في 8 نوفمبر 1999 قرر الملك محمد السادس إعفاء الراحل إدريس البصري من منصبه، وبهذا الإعفاء خلف وزير "أم الوزارات" يتامى كثر، وهم أيتام موته السياسي والوظيفي، سنوات قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى في أواخر غشت 2007.
كان الوزير المخلوع، إدريس البصري، بمثابة " أصل تجاري" أو "دجاجة تبيض ذهبا" بالنسبة لثلة من المسؤولين والقائمين على الأمور والسياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين ورجال الفكر والثقافة والفن، ولما تمّ خلعه، كانت الصدمة قويّة، عندما شعر هؤلاء باليُتم على حين غرة ومن حيث لم يحتسبوا. لقد شعر الكثير منهم باليتم أكثر مما يشعر به الفتى الفاقد لوالديه. هكذا انهارت "ممالك" محميي إدريس البصري الأيتام.
ومما جعل أيتام إدريس البصري كثر، أن وزارة الداخلية في عهد البصري - "أم الوزارات" فيما مضى أخت الوزارات حاليا حسب تعبير قيدوم الصحفيين، مصطفى العلوي- سهرت على فبركة "كراكيز" وإحداث جمعيات وتنظيم تظاهرات وبث العيون في مختلف أرجاء البلاد. فوزارة الداخلية في عهد البصري منحت السلطة والجاه لأناس بدون وجه استحقاق وأدمت قلوب عائلات مغربية كثيرة، فلا غرو أن يكون أيتام البصري بالمئات وربما بالآلاف اعتبارا لـ "استدامته" متربعا على كرسي "أم الوزارات" دون منازع.
إذن كثُر هم محميّو البصري- الذين أصبحوا أيتامه- لأنه شجع جشع زبانيته وسهل لهم الترامي على أملاك الدولة وأملاك الغير من أراضي ومزرعات... وكرس المحسوبية والزبونية لخدمة أصدقاء المصلحة. فكانت تكفيه مكالمة هاتفية كي ينقل الولاة والعمال والقواد والعمداء والضباط، ويأمر بأسر من يراه مشاغبا ويقذف به في "أحضان" الجلادين والسجانين دون محاكمة. كما أغدق الامتيازات والأراضي والعقارات على آله وذويه والمقربين منه. لذلك أيتامه كثيرون ، منهم من انكشف أمره، ومنهم من تكوموا على أنفسهم يكابدون تداعيات يُتمهم. وقد سبق لقيدوم الصحفيين، الأستاذ مصطفي العلوي، أن قال: " لقد ارتكب إدريس البصري خطأ فادحا عندما أشرك أولاده وأصهاره في اقتسام الغنائم.. فأساء إليهم ولو كان البصري ذا بصيرة(..) لعرف أن الزمان يدور".
وكثير من الذين طالبوا بمحاكمة البصري اعتبروه مسؤولا عن الفساد المالي والإداري في المغرب، وسعوا إلى الزج بأتباعه وأقربائه في السجن للضغط عليه، وبذلك توسعت دائرة أيتامه. تنكر له أصدقاء الأمس، ومن القلائل الذين ظلوا يحتفظون بصداقته دون تغيير، أنس دينيا، وهو أحد أصدقائه، الذي ظل معه عندما انفض الناس من حوله ،كان دينيا يعمل موظفا في بنك الإنماء الاقتصادي.
وقد وصف أحد الزملاء الصحفيين، المعروف بشغبه، أيتام البصري بعيد وفاة الملك الحسن الثاني قائلا، إن خدم وحشم الوزير القوي السابق إدريس البصري،انزووا في بيوتهم كأية فئران مذعورة من مخالب قط شرس،ذلك لأنهم كانوا قد وضعوا من قبل كامل بيضهم في سلة الوزير البدوي القوي، لم تخدمهم في شيء أن هذا الأخير لم يكن يحظى برضا الملك محمد السادس. إن كل أتباعه وما أكثرهم، ومنهم المُثقفون والصحافيون والسياسيون وأساتذة الجامعة، ينزوون اليوم في بيوتهم.
نسوق في ملف هذا الأسبوع بعض مظاهر اليتم الذي خلفه الراحل إدريس البصري ونعرض نماذج من أيتامه في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك على سبيل المثال لأن عددهم كثير.
أيتام الحقل السياسي
إن أغلب يتامى الوزير المخلوع ، في المجال السياسي، هم من تمّ توظيفهم كواجهات وأدوات سياسية واستخدموا كمخزون انتخابي لتشخيص مشهد سياسي فُبرك مسبقا من وراء الستار، وتأثيثه حتى يبدو للعيان أن نتاج واقع حال الركح السياسي المخدوم أصلا. حصل هذا عندما كان الراحل إدريس البصري صانع علامات التشوير السياسي بالمغرب، مُغترفا قوّته ومستمدها من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في ابن حارس السجون الشاوي الأصل.
فبعد رحيل الحسن الثاني، شعرت المعارضة "الجديدة" ( معارضة تحت التمرين) – في ظل حكومة عبد الرحمان اليوسفي – باليُتم الشديد بعد قدوم الملك محمد السادس على خلع إدريس البصري في 7 نوفمبر 1999 .
بعد مغادرته المغرب، كثر منتقدو البصري وبعضهم كانوا مقربين إليه وبينهم سياسيون وإعلاميون، وتطورت الانتقادات إلى أن اتخذت شبه حملة منظمة أخرجت الرجل من صمته.
إن البصري لم يترك وراءه ما يذكره به السياسيون. شأنه شأن العديد من القادة وزعماء الأحزاب السياسية بالمغرب. الذين دخلوا اللعبة السياسية في عهده، إما من باب الوجاهة الاجتماعية أو من باب الصدفة المحضة أو الانصياع الأعمى لأصحاب الجاه. وفي هذا الإطار تعتبر الأحزاب المنعوتة بالإدارية وقادتها والقائمين عليها من عداد أيتام إدريس البصري.
وفي شتنبر 2002 قال البصري لأحد الصحفيين بخصوص حزب الاتحاد الدستوري بقيادة محمد الأبيض زمنئذ : "إن الأبيض حتى لو ترشح وسط أهله سيسقط".
وقد قرر حزب الاتحاد الدستوري - الذي تولى رئاسة الحكومة المغربية بداية التسعينيات أيام كان البصري وزيرا للداخلية - فصل عدد من أعضاء مكتبه السياسي بعد خلع البصري، من بينهم عبد الرحمن أمالو وزير العدل الأسبق بدعوى أنهم كانوا على ارتباط وثيق بالبصري وأدوات طيعة بين يديه . علما أن ميلاد حزب الاتحاد الدستوري كان ببيت البصري، بعد أن خرج حزب الأحرار عن السكة التي رسمها له. لقد وظف الوزير المخلوع حزب الفرس في الانتخابات ومنحه حق الاكتساح، بل ووضع على رأسه منشقا عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وهو المعطي بوعبيد. كما دفع بمحمود عرشان، زميله السابق في الإدارة العامة للأمن الوطني، إلى دائرة السياسة ومكـّنه من رئاسة حزب النخلة.
يقول بروكسي العالم بخبايا "أم الوزارات"علم اليقين: "(...) أما التهامي الخياري، الذي كان ضمن تشكيلة علي يعتة، فقد تم تدجينه بشكل سريع وأصبح مُقرَّباَ من البصري، الذي كافأه بمنحه رئاسة حزب خرج من جلباب التقدم والاشتراكية.. لقد كان البصري يناور في كل الاتجاهات وكلما صعد في سلم المسؤولية إلا واشتدّ عوده ونجح في احتواء المؤسسة التشريعية والأحزاب والنقابات بشكل سريع".
كما أن الحركة الشعبية ظلت تحت وصاية البصري الذي كان يملك خيوطها كما يملك خيوطا أخرى، ويتابع نبضها من خلال علاقته بالقيدوم الحركي مولاي علي العلوي.
من بين الأحزاب التي سهر وزير الداخلية الأسبق على رعايتها وحمايتها في مشهد حزبي طغى عليه الالتباس "الحزب الديمقراطي الوطني" بزعامة أرسلان الجديدي والعقيد عبد الله القادري، الذي يبدو، حسب بعض المصادر، أنه تقاعد واحترف السياسة بعد استشارة مع إدريس البصري، حيث ترشح لانتخابات عام 1977 في مدينته برشيد بشكل مستقل، قبل أن ينظم إلى حزب الحمامة عند تأسيسه سنة 1978، مثل باقي النواب المستقلين الذين انضموا إلى هذا الحزب، بل هناك من تحدث عن كون حزب "العدالة والتنمية" بدوره كان من صناعة إدريس البصري وعرف ميلاده ببيت الوزير المخلوع.
قاد العقيد القاديري (الذي كانت تربطه صلة قرابة بالبصري) في يوليوز 1981، إلى جانب أرسلان الجديدي، الذي كان أبرز نقابي في مصانع الفوسفاط في خريبكة، بإيعاز من وزير الداخلية القوي آنذاك، انشقاقا داخل "التجمع الوطني للأحرار"، وبرر القادري الانشقاق بأن حزب الحمامة لا يعبر عن طموحات سكان البادية المغربية، وأسس رفقة مجموعة من البرلمانيين "الحزب الوطني الديمقراطي". ويقول القادري إنه سمع عبارة من رجل الداخلية القوي خلال عهد الحسن الثاني هي التي أدت للقطيعة بينهما، بعد أن توترت علاقتهما بسبب تدخل البصري في وزارة السياحة التي كان يشرف عليها القادري في بداية التسعينات ، يومها خاطب القادري البصري قائلا: "من تظن نفسك.. عندما كنت ضابطا صغيرا في الشرطة كنت أنا عقيدا في الجيش". كما أكد عبد الله القادري، أن علاقته بإدريس البصري لا تعدو أن تكون علاقة صداقة جمعت بينهما بحكم انتماء الرجلين إلى المنطقة نفسها ( الشاوية)، لكنه نفى بشكل قاطع استفادة الحزب الوطني الديمقراطي من موقع صديقه على رأس أم الوزارات، بل قال "إن الحزب تضرر، مثل باقي الأحزاب، من مخططات وزير الداخلية السابق، رغم صداقتهما"، مضيفا: "عشنا مشاكل كثيرة مع إدريس البصري، ولم يكن يعترف بوجودنا.
وحسب شاكر أشهبار، رئيس حزب التجديد والإنصاف، فـ"النظام الذي كان يرعاه إدريس البصري كان معروفا لدى الأحزاب السياسية، ويرتبط بالتحكم السياسي من خلال تزوير نتائج الانتخابات"، مضيفا: "لي بغاه البصري يطلع كان كيطلع، ولي ما بغاهش ما كيطلعش"، وتفادى أشهبار، في اتصال مع "مغرب اليوم"، الحديث عن أسماء الأحزاب السياسية والزعامات التي ساهم إدريس البصري في ظهورها، والتي سطع نجمها مع وزير الداخلية، لكن ألمح إلى "أيتام البصري" في المجال السياسي قائلا: "الأحزاب التي كانت تستفيد من علاقتها بوزير الداخلية ومن دعمه ومساندته معروفة، وهي نفسها التي زال بريقها السياسي تدريجا بعد إقالة البصري من وزارة الداخلية".
كانت "النظرية" المُعتمدة القوي في الداخلية إدريس البصري، بسيطة جدا بالقدر نفسه الذي تنطوي عليه من التعقيد،وتتلخص في توريط كل أفراد النخبة السياسية والفكرية والإعلامية والنقابية والثقافية..في أفعال مُشينة بوضعهم الاعتباري،وذلك لتجريدهم من أي إحساس بالكرامة الشخصية أو الإعتداد بالنفس،وبعد ذلك يسهل ضبطهم. حيث كان من النادر جدا،أن تجد مَن بينهم،مثلا،مُن لم يتورط يوما في عملية ارتشاء،من زاوية استخلاصها أو منحها،وبالتالي فإن "المُتورط" يظل لديه شعور دفين،وإن كان مرفوضا،بأنه مُشارك في تردي الحياة العامة،فيتحول لا شعوريا إلى مُدافع عن واقع الحال القائم.
أيتام البصري في الحقل الإعلا مي
سبق وأن أكد لنا مصدر مطلع أن إدريس البصري كان يكلف بعض الصحفيين بكتابة بعض المقالات تنوه به مقابل مبالغ مالية مهمة. وقبل إنجاز المهمة كان يسلم أحيانا لهم المبلغ كاملا بعد تمزيق الأوراق المالية يمنح نصفها للصحفيين ويحتفظ بنصفها الآخر وعندما يقوم الصحفي بالمهمة يستعيد أنصاف الأوراق النقدية المتبقية ويمنحه المبلغ. أما الأوراق المالية الممزقة، فكان يسلمها لبنك المغرب لتعويضها بأخرى سليمة. كما كان يجتهد اجتهادا لتسليم الشيكات لبعض الصحفيين أمام الكاميرا. حرص البصري منذ سنة 1968 على الإمساك بخيوط الإعلام.
وقد عٌرف على إدريس البصري أنه كان يغدق على بعض الصحفيين الأجانب الأموال ويطرد خارج المغرب من لا يمتثل لرغباته مدعيا أنهم يسيئون لسمعة البلاد ويكنون لها العداء البين.
فهناك من كانوا في السابق توليفة من توليفاته، لكن سرعان ما انبروا للنيل منه وهم الذين كانوا في السابق بعضا من صناعته الخاصة.
في هذا السياق قال لحسن بروكسي في كتابه الأخير : " سقط الأشهب في شباك البصري، لكنْ للأمانة فهذا الصحفي (...) لم يكن في يوم من الأيام مخبرا للوزير، بل كان يخبره فقط ببعض مُستجدّات المشهد الدولي الذي كان متمكنا منه، وبنبض الشارع المغربي.. كان مندوب جريدة "الحياة" اللندنية مرتبطا بانشغالات المجتمع المغربي، عارفا بالحقل السياسي، وكان قادرا على الانتماء إلى صف الأغنياء في العاشرة صباحا وقبل منتصف النهار ينضمّ إلى صفوف الفقراء، بعد أن يصرف كل ما ملكت يداه.. في علاقته مع الصحافيين كان البصري قادرا على استمالة أعتد الأقلام وأقوى الحناجر".
ويضيف بروكسي: " كان معنينو وفنجيرو ينتظران قرار تعيينهما ( الأول مديرا عاما للإذاعة والتلفزة الوطنية، والثاني كاتبا عاما لقطاع الإعلام ) كان حاضرا كل من كديرة وبنهاشم والجعايدي، ما أن بلغني الخبر، حتى صحت بأعلى صوتي:
"لا يمكن أن نعين على رأس القطاع أشخاصا يفتقدون لحس المسؤولية".
كانت هذه العبارة كافية للتصدي لقرار جاهز ينتظر جرة قلم، لقد علمت في ما بعد أن بنهاشم قد أخبر الملك بتفاصيل الواقعة، وكان من الخدام الأوفياء للحسن الثاني، فتبخر التعيين، لقد كان الملك متابعا دقيقا لما يجود به التلفزيون، بل إنه رفض منح معنينو وفنجيرو منحا وعد بها البصري رجلين لطالما نالا عطفه".
وقد سبق للبصري أن أسرّ في خريف 2002 لأحد الصفيين المعروفين بصدقيتهم، قائلا: " عرفت اثنين من الصحافيين في هذا البلد محترمين: "طلحة جبريل" و"ستيف هيوز"، في حين كان كثيرون يأتون إلي لطلب المال والامتيازات". وقد أقرّ هذا الصحفي أن البصري ذكر له أسماء معروفة ومشهورة بإعطاء الدروس والنصائح في الشفافية النزاهة، لكنه لم يرغب الدخول في لعبة الأسماء، لأن إدريس البصري، أصبح في ذمة الله.
عيّن إدريس البصري عبد الرحمن عاشور مديرا للإذاعة، ومحمد إيساري على رأس التلفزيون. ثم بادر أيضا، إلى تعيين طريشة مديرا عاما للإذاعة والتلفزة المغربية، ليضخّ في أروقتها دم وهاجس الاستخبار، وهذا ما دفع الكثيرين إلى اعتبار الإذاعة والتلفزة مديرية فرعية لوزارة الداخلية. وظل هذا الثالوث ممسكا بزمام المشهد الإذاعي والتلفزي الرسمي حتى بعد استقلال الإعلام عن الداخلية وإنهاء هيمنة البصري عليه إداريا فقط، ولم يغادر طريشة وإيساري وعاشور دار البريهي إلا بعد إعفاء البصري من مهامّه.
تلتقي إدريس البصري، مكالمة هاتفية من أحد أقرب مساعدي الملك محمد السادس، في غضون شهر نوفمبر سنة 1999، للحضور إلى مراكش على عجل. وبعدها بساعات قليلة، أذيع خبر استقبال إدريس البصري، من طرف الملك وتوشيحه بوسام، إيذانا بانتهاء مهامه كوزير دولة في الداخلية. في تلك اللحظات، أكد شاهدو عيان أنه بالكاد كان يتماسك في مشيته، وعبر عن شعور الخيبة، حين تسليمه للسلط إلى خلفه أحمد الميداوي قائلا: "إن وزير الداخلية أشبه بخادمة البيت في الحكومة". وفي مساء ذلك اليوم قصد بيت صديقه، الصحافي"م.ل" الذي كان يعتبره واحدا من القلائل الذين اعتمد عليهم في بسط نفوذه على المجال الإعلامي، وبالمقابل صنع إدريس البصري، ثروته وشهرته، بعدما كان نكرة في إحدى الجرائد الحزبية، ليتحول بين القنوات التلفزية الوطنية والعربية . طرق البصري باب صديقه أكثر من مرة، غير أن الصحافي لم يستجب ، فعاد الوزير المخلوع أدراجه.
قبل سفره إلى فرنسا سأله لحسن بروكسي : من هُـم الأشخاص الأكثر استفادة من عطاياك؟ فكان جوابه: أشخاص بل فيالق، لكن هاتف منزلي، للأسف، أصيب بالصمم، إنه لا يرنّ وكأن فيه عطبا". ليس هاتف البصري هو الذي توقـّف عن الرنين، بل إن بيته، في طريق "زعير"، لم يعد مزارا للسياسيين والصحافيين وعلية القوم كما كان الأمر من قبل. لقد انفضّ من حوله جمع المنتفعين وبحثوا عن مرافئ آمنة جديدة.
العفورة والسليماني أديا ثمن يُتمهما غاليا
انتفض إدريس البصري حال علمه باعتقال عبد المغيث السليماني، رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء الكبرى سابقا وعبد العزيز العفورة، العامل الأسبق لعمالة عين الشق الحي الحسيني، واعتبر أن الأمر بالانتقام منه. علما أن السليماني ابن عم زوجته – فتيحة البصري- والثاني كان من أقرب العمال إليه وأحسنهم في نظره، وهو الذي كان قائما على حملة التطهير التي خطط لها البصري. وغم انكشاف فضائح المعتقلين بجلاء ظل الوزير المخلوع يروج إلى أن الغرض كان الانتقام وإرغامه عن الصمت، كما ادّعى توصله ببرقية جاء فيها (حسب إدعائه): "... إن لم تصمت، سنتابع أقرب معاونيك". وكان رده : "سوف لن أستسلم، وسأتكلم أنا أيضا وسأكشف أسماء وسأفجر فضائح تهم تدبير المال العام".
بعد الإفراج عن صهره عبد المغيث السليماني في مناسبة عيد الشباب - كان لم يقض إلا نصف العقوبة الحبسية التي أدين بها- ظهر في غشت 2009، وهو يستنشق هواء الحرية بكورنيش عين الذياب ، بعد أن مرت السنوات الخمس بطيئة على صهر وزير الداخلية المخلوع في سجن عكاشة على خلفية إدانته في قضية فساد واختلاس أموال عامة، وتزوير وثائق تجارية وإدارية، ومصرفية، والتعامل بالرشوة، واستغلال النفوذ.
آل قنير جنود آل البصري في الخفاء
عبد الرحيم قنير أحد أبناء مدينة القنيطرة، بعد استكمال دراسته العليا بفرنسا وبالولايات المتحدة الأمريكية، التحق بمكتب الاستشارات والهندسة التابع لوزارة التجهيز كمهندس، وفي سنة 1989 تجند ضمن صفوف آل البصري، وكانت البداية بتأسيس شركة للأشغال العمومية احتكرت صفقات أعمال توسيع ميناء الدار البيضاء الكبرى وتطهير الطريق السيار القنيطرة – العرائش وفاس – مكناس.
برز اسم عبد الرحيم قنير مع شركة "كونصوليدر" في بداية التسعينات عندما بدأت تضع يدها على جميع المشاريع الكبرى المرتبطة بالدار البيضاء. وقد تصدر قنير هذه الشركة منذ نشأتها إلى حدود 25 يناير 1995 حيث ظهر مديرها العام الحقيقي والفعلي، هشام البصري . وقيل آنذاك أن قنير فوت إلى هشام البصري 598 سهما من أصل 600 لفائدة شركة "هولدينغ هوميت" التي يملك هشام البصري 994 سهما من أصل 1000. علاوة أنه تمكن بفضل ولي نعمته أن يفوز بمقعد بالبرلمان.
فكل الصفقات الخاصة بالدار البيضاء الكبرى، سواء المرتبطة بالدولة أو بالجماعات المحلية أو بالمؤسسات العمومية وشبه العمومية، احتكرها شركة "كونصولودير" بدون منازع وعندما "كبرت" وفاض رأسمالها أصبح آل البصري، هم أصحابها العلنيين بعدما كانوا وراء الستار.
لقد تقمص عبد الرحيم قنير دور رجل الواجهة، لكنه لم يكن الوحيد المجند لخدمة آل البصري، بل عمل على تجنيد أغلب أفراد عائلته، ذكورا وإناثا، في "جيش" آل البصري. فلم يكن عبد الرحيم وحده الذي يدمر لصالح آل البصري، بل كان لزاما عليه توريط عائلته لاستكمال دوره في المسرحية ولضمان سير الأمور بعيدا عن عيون الفضوليين ومنعا للاضطلاع على الأسرار. وهكذا شكلت عائلة قنير "شغيلة" شركة كونصوليدر، أسسها عبد الرحيم وأثتها بأهله كأطر ومستخدمين: حميد وعبد العالي، سكينة، أيوب، توفيق ورضوان وكلهم من عائلة "قنير"، عناصر طيعة مستعدة للامتثال لأوامر عبد الرحيم قنير الموجه من طرف آل البصري.
ظلت الأمور على هذا المنوال، صفقات ومشاريع وتهريب أموال إلى أن دقت ساعة الانحدار إلى الهاوية. والبداية كانت مع اعتقال السليماني والعفورة اللذان كانا على علاقة وطيدة بجندي آل البصري، قنير.
وإن تقاطع بعد المعلومات المرتبطة بمالية شركة "كوصوليدر" تبين أن عبد الرحيم قنيبر كان يحول بانتظام مبالغ مالية مهمة من المغرب إلى حسابات بنكية بالخارج، لاسيما بفرنسا وسويسرا. فكان من المعروف أن قنير يسافر كثيرا لباريس وجنيف مرات عديدة خلال السنة، وكان يستغل هذه السفريات لتهريب الملايين بالعملة الصعبة، لوضعها في حسابات آل البصري بالخارج.
لحسن بروكسي: يتيم البصري المفترض الذي اكتوى بناره مبكرا
يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية. و كان له دور كبير في معالجة جملة من الملفات البالغة الأهمية، كالخدمة المدنية ومغربة الإدارة والإعداد للمسيرة الخضراء والتناوب السياسي والانفتاح الديمقراطي وإصلاح القطاع السمعي -البصري وغيرها.
إنه مستشار في الداخلية ورجل من رجالات إدريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري تحول لحسن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات. رجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني والجهوية وصانع جملة من الإجراءات الجديدة بالمغرب. وهو الذي يصف شخصه بمرارة قائلا: " أصفه بالفلاح الذي ظل ينثر الحبوب على حقول الوزارة ويضع الأسمدة ويحرث بلا كلل، دون أن يجنيّ الغلة (...)اختار أن يلعب دور شاوش المخزن ضدا على تكوينه الأكاديمي والنضالي ".
سبق وأن تم اقتراح بروكسي كوزير للوظيفة العمومية ، لكن أحرضان لم يضع اسمه في لائحة الحركيين المرشحين للاستوزار، بل اقترح التوكاني بديلا عنه، كما شرع في التخلص تدريجيا من نخب الحزب، وبحث عن بدائل أبرزها صديقه بوعزة يكن.
أعد بروكسي رسالة دكتوراه الدولة تحت إشراف "جان غرانيون" في جامعة "جان مولا" في ليون الفرنسية، موضوعها يدور حول "التنمية والأمن"، وهي مضادة لرسالة إدريس البصري إشراف "ميشال روسي" بكلية الحقوق لغرونوبل حول موضوع "الأمن والتنمية" . وعندما سأله البصري عن موضوع رسالته الجامعية تحايل عليه وقال له أنها حول موضوع "التهيئة الحضرية والبيئة" لتوهيمه حتى يخال نفسَه أنه الوحيد الذي يضع أصبعه على العلاقة الجدلية بين الأمني والتنموي وأنه صاحب السبق بهذا الخصوص.
في زحمة الأحداث الكثيرة والمتلاحقة التي عاشها مع البصري، كان لحسن بروكسي دائما يتساءل هل أهو فارسٌ من فرسان المرحلة أم مجرد "دون كيشوط" يحارب طواحين الهواء؟
قرر لحسن إعلان الحرب على البصري "من تحتها"، والانتفاض ضد وضعية الخادم الطيع الأمين للوزير وكاتب التقارير السرية للجلسات العلنية ، هذا ما أدى به إلى التهميش في وقت كان من المفروض أن يحتل مواقع رفيعة قد تصل إلى الاستوزار.
وسبق للصحفي المقتدر خالد الجامعي أن حذره عندما كان لحسن عنصرا أساسيا في فريق الوزير المخلوع حيث قال له: "بروكسي، أنت تلعب دور فارس المخزن، لكنْ احذر.. قد تسقط يوما على رأسك"، فكان جواب بروكسي: "ليس باليد حيلة، فأنا في قلب المنظومة".
يقول بروكسي في كتابه "حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا":
"في سنة 1994 لفني حبل الخصاص المادي، وأصبحتُ أدبر بشق الأنفس لقمة عيش أسرتي.. وبناء على نصائح بعض الصحافيين، طلبت من صديق طفولتي علال سي ناصر التدخل لدى ادريس البصري، كي يمنحني مقعدا في البرلمان.. كان علال حينها وزيرا للثقافة، فاستجاب لملتمسي وتحدث مع "مصمم الانتخابات" في الموضوع.. من جهتي، قمت بحملة انتخابية هزيلة في انتظار إشارة من الداخلية، بعد مرور عشرة أيام تلقيتُ دعوة من الوزارة.. التحقت على الفور بديوان الوزير، هناك بلغني أن البصري خصص لي غلافا ماليا عبارة عن منحة لتجاوز الضائقة المالية، وضعها رهن إشارة البرنوصي، المسؤول المالي في الوزارة، والذي سلّمها لي على أساس ألا أفكر في دخول حمى الانتخابات.. لقد تبيّنَ لي أن آلة الداخلية لا ترحم وأن الرجل الذي نذرت له أجمل سنوات عمري قد تخلّصَ من مشاعره وأصبح يتصرف وكأنه لا يملك قلبا.. قمت بمحاولة أخرى عبر مسلك جديد، بعد أن اشتغلت مع الجنرال مولاي إدريس عرشان، رئيس هيئة الأطباء في المغرب وصديق البصري، لكنْ لم أجن أي نفع من هذا المسلك، وأصبحتُ مجبرا على الارتماء في أحضان التقاعد، بعد أن آمنت بأن صلاحيتي السياسية توشك على الانتهاء".
ويصور بروكسي في أحد كتبه، علاقته بالبصري قائلا: هناك من كانوا يذكرونني بتنكر الوزير لي، لكنني أعتبر علاقتي به أشبهَ بحياة زوجين قضيا فترة طويلة في عش الزوجية، فأصبح كل طرف يتحمل الآخر.. لكنّ الأهم في هذه التجربة هو الفهم العميق للمخزن، وهو ما اشتغلت عليه في كتابي "المخزنة والحداثة"، والذي تضمّنَ مقارنة علمية بين أوفقير، الذي كان يحكم بالسيف، والبصري، الذي يحكم بالشوكة والسكين (...) وسّعت المقالات والكتب التي نشرتها الهوة بيني وبين البصري، وبدأت أشعر بتدهور ملموس في أوضاعي المادية، بعد أن ارتفعت تكاليف الحياة العائلية، فيما ظل راتبي كمتصرف إداري جامدا في سلـّم الوظيفة العمومية (...)أما أصدقاء الأمس فأداروا ظهورهم عني وبحثوا عن صداقات جديدة، إلا من رحم ربك. عشتُ هذا الوضع كما يعيشه كل مغربي، كان صرحا فهوى، ولمست حجم التنكر والجحود في صمت دون أن أعلن توبتي للبصري.
لم يعد الوزير في حاجة إلى بروكسي، الذي أصبح مجرد أثاث قديم في بيت الداخلية، غالبا ما يوضع في السراديب.. لقد نسيّ البصري يوما مشهودا، حين داهمني مطيع في مكتبي وهو في حالة من الهلع وقال لي دون مقدمات: "البصري على وشك مغادرة وزارة الداخلية.. إجراءات تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني جارية. على الفور اتصلت بإدريس البصري وقلت له بنبرة تضامنية: "لن أستمر في منصبي دقيقة واحدة إذا رحلت عنا". كتـّفنا الاتصالات، وبفضل تدخلات المهدي متقي، الذي كانت تربطه علاقة وطيدة بالجنرال مولاي حفيظ العلوي، تم الإبقاء على البصري كاتبا للدولة في الداخلية".
بديعة مسناوي، إحدى يتيمات البصري
عندما قام الجنيرال أوفقير بإعادة تنظيم وزارة الداخلية والأمن الوطني احتفظ بالسيدة بديعة مسناوي (زوجة محمد مسناوي عضو " الكاب1") بديوان وزارة الداخلية ومنحها صلاحيات واسعة وكلفها بكل الملفات السرية الخاصة به.
وظلت بديعة مسناوي مديرة الكتابة الخاصة لوزير الداخلية على امتداد الفترة الممتدة ما بين 1961 وأواخر 1999، وقد كانت أمينة أسرار إدريس البصري وتمكنت بفعل هذا الموقع من توظيف مختلف الصلاحيات التي منحها لها الوزير المخلوع واستغلتها لجمع ثروة طائلة عبر تدخلاتها ووساطتها لدى رجال السلطة (قواد، عمال، ولاة، مسؤولي الداخلية) في جميع مدن المغرب. كما كلفها إدريس البصري بالإشراف في الكواليس على توزيع الأراضي والعقارات والهبات والامتيازات على كوادر وزارة الداخلية والمقربين للوزير.
سائق البصري الذي قُذف به إلى دائرة التهميش والبطالة
محمد الناجي، السائق الخصوصي لوزير الدولة الأسبق إدريس البصري، انتهى به المطاف إلى دائرة التهميش والبطالة قابعا في مقاهي سطات، بعدما صال وجال في أرجاء المدينة حين كان يستمد سلطته من جبروت أقوى وزير في تاريخ المغرب الحديث. تعرف حسن على ولي نعمته عندما كان مجرد مدرب يعلم الرجل القوي بسطات مبادئ التنس من حين لآخر.
ضمه البصري إلى سلك الشرطة، بعد أن لمس فيه حضورا قويا للبديهة ومعرفة بأدق تفاصيل الحياة وحفظا للمقالب والنكت. بعد مرحلة التكوين بمعهد الشرطة، انضم إلى الطاقم الخاص للوزير، وأصبح مع مرور الأيام سائقا احتياطيا قبل أن يصبح رسميا. وفي ظرف وجيز، أصبحت له مكانة خاصة لدى رجال السلطة، رغم وضعيته الإدارية كمجرد مفتش شرطة، لأن قربه الدائم بالبصري جعله محل تقدير خاص من الباشاوات والعمال والولاة وكل من كانت تذوب سلطاتهم الواسعة لمجرد ذكر اسم البصري. تمكن اختراق حدود أسرة آل البصري وأصبح عارفا بأدق تفاصيل حياتها .
رافق حسن وزير الداخلية البصري في كثير من سفرياته الداخلية، وحين يسافر الوزير إلى الخارج يصبح حارسا شخصيا، بفضل بنيته الجسدية ورد فعله السريع المكتسب من لعبة التنس. زار العديد من الدول وأدى مناسك الحج رفقة شخصيات سياسية وازنة، وتمكن من اختراق مساحات ظلت محاطة بالحرس العمومي والخصوصي، ولأنه السائق والمرافق الخاص لوزير الداخلية، فإن مكانته لدى الوزراء والعمال والمدراء تعززت وأصبحت طلباته لا ترد خوفا من غضبة محتملة أو وشاية قد تسحب بساط السلطة و الجاه من تحت أقدامهم.
وعلى حين غرة غادر السائق المغرب صوب الولايات المتحدة الأمريكية، واختفى عن الأنظار. ثم عاد إلى المنطقة، وتحول إلى رجل آخر ينام ويستيقظ على ذكريات السلطة، و تصفح ألبوم صور شاهدة على الأيام التي ولّت الأدبار. وحين تنتابه الأزمة لا يتردد في طلب دريهمات من رفاق الطفولة لأداء ثمن القهوة.
"كوماندو" إعداد أطروحة الوزير
من الأمور التي كانت تعقد إدريس البصري مستواه التعليمي المتواضع في بداية مشواره الوظيفي، حيث لم يتمكن من الحصول على الباك وتسجل بالكفاءة بكلية الحقوق بالرباط ليتمكن من متابعة دراسته الجامعية في القانون، وهذا ما كان. لكنه رغب في الحصول على الدكتورة بأي وسيلة. وفي النطاق أسرّ لنا أحد المقربين من الوزير المخلوع عايشه عن قرب ردحا من الزمن، أنه كلف جملة من أطر الداخلية لإعداد الأبحاث الخاصة بالدكتورة - دكتوراه الدولة في القانون العام التي نالها من جامعة العلوم الاجتماعية بــ "غرونوبل" سنة 1987 - وصياغتها لحساب الوزير.
وقد اختار البصري أجود الأطر الشابة ذات تكوين جامعي رفيع، ووضع رهن إشارتهم شقة بحسان وأخرى بأكدال وأغدق عليهم دون حساب، علما أنهم تفرغوا لهذا العمل دون سواه. ومن هؤلاء من شعر باليتم الشديد بعد خلع الوزير اعتبارا لما كانوا يحضون به من امتيازات توقفت على حين غرة، وبعضهم تنفس الصعداء لأنهم تحرروا من وصمة عار ظلت تخدش ضميرهم اعتبارا لأن خدمتهم للبصري فوّت عنهم فرصة تحقيق آمالهم عن جدارة واستحقاق في مجالاتهم، سيما وأنهم كانوا يتوفرون على شهادات جامعية عليا حصلوا عليها باستحقاق.
في نهاية الثمانينات، قدم رسالته حول موضوع "الأمن والتنمية" تحت إشراف ميشال روسي، رجل القانون الفرنسي الذي ساهم في صياغة الدستور المغربي. وقد اختار البصري ميشال لعدة اعتبارات، أهمها سيرته الجامعية، فهو حاصل على شهادة تبريز وعلى دكتوراه في القانون وشغل منصب أستاذ مكلف بالدروس في كلية الحقوق لغرونوبل، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق في الرباط. كما تقلـّد روسي منصب مدير المدرسة الوطنية للإدارة في الرباط في الفترة الممتدة من 1966 إلى 1972، فضلا على مؤلفاته في مجال القانون حول المغرب. اختار البصري ميشيل روسي ليس لأنه من رجال القانون البارزين الذين وضعوا أسس نظرية واضحة في العلوم الإدارية، عموما، وفي صلة بالقانون الإداري المغربي، على وجه الخصوص، بل لأنه صديق الملك الحسن الثاني، وساعده في بحثه فتح أبواب الإدارة على مصراعيها أمام المؤلفين ليغترفوا منها حاجياتهم المعرفية.
هؤلاء الأيتام كانوا نتاج خطط البصري لشراء الخدمات الأكاديمية،ليس فقط من بني جلدته،بل من بعض الأكاديميين الفرنسيين الجشعين أيضا،ووصل هذا التحايل "الأكاديمي" إلى درجة أن مُبرزا فرنسيا في القانون قَبِلَ أن يُوقع كتابا عن الإدارة الترابية ورجال السلطة بالمملكة ،بشكل مشترك مع البصري،وقد صدرت منه طبعات كثيرة بالتوقيعين،إلى غاية فجر الألفية الميلادية الحالية،حيث فوجئ المهتمون،أن الطبعة الجديدة من نفس الكتاب، صدرت بدون توقيع إدريس البصري،بل باسم الأستاذ الفرنسي وحده.
رشيد عزمي صديق إدريس البصري
نهاية مأسوية
يعتبر رشيد عزمي من أقرب المقربين لإدريس البصري في نطاق الاهتمام بالشأن الرياضي بمدينة سطات.
كان رئيسا سابقا ومسؤولا في الجامعة الملكية لكرة القدم. ويعد عزمي من أهم الشخصيات الرياضية بمدينة سطات، التي ارتبط اسمها بوزير الداخلية القوي ، حينما كان يشرف على تسيير فريق نهضة سطات قبل أن تتدهور أحوال الفريق بعد أفول نجم البصري.
تم العثور، في صيف 2012، على جثة رشيد عزمي، وهي محروقة بالكامل بمقر شركته العقارية "هنية بروموسيون" الواقع قرب المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء، وبجانبها رسالة خطية كتب فيها الهالك المعروف بعلاقته وصداقته المتينة بالراحل إدريس البصري، أنه انتحر بعد تعرضه لعملية نصب واحتيال من طرف شخص دون الإشارة إلى اسمه، وهي العملية التي كبدته حوالي 600 مليون سنتيم. كما تم العثور أيضا إلى جانب الجثة على برميل صغير فيه كمية من البنزين. ورجحت بعض المصادر أن يكون رشيد عزمي انتحر بإضرام النار في جسده، فيما لم تستبعد مصادر أخرى أن يكون الأمر يتعلق بجريمة مدبرة.
يُتم الأقربين
بعد عزل إدريس البصري ، بدت بعض مظاهر يُتم دوي القربى حتى قبل وفاته ، إذ سقط عدد منهم تحت طائلة القانون، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا خلع وزير "أم الوزارات". وقد تأكد بما فيه الكفاية تورط نجله، هشام البصري، في جملة من القضايا التي يجرمها القانون المغربي، وذلك على اعتبار أن الأمر لا يدخل في إطار حسابات ولا انتقام، وإنما همّ بالدرجة الأولى قضية مساءلة ومحاسبة حول أفعال اقترفت فأنتجت خروقات وتسببت في أضرار، ضيعت حقوقا وداست ، علما أن القضية ليست قضية "أسرار دولة" وإنما ارتبطت بجرائم اقتصادية واجتماعية واضحة المعالم اقترفها محميو إدريس البصري قبل تيتّمهم. وإذا كانت دسائسه لم تنقلب عليه في حينه، فإن تلك الدسائس انقلبت عليه جملة، وتفصيلا، بعد إعفائه من مهام وزارة الداخلية. وقد تمّ فتح تحقيقات طالت بعض أصهاره وأفراد عائلته.
وحسب إدريس البصري، كان الغرض من تفجير ملف السليماني / العفورة محاولة النيل منه بعد أن تعذر إثبات تورطه في أية تهمة بخصوص الفساد المالي أو غيره، لذلك تم تضييق الخناق على بعض المقربين إليه، وفي هذا الإطار، تم تحريك ملفات قضائية تهم بعض أقاربه ونجله هشام. وحسب إدعاءاته، كانت الانطلاقة، سنة 2001 عندما نشر مقالا بخصوص الحل الثالث في ملف الصحراء، آنذاك أعلن إدريس البصري، توصله بتهديدات توصيه بالصمت تحت طائلة متابعة معاونيه السابقين قضائيا. وبعد ذلك انكشف أمر ابنه هشام ، في نازلة وتورطه في جملة من الملفات المعروضة حاليا على أنظار القضاء، علما أنه بدأ مشروع "بوزنيقة بيش".
وقد سبق أن أكد مصدر مطلع في إبّانه، أن إدريس البصري، وهو على فراش المرض، لم يكن يهمه إلا العودة إلى المغرب والاطمئنان على أن ابنه هشام سوف لن يلحقه سوء بخصوص المحاسبة والمساءلة والمتابعة، ولعل أحسن وأجدى طريقة هي مده بما بحوزته من أسرار الدولة ، والعمل على إخبار القائمين على الأمور، بطريقة أو بأخرى، أن ابنه أضحى يحوز الآن تلك الأسرار لتكون بمثابة حصانة.
وهناك نازلة اعتقال توفيق البصري، الابن الأصغر، مؤخرا من طرف مصلحة السير والجولان بمدينة المضيق، بسبب اقترافه حادثة سير ثم لاذ بالفرار إلى منطقة، شمال المضيق، تدعى "بوزغلال" على متن سيارته فارهة ذات الدفع الرباعي. وتمت ملاحقة نجل البصري، الذي كان في حالة سكر بيّن، وتوقيفه، ثم اقتياده إلى مفوضية أمن مدينة المضيق. وأصدر وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بتطوان، أوامره بالإبقاء على نجل البصري رهن الاعتقال الاحتياطي إلى حدود مثوله أمام النيابة العام. كما تم سحب رخصة السياقة منه، وعُيّنت جلسة المحاكمة يوم 12 من الشهر الجاري.
وترك البصري وراءه زوجة وثلاثة أبناء ذكور وابنة واحدة، وكل واحد منهم نال نصيبه من نوع اليتم الذي نتحدث عليه في هذا الملف.
أما الابن المدلل ،الابن البكر لإدريس البصري- هشام الذي ورد اسمه في محاضر استنطاق بعض المتهمين في ملف السليماني و العفورة- عاد للظهور بقوة في صيف 2009 ،وكان يتنقل بين باريس ونيويورك فيما يطارده شبح مذكرة قضائية، وكان قد عاد ليضخ الحياة في مشاريعه القديمة، وليمارس الكثير من هواياته المفضلة، سيما ولعه بجمع السيارات النادرة والراقية. آنذاك، شوهد توفيق البصري، الابن الثاني للوزير -الذي درس مع الأمير مولاي رشيد- وهو يقود اليخت " عزيزة" في المضيق، غير بعيد من الإقامة الملكية، وكان يحلو للبصري أن يقضي قيلولته في هذا اليخت في الصيف بعد إعفائه من منصبه شهرين فقط بعد اعتلاء محمد السادس العرش، وقد سبق للشرطة أن طوّقته واحتجزته وغصة الوزير المخلوع في الحلق تكاد تخنقه، بعد أن اتضحت له ملامح خلفه في أم الوزارات حينئذ، في الكثير من الخطوات التي ضيقت الخناق عليه وعلى أسرته.
وكانت فتيحة السليماني (ابنة عمّ عبد المغيث) أرملة البصري، في بداية العهد الجديد على رأس لائحة الممنوعين من مغادرة التراب الوطني.
إدريس البصري تيّتم وأيتم معه المئات
لقد شعر إدريس البصري نفسه باليتم قبل رحيله في سن (69 عاما) عندما قضى –بعد خلعه- نحو ثماني سنوات بعيدا عن السلطة مشدودا بالحنين إلى العقود الطويلة التي قضاها في وزارة الداخلية، التي كانت توصف في عهده بأم الوزارات نظرا لاتساع اختصاصاتها حين كانت تجثم بكل ثقلها على المسؤولين في شتى المجالات. وقد عانى البصري من المرض بعد إعفائه من مهامه، وأحسّ بقسوة الألم في وحدته، لكنه رغب، أكثر من أي وقت مضى، في عرض آلامه على الأطباء في إحدى المصحات الفرنسية، على الأقل بعد إحالته على العطالة.
بعد وفاة الملك الحسن الثاني قضى إدريس البصري ثلاثة أشهر عصيبة في الوزارة، حيث بدأت أوراقه تتساقط الواحدة تلو الأخرى وأصبحت صلاحياته تتقلص إلى أن صدر قرار عزله في السابع من نوفمبر 1999 .
بعد أن قضى أكثر من ثلاثين سنة في سدة الحكم خبر خلالها السياسة والتحكم في مصير المغاربة. وطوال هذه المدة لم تكن له حياة واحدة وإنما حيوات شغلت الناس أيام كان في أوجه وجبروته. وبعد أن ذاق طعم اليتم السياسي بعد فقدان ولي نعمته ظل يروج أنه لم يكن سوى منفذ للتعليمات ومجرد عبد مأمور، "خادم النظام" المكلف بترتيب البيت.
طفت معالم يُتم إدريس البصري سريعا بعد خلعه. ففي غضون سنة 1980 كان الملك الراحل الحسن الثاني قد منحه ضيعة وقطعة أرضية تبلغ مساحتها 220 هكتارا كائنة على بعد 6 كلم من مدينة المحمدية بمكان يدعى الغزالة وأمر المعمر الفرنسي، الذي كان يدير ضيعة مجاورة في ملكية القصر الملكي، تزويد الضيعة الممنوحة بالماء مجانا مدى الحياة. لكن أسبوعين بعد خلع وزير الداخلية، في يوم 28 نوفمبر 1999 انقطع صبيب الماء على الضيعة الممنوحة دون سابق إنذار وعلى حين غرة ظمئت أبقار وكروم البصري، فغضب واحتج، وكان الجواب الرسمي: "إذا أراد إدريس البصري الاستفادة من الماء عليه تأدية ثمن فاتورته كباقي المغاربة، خصوصا وأن المنطقة تعرف خصاصا في الماء الشروب".
في نهاية المطاف فاجأته المنية قبل أن يستجاب لطلبه بالعودة إلى المغرب. لكن جثمانه عاد ليدفن في الوطن، ولم تنظم له جنازة رسمية على الشكل المتعارف عليه "مخزنيا"، خاصة وأن البلاد كانت، وقتئذ، مقبلة على انتخابات تشريعية ، وكان الجميع يحاولون نسيان حقبة إدريس البصري، وهي الحقبة التي أدانها المغرب من خلال هيئة المصالحة والإنصاف وتقريرها.
وقبل خرجاته وشطحاته الإعلامية، طالبت أكثر من جهة بمحاكمة إدريس البصري ومساءلته عن جملة من الجرائم، والكشف عن ثروته وثروات أبنائه وزوجته المتراكمة بفعل نفوذه وجبروته على امتداد أكثر من 3 عقود، إلا أن شيئا من هذا لم يتم، رغم أن الوزير المخلوع لوّح أحيانا مهددا بالكشف عن جملة من أسرار الدولة.
ينحدر البصري من أصول اجتماعية متواضعة ومن عائلة اشتغل ربّها حارسا في السجن، التحق بسلك الشرطة في مطلع ستينات القرن الماضي عندما لم يتمكن من الحصول على شهادة الباكالوريا، لكنه تسجل بما كان يعرف بشهادة الكفاءة بكلية الحقوق بالرباط – مسلك مفتوح في وجه الراسبين في الباك- وترقى بسرعة بفضل استغلاله لكل الفرص السانحة ، ليعين سنة 1974 كاتب دولة في الداخلية قبل أن يصبح الرجل الأول في الوزارة مع حلول عام 1979. فأصبح - عمليا -بمنزلة الرجل الثاني في البلاد، خاصة في سنوات مرض الملك التي انتهت بوفاته في 23 يوليو 1999. بقي يدعي أنه ينحدر من الشاوية في حين كشف أحد المصادر المطلعة، أنه أصلا من منطقة تاونات.
وقال أحد المؤرخين إن منطق التاريخ يقودنا إلى القول إن بروز إدريس البصري كان صدفة محضة كرس امتدادها بالانصياع الأعمى للأوامر والاجتهاد في تطبيقها. إن عقيدة إدريس البصري في تكريس انصياعه الأعمى للتعليمات ظلت تعتمد على نهج الضربة الأمنية الاستباقية. وهو نفس النهج الذي سارت على هديه الأجهزة الأمنية عملا بمقولة الملك الراحل الحسن الثاني، "المزرعة ينبغي أن تستأصل منها الأعشاب الطفيلية كل موسم". واتفق أغلب المحللين على أن الخطة "البصروية" (نسبة للبصري) في ممارسة السلطة تأسست على مبدأ "فرق تسد"، واعتمدت على ممارسة التفرقة واستعباد الموالين والمأمورين وتكريس الخنوع وتشجيع الفساد وتوزيع "قبلات الموت" وإشهار "الهراوة" مع استعمال "الجزرة" أحيانا.
ظل الحسن الثاني متمسكا بإدريس البصري إلى النهاية، رغم أن ذلك تسبب في فشل مفاوضات مع بعض أحزاب المعارضة في منتصف التسعينات للمشاركة في تدبير شؤون البلاد لأنها اشترطت ألا يشارك البصري في تلك التجربة. لكن لم تمر إلا سنوات قليلة حتى رضخت تلك الأحزاب لتمسك القصر بالبصري، وقبلت أن يحتفظ بحقيبة الداخلية ضمن حكومة التناوب التي تشكلت عام 1998 بقيادة عبد الرحمان اليوسفي.
كان يصنّف إدريس البصري نفسه ضمن أكبر الرجال الأربعة الذين لم يعرف مثلهم المغرب: "محمد أوفقير، أحمد الدليمي، محمد رضا اكديرة، وهو"، لذا
لم يستسغ طريقة التعامل معه منذ وفاة الملك الراحل الحسن الثاني حتى نهاية تقديم البيعة للملك محمد السادس. كان يرى نفسه "سوبرمان" زمانه، في حين ظل في عيون المغاربة الأحرار فأرا استأسد في عهده.
هذا اليوم ظل أسود الأيام في حياته حسب تعبيره. فمنذ أن أعلن الدكتور بربيش وفاة الملك لابنه الملك محمد السادس بمكتبه بمصحة مستشفى ابن سينا زوال يوم الجمعة 23 يوليوز 1999، سلبت من إدريس البصري حرية التحرك وحق إصدار الأوامر والمساهمة في صنع القرار، وهذا أمر لم يسبق له أن أثاره لا من بعيد ولا من قريب، وظل إدريس البصري يتستر عليه بحرص شديد. ومن الطبيعي أن تكون الوطأة كبيرة جدا على نفسه ، سيما أنه يعتبر نفسه "فيلسوف الملكية المغربية" وساهم في إحداث وبناء المغرب العصري الحديث، قبل أن يتذوق طعم الضربة القاضية. وذلك باعتبار أن المغاربة ظلوا يقرنون اسم إدريس البصري بتفعيل وهم تآمرهم على الملك والعائلة الملكية، إلى أن أصبحت القاعدة في عهده أن كل مغربي متهم حتى يثبت براءته، أما المحيطون به (البصري) والقائمون على الأمور المتواطئون معه- طواعية أو بحكم الأمر الواقع - فهم أبرياء حتى ولو ثبتت إدانتهم بالملموس وبالحجة والبرهان.
في يوم الجمعة 23 يوليوز 1999، من الساعة الرابعة والنصف زوالا إلى ما بعد العاشرة ليلا، ولج إدريس البصري، وزير "أم الوزارات" باب قصر الرباط وخرج منه خاوي الوفاض بعد أن عاين بأم عينيه ضياع كل شيء من بين يديه على حين غرة، دون سابق إنذار ودون أن يكون له الوقت الكاف للاستعداد لتلقي الصدمة القويّة. كيف لا، وهو الذي كان يمسك بالأمور الداخلية للبلاد على امتداد ربع قرن دون انقطاع، وظل أقوى الوزراء وبمثابة "الصندوق الأسود" لكل الفضائح والتجاوزات، المجتهد في الظهور كمخزني أكثر من المخزن، والبوليسي الأسمى في المملكة، والإنسان الذي يكرهه ويخشاه أغلب المغاربة، وهو الذي كان يتبجح باطلاعه على "الفاذة والشاذة"، وبكل ما يجري ويدور من طنجة إلى الكويرة، والذي كان يرد الصاع صاعين أو لربما أكثر.
ومنذ التحاقه بالديار الفرنسية خطط لخرجات إعلامية بهلوانية، لاسيما بعد اعتقال أكثر من 20 شخصية كانت محسوبة من المقربين إليه والمشكلين لأحد لوبياته – وهم من أكبر أيتامه- وذلك بتهمة اختلاس أموال الشعب والفساد واستغلال النفوذ، آنذاك شرع في التهديد بنشر مذكراته وبدأت الرباط تعمل للضغط عليه حتى لا يقدم على ذلك. فحسب مصدر جيد الإطلاع، كان إدريس البصري مرغما على البقاء بإحدى قاعات القصر الملكي بالرباط وهو تحت المراقبة اللصيقة من طرف مجموعة من الجنرالات، بعيدا عن عيون الوافدين إلى دار المخزن آنذاك لتقديم التعازي. لحظة وصول إدريس البصري إلى القصر الملكي، استقبله مجموعة من الضباط السامين، واقتادوه إلى قاعة من قاعات دار المخزن وظلوا معه دون السماح له بمغادرة المكان في انتظار التعليمات. آنذاك كان نقاش يجري بخصوص طريقة إجراء بيعة الملك الجديد، ولم يشارك فيه إدريس البصري.
وقد سعر إدريس البصري بأعلى درجة الشعور باليتم حينما قدم على توجيه بعض النصائح إلى فؤاد عالي الهمة فرفضها هذا الأخير على التو دونما تردد مع إظهار عدم قبولها علانية وبأسلوب مباشر وسافر، واضح للعيان. نتج عن ذلك بعض الشنآن بينهما . لحظتئذ أصدر فؤاد عالي الهمة أوامره بإرجاع إدريس البصري من حيث أوتي به، فقادته نفس المجموعة من الضباط السامين، الذين ظلوا محيطين به منذ وصوله إلى القصر، إلى نفس القاعة التي قضى بها ساعات تحت مراقبتهم معزولا عن باقي الحاضرين، وبعد فترة سلموه جلبابا أبيض وأمروه بارتدائه بعين المكان وبسرعة ثم اقتادوه إلى قاعة العرش وعلامات الغضب والاضطراب الشديدين بادية على محياه. بعد نهاية مراسيم تقديم البيعة سعى إدريس البصري إلى جمع بعض رجالاته وتأليب عناصر لوبياته إلا أن الجميع تنكروا له وتحاشوا لقاءه، بل وحتى الكلام معه. آنذاك اكتمل صدى الضربة القاضية، وبدأ السقوط المتسارع إلى الهاوية. ومنذئذ تناسلت إجراءات تقزيم صلاحيات وزير "أم الوزارات"، إذ أعفي من الإشراف على الإدارة العامة للمحافظة على التراب الوطني (الديسطي)، ثم إدارة الجامعة الملكية للكولف لِيُسْحَبََ منه بعد ذلك ملف الصحراء.
تجرع البصري مرارة اليُتم – قبل أيتامه- بمناسبة قيام الملك محمد السادس بزيارته الرسمية للأقاليم الشمالية، ونادت جموع غفيرة من سكان المنطقة بأعلى أصواتهم "ملكنا واحد، محمد السادس، البصري سير بحالك المغرب ماشي ديالك"، وأصبح الأمر حقيقة لا غبار عليها، ولم يعد يخامره أدنى شك بهذا الصدد عندما علم، علم اليقين، أن عناصر من رجاله "الأوفياء"، حتى الأمس القريب، في المخابرات ساهموا في تشجيع الناس على رفع ذلك الشعار الذي صعق إدريس البصري، لأنه كان بمثابة حكم بالإعدام المعنوي على قيدوم وزراء المغرب، وزير "أم الوزارات"، وبذلك كان الإعلان عن نهايته دون رجعة.
واستتبع ذلك اتصال الجنرال عبد الحق القادري بإدريس البصري لإبلاغه أن الملك يرغب في أن يتوقف عن إعطاء دروس بكليتي الحقوق في كل من الرباط والدار البيضاء. وبعد هذه الحادثة أصبح إدريس البصري مراقبا عن قرب، وهذا ما تأكد في 12 يوليوز 2002 عندما تم استدعاؤه لحفل الزفاف الملكي، حيث أحاط به جملة من رجال الأمن دون مفارقته منذ أن غادر بيته بمدينة السطات ذلك اليوم. وتلى ذلك حادثة رفض طلبه بخصوص تجديد جوازه، في وقت بدأ فيه البروفسور إدريس عرشان، طبيبه منذ 1965، يتجنب تلبية طلباته ويتحاشى الكلام معه حتى عبر الهاتف. وبعد وعكة صحية أصابت البصري، تكلف الملك محمد السادس بتغطية مصاريف إرساله إلى فرنسا في 9 يوليوز 2003 وعلاجه هناك، وتكرر الأمر في يناير 2004، ومنذئذ استقر إدريس البصري بالديار الفرنسية بعد أن انتهت صلاحية جواز سفره في مارس 2004.
سطات.. يتيمة البصري
عاشت عاصمة الشاوية أزهى فتراتها التاريخية حين كان البصري وزيرا للداخلية، ونالت المدينة اعترافا وطنيا ودوليا بفضل الراحل، حيث وضع المنتخبون في المدينة مقتطفا من جريدة "لوموند ديبلوماتيك" في لوحة وعلقوه بمدخل بلدية سطات، يتحدث فيها كاتب مشهور عن المدينة في الصفحة السابعة لعدد شهر شتنبر من سنة 1994، قائلا: "أصبحت سطات مدينة عصرية وديناميكية في المغرب، بعد أن كانت قبل عشر سنوات مجالا قرويا بامتياز".
وبعد رحيل البصري، نالت المدينة قسطا وافرا من التهميش والإقصاء، عصف بآمال كل من آمن بالسكن والاستقرار في عاصمة الشاوية، ولم يكن يعلم أبناء مدينة سطات والنازحون إليها أن تاريخ المدينة قد يتعرض يوما ما إلى محاولة الإقبار، ولم يخطر على بالهم أن المسؤولين الحاليين يحاولون قدر الإمكان طي صفحة ماضي المدينة القريب الذي ارتبط بوزير الداخلية الأسبق، إذ ترك كل المسؤولين المتعاقبين المدينة تتعرض للإهمال، فيما كانت إلى وقت قريب تستقبلك بالماء والخضرة والوجه الحسن من جهة الشمال، حيث بحيرة وفندق وحلبة لسباق الخيل وملعب للغولف وجامعة بكليات ومعاهد متعددة الاختصاصات ونافورة بمياه متدفقة... وتودّعك، جنوبا، بسوقها العامر ووحداتها الصناعية.
البصري وهشام المنظري
من المعروف أن هشام المنظري كان صنيعة إدريس البصري. وقد سبق لأحد المصادر المطلعة عن العلاقة التي كانت تربط هشام البصري، ابن الوزير، بهشام المنظري. واعتبرت أكثر من جهة أن ارتباط إدريس البصري بهشام المنظري كان يدخل ضمن خطته الساعية لاختراق القصر الملكي. كما سبق لأكثر من مصدر أن أكد أن زوجة البصري سعت كثيرا لزواج هشام المنظري من حياة الفيلالي المنتسبة لنساء القصر ودعمته، وذلك بإيعاز من زوجها الوزير حتى لا يظهر في الصورة ويظل بعيدا عن الموضوع لعدم إثارة الشكوك حوله.
ومما قوى هذا الطرح وقتئذ، أن التقرير الذي أعده إدريس البصري بخصوص هشام المنظري - بطلب من الملك الحسن الثاني، قبل ترخيص الزواج- كان في صالحه، إذ قدمه كشخص يستحق مصاهرة القصر وتم التستر على كل نواقصه وإخفاء حقيقته.
كما أن العلاقة التي ربطت هشام المنظري بصحفي مستقر بباريس وعلاقة هذا الأخير بإدريس البصري، سواء أثناء تواجده في المغرب أو في الخارج، فسرها كثيرون على أن هناك خيوطا ما تربط بين هشام المنظري وإدريس البصري أو المحيطين به...
وكان هناك شخص شمله البصري بعطفه وكلفه بمهمة اقتناء له الجرائد اليومية والمجلات، ثم ساعده على الهجرة إلى الخارج، وقد ربط هذا المهجر، في أقل من شهر، علاقات قوية مع هشام المنظري بباريس، كما بدأ يكتب في مجلات عربية ملفات عن المغرب، لا يعرف أسرارها سوى الراسخون في علم الاستخبار والمعلومة.
ومن القرائن التي تشير إلى أن هشام المنظري شكل عين من عيون البصري، تدخل هذا الأخير لإخراجه، كالشعرة من العجين، بعد أن تورط في اغتصاب فتاة بالقوة بالرباط في نوفمبر 1995. كما ذهبت بعض المصادر إلى التأكيد على أن إدريس البصري ساهم في تسهيل هروب المنظري من المغرب بعد أن فاحت روائح فضائحه. وبهذا الخصوص، سبق لشاهد عيان أن أقرّ أنه رأى هشام المنظري رفقة هشام البصري بمطار الدار البيضاء وقتئذ، لكنه لم يتمكن من مغادرة المغرب وبعد يومين تمكن من مغادرة التراب الوطني من مطار الناظور بتواطؤ مع أحد المسؤولين الأمنيين هناك.
التعليقات (0)