حسين العلي، إنسان بسيط بطبعه، لطيف بأخلاقه، ودود بتعامله.
أراد العم أبو علي يوماً، وهو فلاح أباً عن جد، أن يدفع بواقع قريته وأن يخفّف العبء عن كاهل أهلها بحل مشاكلهم بجهوده الخاصة عندما تقدم بطلب إلى أحد مسؤولي المحافظة التي يقيم فيها، ويتضمن واقع القرية، وسوء آلية التخديم فيها.
ومن حسن حظ العم أبو علي، أنه سبق وأن تعلّم القراءة والكتابة في سنّ مبكرة على يد أحد حفّاظ القرآن الكريم مع عددٍ من أقرانه، وهو، إضافة لذلك، إنسان متزن بطبعه.. وإذا تحدث أبهر كل من حضر جلساته، والتي تقرأ فيها عمق أفكاره، وسلاسة أسلوبه، ونظرته الثاقبة لأبسط الأمور وحبّه للحياة، وهو الرجل المتفائل بما تدر عليه أرضه من خيراتها الوفيرة في مواسم الحصاد في كل عام، على الرغم من مساحتها الضيقة.
سأله المدير المسؤول، عن ماهية طلبه الذي تقدم به لأحد رؤساء الأقسام في مؤسسة المياه، وقال له: وما أدراك ياعم أن ورشات الصيانة لم تقم بدورها حيال إصلاح خط مياه الشرب المكسور، فقد أوعزت منذ صباح أمس الأول إلى عمالنا بإصلاح العطل، وأعلموني بأنه وضع في الخدمة، وهو يعمل الآن وبشكلٍ جيد.. أرجو منك أن تأخذ ورقتك هذه، فالمشكلة التي جئت بها، حلت!
استغرب العم أبو علي من رد المدير المسؤول على طلبه، وهو يعلم تماماً أن المعضلة لازالت قائمة حتى صباح اليوم، قبل مغادرته القرية والركوب في باصاتها المهترئة، وتوجهه إلى باب المؤسسة.
قام العم من على كرسيه، بعد أن شرب كأساً من الشاي الأحمر، وقال للمدير المسؤول: أستغرب ما قلته لي ياأستاذ، وما أعلموك به عمالك فهو غير صحيح، ويمكنك التأكد من ذلك مرةً أخرى، إذا سمحت، فالحال لايطمئن، والحاجة للمياه في هذا الوقت بالذات يدفعني إلى أن أطلب منكم التأكد من الأخوة العمال الذين قاموا بإصلاح خط المياه كما ذكرت لي.
تجهّم المدير، وتطلع بحنق إلى حسين العلي.. نظرات فيها ازدراء وتعالي وأستذة لم يسبق للعم أبو علي أن لمسها في يوم ما، من قبل المدراء الذين طالما يعرف أغلبهم، ويتردد عليهم بصورةٍ مستمرة، لاسيما وأنه هو المعني بمتابعة قضايا قريته، وتأمين احتياجاتها.
هكذا هي عادته، وأهل القرية، التي تمتد على مساحة شاسعة وعدد سكانها يتجاوز الـ عشرة آلاف إنسان، يثقون بالعم أبو علي كل الثقة، وهو القائم على حل مشكلاتهم أياً كانت.
تفّرس العم في وجه المدير المكفهر، ولم يستطع حبس أنفاسه وكبت غضبه، وهو العارف بخفايا الكثير من المسائل، وألاعيب الموظفين والتي لم تعد تنطلي على أحد. وقف صامتاً، متحجّراً في مكانه، وقال له: أعرف طلباتكم، إلاّ أنني لا أملك المقدرة على دفع ما تريدون، وسأنقل شكواي إلى المسؤول الفلاني، وسوف يتخذ بحقك وبحق عُمالك القرار المناسب!
فوجئ المدير برد العم أبو علي، وهو رد قاس، ولايمكن أن ينطق به إنسان ساذج من عامّة الناس، ولكن، وكما يبدو، بأن هذا الإنسان، يعرف البير وغطاه، وإرضاؤه لابد منه، واكتشف أمرنا، وعندها لايمكن أن نخلص من هذه الحلقة المفرغة التي وقعنا فيها.
هذا مادار في ذهن المدير المسؤول، وتابع:
من الأفضل حل مشكلته، وبسرعة وإلا سيفضح أمرنا.
استدار المدير من خلف طاولة المكتب، وحاول إرضاء العم أبو علي، رغماً عنه، بالاستئناس به، وتكريمه التكريم الذي يليق، بعد أن سمع منه ما سمع، وانه سينقل شكواه إلى مسؤول مهم له شأنه، وهذا ما جعل المدير أن يغيّر من صورته تجاهه، ومن نبرة صوته، وإنما أراد أن يُفهِمْهُ بأن الخطأ هو خطأ العمّال، وليس خطأه. فقال له: أرجو منك ياعم أن تسامحني، ومشكلتك ستحل خلال يومين اثنين فقط على الأغلب.
تنفّس الفلاح حسين العلي الصعداء، وقال له: أخيراً فهمت علي ياأستاذ، فأنا متأكد من أن خط المياه لازال مكسوراً، وبحاجة إلى اهتمامكم، وأهل القرية يشكرون جهودكم لحاجتهم الضرورية لمياه الشرب في هذه الفترة من فصل القيظ.
التفت إليه المدير المسؤول، وقال له: اطمئن ياعم، مشكلتك سأتابعها شخصياً، وسأكلف بعض العاملين في قسم الصيانة، وعلى الفور، بمعالجتها، وقد تستمر يومين.. ادعو لنا بالخير، ونحن دائماً في خدمة الناس الطيبين من أمثالكم.. أرجو منك أن تفهم مقصدي.
ودّعه العم أبو حسين مسروراً بما سمعه، وبعد مرور يوم واحد من زيارته، عادت مياه الشرب المقطوعة عن القرية لأكثر من أسبوعين، ولم يخلص الفلاح حسين العلي من أهالي القرية الذين بادروا بزيارته وفرحوا جداً بعودة المياه إلى مجاريها، ولم يكفوا عن الدعاء له بطول العمر، وهذا ما أعاد الحياة من جديد إلى قلب حسين العلي الفلاح المتواضع البسيط الذي تمكن، وبأسلوبه المرن، وجرأته المعهودة، من أن يسدي خدمة لم يكن بإمكان أحد من وجوه القرية أن يقوم بها.
عبد الكريم البليخ
صحافي سوري مقيم في النمسا
التعليقات (0)