم في السجن ويمكن مراجعة الملك إذا تعذر ذلك لإعادة النظر في قراره، وليست هذه المرة الأولى التي يقبل فيها الملك تغيير رأيه في أي قرار يتخذه في حالات الغضب.
عاد رئيس الحكومة إلى ليبيا بعد انتهاء علاجه بعد انتهاء الانتخابات وسمع أخبارًا كثيرة عن التدخلات أثناء الانتخابات والاعتقالات، والكل كان يلوم رئيس الوزراء فهو المسئول الأول. وكان رئيس الوزراء مصممًا على حل مجلس النواب المنتخب الذي ضم مجموعة من أصحاب النفوذ ومجموعة قوية على رأسها السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء السابق، الذي كان صديقًا للسكرتير الخاص للملك ورجال القصر، ولهذا لما طلب رئيس الوزراء من الملك حل مجلس النواب رفض الملك طلبه ووافقه على تعديل الوزارة وخروج السيدين إبراهيم بن شعبان ومحمود البشتي من الحكومة. وقد طلب السيد محمود المنتصر من الوزيرين تقديم استقالتهما، ونقل وكيل وزارة الداخلية السيد أبوبكر الزليطني إلى الخدمة المدنية وأجرى تنقلات في رجال الأمن. وقد أوضح السيد أبوبكر الزليطني لرئيس الوزراء أنه ليست له أي علاقة بما جرى ولا يريد أن يكون ضحية لما يشاع عن اعتقال المرشحين وتزوير الانتخابات. ويؤخذ على السيد محمود المنتصر إبقاءه على مدير الأمن للمحافظات الغربية الزعيم عبدالحميد بك درنه رغم الإشاعات المتداولة لتدخله في الانتخابات.
بعد التعديل الوزراي واجه السيد محمود المنتصر معارضة قوية في المجلس الجديد، لأن النواب الجدد وقفوا إلى جانب الوزيرين المقالين لما قدماه لهم من مساعدات أثناء الانتخابات، واتهموا رئيس الوزراء بالتهرب من المسئولية ووضعها على غيره، وتعريض سمعة المجلس الجديد للتشويه أمام الشعب. وتزعم هذه المعارضة النائب يونس بلخير وبعض الأعضاء من مجموعة السيد محمد عثمان الصيد وأعضاء وزارته السابقين. وهكذا أخرجت المعارضة الوطنية من مجلس النواب لتحل محلها معارضة مصلحية. وقد أدى ذلك إلى سوء الحالة الصحية لرئيس الوزراء حتى أصبح لا يأتي إلى مكتبه إلا نادرًا، تاركًا العمل لنائبه السيد حسين مازق، الذي كانت ترشحه الإشاعات لرئاسة الحكومة بعده.
وسافر السيد محمود المنتصر بعد تعديل الوزارة للعلاج ونزل في فندق الجراند هوتيل في روما، وقد لاحظت وجود المستر أدريان بيلت مع فريق من الخبراء القانونيين المعروفين، وقد اجتمع بهم رئيس الوزراء ودرس معهم تعديلات دستورية بأمر الملك. وكان الموضوع سريًا، ولم أكن أعرف فحواه، ولكن فهمت هدفه من المراسلات البرقية السرية المشفرة المتبادلة بين الملك ورئيس الحكومة والتي كنت أفتحها وأعدها له، وسأتعرض لهذا الموضوع في الصفحات التالية بالتفصيل.
وخلال إقامتنا في فندق جراند هوتيل بروما اتصل بنا شخص مجهول الهوية وقال إنه يرغب في مقابلة رئيس الوزراء أو أحد مساعديه، ويظهر من لهجته أنه من اليهود المهاجرين من ليبيا، ورفض إعطاء سبب للمقابلة. وبعد التشاور مع رئيس الوزراء وافق على تحديد موعد معه على أن أقابله أنا نيابة عنه. وحددت له موعدًا في نفس اليوم في إحدى المقاهي التي اقترحها. وخلال المقابلة أسر إليّ بأنه علم من مصادر موثوقة بوجود ترتيبات من بعض الليبيين والمرتزقة ودعم السلطات المصرية للقيام بانقلاب على النظام الليبي، وسيصل هؤلاء المرتزقة إلي طرابلس وبنغازي في سفن عن طريق البحر خلال أسابيع، وذكر بعض أسماء وزراء وكبار ضباط جيش سابقين من ضمن المنظمين للحركة. وقد أخبرت رئيس الوزراء بذلك، ولكن اتضح بعد ذلك أنه لا أساس لقصته، وفسرنا ذلك بأنه قد يكون هذا الشخص اليهودي من الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي للفت نظر السلطات الليبية إلى أخطار قيام حركة في ليبيا لصالح مصر الناصرية التي قد تهدد أمن وسلام إسرائيل. وهذه ليست المرة الأولى التي تصلنا مثل هذه الإنذارات باحتمال قيام حركة انقلابية، ولكن يتضح بعد ذلك لدى المخابرات الليبية البدائية البسيطة أنه لا أساس لها من الصحة.
بعد رجوع رئيس الوزراء إلى طرابلس من العلاج وجد مجلس النواب في حالة تحدي لحكومته وله شخصيًا. وأشاع النواب أن رئيس الوزراء استدعى شركة إيطالية لدراسة مشروع الطريق الساحلي وشككوا في الهدف من وراء ذلك، واتهموه بالاتفاق معها لخدمة مصالح إيطاليا في ليبيا. وقد حول عليه الملك برقية شكوى أرسلت إليه من عدد كبير من النواب تتضمن شكوى ضده حول الطريق الساحلي، وقد طلب مني رئيس الوزراء تسليمها إلى السيد حسين مازق الذي كان يقوم بأعمال رئاسة الحكومة خلال غيابه خارج ليبيا من أجل المرض الذي كان يعانيه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها.
وما أن سمع السيد السنوسي الأطيوش وزير المواصلات آنذاك الإشاعات وفحوى برقية النواب حتى انبرى مدافعًا عن الشركة الإيطالية وموضحًا بأنه لا علاقة لرئيس الوزراء بها. وأنا بدوري لم أكن أعرف شيئا عن تفاصيل الموضوع ولا حتى اسم الشركة، ولم تجر أية اتصالات معها عن طريقي سواء في ليبيا أو أثناء إقامة رئيس الوزراء في روما، رغم أن الإشاعات كانت قوية على مختلف المستويات الرسمية والشعبية. كانت برقية النواب الموجهة للملك ضد رئيس الوزراء هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ اعتبرها رئيس الوزراء مقدمة لسحب الثقة من حكومته، بالإضافة إلى تقدم عدد كبير من النواب بأسئلة واستجوابات عديدة عن سياسة الحكومة العامة وسياستها الزراعية والمشاريع التي فتحت للعطاءات، وطالب البعض منهم بإنشاء لجنة تحقيق مع الحكومة في هذه المواضيع.
وكان السيد سالم القاضي رئيس مجلس النواب المخلص لرئيس الوزراء عاجزًا عن السيطرة على المجلس وإيجاد تفاهم بين الحكومة والمجلس. وكان النائب يونس بلخير يقود حملة المعارضة لأنه ضد السيد علي تامر، الذي له علاقات قوية مع رئيس الوزراء سياسيًا منذ قيام الاستقلال، بينما كان السيد محمد عثمان الصيد يدّعي الوقوف كوسيط بين رئيس الحكومة والنواب، ولكنه في الحقيقة كان المحرك الرئيسي للمعارضة ليضغط على رئيس الوزراء لإدخال بعض أنصاره من النواب في الحكومة. وحتى النواب المعتدلين كانوا يؤيدون المعارضة من وراء ستار لعدم حصولهم على مناصب وزارية أو مزايا مالية، ولهذا قدموا اقتراحات بتعديل لائحة العطاءات المركزية بحيث يسمح لأعضاء مجلس الأمة الاشتراك في العطاءات والمناقصات العامة، الأمر الذي تحرمة اللائحة المعمول بها.
ولكن حكومة محمود المنتصر رفضت هذا الأمر، واشتكى السيد عمر الباروني وزير المالية آنذاك من النواب الذين يتربصون به أمام منزله وفي مكتبه يطلبون قروضًا وسلفيات، وكانوا يتوعدون بتقديم أسئلة واستجوابات له إذا رفض إجابة طلبهم. ولما لم تفد هذه الضغوط على الحكومة حول الشئون المالية لجأ النواب إلى موضوع القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية، الموضوع الذي تتحاشاه الحكومة تجنبًا لإثارة الجماهير الشعبية. ولكن النواب أخطأوا في حكمهم هذا لأن تعرضهم لهذا الموضوع الحساس للملك أضعف ثقة الملك فيهم وأصبح في صف رئيس الوزراء ضدهم.
بدأ رئيس الوزراء يفقد الأمل في التعاون مع مجلس النواب، وكانت ترد إليه تقارير أمن الدولة عن تحركات النواب وعن اجتماعات تعقد في بيت السيد محمد عثمان الصيد لتنسيق مواقف المعارضة في المجلس، رغم أن السيد الصيد نفسه يحاول عبثًا الاجتماع برئيس الوزراء بدعوى إزالة الخلاف القائم في مجلس النواب، وهو يدعي دائمًا صداقته لمحمود المنتصر منذ بدء الاستقلال، فقد كان دائمًا وزيرًا للصحة في حكومته الأولى وكان يؤيده علنا في مجلس النواب، إلا أن مساعيه لم تنجح، لأن بعض الوزراء المقربين من رئيس الوزراء كانوا معارضين للسيد محمد عثمان الصيد ومن بينهم السيد عبدالمولى لنقي وكانوا يحرضون رئيس الوزراء عليه.
كان مدير أمن الدولة العقيد عبدالسلام الكتاف كذلك بدوره لا يحمل ودًا للسيد الصيد، وكان يبعث بتقارير باستمرار عن تحركات واتصالات السيد الصيد العديدة بالسكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف، الذي يرتبط بالسيد الصيد بصلات قوية منذ كان هذا الأخير رئيسًا للوزراء. وكان السيد إدريس بوسيف ينقل للملك تفاصيل الخلاف بين الحكومة ومجلس النواب وما تصله من أخبار عن تدخلات الحكومة في نشاط النواب وما يتعرضون له من رقابة ومضايقة.
وقد تعرض السيد محمد عثمان الصيد نفسه للرقابة البوليسية وصلت إلى حد دخول بيته ليلًا وتفتيشه من طرف بوليس أمن الدولة وبعثرة محتويات بيته وأوراقه بحثًا عن دليل يثبت تآمره مع النواب ضد الحكومة. ورغم أني لا أعرف مدى صحة هذا الإجراء إلا أني أعرف أن جهاز أمن الدولة كان يتابع نشاط السيد الصيد عن كثب. وأذكر أنه في الأيام الأخيرة لمجلس النواب طلب السيد محمد عثمان الصيد موعدًا مع رئيس الوزراء كالعادة، وقد استطعت الحصول له على موافقة رئيس الوزراء على الموعد، إلا أن رئيس الوزراء طلب مني إلغاء المقابلة بعد مقابلته للنائب عبدالمولى لنقي الذي كان له تأثير كبير عليه ويتقبل نصيحته واقتراحاته.
أما السيد إبراهيم بن شعبان الذي كان عضوًا في مجلس النواب، فرغم إقالته من الحكومة، بقي مخلصًا لمحمود المنتصر، وكان يحاول زيارته باستمرار ويأتى إلى المطار لتوديعه والترحيب به، وكان دائمًا يمر على مكتبي ويقضي وقتًا يمزح معي على صاحبه السيد محمود المنتصر، غير أن رئيس الوزراء غير رأيه في صديقه السيد إبراهيم بن شعبان بعد أن كان من أقرب أصدقائه ولم يعد يتحمل زيارته أو رؤيته على الإطلاق. وكان السيد بن شعبان يردد باستمرار بأنه لم يخن الأمانة، وأنه نفذ تعليمات رئيس الوزراء والملك بكل دقة في الانتخابات التي أجراها في غياب رئيس الوزراء، وكان دائمًا يقول إن مشكلة السيد محمود المنتصر تكمن في صهره السيد عبدالمولى لنقي الذي يستغله ضد خصومه السياسيين.
علاقات السيد محمود المنتصر
حاول السيد محمود المنتصر في أول عهده تعيين الدكتور محي الدين فكيني سفيرًا، وأذكر أنه طلب مني الاتصال به في بيته هاتفيًا وإبلاغه دعوة رئيس الوزراء لمقابلته في مكتبه. وعندما اتصلت بالدكتور فكيني طلب مني أن أعطيه بضع دقائق للرد على دعوة رئيس الوزراء، ويظهر أنه كان يرغب في استشارة أخيه السيد علي فكيني الذي كان له تأثير كبير عليه. وبعد أن اتصلت به ثانية أبلغني بأنه مريض ولا يستطيع الخروج وهو يرحب برئيس الوزراء إذا أراد زيارته في بيته. واعتبر السيد محمود المنتصر رد الدكتور فكيني رفضًا للتعاون معه، ورغم ذلك رشحه ليكون ممثلًا لليبيا في الأمم المتحدة، إلا أن الملك رفض هذا الاقتراح بقوة. وأعتقد أن هذه المحاولات للتقارب مع الدكتور محي الدين فكيني كانت بناء على نصيحة السيد عبدالمولى لنقي لأني أذكر أنه كان مع رئيس الوزراء لما طلب مني الاتصال به للمقابلة.
السيد محمود الخوجة السيد محمد بك درنة الدكتور مصطفى بن زكري
يأخذ خصوم السيد محمود المنتصر عليه تعيين عدد من أصهاره، ففي مجلس الشيوخ عين السيدين محمد علي لنقي والحاج رشيد الكيخيا، وفي الحكومة عين السادة عبدالمولى لنقي ومحمد بك درنة وفؤاد الكعبازي ومنصور كعبار والدكتور مصطفى بن زكري وزراء فيها، كما عين ابنه الدكتور عمر محمود المنتصر سفيرًا لليبيا في بريطانيا والسيد الطاهر القرامانلي سفيرًا لليبيا في اليونان والسيد محمود الخوجة سفيرًا في القاهرة، والعقيد عبدالحميد بك درنة مديرًا للأمن في المحافظات الغربية. وكما قلت فإن كل هؤلاء من عائلات سياسية معروفة ولهم مكانة اجتماعية وسياسية بين المواطنين، وترشيحهم لمناصب سياسية سواء من طرف السيد محمود المنتصر أو من أي رئيس وزراء آخر أمر وارد - وبعضهم كانوا وزراء في حكومات سابقة - لا علاقة له بالمحسوبية كما يدّعي خصوم السيد محمود المنتصر.
يقول البعض إن السيد محمود المنتصر متحيز لفرع السيد أحمد الشريف في العائلة السنوسية، فهو صهر السيد أحمد محي الدين السنوسي، زوج ابنته وابن عم الملكة فاطمة. وأفراد فرع أحمد الشريف كانوا جميعًا في الاعتقال وتحت التحفظ المنزلي منذ أن غضب الملك على عائلته بعد مقتل ناظر خاصته وصديق العمر السيد إبراهيم الشلحي سنة 1954م، أي منذ عشر سنوات. وقد سعى السيد محمود المنتصر مع الملك لرفع هذا التحفظ عليهم والسماح للشباب منهم بالعمل وتعويض بعضهم عما خسروه وإعادة لقب الملكة إلى زوجته فاطمة، وهي ابنة السيد أحمد الشريف، الذي سحبه الملك منها بعد زواجه من السيدة عالية لملوم سنة 1955م والتي طلقت منه بعد زواج دام قرابة تسعة أشهر. كل هذا نسب إلى نفوذ السيد محمود المنتصر عند الملك. وقد أثارت هذه الأعمال غضب ولي العهد الأمير الحسن الرضا اعتقادًا منه أنه يساند أبناء السيد أحمد الشريف لوراثة العرش بعد وفاة الملك.
وقد زاد الطين بله تنحية الملك للسيد الطاهر باكير صهر الأمير من منصبه كسفير ليبيا في القاهرة في عهد حكومة السيد محمود المنتصر وتعيينه سفيرًا تحت الطلب بوزارة الخارجية، وذلك بعد تصريحاته في القاهرة حول القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا التي ذكر فيها أن الملك وولي عهده ضد الاتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا وضد بقاء القوات العسكرية الأجنبية في ليبيا.
وقد نشرت تصريحات السيد باكير كل وسائل الإعلام المصرية على نطاق واسع ونقلته عنها وسائل الإعلام العربية والعالمية، مما أثار غضب الملك وأمر بسحب السفير باكير من القاهرة دون مراعاة لكونه والد زوجة ولي العهد. وقد جاءت تلك التصريحات عقب تصريحات عبدالناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا. وحاول السيد محمود المنتصر إيجاد أعذار للسيد الطاهر باكير عند الملك بأنه أخذ على غرة وهو معروف بالصراحة والاسترسال في التفاصيل، مما جعله يدخل في حديث طويل مع مراسل جريدة الأهرام السيد زكريا نيل وجره هذا إلى الكلام. وقد زادت الصحافة المصرية على ما قاله ولم يكن من المستطاع تعديل ما نشر أو تكذيبه لأن ذلك سيكون له أثر ضار.
لم يستطع السيد محمود المنتصر إقناع الملك لإبقاء السيد الطاهر باكير صهر ولي العهد سفيرًا في القاهرة، فأصدر قرارًا بنقله إلى وزارة الخارجية كسفير تحت الطلب. ورغم ما قام به السيد محمود المنتصر من الدفاع عن السيد الطاهر باكير، إلا أن ولي العهد اعتبر إجراء نقل صهره من تدبير السيد محمود المنتصر ضده ومن ضمن محاولات هذا الأخير لنقل وراثة العرش لعائلة السيد أحمد الشريف أو بإعلان النظام الجمهوري وتوليه هو رئاسة الجمهورية. وكانت هناك أسباب وقرائن لتهم ولي العهد هذه لمحمود المنتصر لما كان يجري في الخفاء بشأن رغبة الملك في تعديل الدستور وإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري، وسأتعرض لذلك بالتفصيل في الصفحات التالية.
خلاف الملك إدريس مع عائلته
لقد كان الملك منذ عهد حكومة السيد مصطفى بن حليم (1954-1957م) يفكر في موضوع نظام الحكم في ليبيا بعده. ورغم تعيين ابن أخيه الأصغر الأمير الحسن الرضا وليًا للعهد، إلا أنه كان غير مؤمن بصلاحيته وغير متحمس لفكرة ولايته للعهد، لأنه يعتقد بأنه سيعيد العائلة السنوسية إذا تولى الملك إلى مكانتها في الدولة، والملك يحمل لهم جميعًا بغضًا دفينًا. ورغم وجود أسباب ترجع إلى خلاف حول من هو صاحب الحق في
تولي زعامة الحركة السنوسية بعد وفاة الملك إدريس، إلا أن وصول الخلاف إلى درجة حرمان العائلة السنوسية بكاملها من زعامتها التاريخية للحركة السنوسية التي أسسها جدهم الأكبر السيد محمد بن علي السنوسي الكبير منذ أكثر من قرن كان شيئًا يصعب تفسيره.
ويرجع الخلاف إلى أيام الكفاح ضد إيطاليا. فبعد وفاة السيد المهدي الشريف السنوسي سنة 1902، والد السيد إدريس السنوسي، كان عمر هذا الأخير لا يزيد على 12 سنة، ولهذا قرر الإخوان السنوسيون، كما كانوا يسمون، أن يتولى السيد أحمد الشريف السنوسي ابن عم إدريس رئاسة الإخوان بصفة وكالة عنه حتى يبلغ السيد إدريس سن الرشد، وتولى السيد إدريس رئاسة الإخوان سنة 1916 وسافر ابن عمه السيد أحمد الشريف إلى تركيا سنة 1918 بعد خلاف بينهما حول توسيع الحرب ضد البريطانيين في مصر الأمر الذي عارضه السيد إدريس.
وقد اقترح السيد أحمد الشريف على السيد إدريس تعيين ابنه السيد العربي خليفة له بعد وفاته أو تنحيه عن منصبه. وعد السيد إدريس هذا، تمسك به أبناء السيد أحمد الشريف حتى بعد استقلال ليبيا، ولكن الملك عندما تولى العرش عين أخاه السيد محمد الرضا وليًا للعهد بحجة أن وعده للسيد أحمد الشريف كان على زعامة السنوسيين فهو لم يكن ملكًا في ذلك الحين وصفته كملك صفة جديدة. وبعد وفاة أخيه اختار الملك السيد الحسن الرضا ابن أخيه الأصغر وليًا للعهد. وازدادت العداوة بين الملك وعائلته بعد إقدام محمد محي الدين السنوسي حفيد أحمد الشريف على اغتيال السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية وصديق الملك إدريس منذ الطفولة في بنغازي سنة 1954م.
خيارات الملك إدريس بين النظام الملكي والجمهوري
بدأ الملك يفكر في ولاية عهده، فهو يخاف أن تنتقل رئاسة ليبيا إلى طرابلس إذا ألغى النظام الملكي وأعلن نظامًا جمهوريًا منتخبًا، وهو حريص على أن يكون دور برقة مساويًا على الأقل لدور طرابلس في حكم ليبيا، رغم الفرق الشاسع في عدد السكان. وفي نفس الوقت لم يكن مقتنعًا بابن أخيه السيد الحسن الرضا، الذى قد لا يستطيع السيطرة على الوضع، وقد يقع تحت نفوذ العائلة إذا تولى الملك، ويخاف على مستقبل أبناء الشلحي بعد وفاته، فالعداوة بينهم وبين العائلة السنوسية أصبحت تحصيل حاصل.
وكان أولاد الشلحي لا يتعاملون مع الملكة وولي العهد، رغم أنهم كانوا يدخلون القصر الملكي دون استئذان، ويتمتعون بالنفوذ والسلطة في القصر ومع الحكومة. وزاد هذا الوضع تعقيدًا بعد وفاة السيد البوصيري الشلحي، الذي خلف والده في منصب ناظر الخاصة الملكية، في حادث سيارة مريع في أبريل 1964م. ولا أحد يصدق كيف استطاع الملك أن يجمع الأعداء حوله. وقد خلق أبناء الشلحي مشاكل لمعظم رؤساء الحكومات، فالعقيد عبدالعزيز الشلحي كان له نفوذ كبير في الجيش الليبي، وكان أخوه السيد عمر مستشار الملك المقرب، وحتى أرملة إبراهيم الشلحي وبناتها وأزواجهن كانوا يتمتعون بامتيازات ومكانة خاصة ولا يرد لهم طلب عند الملك.
هذا التناقض في علاقة الملك إدريس مع عائلته وحاشيته انعكس في تصرفاته في الحكم. وكان يؤمن بالأسلوب القديم في الحكم (فرق تسد). فلم يجعل حدًا للخلاف بين رؤساء حكومته والخاصة الملكية وتحديدًا في عهد السيد إبراهيم الشلحي رئيس خاصته الملكية ومن بعده ابنه البوصيري. وكان كثيًرا ما يحاول تعيين مسئولين لا يتفقون مع رؤساء حكوماته في بعض الوظائف الهامة للحد من سلطاتهم وخلق بعض المشاكل لهم، وقد يهملهم بعد عزلهم أو استقالتهم ويأتي بخصومهم إلى الحكم. ولو كان النظام ديمقراطيًا ويتم هذا التغيير في المناصب بتغير الحكومات نتيجة انتخابات حرة لكان الأمر مقبولًا. ولم يعد أحد يعرف من هو صديق النظام ومن هو عدوه، وهذا ينطبق على الوزراء والسفراء وكبار الموظفين وكبار ضباط الأمن والجيش. وهذا الوضع على ما أعتقد جعل كل هؤلاء غير مهتمين بالتمسك بالنظام الملكي أو الدفاع عنه والكل تفرغ لشئونه وحياته وعائلته وكان الكل ينتقد ما يجري. وكان نقد النظام في المكاتب الحكومية يتم على أعلى مستوى في الدولة، بما في ذلك انتقاد الملك وسياسة الحكومة بكل صراحة ودون خوف، مما يجعل زوار كبار المسئولين يستغربون ولا يصدقون ما يسمعون.
تـعديـل الدسـتور
أشرت في الصفحات السابقة عن فتور العلاقة بين السيد محمود المنتصر وولي العهد، والقرائن المصاحبة لها التي عززت من مخاوف ولي العهد. وأذكر أن الملك طلب من المستر أدريان بيلت عن طريق السيد محمود المنتصر عندما كان رئيسًا للحكومة في سنة 1964 إعداد دراسة قانونية عن تعديل الدستور الليبي. وقد سافر فعلًا رئيس الوزراء إلى روما واجتمع في الجراند هوتيل بالمستر بيلت والمستر زولفيجر وبآخرين لدراسة الموضوع. كما أن المستر بيلت جاء إلى طبرق ومعه بعض المستشاريين للتشاور مع الملك والحصول على محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بواسطة اثنين من أساتذة اللغة العربية بجامعة كمبريدج البريطانية هما فرانك ستيوارت وديفيد جاكسون.
وفي سنة 1965م بعد تعيين السيد محمود المنتصر رئيسًا للديوان، وعندما كنت في إجازة في لندن، وصلتني برقية منه وطلب مني المرور في طريق عودتي بجنيف والاتصال بالمستر أدريان بيلت وإحضار مظروف هام وسري منه. وفعلًا غادرت لندن إلى جنيف واتصلت بالمستر أدريان بيلت ودعاني إلى غذاء في مطعم جميل على بحيرة جنيف "الليمان"، وسلمني بعد الغذاء مظروفًا مغلقًا بالشمع الأحمر ومختومًا حرصًا على سريته وموجهًا للسيد محمود المنتصر.
كانت مقابلتي للمستر بيلت فرصة لي للتحدث معه حول ليبيا والملك، فقد كان من أعلم الناس بتطورات الدستور الليبي وإجراءات نقل السلطات من الإدارتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة الليبية، وتصرفات الملك في تلك الفترة، وعدم استقرار البلاد في الفترة الأخيرة. وأذكر أنه وثق بي جدًا وتكلم معي بصراحة العالم المجرد المحايد قائلًا إن مشكلة ليبيا الحقيقية هي أن الملك ليس على دراية بعلم وفن إدارة الحكم الحديثة وليست له خبرة في هذا المجال، وهو يحكم بعقلية قديمة، ويظهر أنه قرأها في كتب التاريخ العربي ويريد تطبيقها في القرن العشرين. ولهذا يعتقد الملك أن الوزراء يستطيعون تسيير أمور الدولة من مكاتبهم بمدينة البيضاء عن طريق الهاتف دون وجود مستشاريهم وموظفيهم واللجان المتخصصة التي تقوم بالدراسات حولهم في مراحل اتخاذ القرار كما تقتضي الإدارة الحديثة، فالوزير لم يعد ذلك الشخص الذي ينفذ أوامر الملك بدون مناقشة كما كان عليه الحال في الماضي.
كما أن الملك لم يؤمن بالحكم الديمقراطي وصلاحيات البرلمان ومدى أهمية قراراته في شئون الدولة وسلطاته التي تعلو السلطات الدستورية للملك والحكوم،. كما أنه لا يؤمن بمبدأ توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان يجب أن يتم تعيينه للحكومة بعد استشارته لمجلس النواب والكتل النيابية، ويجب على الحكومة الحصول على ثقة البرلمان قبل مباشرة مهامها. كل هذه المتطلبات موجودة في الدستور الليبي الحالي الذي يعتبر من أحدث الدساتير في العالم، وأضاف المستر بيلت، أن أي تعديل للدستور الحالي لن يخرج عن هذا الإطار الدستوري.
وفي نهاية محاضرته لي أعرب عن سروره باستعانة الساسة القدامى بالشباب المتعلم لتسيير أمور الإدارة والاستفادة منهم في الأمور الفنية التي تحتاج إلى علم ودراية يفتقدها الجيل القديم. هذا وقد شكرته على ضيافته والغذاء في هذا المطعم الجميل، وعلى معلوماته القيمة وتحليلاته الدقيقة للأوضاع في ليبيا، وعلى نصائحه الثمينة التي استمعت إليها بكل اهتمام، وودعته وعدت إلى طرابلس وسلمت المظروف إلى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي. كنت أنوي قضاء يومين مع العائلة قبل السفر إلى البيضاء لمباشرة عملي، ولكن السيد محمود المنتصر طلب مني البقاء في طرابلس لمهمة أخرى وأخبر السيد حسين مازق الذي وافق على ذلك، وهذا موضوع آخر سأتعرض له في غير هذا المكان.
استقالة حكومة السيد محمود المنتصر الثانية
استدعى الملك رئيس وزرائه السيد محمود المنتصر لتأليف حكومتة الثانية بعد مواجهته لأصعب أزمة داخلية في عهد الدكتور محي الدين فكيني اعتقادًا منه أنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرجع الأمور إلى نصابها، إلا أن ثقته به أخذت تضعف مع مرور الوقت، فلم يعد السيد محمود المنتصر في رأيه السياسي القوي الصارم الشجاع الذي قاد البلاد في سنواتها الأولى للاستقلال ووطد دعائم الحكم والعرش في ليبيا بيد من حديد. فقد أصبح مترددًا بين أصدقائه الساسة القدامى الذين جاء بهم عندما ألف الوزارة والوزراء الشباب الذين أتى بهم لتسيير شئون الحكم التي زادت تعقيدًا فنيًا وعمليًا.
كما أن سياسة محمود المنتصر القديمة وصداقته وعلاقاته مع البريطانيين أصبحت موضع شك وأصبح ميالًا إلى مجاراة الموجة الوطنية العربية التي يتزعمها الرئيس عبدالناصر وما في ذلك من خطورة على استقلال ليبيا. كما أن البريطانيين والأمريكيين توقعوا ذلك حال قدومه إلى الحكم في سنة 1964م، وقد تجلى ذلك في تقارير السفير البريطاني التي نشرت أخيرًا، وفي ما يلي أورد ملخصًا لما كتبه السفير البريطاني في هذه التقارير.
لقد أوضح السفير البريطاني السير رودريك ساريل في تقاريره العديدة حول هذا الموضوع شكه في حكمة الملك وراء اختياره لمحمود المنتصر رئيسًا للحكومة في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد. وازداد هذا الشك عندما جاء السيد محمود المنتصر بتلك التشكيلة الوزارية من كبار السن الذين فاتهم القطار بعد تطور شئون الحكم في ليبيا، وقد نصح السفير البريطاني حكومته قائلا: "إن الصديق القديم السيد محمود المنتصر الذي تعرفه بريطانيا سنة 1952م ليس هو السيد محمود المنتصر اليوم سنة 1964م، ولهذا يجب أن تكون الحكومة البريطانية حذرة ومدعوة إلى تفكير جديد حول سياسة بريطانيا نحو ليبيا في المستقبل، ورغم أن قدوم المنتصر إلى الحكم يمثل نصرًا للمحافظين في ليبيا، إلا أن انتشار الشعور القومي بين الشعب وتدخل الرئيس عبدالناصر ضد القواعد العسكرية حوّل ميزان القوى في صالح التيار الناصري في البلاد. وقد واجه المنتصر خيارًا صعبًا بين السير مع التيار الناصري أو استعمال القوة، ويظهر أنه اختار الطريق الأول، مما جعله يندفع إلى الدخول في مفاوضات مع بريطانيا ومع الأمريكيين لتصفية جميع القواعد العسكرية الأجنبية والجلاء الكامل للقوات البريطانية من جميع ليبيا، بما فيها مطار العدم بطبرق والقوات الأمريكية من مطار الملاحة، رغم ما في ذلك من خطورة على أمن ليبيا من جيرانها مصر والجزائر، واستطاع أن يقنع الملك باتخاذ هذه السياسة".
ورغم أن الملك كما أكد للسفير البريطاني وللسفير الأمريكي لم يكن منزعجًا مما يفكر فيه السيد المنتصر، بل كان يرى سياسته نهجًا لتهدئة الرأي العام الليبي، وأنها لن تمس التحالف الليبي البريطاني أو الأمريكي وستقتصر على إعادة توزيع القوات الأجنبية وإبعادها عن المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان كطرابلس وبنغازي. إلا أن السفير البريطاني واصل انتقاده لسياسة المنتصر في نهاية سنة 1964م في تقاريره العديدة قائلًا: "إذا استعرضت أحداث سنة 1964م فيمكن الجزم بأن تصرفات محمود المنتصر وحسين مازق لم تكن سليمة أو مخلصة". لقد وردت في تقارير السفير العديدة السابقة عن مقابلاته مع محمود المنتصر بالذات بأنه لم يتخذ أي إجراء لكبح القدر الهائل من الحملة الصحفية ضد القواعد والمعاهدات العسكرية، ولم يقتصر عمله بعدم اتخاذ إجراء في هذا الشأن، بل سعى سرًا إلى تشجيع الحملة الإعلامية لإضعاف أية معارضة من الملك لتغيير سياسته المعروفة.
كان السفير البريطاني يعتقد جازمًا أن دوافع المنتصر التي يصعب فهمها هي حرصه على سمعته وسمعة عائلته المنتشرة في كل فروع الحكومة، وقراره أن الوقت قد حان لإزالة ما يعتقده أنها وصمة عار لتوقيعه المعاهدة البريطانية والسماح بالقواعد العسكرية في ليبيا، وذلك تمهيدًا للسير في ركاب الخط القومي المصري الذي يتزعمه عبدالناصر ضد النفوذ البريطاني والغربي في المنطقة العربية، وأصبح متأكدًا من عدم قدرة بريطانيا حماية ليبيا من أية محاولة قد يقوم بها أنصار الرئيس عبدالناصر للسيطرة على ليبيا قبل أو
بعد وفاة الملك، ولهذا أخذ يبالغ للملك خطورة مظاهرات الطلبة رغم قلة عددها وتأثيرها الشعبي.
وفي موقف الملك من سياسة المنتصر هذه يرى السفير البريطاني: "بناء على مقابلاته العديدة هو والسفير الأمريكي للملك، أن الملك رغم قبوله للخطوات التي ترمي إلى جلاء القوات الأجنبية من المدن الرئيسية كطرابلس وبنغازي تمشيًا مع رغبات جماهير الشعب، إلا أنه كان غير موافق على إلغاء الحلف الليبي البريطاني الوارد في المعاهدة أو جلاء القوات البريطانية عن مطار العدم في طبرق حيث يقيم إقامة دائمة. وقد أيقن أخيرًا أن الأمور أصبحت تتطور وأن مجلس الأمة تمادى في قراراته ضد السياسة المعتدلة التي يرى السير فيها، كما أن الحكومة سارت على طول الخط مع المجلس، مما جعله يشعر بالخطر على فقدان السيطرة على الوضع وقرر في قرارة نفسه السيطرة على الوضع، وقراره الأخير بالاستقالة يعتبر بداية ضغطه على الحكومة لتغيير سياستها بشأن القواعد والمعاهدات، رغم أنه لم يعلن ذلك صراحة تمشيًا مع سياسته في عدم إظهار معارضة علنية لحكوماته".
المنتصر يترك الحكومة إلى الديوان الملكي
بهذا العرض المبسط لمجرى الأمور في أواخر عهد حكومة السيد محمود المنتصر وبعد حل مجلس النواب واشتداد حملة الساسة المعارضين له، والتي كان يصل صداها إلى الملك عن طريق سكرتيره الخاص، وتكرر شكوى زعماء برقة وقبائل البيضاء بنقل السيد محمود المنتصر للحكومة من البيضاء واستقرارها في طرابلس، مما أثر في الحالة الاقتصادية وساعد على نقص مشاريع الإنشاء والتعمير في المنطقة الشرقية. وفي آخر مقابلة للسيد محمود المنتصر للملك في 20 مارس 1965م ذكره هذا الأخير بظروفه الصحية وكثرة المشاكل التي سيواجهها وحاجته إلى الراحة، واقترح عليه تقديم استقالته وتكليف حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة بدون تغيير في أعضائها، وتعيينه هو، أي السيد محمود المنتصر، رئيسًا للديوان الملكي ليكون إلى جانب الملك ويتفرغ للعناية بصحته.
وأذكر أن محمود المنتصر لم يأت إلى طبرق لمقابلة الملك من أجل الاستقالة، بل كان يحمل تعديلًا لحكومته وإدخال المزيد من الوزراء الشباب، والبحث مع الملك في شئون التنمية وتحسين المرافق العامة في البلاد للإعلان عن سياسة الحكومة استعدادًا للانتخابات القادمة، وتبادل الرأي مع الملك حول السياسة التي ستتبع في هذه الانتخابات. وبعد أن خرج السيد محمود المنتصر من الملك بعد تناول الغذاء معه كالعادة قال لي بأنه سينام وبعد ذلك يريدني لأمر هام، وقد شعرت بأن أمرًا هامًا قد حصل وأن رئيس الوزراء كان يشعر بعدم الاكتراث بما جاء من أجله.
وجدت السيد محمود المنتصر بعد الظهر مستريح البال لا تظهر عليه الحالة العصبية التي تلازمه طوال انشغاله بالأحداث ونظر إلي مبتسمًا يريد أن يعرف ماذا يجول بخاطري. ثم قال لي: "تعرف حالتي الصحية ليست على ما يرام والبلاد تمر بمرحلة انتخابات نيابية ثانية والظروف لا زالت هي الظروف التي جرت فيها الانتخابات الأولى، وقد درست كل ذلك مع الملك اليوم بصراحة، وقد تفضل واقترح عليّ تقديم استقالتي محافظة على صحتي وتكليف السيد حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة لإجراء الانتخابات على أن تتألف من نفس الوزراء الحاليين، وأن الملك يريدني إلى جانبه في طبرق وسيعينني رئيسًا للديوان الملكي بدلًا من الدكتور علي الساحلي، وأريد الآن أن أكتب استقالتي لتقديمها إلى الملك رسميًا الساعة السادسة". ثم أملى عليّ استقالته التى تشير إلى حالته الصحية والظروف الصعبة التي مرت بها البلاد خلال فترة حكومته، شاكرًا للملك دعمه ومساندته له للتغلب على كل الصعاب، راجيًا منه إعفاءه من رئاسة الحكومة وقبول استقالته وداعيًا له بطول العمر والسداد في رعاية شعبه وتحقيق أمانيه في الأمن والرفاهية والسعادة.
هذا وقد كتبت نسخة نظيفة بخط يدي وقعها رئيس الوزراء ووضعها في ظرف وأخذها معه لمقابلة الملك وتناول شاي المساء معه كالعادة عندما يكون في طبرق. وبعد حوالي ساعة من الزمن عاد وقال لي: "الاستقالة قبلت وقد اتصلت بالسيد حسين مازق وأبلغته بالقرار بحضور الملك، وقد دعي للحضور إلى طبرق غدًا صباحًا لحلف اليمين". وهكذا أخذنا السيارة من طبرق إلي البيضاء، حيث قضى السيد محمود المنتصر فيها ليلته وجمع فيها أوراقه الخاصة من مكتبه وبيته وسافر إلى طرابلس صباح اليوم التالي وقد ودعته في البيضاء. وقد أثار معي وضعي الوظيفي بعد استقالته وأكد لي بأنه سيعمل مع السيد حسين مازق إلى إرجاعي إلى وزارة الخارجية إذا أراد تعيين شخص آخر في منصبي، وأنه يعتقد بأن السيد حسين مازق لن يتأخر، فقد أسدى له خدمة كبيرة وأقنع الملك بإرجاعه إلى الحكومة بعد أن كان مغضوبًا عليه، كما عينه نائبًا للرئيس ليخلفه في رئاسة الحكومة، وهذا ما تم فعلًا.
ورغم أني كنت أعرف السيد حسين مازق منذ كان واليًا على برقة عن طريق اتصالاته المستمرة برؤساء الحكومات، إلا أني لا أعرفه معرفة شخصية تجعلني محل ثقته والمشرف على شئون مكتبه كوكيل شئون رئاسة مجلس الوزراء، ولكنني ذكرته بقصة حصلت في بنغازي سنة 1958م عندما كنت سكرتيرًا خاصًا لرئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، وكان السيد حسين مازق آنذاك واليًا على برقة. فقد كنا نحضر محاضرة لعميد كلية الاقتصاد في الجامعة الليبية، وهو مصري، عن الصناعة البترولية، وتعرض المحاضر إلى عوامل الإنتاج وذكر أنها تنحصر في العمل والمصادر الأولية فقط وليبيا تملكها وهي وجهة نظر شيوعية التي لا تعترف بأي دور لرأسمال كعامل للإنتاج. كنت حديث التخرج من الجامعة في كلية التجارة والاقتصاد وعلقت على المحاضر قائلًا بأن المحاضر أغفل عاملًا هامًا للإنتاج وهو الرأسمال، وخاصة في بلد فقير مثل ليبيا، كما يوجد عامل آخر للإنتاج مهم جدًا لا تملكه ليبيا وهو عامل التكنولوجيا والإدارة التي لا بد من توفرها للإنتاج.
لاقى تعليقي إعجاب الحاضرين الليبيين وساد هرج ومرج، ولم يلق تعليقي ترحيب هيئة التدريس المصرية، ولكن الليبيين شعروا بالفخر لوجود ليبي متعلم يستطيع مناقشة الأساتذة المصريين وأقبلوا عليّ يهنئوني على تعليقي، وكان من بينهم السيد حسين مازق والي برقة قبل أن أعرفه. وهذه المناسبة جعلت عميد كلية الاقتصاد بالجامعة الليبية آنذاك يعرض عليّ الانتساب إلى هيئة التدريس في الجامعة الليبية بعد أن عرف أني كنت أول دفعتي في كلية التجارة جامعة القاهرة لإرسالي إلى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه أعود بعدها للتدريس في الجامعة الليبية. ولكنني رفضت لأني كنت أسعى للذهاب إلى بريطانيا للعمل في السفارة الليبية هناك والانتساب إلى الجامعة في لندن في نفس الوقت، وهذا ما تم فعلًا كما ذكرت في الفصل الأول.
في اليوم التالي صدر المرسوم الملكي باستقالة السيد محمود المنتصر وتعيين السيد حسين مازق رئيسًا للحكومة التي بقيت بدون تغيير سوى تعيين الدكتور وهبي البوري وزيرًا للخارجية ليخلف السيد حسين مازق. وعلمت من السيد محمود المنتصر بعد ذلك أن السيد حسين مازق اقترح تعيين ابنه الدكتور عمر المنتصر السفير الليبي في لندن وزيرًا للخارجية، إلا أن الملك كان يعرف أن الدكتور عمر كان مرتاحًا في لندن ولا يرغب في العودة للوزارة، ولهذا رفض اقتراح مازق الذي اقترح السيد وهبي البوري بدلًا منه. وأعتقد أن السيد حسين مازق كان يريد نقل الدكتور عمر المنتصر من سفارة لندن الهامة لتعيين شخص يثق به لا ينقل أسرار اتصالاته مع الحكومة البريطانية إلى أحد غيره. وكان السيد محمد عبدالسلام الغماري وهو صديق للسيد حسين مازق يسعى إلى منصب السفير في لندن ولم يستطع إقناع الملك برغبتة هذه رغم جهود عائلة الشلحي، وهو أحد أعضائها، لأن الملكة فاطمة كانت تدعم الدكتور عمر المنتصر وتريد بقاءه في لندن، وقد سمعت هذا من السيد محمد عبدالسلام الغماري شخصيًا في مكتبي محتجًا.
وهكذا لازم السيد محمود المنتصر بيته بعد استقالته، واحتفل خصومه السياسيون بخروجه من الحكومة. ورجع السيد حسين مازق إلى البيضاء وطلب مني ومن الجميع بمن فيهم الياور الخاص وسائق رئيس الوزراء السابق، وكانا من شرطة أمن الدولة بطرابلس، البقاء في مناصبهم والاستمرار في العمل كما كان في عهد حكومة السيد محمود المنتصر. وأذكر أني كنت بعد أسبوع أو أكثر أتكلم مع السيد محمود المنتصر على الهاتف وخطر لي أن أسأله عما تم في اقتراح الملك بتعيينه رئيسا للديوان الملكي، فقال لي إنه لم يسمع من الملك شيئًا منذ يوم استقالته وربما يكون قد غير رأيه، لأنه كان من المفروض أن يصدر أمر التعيين مع مراسيم الوزارة الجديدة ولكن ذلك لم يحصل. وبعد أيام معدودة صدر الأمر بتعيينه رئيسًا للديوان الملكي وجاء إلى طبرق وتسلم منصبه، وكان خصومه السياسيين يتمنون إبعاده وبقاءه في التقاعد بعيدًا عن السلطة والملك.
وفاجأني السيد محمود المنتصر بعد ذلك بأنه استأذن الملك ووافق على انتدابي إلى الديوان لأكون رئيس مكتب رئيس الديوان بدرجة وكيل وزارة وهي في مستوى وكيل الديوان الملكي ورئيس التشريفات الملكية، وأنه كلم رئيس الوزراء السيد حسين مازق في الموضوع فوافق على انتدابي. ترددت في الموضوع وطلبت من رئيس الديوان إعطائي فرصة للتفكير، فطلب مني أخذ إذن من السيد حسين مازق والقدوم إلى طبرق لبحث الموضوع معًا. وعندما تكلمت مع السيد حسين مازق وجدته مرحبًا بالفكرة وشجعني على قبول عرض رئيس الديوان لأنه يحتاج إليّ لمساعدته ومن واجب الجميع مساعدته كما قال فهو أب للجميع وقدم خدمات لليبيا تستحق التقدير.
وفعلًا سافرت إلى طبرق وسرعان ما انتشر الخبر. وحال وصولي استُقبلت ببرود من السكرتير الخاص ورجال القصر، فدرجتي تعطيني مكانًا هامًا بينهم ولم يكن مثل هذا المنصب موجودًا في القصر، وكان عدد رجال الحاشية محدودًا وكلهم من برقة. وقد أمر رئيس الديوان بتخصيص بيت الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان السابق لي، لأن الملك أعطاه هو أحد القصور للإقامة فيه، وقد زاد هذا من حسد الحاسدين. ومن اليوم الأول شعرت بجو غير عادي ورقابة وتنصّت على اجتماعاتي برئيس الديوان، كما أني لم أكن راغبًا في العمل في الديوان الملكي لأن الوظيفة ليست فيها مسئولية، ومجال العمل فيها محدودًا لا يتمشى ومؤهلاتي وطموحاتي الأكاديمية. ولم يكن لي أي طموح سياسي لاستغلال القرب من الملك للحصول على مكاسب سياسية، بل كنت أتوق للرجوع إلى عملي في وزارة الخارجية والعمل في السفارات بالخارج.
وبعد تفكير طويل صارحت السيد محمود المنتصر رئيس الديوان بأني لا أستطيع العمل في هذا الجو الخانق لأن حياة القصور تحتاج إلى نوعية من البشر لست منهم وليس هناك ما يشجعني على العمل فيها. وقد حاول رئيس الديوان إقناعي بأن وجودي في القصر مهم جدًا، ورغم عدم وجود اختصاصات مكتوبة للوظيفة، إلا أني أستطيع خلق اختصاصات لها، فسأكون قريبًا من الملك والملكة وسيكلفانني بمهام كثيرة داخل وخارج ليبيا، خاصة أنهما كانا يكلفان بها الأجانب من عمال القصر والأصدقاء الأجانب، لأنه ليس هناك من له خبرة في الديوان الملكي في طبرق للقيام بمثل هذه الأعمال، ولهذا فسيعتمدان عليّ وعلى خبرتي في السفر والعمل في الخارج وقد تسند لي مهام أخرى، وهذا صحيح، ولكنني كنت مصممًا على رفض العرض، رغم هذا الترغيب ورغم خطورة رفضي للعمل في الديوان وإحراجي للسيد محمود المنتصر الذي اقترح انتدابي وشاور الملك في هذا الأمر وحصل على موافقته، وليس من عادة الملك قبول رفض من يكلفه بمهمة رسمية.
وبعد نقاش طويل قبل رئيس الديوان اعتذاري لما يعرفه عني من تقدير للأمور
ولا يريد فرض واقع عليّ لا أرتضيه، وطلب مني ترشيح شخص لمساعدته في الديوان كرئيس مكتب أو سكرتير. فرشحت له السيد الشيخ عبدالغني وهو سوداني الجنسية، وقد عين في رئاسة مجلس الوزراء كمترجم ومحرر وأثق به كثيرًا. وقلت له لأنه أجنبي فلن يثير حسد أو معارضة من رجال الحاشية، ولن يزاحمهم على حظوة عند الملك، وهو قدير في تحرير المراسلات والترجمة والاتصالات برجال الدولة ويعتبر عندنا كليبي نظرًا لأخلاقه العالية وللمدة الطويلة التي قضاها في ليبيا. وفعلًا أخذت سيارتي وعدت إلى البيضاء وكنت في غاية الإحراج لرفضي عرض السيد محمود المنتصر وما يترتب عن هذا من إحراج له.
وعندما أخبرت السيد حسين مازق بما تم استغرب قراري برفض الانتداب، ويظهر أنه وجد انتدابي فرصة لتعيين وكيل وزارة لشئون الرئاسة يعرفه ويثق به، وأعتقد أنه كان يفكر في السيد حسين الغناي، إلا أنه كان مترددًا، لأن وجود السيد حسين الغناي كوكيل لوزارة الخارجية قد يكون أكثر فائدة له لمعرفة ما يجري في الخارجية، ولكن الوضع تغير بعد رفضي الانتقال إلى الديوان. وقد صارحت السيد مازق حال رجوعي بأن العرف جرى على تغيير جهاز الرئاسة بعد تغيير رئيس الوزراء، وأني لن أشعر بعدم الرضا إذا تقرر نقلي إلى أية جهة أخرى في الدولة، وذكرته بأني جئت لرئاسة الوزراء على أساس انتداب مؤقت من وزارة الخارجية لأعود بعد ذلك إلى وزارة الخارجية.
وقد تطورت الأمور ورقيت إلى وظيفة وكيل وزارة في الخدمة المدنية وهي وظيفة تعادل سفير في وزارة الخارجية، ولكنني كنت مستعدًا لقبول درجتي العادية في الخارجية وهي وظيفة مستشار أو وزير مفوض. وقد كنت عميد المستشارين الذين انضموا إلى الخارجية بعد التخرج من الجامعة، وقد قضى زملائي في وظيفة المستشار سنوات عديدة دون ترقية، لأن مناصب السفراء والوزراء المفوضين كانت حكرًا على السياسيين ورؤساء الوزارات والوزراء السابقين.
كان السيد حسين مازق ذكيًا ودبلوماسيًا يتكلم مع رجال القبائل بلغتهم ومع المتعلمين بلغة أخرى، وقال لي رغم إنه يأسف لعدم قبولي الانتداب إلى الديوان الملكي، إلا أنه لا يريد إحداث أي تغيير في جهاز رئاسة مجلس الوزراء، وطلب مني الاستمرار في عملي، كما وعدني بدوره بدراسة إمكانية إعادتي إلى وزارة الخارجية مع وزير الخارجية، كما وافق على انتداب الشيخ عبدالغني الموظف بالرئاسة إلى الديوان الملكي.
وقد كان اعتذاري عن قبول النقل إلى الديوان محل إشاعات حول الأسباب. وأذكر إن العقيد راسم النايلي، ياور الأمير ولي العهد، زارني في مكتبي مستفسرًا عن أسباب رفضي النقل إلى الديوان وعما كنت أسعى إلى تعييني في سفارة في الخارج بدلًا من ذلك، ويظهر أن ولي العهد علم بالموضوع الذي انتشر في دوائر القصر وأراد أن يعرف الأسباب، فقد كان غير مطمئن من وجود السيد محمود المنتصر في الديوان الملكي إلى جانب عمه الملك. وقد ذكر لي السيد محمود المنتصر أن الملك يعرف أنني كنت في مصر ومن المتحمسين لعبدالناصر وأنه دافع عني، وذكر للملك أن أسباب رفضي للانتقال إلى الديوان ترجع إلى أسباب خاصة بمواصلة العمل في اختصاصى العلمي وليس لأسباب أخرى. وكانت مخابرات الأمن في قوة دفاع برقة تبعث بتقاريرها حول تصرفاتي في عملي برئاسة مجلس الوزراء في البيضاء، وسأتعرض لهذا في الصفحات التالية، وتلك قصة أخرى.
وفعلًا وعدني السيد حسين مازق بنقلي إلى الخارجية بدرجة وزير مفوض لأن منصب السفير كان مقصورًا على الرؤساء والوزراء السابقين ومن في درجتهم، وأعددت له مرسومًا ملكيًا بذلك أعده رئيس إدارة الفتوى والتشريع السيد أحمد عباس وسلمته له بحضور وزير الخارجية الدكتور وهبي البوري، ولم يتخذ في الأمر إجراءًا يذكر حتى انتهاء فترة حكم السيد حسين مازق ولم أعرف السبب وهل رفض من طرف الملك أو لم يرسل لتوقيع الملك إطلاقًا وهذا هو الأرجح
مدينة البيضاء وانتقال الحكومة إليـها
كانت البيضاء مقرًا صيفيًا لرئيس الوزراء والوزراء ثم أصبحت مقرًا دائمًا
لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية وبعض المصالح من باقي الوزارات. ولما جاء السيد محمود المنتصر إلى الحكم كان من أهدافه غير المعلنة لسياسته نقل رئاسة
مجلس الوزراء ووزارة الخارجية إلى طرابلس. وبعد انتهائه من معالجة قضية القواعد العسكرية والجلاء بالشكل الذي توصل به مع الملك حصل على موافقة الملك لنقل الحكومة إلى طرابلس إرضاءً للرأي العام الطرابلسي الذي كان متحمسًا للجلاء وإلغاء المعاهدة البريطانية.
وقد حاول الدكتور محي الدين فكيني نفس الشئ قبله وحول بعض المباني الحكومية التي أنشئت في عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد إلى معاهد دراسية في البيضاء لكن الوقت لم يمهله لإتمام نقل الحكومة. وقد أثار نقل السيد محمود المنتصر لمقر الحكومة إلى طرابلس غضب المسئولين من قبائل برقة وعلى رأسهم الفريق محمود أبو قويطين، الذي كان يكن للسيد محمود المنتصر احترامًا خاصًا، لأنه في رأيه مخلص للملك، ولكنه غضب من نقله للحكومة من البيضاء، ويقال إنه سافر إلى طبرق لإقناع الملك برفض النقل، وقيل إن ذلك النقل أثر في صحته واشتداد مرضه الذي أدى إلى وفاته في سبتمبر 1964م.
كما لاقى نقل الحكومة إلى طرابلس عدم رضا سكان بنغازي وزعمائها لأن وجود الحكومة في البيضاء كان مصدرًا هامًا لانتعاش التجارة ومشاريع التنمية والحركة الاقتصادية في بنغازي. ورغم أن بنغازي كانت العاصمة الثانية دستوريًا وكانت الحكومة تتبادل الإقامة بين العاصمتين، إلا أن مقتل السيد إبراهيم الشلحي فيها حرمها من نقل الحكومة إليها، ومنذ حكومة السيد عبدالمجيد كعبار لم تعد بنغازي مقرًا محتملًا للحكومة. ورغم موافقة الملك على نقل الحكومة إلى طرابلس أمر في آخر لحظة بقاء وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش في البيضاء، وعدم شغل المباني الحكومية التي تغادرها الوزارات ويعني هذا حفظها لعودة الحكومة إليها مستقبلًا. كما تأخر نقل وزارة الخارجية بسبب تردد وزيرها السيد حسين مازق ووكيلها السيد حسين الغناي في النقل رغم تعليمات رئيس الوزراء.
وأذكر أني كنت مع الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان في مكتبه في طبرق أثناء استلامه لمكالمة هاتفية من السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية، وفهمت من مجرى المكالمة أن السيد الغناي كان يريد تأجيل نقل وزارة الخارجية ويطلب من رئيس الديوان الملكي التدخل لمنع النقل العاجل كما طلب السيد محمود المنتصر. وقد نقلت هذا الخبر إلى رئيس الوزراء الذي اتصل بوزير الخارجية وحثه على نقل الوزارة بالسرعة الممكنه، لأنه اتفق مع الملك على هذا النقل على أن يرجع الوزراء إلى البيضاء في فصل الصيف دون أجهزة وزاراتهم.
ورغم اضطرار وسفر السيد محود المنتصر للعلاج، إلا أنه كان يتابع إجراءات نقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس، كما كان يتابع الانتخابات وهو في لندن للعلاج، ولكن قرار النقل كان محل اختلاف. وعندما تولى حسين مازق رئاسة الحكومة سنة 1965 قرر عودة الحكومة إلى البيضاء بصفة نهائية. وعادت وزارة الخارجية بعد نقلها لفترة لا تزيد على شهرين بشكل أحدث ارتباكًا وفوضى وحير رجال السلك الدبلوماسي الأجنبي.
إنجازات حكومة السيد محمود المنتصر
من المواضيع التى أنجزتها حكومة محمود المنتصر هي تعديل قانون الخدمة المدنية ويرجع الفضل فيه إلى السيد عبدالله سكتة الذي عين وزيرًا للخدمة المدنية. وقد أدى هذا التعديل إلى رفع مرتبات الموظفين وخاصة صغارهم، إلا أنه ألغى الكثير من العلاوات التي كان يتمتع بها كبار الموظفين، مما جعل ما يستلمونه أقل من مستحقاتهم القديمة رغم زيادة مرتباتهم الأساسية. وقسمت الدرجة الخاصة إلى ثلاث درجات ( أ ) وكيل وزارة و(ب) وكيل وزارة مساعد و(ج) مدير عام بعد أن كانت كل هذه الوظائف في مستوى واحد. وقد أثار ذلك غضب كبار الموظفين، ففي تاريخ واحد معين أصبح حاملوا الدرجة القديمة الخاصة ثلاث درجات بحسب الوظائف التي كانوا يشغلونها.
كما أثار موضوع جعل توقيت العمل صباحًا ومساءًا غضب كل الموظفين الذين تعودوا العمل في الصباح وحتى الثانية ظهرًا ليتفرغوا لشراء حاجياتهم وقضاء مصالحهم بعد الظهر، خاصة وأن المرأة في ليبيا لا تخرج لشراء حاجيات البيت وتنتظر من الرجل ليقوم بذلك، كما أن صغار الموظفين كانوا يزاولون أعمالًا أخرى مسائية لتحسين دخلهم لمواجهة غلاء المعيشة، وقد أدى تذمر الموظفين هذا في عهد حكومة السيد حسين مازق إلى إلغاء نظام الفترتين والرجوع إلى نظام الفترة الواحدة.
من نقاط الضعف التي تؤخد على السيد محمود المنتصر إلغاؤه لرخص إصدار بعض الصحف التي تحاملت على الحكومة خلال مفاوضات الجلاء، إلا أن تعيينه للسيد خليفة التليسي وزيرًا للأنباء والإرشاد أحدث تحسنًا في علاقات الحكومة مع الصحافة نظرًا لعلاقة السيد التليسي برجال الصحف ورجال الفكر وفتح قنوات تعاون وتفاهم معهم للمصلحة العامة وعدم استخدام الإثارة الصحفية للجماهير. أدخل السيد محمود المنتصر عددًا كبيرًا من الشباب في حكومته مثل السادة خليفة التليسي وعبدالحميد البكوش ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وعبدالمولى لنقي ومحمد المنصوري وفؤاد الكعبازي وغيرهم، كما أقنع الدكتور علي عتيقة بقبول منصب وكيل وزارة التخطيط، وعين عددًا كبيرًا من الشباب في منصب وكيل وزارة وأسند لغيرهم مسئوليات هامة، وأبعد عددًا من الموظفين التقليديين من كبار السن والموظفين المعينين سياسيًا غير الأكفاء وغير المؤهلين. وأذكر أنه اقترح على الملك تعيين السيد منصور الكيخيا وزيرًا للاقتصاد فاعترض عليه الملك واستبدله رئيس الوزراء بعد ذلك بالسيد منصور كعبار.
وكان محمود المنتصر يقول إن شئون الحكم تغيرت عما كانت عليه في السنوات الأولى للاستقلال ومهام الوزارات أصبحت فنية تحتاج إلى متعلمين لتسييرها، وقد أغضبت هذه السياسة الموظفين القدامى، وكان معظمهم قد عينوا سياسيًا، وكذلك أعضاء مجلس الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى وأحق بالمناصب الوزارية والسياسية العليا.
كما حاول السيد محمود المنتصر الوقوف في وجه تدخل كبار رجال الأعمال مثل السيد عبدالله عابد السنوسي، وتبادل معه رسائل قاسية ووقف أمام محاولاته للضغط على الوزراء للحصول على امتيازات وخدمات غير مشروعة. وكذلك رفض دفع تعويضات للسيد علي فكيني عن أملاك والده التي صادرتها إيطاليا لأن التعويضات كانت قضية عامة لكثير من المواطنين ولا يجوز إعطاء البعض وحرمان الآخرين. وكان السيد علي فكيني قد تحصل على منزل كبير في طرابلس وبعض الأموال أثناء حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبهذا فهو أحسن حالًا من غيره، وقد نقل السيد علي فكيني كسفير لليبيا من تونس بطلب من الحكومة التونسية لتدخله في مسائل داخلية، وكان السيد فكيني من المهاجرين الليبيين إلى تونس أثناء الاحتلال الإيطالي لليبيا.
مشروع تغيير نظام الحكم في ليبيا
كما ذكرت سابقًا طلب مني السيد محمود المنتصر البقاء في طرابلس بعد موافقة السيد حسين مازق رئيس الوزراء بعد إحضاري للمظروف من المستر بيلت في جنيف. وقد استدعاني بعد بضعة أيام في بيته وقال لي إنه استشار الملك ويريد مني ترجمة الدراسة القانونية التي أعدها المستر بيلت وفريق الخبراء الذين كانوا معه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية لأن الملك لا يريد أي أجنبي القيام بترجمتها، وكان معظم مترجمي الحكومة والديوان الملكي من الأجانب، وأضاف بأن الموضوع سري للغاية ولا يعرف تفاصيله أحد حتى الآن وأن الملك وافق على قيامي بهذه المهمة.
وقد تردد الملك في أول الأمر ويظهر أنه كان يريد مزيدًا من المعلومات لأسباب أمنية من جهات أخرى لكنه وافق في النهاية على قيامي بالمهمة، وسلمني السيد محمود المنتصر المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت في جنيف كما أشرت سابقًا بعد أن فتح من طرف الملك. وقد توكلت على الله وتسلمت محتويات المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت، وطلب مني رئيس الديوان استعمال مكتبه في البيت وأن لا آخذ الأوراق معي خارج المكتب بأي حال من الأحوال زيادة في الحيطة.
وعندما قرأت الأوراق لم أصدق، فالموضوع في غاية الأهمية. والوثائق كانت تضم مشروعين لتعديل الدستور الليبي، أحدهما لنظام ملكي ديمقراطي مقيد يحد من سلطات الملك ويجعل كل السلطات في أيدي البرلمان ومجلس النواب بالخصوص، والمشروع الثاني لنظام جمهوري (أي والله نظام جمهوري)، شيء غريب أن تعد مثل الدراسة بأمر الملك. مشروع الدستور الملكي لا يزيد عن تعديل للدستور المعمول به آنذاك، يعطي مجلس الأمة رقابة أكثر على الحكومة وتلغي سلطات الملك في تعيين الحكومة وإقالتها قبل التشاور مع مجلس النواب وإلغاء مشروعية حل مجلس الأمة من طرف الملك دون موافقة البرلمان نفسه.
يقضي مشروع الدستور أخذ رأي مجلس النواب قبل تسمية رئيس الوزراء وعلى الحكومة الحصول على ثقة المجلس قبل مباشرة مهامها، وللمجلس وحده سحب الثقة من الحكومة. وينص المشروع أيضًا على أن يكون ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ بالانتخاب، وتقوم الحكومة بالتشاور مع مجلس النواب لتعيين الثلث الباقي بمرسوم ملكي، كما يقضي المشروع بأن تعين الحكومة رئيس الديوان الملكي وكبار موظفي الديوان بمراسيم ملكية وليس بأوامر ملكية، وحدد حالات قليلة يجوز فيها حل مجلس النواب بطلب من الحكومة، وإجراء انتخابات عامة في فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر تكون فيها الكلمة النهائية للمجلس الجديد في المواضيع التي أدت إلى حل المجلس القديم، ولا يجوز حل المجلس الجديد لنفس الأسباب.
كما حد المشروع من سلطات الملك في تعيين ولي العهد أو تعديل نظام وراثة العرش وجعلها من سلطات مجلس الأمة بمجلسيه الشيوخ والنواب، بما في ذلك عزل الملك أو تكليف ولي العهد ليحل محله في حالة عجزه مؤقتًا عن مباشرة عمله أو سفره للخارج. وينطبق الشئ نفسه على تعديل الدستور بطلب أغلبية أحد المجلسين الشيوخ أو النواب، وضرورة الحصول على أغلبية ثلثي المجلسين لإقرار أي تعديل دستوري. وكان المشروع لا يختلف عن الدستور المعمول به سوى غلق كل الثغرات الموجودة في الدستور القديم وتحديد سلطة الملك وجعله يملك ولا يحكم كملوك أوروبا اليوم. وكان هدف الملك تطبيق هذا الدستور على من يخلفه ولا يعتقد أحد بأنه كان يريد تطبيقه على نفسه أثناء حياته. أما بقية فقرات المشروع فتقر نفس الحريات والحقوق التي أقرها الدستور القائم آنذاك بما في ذلك حق تأليف الأحزاب والجمعيات والنقابات والتظاهر والحريات الأساسية وميثاق حقوق الإنسان.
أما المشروع الثاني للدستور فهو الدستور الجمهوري، وينص على أن نظام الحكم في ليبيا يكون جمهوريًا ينتخب فيه الرئيس ونائبه لمدة أربع سنوات من طرف مجلس الأمة بمجلسيه أو في انتخاب عام، ويتولى نائب الرئيس الرئاسة بعد انتهاء مدة الرئيس أو في حالة وفاته أو استقالته، ويجري انتخاب نائب للرئيس الجديد بنفس الطريقة المشار إليها أعلاه. كما اشترط المشروع أن يكون الرئيس ونائب الرئيس أحدهما من برقة والآخر من طرابلس باستمرار. أما سلطات الرئيس فهي محدودة، وهي نفس السلطات التي نص عليها مشروع الدستور الملكي المذكور أعلاه للملك، وتكون الحكومة مسئولة بالكامل أمام مجلس النواب في بعض الحالات. ويوجد نص استثنائي مؤقت بجواز اختيار الملك إدريس رئيسًا مدى الحياة ويختار هو بدوره نائبه الذي سيخلفه، ولم ينص المشروع على أن هذا النائب يجب أن يكون من برقة أو من طرابلس. وقمت بإعداد الترجمة إلى العربية بخط يدي لأنني لم أكن أتقن الطباعة على الآلة الكاتبة في ذلك الوقت.
وكما ذكرت لم يمكنني السيد محمود المنتصر من أخذ نسخة منها وكان يحرص كل يوم عندما انتهي من العمل والذهاب إلى البيت ألا أحمل أي ورقة معي. ولا أذكر المزيد من التفاصيل عن المشروعين لمضي فترة على ترجمتي لهما. وأخذ السيد محمود المنتصر النص الإنجليزي الأصلي والترجمة العربية معه إلى الملك ولم أسمع عن الموضوع بعد ذلك سوى أن الملك استدعى المستر بيلت ورفيقيه المستشارين القانونيين وعقد معهم اجتماعًا بحضور السيد حسين مازق رئيس الحكومة آنذاك، ولم أعرف عن هذا الاجتماع شيئًا سوى أن الملك سلم نسخة من مشروع الدستور الملكي إلى السيد حسين مازق لبحثه مع الخبراء. أما مشروع الدستور الجمهوري فلا أعرف هل بحثه الملك مع السيد حسين مازق أو لا، وقد استفسرت من السيد محمود المنتصر عما تم فيه فأكد لي بأنه لا يعرف عنه شيئًا منذ سلمه للملك.
وفي سنة 1966م انتشرت الإشاعات بسرعة انتشار النار في الهشيم بأن الملك يريد تعديل الدستور ويرغب في ترك العرش. وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي إن الملك لا يعرف مصدر الإشاعة ويرشح أن يكون السيد حسين مازق، المعروف بأنه ضد مثل هذا التعديل، هو مصدر الإشاعات، وقد وصلت هذه الإشاعات إلى أعضاء مجلس الأمة الذين اجتمعوا وأعلنوا رفضهم لأي تعديل للنظام الملكي، وانهالت برقيات الاحتجاج على القصر الملكي والديوان وعلى رئاسة الحكومة. وكان الملك يعتقد أن السيد حسين مازق أخبر رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب بمشروعي التعديل للدستور، كما أوعز إلى وزير الداخلية بأن يطلب من المجالس البلدية والمحافظين والمتصرفين والمديرين ومستشاري وشيوخ القبائل بإرسال برقيات الاحتجاج، وكانت هذه التعليمات تصدر شفويًا حتى لا يعرف مصدرها، وقيل إن الملك طلب التحقيق في مصدر الخبر وعن وسائل نشره بهذه السرعة.
وترافق مع هذه الإشاعات اتهام السيد محمود المنتصر بأنه يحاول من وراء ستار مع الملك لتغيير النظام الملكي وإزاحة ولي العهد وإعلان النظام الجمهوري برئاسته، وأن السيد حسين مازق كان ضد مثل هذا النظام لأنه لا يخدم مصالح برقة، وهو المعروف عنه بالمدافع عنها والمحافظ على مكاسبها الدستورية في الدستور القائم واستمرار العرش في أيدي العائلة السنوسية، فرئاسة الدولة في ليبيا يجب أن تكون في أيادي برقاوية حتى يمكن حفظ التوازن مع أغلبية طرابلس السكانية. كان السيد محمود المنتصر متألمًا من هذه الإشاعات التي كان يقول عنها بأنها غير صحيحة، وأنه سبق وأن أبدى للملك عدم موافقته ومعارضته لأي نظام جمهوري، وأن الملك لم يطلعه على ما تم في الاجتماع بينه والمستر بيلت ورفيقيه والسيد حسين مازق، وأن الملك لن يغفر للسيد حسين مازق إذاعة هذا السر.
وقد أعقب هذا الحدث أن عين الملك مجلسًا استشاريًا من أربعة أعضاء من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وشيخ الجامعة الإسلامية ومفتي ليبيا. وقد زاد هذا الحدث من حساسية العلاقة بين ولي العهد والسيد محمود المنتصر، وأصبح ولي العهد فعلًا قلقًا على مستقبله، ولكن الأمور هدأت حول الموضوع حتى سنة 1969 عندما سافر الملك إلى تركيا واليونان وعادت إشاعة أن الملك قرر اعتزال الحكم، وسيأتي الكلام عن هذا في الصفحات التالية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي.
السيد محمود المنتصر في شبابه
الفصل الرابع
حكومة السيد حسين مازق
التعليقات (0)