نا لم أفشل لكنني وجدت عشرة آلاف طريقة لا تعمل
أديسون
من بين الأشخاص الذين لم أكن أعرفهم، لكني أُعجبتُ بهم أيما إعجاب بعدما سمعتهم يتحدثون، واحد جرّني صديق إلى مجالسته في مقهى.. كان ذلك في منتصف الثمانينات!
لن أنسى أبدا، ثقافة و وعي و رزانة و ذوق ذلك الرجل. كنت أريد أن أسأل صديقي، أن يقدّم لي الرجل.. أي أن يقول لي: بالمناسبة، أقدم لك صديقي أو زميلي فلان الفلاني، الذي يشغل المنصب كذا في المؤسسة أو الجهاز كذا... مثلا. لكن و بما أن صديقي لم يبادر بذلك، فقد قدّرت أن هناك سبب ما حال دون كشف هوية ذلك الرجل.
بعد يومين أو ثلاثة أيام من تلك الجلسة، سألت صديقي عن ذلك الرجل. كنت أرجح احتمال أن يقول لي بأنه أستاذ جامعي أو طبيب أو واحد من المهندسين الذين اعتمد عليهم بومدين في عملية تأميم المحروقات.. أو ربما أعلى من كل ذلك بكثير. لكن صديقي ابتسم و قال: كنا سويا في السجن !... انه مدير الشركة العمومية الفلانية (شركة كان لها وزنها آنذاك ) و قد قضى سنوات عديدة في الزنزانة بعد إدانته في قضية اختلاس أموال عمومية!
صُدمتُ لما تلقّيت ذلك الرد، و قلت لصديقي: أكيد أن الرجل مظلوم ؟ فضحك صديقي و قال: لا.. لم يظلمه أحد. لقد اختلس بالفعل، و كان قابلا بعقوبته، و قد دفع الثمن عن طيبة خاطر، و كما تراه باشر صفحة جديدة في حياته!
و أنا مصدوم دائما، سألت صديقي مجددا: شخص على كل ذلك القدر من الثقافة و التحضر و البديهة الحاضرة و الذوق العالي، أيُعقلُ أن يكون لصّا؟! فضحك صديقي و قال: قلت لك أنه مختلس و ليس لصّا !
و هل هناك فرق بين المختلس و اللص سألت صديقي ضاحكا متعجبا. فرد علي بالقول أنه هو كذلك كان يضع المختلس و اللص في " شكارة" واحدة، لكن الفترة التي أقامها بالسجن، و " التكوين" الذي حظي به ممن أُدينوا في قضايا اختلاس لأموال عمومية، جعلته يكتشف أن الفارق بين اللص و المختلس مثل الفارق بين الليل و النهار، و السماء و الأرض !
أتذكّر أنني سبّحت بحمد ربّي، و سألت صديقي أن يزودني بالمزيد عن ذلك الفارق الموجود بين اللص و المختلس؟ فقال لي بأن:" اللص شخص جاهل، أمّي، غبي، وسخ، لا يعرف سوى التلصّص و لا يفرّق بين الضحايا... لا يفرّق بين الغني و الفقير، العجوز و الشاب المقتدر، الرجل و المرأة، الناضج و الطفل... انه شخص حقير و جبان. بينما، المختلس هو على عكس اللص تماما. انه بالضرورة شخص متعلم لأن الاختلاس يقوم على التلاعب بالأرقام و الحسابات، و لا يمكن لأي كان أن يتقن هذا الفن ( ما بين قوسين) ما لم يكن متعلما جيدا، بل و يكون قد حظي بتكوين في التسيير و المحاسبة. المختلس هو في كثير من الأحيان، مثقف أيضا و يتمتع بقدر كبير من الذوق السليم في شتى مشارب الحياة، ناهيك عن كون المختلس لا يسرق الضعفاء من الناس و لا حتى الأغنياء منهم، بل هو يأخذ من المال العام... مال الدولة، و هذا المال كثير و كثير جدا !".
قلت لصديقي:" لكن من يختلس مال الدولة، فقد سرق مال الشعب، و بالتالي لا فرق بينه و بين اللص الذي يسرق الناس بلا تمييز".
فقاطعني و قال:" المسؤولون يقولون أن مال الدولة هو مال الشعب،لكن الواقع يقول أن مال الدولة لا يختلف عن أي ملكية خاصة يتصرف فيها كبار المسؤولين و الآمرين بالصرف مثلما يحلو لهم، و قد يضحكون على كل من يقول لهم أن ذلك المال إنما هو ملك للشعب ! كل المسيرين المدانين في قضايا اختلاس أموال عمومية، الذين التقيت بهم في السجن، اشتركوا تقريبا في التأكيد لي بأنهم قرّروا أن يأخذوا نصيبهم من ذلك المال " العام" بعدما اكتشفوا و لاحظوا أن مسؤولين كبار في الدولة يُفترضُ أن يكونوا قدوة للآخرين، تعاملوا مع المال العام كما لو أنه ارث عائلي ، فحدثت ثورة على أذهانهم و قرروا أن يأخذوا نصيبهم من الكعكة، كل بطريقته ... فمنهم من انكشف أمره، لكن لا أحد استطاع أن يوقفه لأنه هرب خارج الوطن. و منهم من أخذ الكثير، لكن الخبرة المالية قالت أنه لم يسرق و إنما أساء التسيير فقط، فقضى فترة شبه رمزية في السجن، و منهم من أساء التسيير بالفعل و لم يأخذ سنتيما واحدا، لكن الخبرة قالت أنه اختلس مع سبق الإصرار و الترصد، و حُكم عليه بسنين عديدة في السجن، و بقيت زوجته و أطفاله " للهم و الميزيرية"... و منهم من اغترف من ذلك المال العام بأريحية و إفراط ، إلى درجة أن الخبراء لم يستطيعوا أن يحدّدوا القيمة الإجمالية للمبالغ التي اختلسها بالعملتين الجزائرية السهلة و الأجنبية الصعبة، و صدر في حقه حكم، و لكنه غادر السجن بعد فترة، و لم يفهم كيف و لماذا غادر السجن بسرعة.. و هكذا... و عموما كل مختلسي المال العام الذين تعرّفت عليهم في السجن، كانوا أناسا محترمين، عندما يحدثك الواحد منهم، تعتقد أنه وزير أو وال أو مدير عام بنك أو رئيس مدير عام شركة سونطراك أو نفطال أو أي واحدة من الشركات العمومية الضخمة".
حدث ذلك منتصف الثمانينات (85-86 ). و رغم كل المفاهيم الجديدة التي أراد صديقي () أن يحقنني بها ، بخصوص الفارق الموجود بين اللص و مختلس المال العام، لم أستطع وقتها أن أهضم لجوء شخص على درجة عالية من الثقافة لأخذ مال الغير، أكان ذلك المال عاما أو خاصا، لأن المنطق يقضي بأن السرقة واحدة من حيث المبدأ.
أحزنني أن أكتشف أن شخصا عالي التحصيل الثقافي و العلمي مثل ذلك الذي جمعتني به الأقدار، يتضح أنه سُجن لا لآرائه أو لمواقفه السياسية المعارضة - في ذلك الوقت- و إنما لأنه اختلس مال الشركة التي يشرف على إدارتها !
منذ تلك الواقعة، إلى اللحظات التي أكتب فيها هذه السطور، لا أستطيع أن أحصي عدد المتعلّمين المثقفين الذين أعرفهم و الذين سُجنوا بعد ثبوت تهمة اختلاس المال العام ضدهم. بعض هؤلاء، قضى عقوبته و استعاد حريته، و بعضهم الآخر لا يزال في السجن. كلهم تقريبا أشهد لهم بالتعلم و الثقافة و المعرفة و الخلق العالية - على الأقل من خلال تعاملهم مع الناس-، و كلهم - بدون استثناء- كانوا يتلقّون أجورا محترمة جدا، مقارنة بما يتقاضاه جزائريون آخرون يتحملون مهاما عمومية أكثر مشقّة... و ظل السؤال نفسه يطرح نفسه بنفسه: لماذا فعلوا ما فعلوا ؟ هل فعلوا من أجل الفيلا الفخمة؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج، و الزوجة؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج، و الزوجة الأولى و الثانية... و الثالثة؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج، و الزوجة الأولى و الثانية... و الثالثة و العشيقات و الجواري ؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج، و الزوجة الأولى و الثانية... و الثالثة و العشيقات و الجواري و كذا من أجل ضمان الغد و تأمين مستقبل الأبناء في بلد، مستقبله دائما قاب قوسين ؟ أم من أجل الفيلا الفخمة و السيارة الفاخرة و السهرات الحمراء و الليالي الملاح في الفنادق الضخمة ، و العطل الشتوية و الربيعية و الصيفية بالخارج، و الزوجة الأولى و الثانية... و الثالثة و العشيقات و الجواري و كذا من أجل ضمان الغد و تأمين مستقبلهم و مستقبل الأبناء في الجزائر و خارج الجزائر ؟.. أم أنهم فعلوا بعدما اقتنعوا أن في هذا البلد، مال كثير، و ما من رقيب؟... ربما فعلوا من أجل كل ذلك. أقول ربما، لأنني لست متأكدا من الأمر، لكن ما أنا متأكد منه هو أن أمثال الرجل الذي أُعجبتُ به منتصف الثمانينات، أصبحوا كثيرين جدا في جزائر اليوم...، لكنهم أكثر مكرا و دهاء من سابقيهم لأنهم ظهروا في زمن الفاكس ثم الأنترنت و تكنولوجيات الاتصال الحديثة و لأنهم يفكّرون بالـnumérique عكس ذلك الرجل الذي حدثتكم عنه، و الذي كان جيله يفكر بالـ lanalogique. لمواجهة سارقي الجزائر الجدد، بوتفليقة قرّر إنشاء "لجنة"... فما هو النظام الذي يفكّر به بوتفليقة أو الطرف الذي أوحى له بفكرة "اللجنة" ؟!
السلام عليكم.
() صديقي، حُكم عليه بالسجن في قضية سياسية.
منشور في أسبوعية أسرار الجزائرية / العدد 264
التعليقات (0)