لم يشعر السوري منذ عقود طويلة بشيء اسمه عدالة وقضاء مستقل ونزيه, رغم النص على السلطة القضائية في الدستور, مضافة إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية, ورغم وجود تنظيم قضائي: محاكم على درجاتها, وقضاة, واتهام ودفاع, وقوانين وإجراءات. وازدحام قضايا. وتكديس ملفات. وحركة لا تهدأ أمام وفي "قصور" العدالة. ووزير للعدل, تفرض عليه دول الغرب عقوبات منها منعه من دخول أراضيها, في مؤامرة "كونية" على العدالة السورية.
حين يتقدم المواطن بدعوى, أو حين يُستدعى للمثول أمام القاضي, يشعر برهبة, ليس من هيبة القضاء, فهذه مشكوك فيها, وإنما لإحساسه انه مُستدعى إلى مجهول, إلى جهة لم تنل يوما ثقة واحترام أحد. جهة قد يخسر فيها قضيته وكرامته, حتى ولو كان حقه فيها واضحا وضح الشمس. جهة أخطاء القضاء فيها لا تعد و لا تحصى, ولا يهتم أحد بعدها أو إحصائها. لا حساب عليها ولا مسؤولية عنها, وخاصة حينما تقع على الضعفاء, وقد أصبحت معتادة وطبيعية لا تؤرق ضمير القاضي, وان دمرت مصير المتقاضين.
يختلط عند المواطن هذا المثول ــ مدع أكان أم مدع عليه ــ بالمثول أمام أجهزة المخابرات والأمن العتيد. لا يحس بالأمان أو الطمأنينة لأنه على قناعة مسبقة بان سوف لا ينظر إليه ــ مثلما هو الحال عليه في كل الدوائر الحكومية ــ كانسان ذي كرامة, وان قضيته ستكون في أيد أمينة. وان حقه سيصله ولو بعد حين. لن يكون, في المواد الجزائية, بريء حتى تثبت أدانته. وفي حالة الإدانة نادرا ما تتناسب عقوبته مع جريمته. العقوبة لا تهدف لإصلاح الضرر الناتج عن الجريمة, ولا لإصلاح المدان نفسه. سياسة العقوبة وهدفها لا تنطلق من حماية الفرد والمجتمع, ولا من كون المجرم إنسان معترف له بإنسانيته, وبأن المطلوب هو إصلاحه وليس تدميره والتنكيل به جسديا ومعنويا, وخلع الصفات الإنسانية عنه, وجلب الأذى والإهانة لذويه. لا غرابة في ذلك. الغرابة في أن يكون للإنسان قيمة وكرامة, وان تُرد الحقوق لأصحابها, في عدالة تقيمها وتديرها دولة استبدادية.
في قضاء يفتقد للنزاهة والكفاءة, يكون مشكوك دائما في الإدانة, وفي البراءة. فالبريء, حتى ولو ثبتت برأته بحكم أو قرار قضائي, يبقى مشكوك في تلك البراءة, ولا يستطيع صاحبها إعلانها كدليل قاطع في مواجهة الآخرين . فقد تكون مشتراة, أو صادرة نتيجة تدخلات في قضاء دون سياج, مفتوحة أبوابه لكل أصحاب النفوذ والمترافعين بوسائل لم ينص عليها قانون أو أصول محاكمات.
قضاء يرى فيه القاضي نفسه, كشخص وكقاض, تحت رحمة أصحاب النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي والحزبي, وعليه أن يُكيّف أحكامه ليس لطبيعة الوقائع ولأحكام القوانين, وإنما على استقراء, واستشعار عن بعد لرغبات من هم فوق القوانين من "بـلاطجة" أوصياء على الدولة بصغائرها وكبائرها. عليه أن يقيم, من نفسه على نفسه, ولحماية نفسه, رقابة ذاتية تُبعد عنه العواقب غير المحسوبة, في حالة تخطي خطوطا تعتبر حمراء. أين يمكن عندها إيجاد نقاط ايجابية تحسب للقضاء, ولا تتنافى وتتعارض مع النزاهة والموضعية والمهنية, ومهنة القضاء بكاملها؟.
قضاء لا اعتبار فيه لأدبيات القضاة déontologie ولا التزام بالقسم الذي يؤديه القاضي عند تخرجه, ولا تستر على السر المهني, خاصة إذا ما تعارض مع مصالح أصحاب الأمر والنهي. تتداول القضية كل الألسن ويسمع بها القاصي والداني, منذ مرحلة الاشتباه والتوقيف على ذمة التحقيق, وخلال التحقيق, والمرافعات, والمداولات.. ويُحكم فيها القاضي مسبقا, في مجالسه الخاصة والعامة, قبل أن يصدر حكمه في جلسة إصدار الحكم في قاعة المحكمة.
طرق توظيف القضاة تقود حتما, ومنذ البداية, إلى فساد القضاء. فدخول غالبيتهم المهنة يخضع بالدرجة الأولى للولاء الكامل للنظام السياسي, والمعايير الحزبية, ولدعم أصحاب النفوذ, وليس للكفاءة و وتكافؤ الفرص, والتنافس النزيه بين الحقوقيين المرشحين لمهنة القضاء. وهذا, وان كان لا يختلف عن المعمول به في كل وظائف الدولة ودوائرها والمهن, فانه أكثر خطورة في مهنة القضاء, كونه إفساد لضمير الأمة الذي يفترض إن القضاء يجسده.
هل يمكن, دون بسمة ساخرة, الحديث عن قضاء مستقل نزيه في مثل هذه الشروط , في دولة لا فصل فعلي فيها للسلطات, والسلطة القضائية هي الأكثر ضعفا, بين السلطتين الأخريين التابعتين لرأس النظام وأصحاب القرار حوله, وبتفويض منه؟. وفي ظل حالة طوارئ وأحكام عرفية واستبداد وفساد مستمر منذ أكثر من 40 عاما, بُنيت عليه ثقافة أجيال بما فيها أجيال القضاة؟. (لا يسعنا مع ذلك إلا الاعتراف للشرفاء من قضاتنا بمكانتهم, ونقاء ضمائرهم, كأفراد, رغم كل ما يعانونه من محنة مرفق القضاء في دولة الاستبداد).
وعليه يصبح من لغو الكلام أن نتحدث عن إصلاح قضائي في ظل الاستبداد والفساد العام, وشراء الذمم. في دولة يُقتل المواطن لتهم ملفقة ضده, تقتلع أعضاء من يطالبون بالإصلاح, وتداس رؤوسهم وظهورهم, ليس فقط في أقبية التعذيب بعيدا عن معرفة القضاء ــ الذي يتلمس رأسه ويتمنى أن لا يسمع ولا يرى ــ , وإنما كذلك علنا في الشوارع. لا يحاسب احد ولا يحال الى المحاكم احد حتى ولو كان شبيحا بلا صفة رسمية أو حصانة قراقوشية. الاعتقالات دون أوامر قضائية والتهم لا مبرر قانوني لها (لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ليست من مبادئ العدالة !!!), لا محاكمات, أو مجرد سؤال عن المبررات. ليس هذا فقط في أيامنا هذه أيام القتل بالجملة والقنص, وإنما في ممارسات ممتدة على طوال تاريخ الدولة القمعية, وان اختلف اتساع الملاحقات من فترة لأخرى, فهذه ذهنية الاستبداد وممارساته. هل يمكن لأي إصلاح أن يغير ما تربت عليه الذهنيات عقودا طويلة, وما جرت عليه الممارسات التي أصبحت أعرافا ثابتة وكأنها من أصول الحكم والمحاكمات؟.
هل يمكن الادعاء بان دولة تعيش عقودا دون قضاء نزيه ومستقل, قائم في أغلبه على قضاء استثناء, في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية, قابلة للانتقال إلى مفاهيم وقيم القرن الواحد والعشرين فيما يتعلق بالقضاء؟. وهل يمكنها الادعاء بأنها قادرة على الإصلاح القضائي وان أرادته فعلا.؟ وهل يمكن الإصلاح في مجال القضاء وكل ما في الدولة فاسد وغير قابل لأي إصلاح؟. الفساد ليس فقط في الهيكلية, وإنما كذلك وبشكل أساس في العقول والنفوس؟.
القضاء المستقل النزيه لا يقوم ولا يستقيم خارج دولة ديمقراطية, دولة القانون, دولة علمانية يتساوى فيها الجميع أمام القانون, ويخضع فيها الجميع دون استثناء لحكم القانون. المواطنة هي المعيار وحقوق المواطنية وواجباتها للجميع وعلى الجميع.
وحتى لا يظن أحد أننا, في نزاهة واستقلال القضاء, ننظم شعرا, أو نسرد قصصا, أو نفسر حلما, أو نطلب مستحيلا, سنعرض واقعا قضائيا في دولة مثل فرنسا, ليس بقصد أن نكون مثلها, ففرنسا فرنسا, وسوريا سوريا, ولكل منهما تاريخ مختلف, وقيم قد تلتقي هنا وتفترق هناك, وإنما لتقديم تجربة في ظل دولة ديمقراطية تقوم على المؤسسات و المساواة أمام القانون, وحقوق الإنسان والحريات الأساسية. دولة تختلف بمفاهيمها وقيمها وآلياتها عن تلك السائدة في دولة الاستبداد, بآلياتها ومفاهيمها ونقائصها وفسادها.
لا يعيب عرض التجارب الإنسانية في الدول التي لا يمكن لأحد إلا أن يشهد لها بتطور قضائها ونزاهته. ولا يستنكره إلا من يريد البقاء خارج العصر والحداثة, والابتعاد عن التجارب الإنسانية, لصلف أو لادعاءات كاذبة, تعتمد على حجج مثل الخصوصيات والمغالاة في خصوصيتها, إلى حيث لا يعلم أحد أين هي فعلا خصوصيات وأين هي عموميات. أين هي تخلف, وأين هي أصالة. أين هي تمايز طبيعي, وأين هي عنصرية. أين هي تعال وعنجهية, وأين هي مساواة في الإنسانية. أين هي واقع, وأين هي أوهام خيالية. أين هي قبول لمفاهيم العصر والحداثة, وأين هي حرب عليها رفض لها. أين هي قناعة بأننا خير أمة أخرجت للعالمين, وأين هي قبول بأننا أمة بين الأمم ككل الأمم. لا غرابة في أن عدم وضوح وفهم طبيعة هذه الخصوصيات أبقانا قرونا أمة خلف الأمم.
لم تترد دول أوربية عديدة, متمسكة بقومياتها و تعرف طبيعة خصوصياتها, بأخذ, دون عُقد ودون عنجهية كاذبة, تجارب بعضها بعضا. ففي مجال القضاء والتنظيم القضائي أخذت الكثير من تلك الدول من التجربة الفرنسية مفاهيم نظرية وعملية, مثل على سبيل المثال لا الحصر, درجات التقاضي, وبناء القضاة, مؤسسة قاضي التحقيق, والنيابة العامة... لم يكن هذا الأخذ على إطلاقه, وإنما مطور ليتناسب مع واقعها ومفاهيمها هي. كما أخذت العديد من الدول العربية عن القضاء الفرنسي ومؤسساته ودرجات المحاكمة, وحتى التسميات الشيء الكثير, وان بقي الشكل في هذا هو القاعدة.
وعليه رأينا من المناسب ــ في مرحلة أسقطت فيها بعض الدول العربية أنظمة الطغيان فيها, وتستعد أخرى لإسقاطها, وتسعى لبناء الدولة الديمقراطية ومؤسساتها ومنها ضمير الامة القضاء ــ عرض تجارب بناء القضاء وتكوين القضاة في بلد كفرنسا, ومنها بشكل خاص, تجربتها في إنشاء المعهد الوطني لتكوين القضاة L’Ecole Nationale de la Magistrature, في الجمهورية الخامسة. وطرق تكوين وتعيين القضاة, في مقالين قادمين.
يتبع.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)