فجَّرتْ صحيفة هآريتس الصِّهْيَوْنية مفاجأةً من العيار الثقيل، حينما أعلنتْ أن وزير الخارجية الصهيوني أفيجدور ليبرمان قال لرئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايتُه محمود عباس: يجب أن تسحبوا دعواكم ضد إسرائيل بشأن جرائم الحرب على غزة من أمام المحكمة الدولية؛ لأنكم مارستم ضغوطًا علينا للذَّهاب في الحرب إلى آخر مدى.
وتكون المفاجأة الأكبر، والفضيحة الأعظم لمحمود عباس في أقل من شهر، حيث طلبتِ المجموعة العربية في مجلس حقوق الإنسان تأجيلَ التصديق على تقرير جولدستون، الذي يتَّهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، نهاية العام الماضي وبداية العام الجاري لمدة ستة أشهر كاملة.
إن تآمُر محمود عباس مع الكيان الصهيوني على قطاع غزة، ليس بالأمر الجديد بالنسبة لنا وللناس كافة؛ ولكن يُقرُّ بذلك من يشاء، وينكره من يشاء، مع أن من ينكره إنما يعاند نفسَه ويخدعها، وهو يظن أنه يخدع الناس.
إن محمود عباس معلومٌ توجُّهُه وأهدافُه منذ أن كان قياديًّا في حركة فتح، ومنذ مقابلاته ومفاوضاته السرية مع الكيان الصهيوني، ومعروف أنه هو مهندس اتفاقية أوسلو اللعينة، وهو أيضًا الذي اقترح ضربَ المنظمات الإسلامية في فلسطين، وعلى رأسها حركة حماس، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
وقد برز للجميع - سواء أقرُّوا بذلك أم أنكروا - أن محمود عباس إنما جاء إلى السلطة الفلسطينية في عام 2003 كرئيس للحكومة الفلسطينية، وهو المنصب الذي أنشئ خصيصًا من أجله؛ لكي يكون له دورٌ في السلطة من أجل تنفيذ أهداف ومخططات صهيونية بحتة، محمود عباس الذي حارب المقاومة من أول يومٍ لتوليه رئاسة الحكومة، هو ذاته محمود عباس الذي طلب من إسرائيل أن تقضي على حركة حماس والمقاومة المسلحة في غزة، وهو ذاته الذي طلب من المجموعة العربية في مجلس حقوق الإنسان تأجيلَ التوقيع والتصديق على تقرير جولدستون لمدة ستة أشهر.
هو ذاته لم يتغير، الرجل الذي باع أهلَه، ووطنَه، ودينَه بثمنٍ بخس، هو ذاته الذي يعتقل المجاهدين في الضفة الغربية، ويقوم بتصفية بعض قياداتهم، وهو نفسه الذي يتشدَّق بأنه يسير على خُطى سلفه ياسر عرفات، وهو نفسه الذي يدَّعي أنه يعمل لمصالح الشعب الفلسطيني العليا، هذا الرجل فضحه حلفاؤه في الكيان الصهيوني، ولا عجب في ذلك؛ فالصهاينة إنما يفضحون حلفاءهم وأصدقاءهم، ولا يدَّعي أحد أن ليبرمان يكذب، أو يقول ذلك من أجل عدم إتمام المصالحة، أو زيادة الهوة بين الفلسطينيين، وهذا الكلام حتمًا سيقوله أصدقاءُ عباس من الصحفيين والمحللين السياسيين وغيرهم، والرد على ذلك هو أن الكيان الصهيوني يعمل دائمًا على تقوية السلطة وأجهزتها الأمنية؛ من أجل القضاء على المقاومة المسلحة، وهم لا يرون أن هناك خيرًا من محمود عباس ليقوم بدوره في تصفية المقاومة نيابةً عنهم.
كما أن عباس هو حليفُ الصهاينة وصديقهم، والحكيم من الناس هو من يصدِّق شهادةَ العدو لعدوه، وشهادةَ الصديق على الصديق؛ لأن العدوَّ إنما يسعى للتخلص من عدوه، وإنما يشهد له من شدة عجبه من صفةٍ فيه، ولا يشهد له إلا بالحق، كما يشهد الكيان الصهيوني للمقاومة الفلسطينية بأنها منظَّمةٌ وقادرة على صد هجماته، أو عندما يشهد ببراعة المقاومة في إخفاء مكان أسر جلعاد شاليط، كذلك الصَّدِيق يريد أن ينصر صديقه، فلا يشهد عليه بالكذب أبدًا.
إن هاتين الفضيحتين لمحمود عباس، وحركة فتح، ومنظمة التحرير (والصحيح أنها منظمة التفريط) لهي تؤكِّد على الآتي:
1- أن محمود عباس يسير في صف الكيان الصهيوني، ويعمل لمصلحته الخاصة هو وعصابته التي يرأسها، وأن ادِّعاءه العملَ لصالح الشعب الفلسطيني محضُ افتراء وكذب، وأن الرجل ذهب في تآمُرِه على شعبه وأهله إلى أبعد الحدود، ولا يبدو أن الرجل سيتراجع عن قراره في هذا الأمر.
2- يجب على قُوى المقاومة الفلسطينية أن تتَّخذ موقفًا حاسمًا من ذلك الرجل، وعلى فصائل منظمة التحرير - وخاصة الجبهةَ الشعبية لتحرير فلسطين - أن تعلن موقفها بصراحة من محمود عباس؛ فلم يَعُد يُجْدِي نفعًا تلك المواقفُ الحيادية؛ لأن الحياد بين الحق والباطل معناه الرضا بالباطل والخضوع له.
3- يجب على شرفاء حركة فتح - وهم قلة - أن يعلنوا براءتهم من محمود عباس وزمرته، وأنه لا يمثِّلُهم، ولا يتكلَّم باسمهم، ولا يمنعهم من ذلك ادعاؤهم أنه من الأفضل البقاءُ في الحركة من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحُه؛ لأنه يستغل ذلك في الترويج لنفسه، فيدَّعي أن الحركة كلها تؤيده وتسانده فيما يذهب إليه.
4- على حركة المقاومة الإسلامية حماس أن تأخذ حِذرَها من ذلك الرجل وعصابته، وألاَّ يتركوا له فرصة للوقيعة بهم وخديعتهم، وألاَّ يفوضوه بأن يقوم بأية مفاوضات؛ بل عليهم العمل على إفشال خططه، وعدم تحقيق أهدافه.
5- على العلماء والفقهاء أن يوضِّحوا موقف الشرع من هذا الرجل، ومَن يعمل معه ويشاركه في جرائمه، فلا يليق بعلماء الأمة أن يبقَوْا ساكتين صامتين وهم يرون جرائمَ أمثال هذا الرجل، ونؤكد لهم أن سيحملون وزر السكوت والصمت إن رضوا.
ولقد كان من القدر الإلهي أن يكون اليوم الذي تطلب فيه السلطة الفلسطينية تأجيل التوقيع على تقرير جولدستون، هو ذاته اليوم الذي يطلق فيه الاحتلال الصهيوني سراح تسع عشرة أسيرةً فلسطينية، مقابل شريط فيديو لمدة دقيقة واحدة يظهر فيه الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، فشتان بين هذا وذاك؛ هذا موقف للعزة والكرامة، وذاك موقف للخسة والنذالة.
وليت الشعب الفلسطيني بأكمله يدرك اليوم من هو الصالح، ومن هو الطالح، وليته يدرك أن من يقف مع عدوِّه، ويقبل أن يتعاون معهم، لن يقف مع شعبه أبدًا.
وبعد كلِّ هذا، فإن جرائم محمود عباس سوف يحاسب عليها - إن شاء الله - وسوف يندم أشدَّ الندم عليها، فإذا كان هو اليوم مغترًّا بسلطته وتأييد البعض له، فمن ذا الذي يضمن أن تبقى له سلطتُه إلى الغد، أو تبقى حوله تلك العصابة التي تساعده وتناصره؟! وعليه أن يعلم أنه كما تآمر على ياسر عرفات، فإنه قد يأتي غدًا من يتآمر على عباس، من أجل أن يفوز بذلك الكرسي الذي باع من أجله أهلَه ووطنه ودينه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التعليقات (0)