مخاطر إتفاقية الحـقوق الأربعة مع دولة جنوب السودان
في معرض نشرة البي بي سي مساء أمس الثلاثاء 15 مارس جاء نص الخبر أن الخرطوم وجوبا وقعتا في أديس أبابا على اتفاقيتين بشأن الحدود والمواطنة كمقدمة لوضع إتفاقية "الحقوق اِلأربعة" لمواطني البلدين داخل أراضي كل دولة على طاولة التوقيع قريبا . وأن هذه الإتفاقية سيستفيد منها حوالي نصف مليون جنوبي مقيمون حاليا داخل أراضي جمهوية السودان التي عاصمتها الخرطوم.
وبحسب الناطق الرسمي السوداني ... وفي موقع سودانيز أون لاين جاء الخبر كالطلسم المختوم في سكرتارية إبليس ، تنقصه الكثير من التفاصيل والشفافية (كالعادة) . وكأنّ الأمر محض أسرار عائلية ....
من يعيد قراءة الخبر يشعر بالفعل أنه تم صياغته على وجه "مشـبــوه" وملبوك ؛ قصد منه التعمية وذر الرماد في العيون. وبما يوحي أن المفاوض السوداني لا يرغب في التعلم من أخطاء نيفاشا أبدا . ويصر على الإستعجال وإغفال الجوانب الأمنية في كافة إتفاقاته التي يوقعها مع حكومة جوبا تحت ضغوط أجنبية سواء من الجانب الأمريكي والأوروبي الغربي ؛ أو من جانب ما يسمى جزافا بلجنة حكماء أفريقيا التي تسيطر عليها جنوب أفريقيا ونيجيريا . لجنة "حكماء أفريقيا" الذين لا نعرف لهم حكمة ولايحزنون في هذه القارة المتخلفة المظلمة العمياء . وهم الذين تنطبق عليهم مقولة " فاقد الشيء لا يعطيه"... ثم قول الشاعر :
إذا كان الغراب دليل قوم .......... مرّ بهم على جيف الكلاب
الحقوق أو الحريات الأربع المشار إليها تعني حق التنقل والإقامة والتملك والعمل ....... وهي غاية ما يسمو ويسعى إليه مواطن دولة جنوب السودان ومحط آماله وآمال حكامه في جوبا ..... ويا بلاش.
والسبب بسيط معروف . وهو أن مواطن دولة جنوب السودان يرغب في الحياة الرغدة الآمنة المطمئنة الهانئة داخل العاصمة المثلثة وحواضر السودان ، بعيدا عن عصر دولة جنوب السودان الحجري وذبابة التسي تسي والأوبئة والأمراض المستوطنة على قفا البلهاء أمثالنا من دافعي الضرائب في جمهورية السودان.
وحكومة جوبا تصلي للرب ليل نهار أن لايعود إليها مواطنيها الذين عاشوا ردحا من الزمان في عاصمة وحواضر السودان . لأن هؤلاء إن عادوا سيشكلون عبئا على حكومتهم من عدة نواحي ؛ ليس اقلها الحاجة إلى إيوائهم وإعاشتهم وتوطينهم وتوظيفهم وضمان سبل كسب العيش لهم بوجه عام بنفس المستوى الذي كانوا عليه في جمهورية السودان.
ثم أن هؤلاء إن عادوا فسيشكلون عوامل تحريض ومشاعل إضاءات في ظلام سماء الجنوب الدامس ..... إضاءات ومطالب حقوقية إنتبهوا لها وفطنوا إليها جراء إقامتهم وعملهم وتسكعهم في عاصمتنا المثلثة وحواضرنا وأسواقنا ومصانعنا وداخل منازلنا .
ولكن ....
ألا يدرك المفاوض في جانب جمهورية السودان أن فكرة الإتفاق مع حكام جوبا على منح الحريات الأربعة فيها من المخاطر الأمنية ما قد يشيب له الولدان في المؤتمر الوطني قبل شعب السودان؟
في ظل كل هذه العدائيات من جانب الحركة الشعبية قطاع الجنوب التي لاتكاد تخفيها ؛ وفعاليات ومطالب وتحالفات . ونشاط التمرد العسكري في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور المتاخمون لحدودنا مع دولة الجنوب .... في ظل كل هذه الأوضاع الأمنية السلبية الخطيرة يخطط مفاوض ومستشاري الرئاسة في الخرطوم بضغط من لجنة خبثاء أفريقيا لدفع الرئيس عمر البشير للتوقيع مع سيلفاكير على إتفاقية ما يسمى بالحقوق الأربعة خلال القمة المرتقبة بينهما؟
جميعنا يعرف موقف الحركة الشعبية في الجنوب تجاه ما يجري لحلفاء الأمس من أعمدة الحركة الشعبية قطاع الشمال . ولا يخفى على الأبله فينا أن الحركة الشعبية في جوبا لن تستطيع أن تتخلى عن رديفتها الشمالية . وأن الواقع الجاري هو حقيقة دعمها لها بالمال والعتاد والسلاح والمأوى.
وأن حاصل ضرب هذا في ذاك وقسمة هذه على تلك وجمع وطرح كل الحواصل فيما بعد ؛ تعني أن التوقيع على الحقوق الأربعة سيكون مهدداً أمنيا بالغا للإستقرار في جمهورية السودان خلال المرحلة الحالية التي تشهد إضطرابات أمنية منظمة لا يستهان بها في الأطراف وأبيي.
ووفقا لإتفاقية الحريات الأربعة . فلن يكون لفصائل وكتائب الحركة الشعبية في كلتا الدولتين من معوقات قانونية تعرقل حركتهم جيئة وذهابا بين البلدين . وكذا الحال بالنسبة لمتمردي دارفور من مواطني جمهورية السودان . ولن تستطيع الحكومة السودانية الإحتجاج على تحركات هؤلاء وأقامتهم هنا وهناك.
لقد دأبت حكوماتنا الوطنية منذ عهد الخليفة التعايشي ؛ ثم بعد بزوغ فجر الإستقلال على إضاعة الفرص والوقوع في المخاطر والمهالك والعودة لإصلاح الأخطاء بعد فوات الأوان .... وقبل شهور قليلة أعربت الحكومة السودانية عن ندمها كون أن المفاوض الشمالي في نيفاشا لم يحسم النقاط العالقة مع الجنوب في حينها . وقد كانت الفرصة مواتية لو تحلى هذا المفاوض بالصبر الجميل .... ولكن جاء ندم الحكومة متأخرا وبعد أن طار الغراب بعقد اللولي .
إرخاء الزمام وترك المجال للجنة "خبثاء أفريقيا" كي تبرطع تفعل ماتشاء ، وتمارس ما يحلو لها من ضغوط لن يطيل من عمر المؤتمر الوطني بقدر ما سيعمل على قتله بالسكتة الدماغية.
لجنة خبثاء افريقيا هذه تتعامل مع حكومة الخرطوم بعنصرية خرقاء . ومن واقع أن الصراع والعدائيات بين الخرطوم وجوبا ليس سوى صراع بين أفارقة وعرب .
لجنة خبثاء افريقيا كانت أول من أيد الإتهامات التي وجهتها محكمة الجنايات الدولية ضد الرئيس السوداني وبعض المسئولين الآخرين فيما يتعلق بدارفور.
لجنة خبثاء أفريقيا تحاول عصر حكومة الخرطوم حتى آخر قطرة ماء. وشل قدرات الرئيس السوداني حتى آخر عصب في قدمه ؛ قبل أن تنفض يدها منه ومن حكومته حين تصل إلى بغيتها بوضع جمهورية السودان "العربية" لقمة سائغة في فم دولة جنوب السودان "الأفريقية".
لجنة خبثاء أفريقيا تعرف ضحاياها في الخرطوم جيدا وتختارهم بعناية. تستغل طموحات البعض الشخصية وعزلة الخرطوم عن محيطها الدولي والأفريقي . وتتعامل معهم بأسلوب إبتزازي بشع كي تحصل منهم على تنازلات مُفرخة بحجم طائر الـرُخ في مقابل مكاسب بحجم بيضة الديك.
وفي سبيل ذلك تجيد لجنة خبثاء أفريقيا طبخ السم في مواقدها عند كل إثارة خلافات بين جوبا والخرطوم .. وقد كان إتفاق الحريات الأربعة هو آخر ماتفتقت إليه ذهنية هذه اللجنة الخبيثة في أديس ابابا مؤخراً.
من كان على أقل درجة من التشاؤم والحذر يدرك أن دولة جنوب السودان لن تستطيع الصبر طويلا على توقف ضخ وتصدير النفط لأن مداخيله تمثل 94% من الدخل القومي لهذه الدولة المتخلفة من كافة النواحي .... بل والتي تصنف على إعتبارها من قبيل تجمعات العصر الحجري......
لقد بدأت دولة جنوب السودان تختنق الآن .. وعلى الخرطوم أن لاتصدق مزاعم البعض الرسمي والتنظيمي الحزبي في جوبا بأنهم قادرون على إحتمال توقف تصدير النفط على المدى القصير أو الطويل ؛ خاصة وأن هذه الدولة تعتمد الآن على جيش وصل تعداده إلى 200,000 عنصر بحاجة إلى الكثير من النفقات على هيئة رواتب وإمتيازات إستثنائية للحفاط على ولائهم.... وبحاجة لمزيد من الأسلحة للحفاظ على قوة قبضتها الحديدية هناك وإجهاض تمرد هذه القبيلة وتلك بين كل حين وآخر.
ومن كان على أقصى درجة من التفاؤل وحسن النوايا وطيبة القلب ؛ عليه أن يدرك أن العداء والأحقاد والضغائن التي يحملها مواطن دولة جنوب السودان العادي وحركتها الشعبية وجهازها الحكومي الرسمي تجاه جمهورية السودان وشعبها العربي على نحو خاص لن تنمحي ما بين قرن وليلة من الزمان .. وربما يلزمها 1000 عام...... وبالتالي ضرورة أن يكون " الملف الأمنــي " هو أكثر الملفات تداولاً وطفواً في بحر هذه العلاقة ذات الجوانب النفسية المعقدة والحساسية التاريخية المفرطة...... جوانب نفسية وحساسية مفرطة أوصلت بعض قادتهم أمثال باقان أموم إلى حافة الجنون ... وقادت مواطن دولة جنوب السودان لإختيار الإنفصال بنسية تكاد تصل إلى 100% تقريبا . ولم يسبقها في تاريخ العالم مثيل.
..... وليته (والحال كذلك) كان بيننا وبينهم جبل من نار ؛ فلا نصل إليهم ولا يأتوا إلينا.
إن الذي ينبغي الإشارة إليه بإلحاح ؛ هو أن إنفراد السياسيون ومن في معيتهم من الأفندية في دولاب العمل الحكومي ، بإتخاذ قرارات ذات صبغة أمنية دون إستشارة القادة العسكريين في الجيش الميداني العامل أو من هم على قيد العمل اليومي في الأجهزة الإستخباراتية والأمنية في مثل هكذا مسائل تمس الأمن القومي للبلاد ؛ في ظل الصراعات المسلحة القائمة جنوبا وغربا والأوضاع المتوترة شرقا ؛ هذا الإنفراد سيؤدي إلى مزيد من الثغرات والكبوات الأمنية التي قد يصعب أو ربما يستحيل رتقها وعلاجها لاحقا ....
ومن هذا المنطلق فإن الذي ينبغي تداركه الآن هو عدم الإنجراف خلف عواطف أفندية الخرطوم ؛ وعدم الإستسلام لضغوط لجنة خبثاء أفريقيا . والتحلي بالمزيد من الصبر .... ودراسة جوانب إتفاقية الحريات الأربعة مع دولة جنوب السودان وتمحيصها جيدا . فلاشيء قيد الإستعجال حاليا يستدعي هروب حكومة الخرطوم للأمام ... وحيث من المؤكد أنه وبعدها سيدرك الجميع مدى خطورة هذه الإتفاقية على الأمن القومي لجمهورية السودان ؛ ومدى خطورتها على إستقرار الوضع القائم ، الذي لا نرجو له الإزالة بعملية جراحية عسكرية تؤدي بالبلاد إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
التعليقات (0)