تفاعلت إشارات "حسن النية" بين النظام المغربي و جزء من معارضته، التي انخرطت، منذ السبعينيات، في استراتيجية النضال الديمقراطي، مما أثمر "توافقا" سياسيا بين الطرفين، وأنهى حالة الصراع التناحري، التي امتدت منذ 1956 و إلى غاية السبعينيات، القائمة على أن وجود الذات يقوم حصريا على إلغاء الآخر. فالمعارضة بلورت كل الصيغ من أجل كنس النظام القائم و تأسيس نظام جديد وفق متخيلها السياسي. و النظام السياسي، من جانبه، استفرد بالسلطة و الثروة و سخر كل الأساليب الوحشية لإعدام معارضته و تصفيتها.
لم ينته الصراع، كما لم ينجح أي معسكر في تصفية نقيضه، و هو ما سيسمح ببلورة قناعات جديدة لـ"العيش المشترك"، في إطار "المسلسل الديمقراطي"، برهانات متناقضة، يمكن اختزالها، بشكل استفهامي، في : هل نجحت المعارضة في دمقرطة المخزن أم توفق هذا الأخير في مخزنة الديمقراطية ؟
1- ديمقراطية إلغاء النقيض.
شعرت الحركة الوطنية، و خصوصا جناحها التقدمي السياسي و المسلح، بالغبن بعد حصول المغرب على استقلال 1956 . فكل التجارب التحررية، بصيغها المختلفة، أثمرت وصول حركة التحرر الوطنية إلى السلطة معززة برصيد نضالي و كفاحي ضد القهر و الاستغلال الاستعماريين و متحفزة، كشرط موضوعي، بالمد التحرري الذي كان يعم دول العالم الثالث. بيد أن التجربة المغربية كانت مخالفة لهذا المسار العام، حيث انفردت الملكية، التي لم تلتحق بالحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال إلا في النصف الثاني من الأربعينيات، بالسلطة السياسية و الدينية و الاقتصادية. كما أن الملكية، مسنودة بمحيطها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الداعم، سارعت إلى ترتيب الأوضاع السياسية للمغرب الجديد بما يعزز قوتها و يقلص من وزن قوى الحركة الوطنية بتعبيراتها السياسية و النقابية.
في هذا السياق، سيؤجل الاستحقاق الدستوري للمغرب مدة 8 سنوات عن استقلال 1956، كما سيتعاظم الاتجاه التقليدي في النظام المغربي على قاعدة شرعيات دينية وتاريخية و ثقافية ممزوجة بطلاء حداثوي يعزز، في نهاية الأمر، شرعية النظام القائم؛ الذي سيعمل جاهدا من أجل إفشال استرتيجيات القوى السياسية الفاعلة. و نستحضر هنا إفشال تجربة أول حكومة وطنية بقيادة المرحوم "عبد الله ابراهيم"، وحل الحزب الشيوعي المغربي، و الزج بالمعارضين في المعتقلات، و تصفية جيش التحرير ...الخ.
كما أن الأجنحة المعارضة، التي ستعبر عن نفسها سياسيا بعد بروز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة1959، ستجرب خيارات سياسية، وليدة منطق الصراع الدموي، تتكئ على الإجهاز على النظام المغربي باعتباره لا شرعي و لا ديمقراطي. و سيتعزز معسكر المعارضة برافد سياسي جديد ولد من صلب القوى اليسارية و الشيوعية، لكنه يحمل منسوب عداء ورفض أكبر للنظام: يتعلق الأمر باليسار الجديد، الذي ظهر سبعينيات القرن السابق، و الذي آمن أن الثورة هي الحل الوحيدة لإزاحة النظام المغربي .
ما يهمنا، هنا، هو أن الديمقراطية، في تصور المعارضة المغربية، لا يمكن أن تتأسس إلا بإلغاء النظام غير الديمقراطي. و أن استنباتها يمر حصريا بتصفية نقيضها. كما أن الحكم، من جهته، عمل على الاستدماج التدريجي للآليات الديمقراطية، بصيغة شكلية لاتمس جوهره الثابت، بما يحول دون تمكين نقيضه(المعارضة) من الوصول إلى السلطة : إنها ثنائية ضدية تقوم على تأكيد الذات بنفي الآخر تغترف مبرراتها، بالنسبة للمعارضة، من الشرعية النضالية و الشعبية أو بمسوغات دينية تستمد مضمونها من قراءات فقهاوية بالنسبة للنظام.
إن مقومات بناء الديمقراطية، في هذه المرحلة، تتأسس، حسب المنطق السائد للمعارضة، على إنهاء النظام المغربي. و بالنسبة لهذا الأخير، فإن الديمقراطية يجب أن لا تسمح للمعارضة بالوصول إلى الحكم، غير أنها-الديمقراطية- مطلوبة لتطعيم شرعيته؛ و هو ما سيجعل كل الاستحقاقات الديمقراطية، في صيغتها الانتخابية مثلا، مناسبة لتجديد "البيعة" و تأكيد لإجماع قبلي بطرق حديثة .
لم ينته الصراع، كما لم ينجح أي معسكر في تصفية نقيضه، و هو ما سيعبد الطريق لتبلور قناعات جديدة لـ"العيش المشترك"، في إطار "المسلسل الديمقراطي"، برهانات متناقضة ستؤطر المرحلة إلى حدود الخروج عن "المنهجية الديمقراطية " .
2- رهانات المخزنة و الدمقرطة في"المسلسل الديمقراطي" .
تعرضت المعارضة لحملات قمع و اجتثاث ممنهجة، لكنها استطاعت الحفاظ على وجودها و تأمين استمراريتها التنظيمية و السياسية في بؤر النضال المناهض للنظام. وواجه هذا الأخير، بدوره، محاولات أكيدة لتصفيته من خلال المحاولات الانقلابية و التحركات الشعبية و التنظيمات الثورية .
استحكم الإرهاق و التعب بالطرفين، فكان من الضروري بلورة قواعد جديدة للصراع تنبني على العيش المشترك و تنهي حالة التناحر التصفوي. النظام المغربي، بمبرر استحقاقات قضية الصحراء المغربية، وسع من هامش الفعل السياسي في إطار ما سمي بـ"المسلسل الديمقراطي". و بالمقابل، اجترحت المعارضة استراتيجية "النضال الديمقراطي" حتى تهيئ ذاتها لظروف مرحلة "المسلسل الديمقراطي" .
بيد أن"المسلسل الديمقراطي" خضع لتجاذب رهانين أساسيين، في تقديري، و هما :
1- مراهنة النظام المغربي على "مخزنة" المعارضة، مما يجعل إرادتها في معارضة ثوابته مشلولة و غير ذات فعالية ؛
2- مراهنة المعارضة، أيضا، على "دمقرطة" المخزن من خلال النفاذ إلى مؤسساته القائمة و العمل على تطويرها / تطويعها تدريجيا حتى تصبح قادرة على استنبات الديمقراطية بمواصفاتها الكونية و غير المتعارضة مع الخصوصية المغربية.
هذه الرهانات المتجادبة أوجدت لها مساحة للتعايش بين الطرفين. لأن المخزن في حاجة، كشرط سياسي للخارج، إلى معارضة في الداخل تأكيدا، أولا، على انخراطه في المشروع الليبرالي(التعددية الحزبية و السياسية).وثانيا، تطعيما لشرعيته الدينية و التاريخية برتوش من الشرعية الديمقراطية. لكن المعارضة، حسب مواصفات السلطة القائمة، يجب أن لا تنازع في شرعية المخزن، بل تناوشه فقط في بعض خياراته. أما المعارضة، من جهتها، عملت بشكل ملموس على توسيع هامش تحركها السياسي و الجماهيري بشكل يخدم رهانها القائم على إرهاق المخزن. طبعا، فالمعارضة الخارجة عن طوق التوافقات استمرت في منازعة شرعية السلطة بشكل جزئي، كما أنها واصلت صراعها التناحري مع السلطة، صراع قائم على إلغاء الآخر.
هذه الديناميات المتعارضة هي التي ستؤسس، لاحقا، لمسلسل التنازلات الثنائية و تبادل الإشارات الودية، التي تندرج في منطق "حسن النية"، بما سيقود إلى إعادة صياغة الرهانات الأولى، ديقراطية تصفية النقيض، وفق منطق جديد يقوم على "العيش المشترك" .
من المهم جدا طرح التساؤل عن مآلات هذا المسار : هل تمخزنت المعارضة أم تدمقرط المخزن ؟
فقدت المعارضة السابقة، التي كانت الكتلة الديمقراطية قوتها الدافعة، معاقلها النضالية، و انخفض، بشكل ملموس، وزنها السياسي، كما فقد الشارع ثقته فيها، و تعرضت لحالة من التذرية السياسية و التنظيمية. بالمقابل، مكنت مرحلة "التعايش المشترك"، التي لم تتزعزع رغم الخروج عن "المنهجية الديمقراطية "، المخزن من إعادة تأهيل ذاته لتأمين استمراره على أرضية ثوابته الأصلية. وباتت الأحزاب مجتمعة و دون تمييز، في نظر عامة المغاربة، قنوات للانتهازية و الوصولية و التموقع السريع في صدارة السلم الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي. يؤكد قطاع واسع من مغاربة اليوم على أن الأوضاع العامة، خصوصا الجانب السياسي، قد تغيرت، غير انه تغيير غير كاف و هش. المعارضة السابقة تآكلت تنظيميا و لم تعد تعبر،حسب نفس الرؤية، عن هموم شعبها. و الواقع أن تآكل المعارضة الديمقراطية عزز من قوة النظام المغربي. فالحلول، التي ينتظرها المغاربة لمشاكلهم، لا تأتي من "الأحزاب" بقدر ما ستحملها الإرادة الملكية، لأن الأولى لم تف بوعودها لحظة إشراكها في السلطة سنة 1998 و ما أعقبها، حسب تصور قطاع واسع من الشعب المغربي.
أكيد أن إشراك المعارضة في السلطة، بدون ضمانات سياسية و دستورية، و قيادة حكومة دون صلاحيات حقيقية، كما سيعترف بذلك الأستاذ "عبد الرحمان اليوسفي"، هو توريط لها و تنفيس للنظام من أزمته الخانقة.
و أكيد، أيضا، أن الوطن، ككيان متعال عن الفاعل السياسي، ربح رهان تخفيض تكلفة الصراع. لكنه، بالمقابل، خسر رهان دخوله لنادي الديمقراطية.
و الحال، أن السلطة القائمة في المغرب نجحت، في تقديري الخاص، في استراتيجيتها و حققت جزءا معتبرا من أهدافها. لأنها، أولا، توفقت في استدراج المعارضة، المنخرطة في توافقات 1998 ، من وضع الصراع التناحري و جرها إلى صراع خيارات لا تمس جوهر النظام السياسي القائم.وثانيا، انحدار الخط السياسي لأطراف المعارضة، المشار إليها، دون مواقف النظام ذاته إزاء العديد من القضايا المطروحة للنقاش، مما يوحي، وهذا ما تحاول تأكيده الدوائر الرسمية و امتداداتها الحزبية، أن للمخزن نفس إصلاحي أكبر من الأحزاب الإصلاحية .
استطاعت السلطة في المغرب، لحظة 1998 العابرة، تنفيس أزمتها الخاصة بالإدماج الحكومي للمعارضة في تدبير الأزمة العامة للبلاد (السكتة القلبية)، بما أعانها -السلطة- على تصريف جزء من أزمتها إلى الأحزاب السياسية التي عارضتها قبل نهاية عقد التسعينيات.
راهنت المعارضة السابقة و الحالية، بقوة، على الإصلاحات الدستورية و الاجتماعية القمينة بدمقرطة النظام المغربي. غير أن هذا الأخير يجري، كعادته، الإصلاحات/ البريكولاج الذي يعزز مكانته و يمتص من قوة باقي القوى الفاعلة ذات الروح التنافسية.
كانت المعارضة، ستنجح نسبيا في "اختراق" المخزن لو قعدت توافقاتها بقاعدة دستورية و إطار سياسي جديد. كما أنها بالتأكيد كانت ستنجح، على الأقل رمزيا، لو أبعدت رموز ثقيلة في النظام؛ كما هو الحال بالنسبة لشرط "محمد بوستة" على وزير الداخلية الدموي. صحيح أن "لو" لا تغير اتجاه حركة التاريخ، غير أنها تسعف في فهم سيناريوهات أخرى لحركة التاريخ معاكسة للنهاية المآساوية لتاريخ معارضتنا.
إن الخلاصات الأساسية، من هذه الاستعادة التاريخية المستمرة في حاضرنا، يمكن تركيزها في :
1- بنية المخزن، بمحموله التاريخي والسياسي، متصلبة و عصية عن الاختراق الديمقراطي ؛
2- تأسيسا على ذلك، فالمجهود النضالي يقتضي ملامسة جوهر بنية الدولة: النضال من أجل دولة ديمقراطية حديثة تتعايش فيها الشرعيات التاريخية و الدينية و الديمقراطية، و جميع هذه الشرعيات يخضع للشرعية الأخيرة ؛
3- إن فشل خيار "دمقرطة المخزن" ليس بالضرورة نتيجة لضعف التنظيمات الحاملة لهذا المشروع، و إنما مرتبط، في تقديري، بغياب السند الشعبي الداعم لهذا الخيار ؛
4- إن التغيير العميق يجب أن يصاغ في قلب المجتمع و بالمجتمع (...).
و سيعلن رسميا عن نهاية حلم "دمقرطة المحزن" لحظة الخروج عن "المنهجية الديمقراطية" بتعيين جطو وزيرا أولا خلفا للأستاذ "عبد الرحمان اليوسفي"، دون أن تمتلك المعارضة السابقة القدرة الكافية على رد الفعل المناسب مع استحقاقات اللحظة السياسية. بيد أن الشارع المغربي، في إطار ديناميته المستمرة، سينتج آليات أخرى في مطالبته بالديمقراطية؛ ستمثل حركة "20 فبراير" إحدى تعبيراته الناصعة .
و توفق النظام المغربي، إذا، في الالتفاف على الديمقراطية، كما توفق في تمييع الوسائل و الآليات الديمقراطية، و نجح، أيضا، في اختراق الصف الديمقراطي، غير أنه فشل في التحكم و ضبط المطالب الديمقراطية للمجتمع المغربي؛ كما عبرت عنها، مثلا، حركة "20 فبراير ".
التعليقات (0)