مدخل إلى علم اجتماع القصيدة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .
.........................
إن ولادة الكلمات الثورية في النص القصائدي تتم بواسطة زرع ثورة اللفظة والمعنى في أرجاء النص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مبتكرة ومدهشة وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج الأدبي الشِّعري .
وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزاً ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع والمتلقي على السواء .
والثاني _ تكوين سمعي يهز أركان المتلقي من أجل حشده بالقيم النبيلة المطْلقة . فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة ، ولا ضير أن تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي يجب أن تأخذ مسارها الماحي الهادر دون حواجز لغوية أو أوزان قد تعيق التصوير الصادم ذا المعاني المبتكَرة . فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها ، فزقزقة العصافير _ على سبيل المثال _ تثير الخيال ، وتهز الأحلام ، وتحرِّك ثوريةَ العاطفة ، دون أن يفهمها المتلقي ، وقد تصل القصيدةُ _ أحياناً _ إلى هذا الطَوْر .
والولادة الشعرية إنما تأتي بعد مخاض عسير بالغ التعقيد ، لأن الشِّعرَ صوتٌ لا صدى ، والكلامَ مجتمعٌ قائم بذاته له أركانه الاستقلالية الانقلابية . الاستقلاليةُ هي شرعية النص الشاسع الثائر، والانقلابية قدرةٌ مخيالية ( خيالية مكثَّفة ومكثِّفة ) على قلب الواقع المادي ، وتحويله إلى معانٍ مطْلقة جمالية بُغية عَقْلنةِ المعنى ( جعله عقلانياً واضحاً في أساليب تشريح البنية الزمكانية[ الزمانية _ المكانية ] )، ووَقْعنةِ الخيال ( جعله واقعياً مُرادِفاً للوجود النظري لعوالم الإنسان غير المنظور ) .
ولا بد أن يكون الشِّعرُ نبيلاً شريفاً طاهراً لا يُهادِن ولا يُساوِم ، ومع هذا فالقصيدة ليست خُطبة الجمعة أو نصاً دينياً مقدَّساً ، بل هي إسهام بشري يلهث وراء الكمال ، وفي طريقه يستلهم الجمال ، ويهز المجتمع البشري بصورة متوازنة بلا إفراط ولا تفريط ، فلا تشاؤم موغل في اليأس والعدمية والسوداوية، ولا تفاؤل مخدِّر يَخدع الإنسانَ العائش في المكان الصعب والزمان الصعب.
ووظيفةُ الشِّعر هي العثور على الربيع داخل تفاصيل الخريف ، لأن الكلمات أقوى مجتمع قد يصل إليه إدراكات العقل البشري المادية والمعنوية . وللحصول على استقلالية انقلابية معقولة ينبغي أن يتحلى النص الشِّعري بحُكم ذاتي لا يخضع للابتزاز أو السمسرة ، وإنما يستند إلى شرعيةِ الرؤية المتفردة ، وسياسةِ المنحى الشِّعري ، وإمكانيةِ تحصيل إبداع فذ في أكثر الأماكن حصاراً وفقراً من الناحية الجمالية المخيالية .
إن الانطباع المنحوت في رئة التشكيل البصمعي ( البصري _ السمعي ) يكون حقيقياً إذا وُظِّف ضد أيديولوجية الخوف والانهيار القِيَمي ، والسبب في ذلك يعود إلى تفرد العاطفة الجياشة المعقلَنة ( المحسوبة بعقلانية ) في مسارها نحو نظرية اجتماعية مبنية على النَّص الخلاق، وهذا البِناءُ يقودنا إلى ابتكار نظام لغوي قائم على الوجود الإنساني . والفعلُ الاجتماعي الكلماتي هو ذاتيةُ الطبيعة الكيانية للمعنى اللفظي ، وبنائيةُ الوجود المعرفي للتصادم الفكري الخلاق .
الشِّعرُ ليس مهنةً ، وإنما هو حياة مصنوعة بعناية فائقة ، تقوم على ردم الهوة السحيقة بين التجمعات الخيالية . وهذه العمليةُ مهمة جداً لمنع السالب المعرفي من الزحف باتجاه الموجب الشِّعري، ومنعِ بناء الخيال اللغوي من أجل الخيال. وهكذا تَنهار فرضية" الأدب من أجل الأدب". وهذه الفرضية الواهيةُ لا تناسب العصورَ البدائيةَ ، فما بالك بعصرنا الذي بلغ أقصى درجات التعقيد والتركيب ؟! .
وسوسيولوجيا القصيدةِ تركيبٌ ذهني منقوع في ماء الثورة ، لأن الثورة النَّصية قادرة على وضع الكلمة في أقصى مداها، وبالتالي الحصول على تراكيب وقيم من أجل رحيق استثنائي مُسيَّس داخل البنيان الشِّعري . وبذلك يكون الشِّعر موقفاً سياسياً انقلابياً مستقلاً بذاته .
إننا أمام دراسة حداثية رمزية، يكون فيها النصُّ شكلاً للتمرد والرفض . التمردُ على المعطيات الجاهزة التي يخترعها عَرَّابو سُلطة الهيمنة المصلحية ، ورفضُ القوالب الخانقة للتحرر الذهني والتحريرِ الجسدي . والتمرد والرفض وجهان لعُملة واحدة اسمها القصيدة ، لا تُصرَف إلا في المعركة الذهنية الواقعية ، لأن الكلمات سيوف ، إما أن تشعلك حماساً ، وإما أن تقتلك . صحيحٌ أن القصيدة قد تَقتل لكنها تعيدك إلى عوالم الحياة المحلِّقة فوق حواجز الوهم والخديعة والخيانة .
إن القصيدة تؤسس لنزعة العنفوان الشِّعري الصِّدامي من أجل تسهيل مهمة الأبجدية في القيام بعملية تطهير كَوْني شامل . فالتجمعات الذهنية الموغلة في التثوير ( حقن العناصر بالثورة ) ، ما هي إلا بنية فلسفية أحادية تستمد شرعيتها من الجماعة، من الأحلام المسروقة ، والآمالِ البعيدة .
والجديرُ بالذِّكر أن فلسفة المنظور الشعري تؤسِّس وعياً وتُلغي آخر . تؤسس الوعي الذي يمتلك رحيق استمراريته ، وتلغي الوعي السلبي اللاجئ إلى عزلة الظلال غير المنظورة .
والمجتمعاتُ المتمركزة في قلب الطبيعة العقلانية للكلمة المنطلقة هي حالة ماورائية ، أي إنها تتركز في ماوراء الرؤية ذات الخصائص الرمزية . كما أن علاقات صناعة الشعر متصارعة ومتضافرة في آن معاً ، بسبب قوة الحسم الذهني ، وتأجيجِ الصور الفنية .
وتتجذر الفلسفةُ الشِّعرية كبقع ضوئية تحفر جِلْدَ الشاعر لتجعل منه مجتمعاً قائماً بذاته في مواجهة مجتمعه البشري. وهذه المواجهة لا تتضمن بالضرورة ازدراء الآخر الذي يعيش في تكوينك الداخلي ، لأن الآخر في مجتمعك الجواني هو أنتَ .
ومن أجل تجنب كل هلامية مغرقة في جسمها الأحادي، نقذف أنفسنا مباشرة في تأييد التثوير المنطقي العقلاني المؤمن بالقضية الشِّعرية كمدخل لفهم القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالحالة المعاشة في الصفة الوراثية للكلمة تقودنا إلى الاعتراف بحتمية التغيير الشامل ضمن نظام غير عبثي يناوئ سوسيولوجيا الفراغ .
للرؤيةِ دورٌ يلعبه كل القاطنين في تفاصيلها. فالإسهام الخلاق في تجذير المحتوى الواعي لحالات الإحساس المتدفق ، ما هو إلا مدى آخر لرؤية منضبطة واعية تجمع بين المحتوى المعنوي واللفظة المعبِّرة عنه . وهذه الديناميكية الحركية الثورية تصب في خانة الإحساس بالوعي الملتصق بمقدِّماته ومبرِّراته .
وتباينُ الممارسات الواعية ضمن إطار الكُل هو الذي يُشرعن أهميةَ الجزء وجدواه ، أي يُعطيه الشرعيةَ والوجودَ الرسمي . فالنص يُشرعن جنسَه المبتكَر ويعطيه المصداقية والغطاء الفلسفي والأخلاقي، لأن الكلمة الشعرية تمرد على الأحكامِ الجاهزة ، والفرضياتِ المعلَّبة ، والمسلَّماتِ المحنَّطة في قارورة التقليد .
إن تعويم المصطلحات الفكرية في بُنية السَّبك الشِّعري يتعارض جملة وتفصيلاً مع شيوع نظريات الأنا الشخصية الجمعية . علينا أن نضرب في العُمق ، عمقِ الرؤية المنطوية على مشروع يتجاوز الصورَ الفنية التقليدية التي تم استهلاكها بصورة مثيرة للغثيان . ومن هنا تنبثق فكرة التكيف مع فكرة برهنة المعقولات الخيالية ، لأن الضرب في سطوح المعرفة دون الغوص في صياغة خطاب فلسفي حداثي رمزي ذي رؤية كونية شاملة ، يؤدي حتماً إلى حالة اللاوعي السلبي ، ويضع القصيدةَ التي هي بالأساس صورة ماورائية الملموس في اتجاه معاكس للقيم الجمالية المطْلقة.
لكن سؤالاً قد يبزغ في الأفق يثيرنا بحماس وهو : كيف يمكن صناعة مخيال وظيفي قائم على امتداد رؤية الشاعر ؟ . إن هذا السؤال المركَّب ليس سهلاً على الإطلاق ، فالشاعر رؤيةٌ . وهنا يظهر سؤال وليد غاية في الأهمية : كيف يمكن للرؤية الشِّعرية أن تَصدر عن الشاعر الرؤية ؟ .
فنقول باختصار إن التحولات التي تضيء للشاعر طريقه الأدبي المتفرد هي ذاتها التي توفِّر له مناخاتٍ من العمل الدؤوب بُغية توليد معطيات شعورية واعية . وتكمن أهميةُ هذه العملية في قدرتها على تشخيص نماذج محسوسة فعالة تتيح تحويل الذهن إلى واقع . وهكذا يتم الربطُ بين الحياة الذهنية والخيالِ الواقعي المتشكِّل على صورة رؤى تحفر جغرافيا القصيدة في صوت الزمكان ( الزمان _ المكان ) .
وفي مقابل التحولات الجذرية ، تظهر تضاريس جديدة للحالة الشِّعرية بعيدة عن التنميط والأدلجة التي تحقن النص بفلسفات وافدة ومناهج دخيلة . وهذه الأنماطُ السلبية لا تعيق النمو الطبيعي للمشروع الأدبي البؤري فحسب ، بل تُسرطنه تمهيداً لوأده التدريجي المأساوي .
إن التثوير الأفقي هو البنية التحتية للقصيدة ( الحلم والمعنى ) ، أما التثوير العمودي فهو البنية الفوقية ( الثورة وقلب أنظمة الحكم الاجتماعية الركيكة ) . وهاتان البُنيتان إنما تَكونان داخل المنظور السيكولوجي للأداء الكلامي الصاعق . وتتميز المعاييرُ الاجتماعية بتكوينات نظامية تزاوج بين المدلول ( الهدف ) والدلالة ( الوسيلة ) .
والسُّلطة التقليدية التي يتبناها الناسخون المقلِّدون ، والنابعة من سُلطة الموروث الشاذ عن مسار المنهجية العلمية ، ليست بأكثر من سُلطة وهمية قائمة على نفي نفسها ، إذ إنها تؤسس مشروعها اللامشروع على أنقاض مشروعها ، وهكذا فهي تدور في حلقة مفرغة قاتمة تناوئ القدرةَ العقلانية على البحث والتجريب والتمحيص .
إن هؤلاء المقلِّدين يفترضون نظاماً هلامياً يتمتع بالدوام والاستمرارية ظناً منهم أن فيه قوةً مركزية تمده بالطاقة اللازمة لحركته وامتداده ، وهذا وهم شرس لأن الأنظمة النَّصية متغيرة تبعاً لقوة الروح التي تحدد شكل المادة في المجتمعات الشِّعرية ، وهذه النقطة مسمار عميق في نعش الفكر المحجوب عن التثوير والتنوير ، والمستند إلى أيديولوجية إقصائية للقيم المطْلقة تنفي نفسها بصورة مثيرة للسخرية والضحك، إذ إن اعتماده على الجدلية الآلية قتلَ روحَ الشاعر، فأضحى الشِّعر مجرد خطاب أيديولوجي ركيك بمثابة منشور حزبي فاقد المشروع والمشروعية والشرعية لأنه يقتل الروحَ قتلاً متواصلاً ، والشاعر هو روحٌ تُسيِّر المادةَ ، ورؤيةٌ تضع الأرضيةَ الصلبة والأساسَ المتين للجملة الشِّعرية الثورية الانقلابية .
والثقافةُ القائمة على تدعيم كينونة المعنى الانقلابي يجب أن تتحلى بليونة صارمة تزاوج بين أقلمة النظرية مع المشروعية ، وبين تحليل المماثَلة البؤرية للمشروع . [ لا بد من صناعة مسار التأقلم ( الأقلمة ) بين عناصر الفكر الشِّعري ( النظرية المعرفية للفكر القصائدي . شرعية وجود القصيدة كحل وجودي . مشروعية التغيير المجتمعي المستند إلى المعرفة لا الارتجال ) ، لأن هذا التأقلم يتيح الفرصة للتشابك المصيري مع تحليل المماثَلة البؤرية للمشروع ( تحليل مراكز البؤر الفكرية المتقابلة والمتوازية والمتقاطعة داخل رحم المشروع الفكري الخلاصي ) ] .
والقدرة على تحويل النص إلى حياة خارج نطاق الحياة الواقعية لا تتأتى إلا بتكوين خطاب واضح المعالم والخصائص عن الحالة الذهنية المعاشة في القصيدة. ونحن لا نريد الانصياع لمسلَّمات افتراضية لا توجد إلا في الأذهان المرتبكة . فالحالة الطبيعية المؤسَّسة على شرعنة احتلال الكلمة للكلمة هالة رخامية ينبغي صقلها بالغضب الثوري والحزن الموصل إلى الفرح ، لأن الحزن المنهجي جزء من سعادة المنحى الثوري في سوسيولوجيا النظرة الأدبية .
وإذا لم نُجذِّر المشهدَ الثقافي في بؤرة الحدث الاجتماعي المكوَّنِ من إنتاجية الدلالة وتوجيهِ المدلول ، فلن نحصل على ظروف ملائمة لولادة تشكيل بصري سمعي هادر، يهز المجتمعَ الإنسانَ هزاً يوفِّق بين الرفق والعنف. فترسيخُ الصعق كثقافة لا يعني الكراهية ، بل هو محاولة حثيثة لإعادة الأنساق الميتة إلى الحياة .
ولا بد من البحث عن استدلالات قصائدية تقوم بعملية تجزئة الكَم إلى أنواع متشظية ، وتتعامل مع النوع ككتلة كَمِّية تستشرف المستقبل بكل أبعاده ، ليس بوصفه سلعة ، وإنما بوصفه شكلاً لشرعية الاستمرارية خارج هيمنة الأيديولوجيات المنحرفة ، والتي تفتقد إلى الحد الأدنى من المصداقية والصحة .
والذين يتبنون فلسفات الوهم نتاجٌ طبيعي للتخلف الشامل . والوهمُ المؤَدْلَجُ نتيجةٌ حتمية لتجاهلِ رمزية الحضارة المعرفية ، واللهاثِ وراء سراب حضارات وأد الإبداع ، وتحويلِ الإنسانية إلى صيغة كَمِّية سِلَعية .
إننا نقوم بدعم النظام الشرعي في كيان القصيدة من أجل تسييس المعطى الواعي ، وترسيخِ التحليلات السلطوية ذات الامتدادات المعرفية المتفجرة . ومن غير السهل إنضاج المعرفية المكانية بدون الاستناد إلى معرفة زمانية وثابة . فالطرائقُ الجديدة المستعملة في صياغة سياسة الشِّعر هي ذاتها المستعملة في تشكيل الممارَسة الثقافية الهادفة إلى عسكرة الكلام لغوياً . فالقصيدةُ _ أولاً وأخيراً _ هي انقلاب عسكري رمزي .
الشاعرُ صرخةُ الأزمنة . حين يَنْزِل من بطن أمه تتلقفه الحياةُ وليس الدنيا. حليبُ أمه مرحلة لاكتشاف الآخر الحميم . يختلط توهجه بالانطفاء ، وجرحه بالسُّكَّر المبتسم . إنما هو كلهب الشمعة لا الشمعة. لأنك قد تستبدل شمعةً بشمعة ، أما الشاعر فلا يمكن استبداله بأي شاعرٍ آخر.
هل نحتاج إلى صرخةٍ تستفز عصرنا ؟ . نعمْ ، ولكن الضجيج لا يجدي . علينا أن نفهم الصرخة كمحاولة رفضٍ للخطأ والخطيئة . وبالتالي فهناك صامتون يجسدون الصراخ أكثر ممن يرفعون أصواتهم بالشعارات التي لا تجاوز حناجرهم. الصمت والنطق مهمان . أن تصمت يعني أنك تتأمل ، بل تبحث عن الكلمة المناسبة، عن موعد التفجير. أمَّا الصمتُ المنبثق من التخاذل والجُبن فهو مرفوض _ جُملةً وتفصيلاً _ .
إن الشِّعر قوةٌ غائبةٌ حتى عن نفسية الشاعر ووجدانه . فمن يقرأ شعراً يظنه حروفاً وكلماتٍ متناسقة فقط، لذلك تتحقق المتعة وتنتهي سريعاً . لا بد من تحويل المنظومة الشعرية إلى صاعقة ، بدون استعراض العضلات الأدبية ، وإشعار القارئ بأنه خصمٌ أمام عملاق لغوي متبحر.
كتابةُ قصيدة عن القصيدة ، تلك المملكة المتنافس عليها ، والتي تظل محتفظةً بنفوذها رغم غياب فرسانها. تلك الخصوبة تسكن المدى حنيناً. الكتابة محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . على ذواتنا أن تنمو ذهنياً مثلما تنمو القصائدُ وتنضجُ ، فتغدو مفعمةً بالمعاني عابقة بالتحليقِ في أجواءٍ رحبة .
شعراء كُثُر يكتبون ظناً منهم أن الكتابة هدف ، ولكنها ليست كذلك . هي وسيلة لإنقاذ الإنسان من الشعوذة الفكرية ، تأخذه من الشك إلى اليقين ، من الحيرة إلى الطمأنينة ، من العبثية إلى الالتزام. الشاعر الحقيقي يُخوِّف القارئ حتى يلقى الأمن، يفتح له أبوابَ الحرية التي أغلقتها السُّلطةُ السياسية خدمةً لمصالحها .
إن الكتابة للخاصة تدل على محدودية الكاتب الذي زرع في عقله نطاقاً يحجب سلاسةَ التدفق، ومتعةَ الانسياب الذهني. فالكتابة المحصورة نخبوياً تشير_ بشكل ضمني _ إلى عدم اعتراف بالعامة. وهذه العملية تشبه مَن يُحوِّلون مجرى النهر ، لا لشيء غير أنهم يريدون تحقيق إنجاز شخصي ومسار مختلف بأن يفرضوا رؤيتهم على الأشياء . أمَّا الكتابة للعامة فتعني اختفاءَ البصمة الشخصية ، وعدمَ التمكن من إبراز صورة الكاتب الذاتية في الحروف . فهي ذوبان في قالب زحمة الجماهير ، وموتٌ في الحياة بلا بصمة . وبذلك تصبح الحياة مروراً عابراً بلا بوصلة أو إنجاز ، وتغدو الأحلامُ الإنسانية جزءاً من أرشيف الغبار .
والحل السحري _ للخروج من إشكاليات العامة والخاصة _ كامن في عدم التقمص . بمعنى أن يكون الكاتبُ الرائي نَفْسَه ، وأن يكتب لنفسه . وسيبحث عنه مَن يريده . فلا معنى للعيش في الوهم، أو قضاء الوقت في تقمص الشخصيات الأخرى. فالتقمص هو قتل منهجي للأنا، وتذويبٌ للشخصية الاعتبارية الذاتية . وهذا يتنافى مع ماهية الحياة بكل أبعادها. فالإنسان كائن حي، والقصيدة كائن حي ، ولا مفر من تحقيق شروط الحياة لضمان الاستمرارية .
في الجنين الشِّعري حُلمُ ولاداتٍ متكررة ، وحيواتٌ متعانقةٌ تزوِّدنا بالإحساس القادر على الحركة في ظروف الحصار . والإحساس خطوةٌ مهمةٌ للعمل ، لأنه يشير _ ببساطة_ إلى أن الفرد إنسان لا حَجَر . وبالتالي فالقصيدة تأخذ سماتها الإنسانية من مشاعر البشر وأعصابهم، فتتكاثف الكلماتُ لصناعة أبجدية جديدة . ولا يمكن المشي في الدرب دون الشعور به. وإن لم يَلمس ضوءُ الشمس جِلدَ الكائن الحي فلن يشعر بالحرارة . وهنا تكمن قيمة الإحساس الذهني والواقعي .
وللأسف فإن تفشي ظاهرة شعراء البلاط المادحين في ثقافتنا قد أسس نموذجَ المتاجرةِ بالكلمة، وأنشأ مفهومَ " الشاعر الممسحة " الملقى على أبواب الولاةِ ينتظرُ إذناً بالدخولِ من أجل بيع المديح لقاء الأعطياتِ . ذلك التكوين النسقي الحطامي تسرَّب إلى علماء السلاطين عبر العصورِ ، فصار لدينا تجارٌ متخصصون في سلخ الاحترام عن الكلمة ، وفصل المعنى عن العبارة .
وفي طفولةِ الآدميين تكون كلماتهم ردةَ فعلٍ لشخوصهم، وفي حالة تقدمهم تصير الشخوصُ صدىً لصوتِ الكلام. مما يدل على نفوذ الكلمةِ التي تنتشر في الفضاءاتِ وصاحبها جالسٌ في مكانه . والكلمةُ ليست أساساً نظرياً للفعل فَحَسْب ، بل هي فِعلٌ مكتمل الأركان ، وقائمٌ بذاته .
لقد انتهى زمنُ استخدامِ الألفاظِ الجزلة والفخمة في الشِّعر . ففي السابق كانت السطوة لاندفاع اللفظة، والآن غدت الصورة أبلغ. والصورة تركيبٌ يحتضن الكلمات في منظومة تجميعية. وهكذا تكاثفت الألفاظُ ودعمت الواحدة الأخرى لمصلحة الصورة الشِّعرية ، فحصلنا على ما يشبه فريق عمل ليست البطولة فيه للبعضِ ( المفردة ) بل للكُل ( الصورة ) .
لقد خرجنا من بناء اللفظة الفخمة إلى بناء الصورة المدهِشة . أضف إلى هذا تحول نفسية الأديب إلى نفسية جمعية ، بمعنى أنها تختزل مشاعرَ القادة المنتصرين والمهزومين ، وطموحَ الأغنياء والفقراء ، وانكساراتِ الدول الواقعة تحت الاحتلال ، وارتعاشة الفتيات المغتصَبات ... إلخ .
لذلك فكل أديب يكتبُ حياته بدمه قبل أن يتعلم مسك القلم ، ويظل كذلك حتى اللحظة الأخيرة . وعلى الرغم من حضور مشاهد الدم في العالم الأدبي ، إلا أن الممارِس لهذا النوع من الإبداع يحاول تنظيفَ عالَمِه بحيث يصبح أبعد ما يكون عن الدموية . ولكن الطفل لن يأتيَ إلا مع الدم . كذلك الجنين الشِّعري لن ينتصبَ طفلاً طبيعياً إلا مع الدم ضمن رؤية كَوْنية واسعة .
إن الكتابات الخالدة تشريحية لأوصال المجتمع الكَيْنوني البشري ( المجتمع صاحب الكيان المستقل الفاعل ). وقد تبدو الأفعال الكتابية متشائمةً أو موغلةً في الحزن . لكنَّ وَحدةَ الرمزِ الهادر ضد التشاؤم والحزن العبثي . فالقصيدة الكَوْنية صورة لخيالات الواقع المؤلم الذي يتم فيه اضطهاد الإنسان كإنسان. والشِّعرُ نقدٌ لواقعٍ يُقتَلُ فيه البشر في كل الجهات. حتى إن الهويةَ البشرية صارت _ بحد ذاتها _ تهمةً . ومن الهذيان رؤية المشانق منصوبةً في الميادين العامة ، ثم توجيه الشِّعر للتغزل بعيون فتاة تائهة . فلا مفر من تصوير المعاناة التي يحياها البشر، حيث يتم تحطيمهم باسم الحضارة . وهكذا يقوم الشِّعرُ بحقن الإنسان بالأمل الثوري العاصف ليشعر بحتمية الوقوف وجدوى الاستمرارية. فالشِّعرُ هو جسدُ التاريخ، وذاكرةُ الوجود. ولا مفر من انقلاب الشِّعر على الشِّعر ، وقيامِ القصيدة بتطهير نَفْسَها .
وحين تُبنَى الفكرةُ من خلالِ نسقٍ لغوي مُفصِحٍ عنها ، فإنها تحملُ دلالاتٍ محدَّدة . والذين يكتبون بلا ضوابط، يظنون أنهم يكتشفون طريق الحرية ، وأن كلماتهم صارت درباً مستقلاً له خصائصه المنسلخة عن الضوابط العامة، ولكنهم في حقيقة الأمر يَسقطون في غُرورهم، ويضيعون في مسارات متشعبة ، ثم يَنظرون إلى نتاجهم فلا يرون إلا صُورهم منعكسةً ، وعندها يكونون قد نسخوا أنفسهم على الورق، فمثلهم كمثل الناظر إلى المرآة وهو يظن أن ما يراه هو العالَمُ الخارجي . لقد أحاطوا أنفسهم بشرنقةٍ متينة ، وبالتالي نظروا إلى ذواتهم على أنها المحورُ والركيزة ، وهذا قمة الضياعِ . وكما أسلفنا ، فإن أي قصيدة هي في الواقع قصيدتان مختلطتان : القصيدة البصرية، والقصيدة السمعية . يحدث بينهما مزجٌ يعمل على إشاعة التكامل والوحدة كي يتماسكَ النصُّ الشِّعري ويكتسب عنصرَ الانتقال من نقطة إلى أخرى .
ولو جئنا إلى القصيدة البصرية لوجدناها مجموعةَ المشاهِد والرؤى القادرةِ على الرَّسمِ وغرس المشهد غير العادي في مخيلةِ المتلقي . وأريد القول هنا إنَّ جميع الناس الذين يقرؤون نصاً شعرياً لأول مرة بحاجةٍ إلى وقتٍ كي يستوعبوه ، وبعد القراءةِ الأولى يبرز النقادُ والمثقفون والأقل ثقافةً وهكذا ، ونرى التمايزَ والتفاوت في الفهم والتحليل .
ولكنْ متى تظهر أصنافُ المتلقين ؟ . إنها لا تظهر إلا بعد وقتٍ من القراءة. فالقصيدة_ للوهلةِ الأولى _ يتلقاها أستاذ النقد الأدبي في الجامعةِ كما يتلقاها طالبُ المدرسة، لأن الصورَ الشِّعريةَ البصريةَ غير العادية ، والتي لم يتعود الإنسان على رؤيتها في حياته المعاشة تكون جديدةً بالنسبة للجميع . وبعد هذه المرحلة يأتي التباين الواضحُ والاختلاف بين مستوياتِ المثقفين، وظهور قدرات المتلقين ، كلاً حسب إمكانياته وقدراته وأدواته المؤثرةِ في تفكيك النص الأدبي وتركيبه .
القصيدةُ السمعية هي الصوت المنتشر في الصورة، إنها الإيقاع المتولد من تتابع الصور الشِّعرية المنسَّقة والتي تأخذ كل منها بيد الأخرى. في كثير من الأحيان تشعر بأن صوتاً ما من الأعماق يأتي بدون موعد مسبق، صوتاً ينقل لك أحاسيس تفهمها_ بالإجمال _ ، ولكنك لا تملك التعبير عنها بسبب شفافية الصورة ، وتخشى إن تكلمتَ عنها أن تخدشها فتصلَ مشوَّهةً منقوصة الجمال .
والشعورُ له اعتبارٌ في تشكيل الرؤية الشِّعرية، واختيار المفردات، وصياغةِ العبارة، والبناءِ الجمالي الظاهري في الجزئي ، والجوهري في الكلي ، وجعلِ الكلمات منظومة غير متنافرة ، وإقناع المتلقي . وللأسف ، فبعضُ الكُتاب يَدخلون مكاتبهم المكيَّفة صيفاً ، والمزوَّدة بالتدفئة شتاءً ، ويجلسون على كرسي وثير وحولهم أثاثٌ فخم ، ويبدأون الكتابة عن الفقراء والمشرَّدين . هؤلاء فقدوا الإحساسَ فترى كلامهم لا يجاوز حناجرهم ، وهُم أنفسهم غير مقتنعين بما يفعلون .
فالشبعان لا يمتلك نفس ذهنية الجائع ، واليقظان لا يستطيع أن يَعلم بماذا يَحلم النائم . إنني غير قادرٌ على الدخول في أحاسيسك لكنني أستطيع أن أستنبط بعض المشاعر من خلال اكتشافات شِعرية تعمل على جعل المتلقي يعترف أو يحس أن هناك من يشاركه همومه ومشاغله، فقيمةُ التوحدِ بين الأنا والآخر بشكل معرفي منضبط قادرةٌ على توسيع الزوايا الضيقة في ثقافة الرؤية .
ومن الأهمية بمكان معرفة أن النظام الثوري في الشِّعر يعتمد على خروج الشاعر من نَفْسه ثم النظر إليها عن بعد، ورصد الثغرات وردمها ثم العودة للاندماج بالذاتِ الشاعرة . فالتأثير المعنوي والمادي للقصيدة يعتمد على سيل أفكار غير متوقَّع . ومن هنا تنبع قوة القصيدة . فالقدرة على مباغتة المتلقي هي التي تستنزف قواه الذهنية وتزلزله ، مما يؤدي إلى حالة ذهنية متقدة ، ومواجهة صاخبة بين النص والمتلقي . أي بين أشعة الكلام ومرايا صاحب أدوات الاكتشاف . والقصيدة وهجٌ قادم من عروق التاريخ البشري ، وتنقيبٌ متواصل عن الربيع داخل الخريف. والقصيدةُ معركةٌ لا بد من خَوْضها من أجل وضع النقاط على الحروف ، ورسمِ حدودِ الوجود تمهيداً لإزالة الحدود بين الإنسان ونَفْسِه ، وبين الإنسان ومجتمعه ، وبين اللغة والشاعر .
ومن الضروري الانتباه إلى أن القصيدة كالسَّابح ، كلاهما إذا ارتبكَ غرقَ. وبما أننا في عالَم القصيدة ، فلا بد أن نتحدث عن " موت القصيدة " ، فنقول إن هذه العملية مرحلة مؤقَّتة مثل استراحة المحارِبِ . وهذا " الموتُ " أشبه بالهدوء الذي يَسْبق العاصفة . وفي ضوء هذه المعطيات ، ينبغي اعتبار موت القصيدة صفةً مجازية . فالقصيدةُ تُولَد من موتها ، وتموتُ في ولادة الشاعر الرائي لكي تحيا حاملةً معها خلودَ صانعها . وهذا الانبعاثُ المتجدد يَجعل القصيدة _ في حقيقة الأمر _ لا تَموت .
والشاعرُ الحقيقي يَرمي القارئَ في فوهة البركان اللغوي مباشرةً بلا مقدِّمات، ويُلغِي القواسمَ المشتركة بين قصائده. وكلما تعذَّب الشاعرُ ارتفعَ مستوى إنتاجه، وبالتالي استمتع القراء أكثر ! . وهذا الموتُ اللذيذ يُعتبَر تتويجاً لفلسفة الاستمتاع بالعذاب . والشاعرُ ليس وحيداً في مملكته ( القصيدة ) لأن عناصر الطبيعة تشترك معه في صياغة النَّص الشعري ، كما أن الجماهير تساهم في كتابة النَّص بقَدْر ما يُساهم صاحبه. وهذا التلاحمُ التلقائي يمنع تحوُّل الشِّعر إلى شظايا مُعدَّلة وراثياً . والشاعرُ لا يموت ولا يمكن قَتْلُه لأنه فكرة يَحْملها الناسُ ، هذا هو الوضع الطبيعي . أمَّا الوضعُ الخاص ، فإن الشاعرَ يموت حينما يَفقد القدرةَ على الإدهاش. وفي هذا السياق الأدبي، تبرز نقطتان تبعثان على الأسى والأسف . الأولى _ كلما ازدادَ تسليطُ الأضواء على الشاعر ازدادَ التعلق بشخصه لا بِشِعْره. والثانية _ بعض النقاد يمارسون النقدَ الأدبي بعقلية رَجل الأمن .
لماذا نكتب ؟!. هذا سؤال يشبه إلى حد بعيد أسئلة من قبيل : لماذا نأكل ؟ لماذا نشرب ؟ لماذا نتنفس ؟. فالقصيدةُ نسقٌ فكري وغريزة بيولوجية في آنٍ معاً. والظاهرةُ الشِّعرية مبنية على الشعور المتبادل بين عناصر الطبيعة وقلب الشاعر. الحلمُ يتكرر ، لكنَّ القلبَ واحدٌ . وهذا القلب بكل شظاياه يُصوِّر لنا حياةً جديدةً نحياها في الخيال ، ويحياها الخيالُ فينا واقعاً ملموساً .
إن أدق تعريف للشِّعر هو الشِّعر. إنه كُتلةٌ لغوية جبارة متكونة من الألفاظ والمعاني ، لا يمكن تأطيرها ضمن حدود معيَّنة بسبب طاقة الكلمات المشعة في كل الاتجاهات ، والمحلِّقة فوق الأزمنة والأمكنة . كما أن هذه الكُتلة ( الشِّعر ) لا يمكن تجنيسها لأنها لا تعيش بين الجدران ، أو خلف الأسوار. فالشِّعرُ كاسرٌ للأسوار ولا يَعترف بالجدران. وقد ظهرَ لكي يُلجِم الفلسفةَ المادية الفجَّة، ويَصبغها بطابع إنساني معنوي .
وفي الخِتام ، نقول إن النثرَ ممارسة أفقية كقطف الأزهار ، أما الشِّعر فتجربة عمودية مثل الغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ .
https://ar-ar.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)