مخاطر فصل الدين عن الدولة
مصعب المشرّف
14 أكتوبر 2020م
يقال أن عجوزاً كانت لها دجاجة وديك يعيشان معها في البيت . فكانت تلاحظ أن الديك يتابع الجدادة في كل خطواتها . فقالت في نفسها:
وهكذا . جاء قرار العجوز الحاسم بفصل الديك عن الجدادة.
وضعت العجوز الديك في قفص محكم موصد الباب. واتهمته بأنه لا خير فيه ولا داعي له . وتوعدته بالذبح في أول مناسبة سارة . وتركت الجدادة حـرة طليقة.
ظلت الجدادة بعد فصلها عن الديك حرة طليقة تعيش حياتها داخل البيت بالطول والعرض وتتسلق الجدران ، وتبيض كعادتها دون أن تتوقف . وبدت مستمتعة بحريتها أو هكذا وسوست لها نفسها . وكذلك بدأت تسمن وصحتها ولياقتها تتحسن . ثم شرعت ذات يوم تصدر أصوات تنم عن رغبتها في حضن بيضها.
فرحت العجوز بذلك . وجمعت لها البيض في ركن قصي من الغرفة . وبدأت الجدادة فترة الحضانة بسعادة.
أكملت الجدادة ثلاثة أسابيع في الحضانة. ولكن البيض لم يفقس . وتشقق وفاحت روائح فساده وعمت أركان البيت . فهجرت الجدادة محضنها كئيبة ومرضت وكادت أن تموت من الحزن.
وتصادف أن جاء بعض أقرباء العجوز لزيارتها والسؤال عنها وتفقد أحوالها . فوجدوها مكتئبة حزينة وحكت لهم بما جرى. فأخبرها بعضهم قائلاً:
وهكذا مرت الأيام وعادت الحياة بالجدادة إلى طبيعتها . وباضت وحضنت وفقست من الكتاكيت ما شاء الله أن برزقها به.
ويبدو أنه وعلى ذات مفاهيم وقناعات ومُراد العجوز من فصل الديك عن الجدادة . بشترط القائد عبد العزيز الحلو على الرئيس حمدوك ؛ فصل الدين عن الدولة.
لا ندري ماذا دار بين حمدوك والحلو من أسرار. فلربما يكون حمدوك بسبب لهفته لرفع السودان عن قائمة الإرهاب الأمريكية وشروطها التعجيزية ؛ سارع بالموافقة على كافة شروط الحلو . ولو من باب كلام الليل يمحوه النهار.
أو ربما وافق حمدوك فقط على "إدراج" هذا الشرط كبند من بنود الأجندة ؛ ولغرض محاصرة "الحـلـو" وإحراجه للمجيء به إلى مائدة المفاوضات قي جوبا على طبق من فضـة . وبذلك يكون حمدوك قد أدى رسالته . وانتقلت مسئولية نجاح المفاوضات من عاتقه إلى رقبة حميدتي.
ولكن غريب أن يظن شخصان أن بإلإمكان الإجتماع فيما بينهما دون تفويض، ونيابة عن أربعين مليون نسمة يقرران في شأن فصل الدين عن الدولة.
ولا أدري من أين أتى الحلو بهذه الفكرة ، التي لم يتم حتى اليوم تطبيقها على هذا المفهوم بحذافيره في أي دولة من دول العالم . بما فيها الإتحاد السوفيتي سابقاً ، وفرنسا ، والصين البوذية ، وتركيا كمال أتاتورك .... ذلك أن هناك قوانين مصدرها الصريح هو الأديان السماوية والتعاليم الأرضية . ولا يمكن صيانتها وتلبيتها وتنفيذها إلاً بحبلٍ من الدولة وسلطتها الدنيوية الجبرية القانونية الدستورية. وحيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
فصل الدين عن الدولة. أم فصل الدين عن السياسة؟
إذا كان الحلو يقصد بمقولة فصل الدين عن الدولة "فصل الدين عن السياسة" فهو أمر قابل للنقاش . ومفهوم ومتعامل به ومرغوب كذلك ؛ حتى نفك الإرتباط ما بين العمامة والصولجان . أو كما قال الخليفة عبد الملك بن مروان عند وصول البريد إليه بنبأ مبايعته غيابياً خليفة للمسلمين في دمشق ؛ وهو جالس يتلو ويتدارس القرآن الكريم مع غيره في صالون بيته بالمدينة المنورة.
ثم وعلى ذات النسق صرف الحجّاج بن يوسف الثقفي تلاميذ خلوته التي كان يحفظهم فيها القرآن وبعض علومه . وأغلق أبوابها بالضبة والمفتاح . ثم امتطى صهوة جواده ويمّم من جبال ثقيف نحو دمشق للحاق بعبد الملك بن مروان. ثم كان من شأنهما ما كان لاحقاً في الشام والمدينة المنورة ومكة المكرمة وإنتهاءاً بالعراق من فصل صريح للسياسة عن الدين. وهو ما أعاد للدولة الإسلامية تماسكها وقوتها المركزية على يد بني مروان أبناء عمومة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
أما إذا كان الحلو يقصد ويعني حقاً ما ينادي به من "فصل الدين عن الدولة" . فهذا محض جنوح وجموح وردود أفعال ناجمة عن إستغلال دولة الكيزان للدين أبشع إستغلال.
وفي كافة الأحوال فإنه مطلوب من الحلو أن يخرج عن صمته وعزلته في كاوْدَتِهِ. ويتحدث لشعبه السوداني وجها لوجه وخطاب مفتوح ؛ والمنابر اليوم أمامه مفتوحة مُشرعة . فيوضح لنا ماهو تعريفه الدولة ؟ وما هو تعريفه العلمانية؟ وماهو تعريفه المدنية من وجهة نظره؟ وماذا يـرتجى للبلاد من طلبه فصل الدين عن الدولة ويحدد لنا من أين وكيف يتم هذا الفصل وعلى من ؟
من جانب آخر فالمعلوم أن الدولة تعترف بأديان أخرى خلاف الدين الإسلامي ومنها على سبيل المثال المسيحية واليهودية . وكذلك تعترف لتعاليم أرضية لمجموعات أفريقية سودانية . وجميع هؤلاء متمسكون بعقيدتهم الدينية . فهل سيتم إستشارة هؤلاء في مسألة قصل الدين عن الدولة وفق المفهوم العام الذي يردده عبد العزيز الحلو ؟ أم أن الذي يعنيه الحلو من كل هذه الأديان هو الإسلام وحده؟
المسألة إذن تظل شائكة ومعقدة . مختلطة بدم ولحم وشحم وأعصاب ونفس وشرايين ودماغ الإنسان . وليست بهذا التبسيط والتسطيح. الذي يظن الحلو أنه بالإمكان طرحه ومناقشته ، والتوصل إلى حلول بشأنه خارج السودان . حتى إن كان هذا الخارج هو التؤام الجنوبي . أو حتى إذا كان ثمن الفشل هو الإبقاء على رقعة كاودا الجغرافية الصغيرة منفصلة خارج نفوذ كادوقلي لنصف قرنٍ قادم من الزمان.
إذا ضربنا مثلاً بفصل الدين عن السياسة . فلا أقل من أن نستدعي مسارعة ما يسمى بمجمع الفقه الإسلامي بإصدار فتوى دينية لتحريم تطبيع العلاقات مع إسرائيل .
ثم وقبل يومين خرج علينا رئيس دائرة الفتوى بهيئة علماء السودان بفتوى (شخصية) أخرى جديدة تجيز تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ثم وليتضح لنا أمس 13 مارس من خلال مداخلات لهما في قناة الجزيرة مباشر أنه لا أحد منهما يعرف الفرق بين معنى كلمة تطبيع كمصطلح سياسي غربي . وبين معنى علاقات دبلوماسية . ولا يدركون المنشأ التاريخي السياسي لمصطلح "تطبيع" حتى.
ومن ثم نقول أن فتوى أولئك مرفوضة . وفتوى هذا الأخيرمرفوضة هي الأخرى .
وسبب الرفض يظل يستند إلى مبدأ ضرورة فصل الدين عن السياسة في كافة الأحوال... والكف عن إتخاذ "حشد الفتاوى الدينية" توطئة لشرعنة قرارات الدولة السياسية. أو جانب المعارضة.
وحيث لا حاجة للديموقراطية إلى الإستعانة بـ "لعبة" إستدعاء الفتاوي في أمور السياسة. فالدولة الديموقراطية إنما تستمد شرعيتها الدستورية من صناديق الإنتخابات ، وليس قفاطين وعمائم تجار الدين.
ودستور البلاد المتفق عليه والمرتضى به من أغلبية الشعب عبر إستفتاء هو الحاكم والمرجعية ؛ وليست أهواء البعض فقط ....
وربما لو عادت البلاد للعمل "مؤقتاً" بدستور عام 1973م إلى حين إعداد الدستور المدني الديموقراطي الجديد . والفراغ من مناقشته عل كافة الأصعدة والأجهوة الإعلامية الرسمية والوسائط أولاً ، توطئة لطرحه على الشعب في إستفتاء حر نزيه عام تتحقق له كافة الشروط بمراقبة المنظمات الأقليمية والدولية . فإنه سيكون لهذه العودة للعمل بدستور عام 1973م ما يغني عن كافة العراقيل التي تواجهها المرحلة الإنتقالية الحالية . التي لا ترغب قيادتها في العمل بموجب قوانين طواريء. على إعتقاد منها أن ذلك يقوّض شعارات ثورة ديسمبر "حرية سلام وعدالة" ويسحب البساط من تحت أقدامها.
ولكن الكارثة اليوم تتمثل في أن البديل القائم إنما هي قوانين إختلقها الكيزان وصمموها بخبث ماكر لحماية أنفسهم من يوم كمثل يوم ثورة ديسمبر.
وفي كافة الأحوال تبقى فتاوى علماء الدين الإسلامي خاصة مطلوبة فقط في جميع مايتعلق بصميم عملهم ودراستهم والشرع الحنيف من الكتاب والحديث والسنة النبوية الشريفة . كالبت في شئون صحة الزواج ووقوع الطلاق ، والعدة والصداق والنفقة ومتعة النكاح . وتثبيت صحة النسب في حالة الدعاوى الكيدية بسبب الميراث . وبيان حساب أنصبة الزكاة ، وفقه الصيام ، وفقه الصلوات المفروضة والسنن والنافلة ، والمواريث كافة من البنوّة المباشرة إلى الكلالة ... إلخ.
وهي أمور من الأهمية بمكان عند المسلمين وخالق العباد وأشرف الخلق صلى الله عليه وسلم ومكانتها في الدنيا عظيمة وأجرها في الآخرة لا يعادله أجر .. ولكن المشكلة لدى معظم هؤلاء المفتين أن مثل هذه الأمور (الشعبية) ، لا تجلب لهم الأموال السخية والإمتيازات الدنيوية الإستثنائية والنفوذ ، والقصور والملبوس والمركوب والمثنى والرباع . وكافة الملذات والطيبات الصالحات . وأسباب الرفاهية التي تجلبها لهم الرضاعة من السياسة والإفتاء لمصلحة جناب السلطان.
والسلطان هنا لا يشترط أن يكون الرئيس السيادي ونائبه دون غيرهم . ولكنه يشمل كل الأثرياء وكبار التجار والوزراء والولاة والوكلاء ، ومدراء البنوك ومحطات الوقود وأصحاب الأفران . ومن بيدهم الحل والعقد في الأوقاف وهيئات الزكاة والضرائب ورؤساء الأحياء والتعاونيات . ونظار القبائل وقيادات الإدارة الأهلية ، وحتى مدراء المدارس والجامعات . ووكالات السفر والسياحة والحج والعمرة ... فكل صاحب أموال ونفوذ وإقطاعية تحت إدارته مدنية كانت أو عسكرية هو في الحقيقة سلطان عصره وزمانه.
ولعل تجربة السودان التي دامت ثلاثون عاماً من إستغلال للدين في السياسة ما يغني عن كل حديث وتكرار وإستدعاء لتفاصيل كارثية تسبب بها حشد الفتاوى وتدخل رجال الدين في السياسة . وما أدى إليه ذلك من تحليل المحرمات والكبائر والموبقات وخلط الأوراق.
ولكن ... على العكس من ضرورة فصل الدين عن السياسة . فإن إرتباط الدين بالدولة إنما يقصد به تنظيم وسن القوانين المنظمة لحياة الإنسان وكافة مخلوقات الله في داخل البلاد من تلك الأمور والقضايا والخلافات التي تتطلب تدخل وحماية الدولة وممارسة القضاء الشرعي والمدني العادل.
وبوجه عام فإن علاقة الدين بالدولة ممتدة ومتعددة وأحياناً كثيرة نطلبها ونمارسها دون أن نلتفت إلى حتمية إرتباط الدبن بالدولة.
لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تنفصل الدولة عن الدين لأن البديل هو الفوضى وظلم الضعفاء وتشريد الأرامل واليتامي وهدر الحقوق وضياع الأنساب ونشوء ظواهر إجتماعية من أمثلتها ما يسمى بجرائم رد الشرف . وهو ما يبرر الطلب هنا من عبد العزيز الحلو ومن يقف بجواره في هذا الطلب الإستدراك وإعادة النظـر.... ثم أنه لن يرضى شعب على مختلف عقائديه بفصل الدين عن الدولة.
إذا تم فصل الدين عن الدولة. فمن يحكم في قضايا النسب وقذف المحصنات وحيث لا يوجد سوى في الإسلام قاعدة شرعية بأن "الإبن للفراش"؟
ومن يحكم في قضايا صحة الزواج ووقوع الطلاق والميراث التي حددها الشرع بوضوح؟
ألا يدرك البعض أن مثل هذه الأمثلة وقضايا أخرى كثيرة متعددة وكيفية تنفيذ أحكامها جبراً أو إختياراً مرتبط بإبقاء الدين على علاقة بالدولة؟
وعلى ذات الدرجة ينبغي أن يعيد البعض ممن يطالب بإرجاء مسألة "فصل الدين عن الدولة" إلى حين تشكيل المجلس التشريعي أو إجراء الإنتخابات العامة بعد إنقضاء الفترة الإنتقالية . ينبغي عليهم بداية الفصل بين مقهوم ومطلب "فصل الدين عن السياسة" و بين "فصل الدين عن الدولة". وتحديد ما يرغبون به بوضوح وفق بنود وقوانين يستفتى فيها الشعب .
إن القبول بخيار الحكم الذاتي وارد ولا مانع فيه. فهناك دول إسلامية وعلى رأسها أندونيسيا لجأت إلى خيار القبول بالحكم الذاتي لكل إقليم عبر إستفتاء حر نزيه . مع إعطاء الفرصة كل 10 سنوات لكل سكان إقليم يتمتع به لإعادة إجراء الإستفتاء على إستمرار أو عدم إستمرار العمل به في إطار الدولة الواحدة.
ومن ثم فإنه إذا كان أهل جنوب كردفان من جهة يرغبون في الحصول على نظام حكم ذاتي إقليمي في إطار فهمهم الخاص لمصطلح فصل الدين عن الدولة ؛ وربما من واقع قوانين عرفية لديهم تتعلق بالزواج والطلاق والمواريث وغيرها مما يعرف إصطلاحاً بقوانين الأحوال الشخصية . فليكن ذلط عبر صناديق إستفتاء ؛ فهم أدرى بشئون دنياهم ومجتمعهم .
ثم أن تهديد الحلو للخرطوم بتقرير المصير في حالة عدم الإذعان لشرط فصل الدين عن الدولة . هذا التهديد أو الخيار سيظل تحصيل حاصل . سواء أبقت جنوب كردفان نفسها متمتعة بالحكم الذاتي أو إنفصلت وأقامت دولتها المستقلة. ذلك أن فصلها للدين عن الدولة داخل حدود الحكم الذاتي أو الدولة المستقلة ، لن يترتب عليه أثر إيجابي ومكسب شخصي خارج حدود أراضي الولاية أو الدولة.
وبمعنى أكثر إيضاحاً فإن مواطن دولة أو إقليم جنوب كردفان في حالة الحكم الذاتي أو الإنفصال لن يمتلك (بداهةً) حصانة وإمتيازات خاصة إذا إنتقل مؤقتاً أو دائماً إلى داخل حدود أراضي السودان الأخرى . سواء أكانت هذه الأراضي في النيل الأزرق أو دارفور أو الشرق والوسط والشمال. .. والمفارقات والمقاربات في كثير من الجوانب واردة لا محالة ، ولضرورات تتعلق بالحفاظ على النظام العام والسلْم الإجتماعي.
التعليقات (0)