محمود درويش.. شاعر عالمي رغم أنف جائزة نوبل!
لماذا حكم بالإعدام على عصافير بلا أجنحة دون شفقة؟! يمكنني أن أعلن عن فرحي أمام الآخرين، خصوصاً إذا كان هذا الفرح جماعياً وليس فردياً، لكني - في المواقف المؤلمة - أحاول أن أضبط مشاعري وألاَّ أجهش بالبكاء أمام من يتصادف وجودي معهم، حتى لو كانوا من أحب الأصدقاء، وأعترف الآن بأن محاولاتي لضبط انفعالاتي قد فشلت تماماً حين تلقيت نبأ رحيل محمود درويش عن عالمنا مساء السبت 9 أغسطس - آب 2008. أتذكر تماماً ما جرى في ذلك المساء الفاجع، وهو ما سجلته فيما بعد.. كنت أجوب شوارع القاهرة التي أعشقها، وبدافع الحنين إلى ما كان، فإني اقتربت من مقهى ريش العريق، والذي كنت أنعم فيه - أنا وأبناء جيلي - بلقاءات جميلة مع نجيب محفوظ - العملاق، ومع شاعرين عربيين كبيرين، هما عبدالوهاب البياتي ومحمد الفيتوري.. حين اقتربت من المقهى لمحت يداً تلوح وتشير لي داعية إياي للدخول.. دخلت.. وجدت أمامي أحد أصدقائي الرائعين - الكاتب والشاعر خيري منصور.. تعانقنا، وفي لحظات العناق - وبصوت متهدج ملتاع - قال لي خيري: البقية في حياتك .. لم أصدقه، ويبدو أنه هو كذلك لم يكن يصدق ما قاله.. لحظة أمل شاحب تعلقنا بها، كما يحاول الغريق أن يتعلق بأي شيء يراه طافياً أمامه، فقد ذكرت إحدى القنوات الفضائية - العربية أن النبض ما يزال يسري في عروق الغالي محمود درويش، لكن اللحظة التي تعلقنا بها لم تكن سوى وهم، وكنا - خيري وأنا - نحاول التشبث بهذا الوهم وأن نجسده حقيقة تغمر قلبينا بالطمأنينة!. رجاء النقاش وصلاح عبدالصبور كانا من الأصدقاء الرائعين لمحمود درويش، وفي بيت كل منهما أتيح لي أن أقترب من عالم محمود درويش الإنسان - لا الشاعر، وقد رحل رجاء النقاش عن عالمنا، وغاب - جسدياً - عن أحبابه يوم الجمعة 8 فبراير - شباط ،2008 وقبل غيابه كان محمود درويش قد وجه إليه رسالة رائعة، يقول فيها: كنتَ وما زلتَ أخي الذي لم تلده أمي.. منذ جئت إلى مصر، باحثاً عن أفق، وجدتُ في كنفك حرارة البيت وحنان العائلة، أخذتَ بيدي، وأدخلتني في قلب القاهرة الإنساني والثقافي، فعلمتني كيف أأتلف، وكيف اختلف، وكيف أكون أنا وسواي في آن واحد، وكنتَ من قبل قد ساعدت جناحي على الطيران التدريجي، فعرَّفتَ قراءك عليَّ وعلى زملائي القابعين خلف الأسوار.. .. أما ما لم يتنبه إليه أحد، فيتمثل في أن مراسم تشييع محمود درويش في رام الله كانت يوم الأربعاء 13 أغسطس 2008 وهو نفس اليوم الذي رحل فيه صلاح عبدالصبور عن عالمنا قبل ثمانٍ وعشرين سنة، أي يوم 13 أغسطس سنة 1980.. أهي مجرد مصادفة، أم أن هؤلاء الثلاثة الكبار الذين أحببتهم قد شاءوا - دون أن يقصدوا - أن يتلاقوا في قلبي بعدما عزَّ اللقاء ؟!.
أقفز الآن من سنة 2008 عائداً إلى سنة ،1971 ففي شهر فبراير من تلك السنة كانت المفاجأة الكبيرة التي وقعت في حياتنا الأدبية، فقد وصل محمود درويش إلى القاهرة للإقامة بها تحت تأثير الإرهاب الإسرائيلي العنيف، ورغبة منه في أن يعلن للعالم كل ما يعرفه عن آلام العرب في الأرض المحتلة.. وقد كانت للمفاجأة الكبيرة - كما يقول رجاء النقاش في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه محمود درويش شاعر الأرض المحتلة - أصداء واسعة لا في الأرض العربية الرحبة وحدها، وإنما في داخل أرض فلسطين المحتلة منذ سنة ،1948 وعلى سبيل المثال، فإن الحزب الشيوعي هناك أصدر قراراً جاء فيه .. تقرر سكرتارية منطقة حيفا للحزب الشيوعي.. فصل محمود درويش من الحزب.. ولم يهتم الشاعر العظيم وقتها بمسألة فصله، لكن الذين فصلوه هم الذين دعوه - فيما بعد - وبالتحديد يوم الأحد 15 يوليو - تموز سنة 2007 لكي يحيي أمسية شعرية، كانت رائعة بكل المقاييس، مما دفعني للكتابة عنها في الراية بعد يومين بالضبط، وكانت عناوين ما كتبته بالنص: قلبي اندفع مسافراً إليه وهو في حيفا العربية - محمود درويش يعيدنا إلى فلسطين بعد أن كنا فقدنا اليقين - علم فلسطين سقط في غزة ليرتفع في حيفا! - نعم يا حبيبي.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة .. . في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن وصول محمود درويش إلى القاهرة، كلفني أستاذي وصديقي العظيم صلاح عبدالصبور بالذهاب إليه، وأتذكر أني ذهبت إليه في إحدى الشقق بحي جاردن سيتي في القاهرة، وقد وقعت لي - وقتها - مفاجأة لكنها محرجة، ذلك أني اندفعت لأعانق الكاتب السوري الكبير ياسين رفاعية على أساس أنه محمود درويش، فإذا به يضحك ضحكة هادئة، ويشير بيده: هذا هو محمود أما أنا فاسمي ياسين رفاعية.. وفيما يتعلق بإحدى الصور التذكارية التي أعتز بها فإنها ترجع إلى شهر مايو سنة 1971 أمام مسرح الطليعة في القاهرة، وكان وقتها يعرض مسرحية ليلى والمجنون لصلاح عبدالصبور الذي دعا محمود درويش لحضور أحد عروضها، وكانت معنا الراحلة - فيما بعد - سميحة غالب زوجة صلاح عبدالصبور، وها أنذا أعود الآن إلى هذه الصورة التي أتأملها، وأتذكر أن محمود درويش كان قد جاء مرتدياً قميصاً خفيفاً، فقال لصلاح عبدالصبور مداعباً: أنا وحدي الذي لا أرتدي بدلة كاملة ولا كرافتة .. أنتم أحرار.. أما أنا فإن الحرارة تضايقني، ولهذا جئت مرتدياً قميصاً.. وأنا كذلك حر!!.
قبل أن تتكرر لقاءاتي مع محمود درويش، كنت قد عرفته شاعراً كبيراً من خلال دواوينه التي حرصت على اقتنائها ابتداء من سنة 1968 وأتذكر - بفخر وفرح - أني استطعت الحصول على بعض دواوين محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وتوفيق زياد، وهي دواوين مطبوعة في مدينتي عكا و حيفا العربيتين الفلسطينيتين والمحتلتين منذ سنة ،1948 وقد حرصت أن أصطحب هذه الدواوين من مكتبتي في القاهرة إلى مكتبتي في الدوحة، لكي تظل أمامي، وأعود إليها بين حين وآخر، لكي أطمئن نفسي بأنها ما تزال معي دون أن تختفي أو تضيع، ومن هذه الدواوين أوراق الزيتون لمحمود درويش في طبعته الثانية - تموز 1968 - دار الجليل للطباعة والنشر - عكا، أما الطبعة الأولى فإني لم أحصل عليها، لكنها صدرت في تموز سنة 1964 عن دار الكتب المختارة في حيفا. أوراق الزيتون هو الديوان الثاني لمحمود درويش، أما ديوانه الأول فهو بعنوان عصافير بلا أجنحة وقد حكم عليه صاحبه بالإعدام دون شفقة، فلماذا أعدمه؟! السر في هذا أن محمود درويش كان قد تسرع عندما أصدر هذا الديوان سنة 1960 أي عندما كان عمره تسع عشرة سنة، ولم يكن ناضجاً فكرياً ولا شعرياً بطبيعة الحال، وقارىء هذا الديوان - وعندي منه أكثر من نسخة - يستطيع أن يعرف على الفور كم كان محمود درويش - الفتى المراهق - يحاول تقليد نزار قباني بكتابة قصائد مثيرة عن النساء وسحرهن وكيدهن، وكان لا بد أن يطلب محمود درويش - بعد نضجه الفني والإنساني - من جميع الناشرين ألا يقوموا بطبع عصافير بلا أجنحة فضلاً عن أنه أسقطه نهائياً من قائمة دواوينه في طبعاتها المختلفة، وربما لم يلتفت أحد من النقاد والدارسين لهذا الديوان باستثناء رجاء النقاش، حيث قال في كتابه الجميل عنه - ص 122 من الطبعة الثانية - إننا نجد معظم ديوانه الأول عصافير بلا أجنحة مكتوباً بالشكل التقليدي.. وأما صاحب عصافير بلا أجنحة فإنه يقول عنه .. إنه ديوان لا يستحق الوقوف أمامه.. كنت في سنتي الدراسية الأخيرة، وكان الديوان تعبيراً عن محاولات غير متبلورة.. . دون شفقة، أعدم محمود درويش عصافير بلا أجنحة فلماذا يستطيع شاعر أن يقوم بهذا الفعل؟.. بكل بساطة، أقول إنه كان يدرك تمام الإدراك أن في أعماقه شاعراً عظيماً، لكنه لم يتشكل بعد، وفيما بعد ومن خلال مراحل فنية متعاقبة، تمكن شاعر عصافير بلا أجنحة أن يصبح - أولاً - أكبر شاعر من شعراء المقاومة الفلسطينية ومع إصراره على الإخلاص للشعر، فإنه تمكن من الإنطلاق من مرحلة كونه مجرد شاعر مقاومة ضد المحتل العنصري لوطنه إلى مرحلة، تحقق له فيها أن يصبح شاعراً إنسانياً شاملاً، حتى وإن كان ينطلق من واقع أرضه الفلسطينية، وهذا ما يجعلني أقول بأعلى الصوت إنه شاعر عالمي رغم أنف جائزة نوبل للآداب التي لم تمنح له، والحق أن ما مر به عطاؤه الشعري من مراحل فنية متعاقبة لم يكن بالأمر الهين اللين، وهذا ما يجعلني أقف أمام هذا العطاء الشعري مسحوراً ومبهوراً بقدرة صاحبه الفائقة على تجاوز ما سبق، وهي قدرة لا يستطيعها إلا الشاعر العظيم والمخلص في آن واحد لفن الشعر.
محمود درويش.. من أرض فلسطين إلى الآفاق الرحبة تمكن من الإفلات من نزار قباني ولم يقع في أسر لوركا!
في الحياة، كما في الفن.. هناك من يجودون بالعطاء باستمرار، لكن منهم من هم شحيحون وبخلاء.. الطيب صالح نموذج للروائي الكبير الذي يبخل بالعطاء الروائي، وعلى النقيض فإن نجيب محفوظ ظل روائياً عظيماً يتجدد كالبحر فتتجدد معه الحياة.. الأمر ذاته ينطبق بالطبع على الشعراء، فهناك من كتبوا ويكتبون بغزارة، لكن عطاءهم الشعري سطحي وهزيل، من هؤلاء- على سبيل المثال- الدكتور أحمد زكي أبوشادي الذي أصدر خلال حياته ما يزيد على عشرين ديواناً، ومع هذا فإننا لا نتذكر مما كتبه إلا قصائد قليلة رائعة، وهناك من يكتبون أقل القليل، لكن عطاءهم الشعري- برغم قلته- يظل متجدداً، بحيث يستطيع التواصل مع كل جيل من القراء والمتلقين، والمثال الساطع هنا هو أمل دنقل.. وغير هؤلاء وأولئك، هناك شعراء كبار كتبوا وأبدعوا بغزارة وبعمق في آن واحد، والمثال المشرق لهؤلاء هو محمود درويش. تتجلى عظمة محمود درويش الشعرية في كونه شاعراً ظل يتجاوز ذاته باستمرار، فالجديد عنده ليس اجتراراً ولا تكراراً للقديم الذي سبق أن قدمه، وإنما يمثل إضافة حقيقية لرصيده الشعري الضخم وللشعر العربي، بل والعالمي بصورة عامة. ولعلنا نتذكر أننا جميعاً قد عرفناه وأحببناه منذ ستينيات القرن العشرين وبالتحديد بعد نكسة يونيو- حزيران 1967، وأطلق النقاد وقتها مصطلح شعراء المقاومة الفلسطينية على عطائه وعطاء رفاقه، ابتداء من معلمهم وأستاذهم توفيق زياد إلى سميح القاسم وراشد حسين وسالم جبران وحنا أبو حنا، وقد أضاءت قصائد هؤلاء سماء الأرض العربية، وبددت الكثير من ظلمات النكسة وأجوائها الكئيبة، وكانوا - جميعاً- تقدميين يساريين ملتزمين، لكن منهم من أخلص للسياسة أكثر من إخلاصه للشعر، فظل يكرر نفسه شعرياً، وكان منهم من حاول أن يوازن بين السياسة والشعر، أما محمود درويش فإنه كان يرى أن وجوده يتمثل في كونه شاعراً، وأن الشعر وحده يستطيع أن يتحمل أعباء رسالته الإنسانية إلى سواه. لو أننا نظرنا- كما قلت من قبل- إلى الديوان الأول لمحمود درويش، وهو ديوان عصافير بلا أجنحة الذي أصدره عندما كان عمره تسع عشرة سنة، فإننا نرى أمامنا شاباً مراهقاً، يحاول تقليد نزار قباني تقليداً فجأة أعمى في قصائد ذلك الديوان، بل حتى في المقدمة التي تتصدره، حيث نجد لغة نزار قباني النثرية طاغية تماماً على تلك المقدمة. ومن هنا، فإن محمود درويش حكم بالإعدام على عصافير بلا أجنحة وأهمله تماماً من قائمة دواوينه الشعرية، لكن عطاءه الشعري- فيما بعد- وبالذات خلال المرحلة الأخيرة، ظل متماهياً ومنسجماً مع عطاء الشاعر الأسباني الشهير والشهيد فيديريكو جارثيا لوركا، تماماً مثلما أعجب كثيرون من رواد الشعر الحر بما أبدعه لوركا، ومن هؤلاء الرواد الكبار بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي، لكن إعجاب هؤلاء بلوركا توقف عند حدود معينة، أما محمود درويش الذي تمكن- بوعيه ونضجه- من الإفلات من تأثير نزار قباني، فإنه استطاع كذلك أن يفلت من شباك فيديريكو جارثيا ليوركا، محاولاً ألا يقع في أسره، فكأنه كان يحاول- عندما اكتمال نضجه- أن يعارض لوركا، مع إدراكه العميق بأنه لا يريد أن يصبح نسخة متكررة منه، وهكذا ظل إعجابه به قائماً وواضحاً، دون أن يسلمه هذا الاعجاب إلى مصيدة الأسر وكمائنه القاسية. ولكي لا يكون كلامي نظرياً فحسب، فإني أتصور أن المقارنة بين تأثير لوركا على محمود درويش قبل اكتمال النضج يتضح في قصائد عديدة من ديوان عاشق من فلسطين وبالذات القصائد التي تحمل عنوان أزهار الدم وهنا نتذكر أن أزهار الدم هو عنوان لمسرحية شعرية للوركا، أما اكتمال النضج عند محمود درويش فإنه يتمثل في قصائد المجلد الضخم الأعمال الجديدة حيث يشعر القارىء المتمهل أن لوركا قد أنصهر في أعماق محمود درويش، لكن هذا الانصهار لم يمنع محمود درويش من الحفاظ على استقلاله الفني دون استسلام لسحر الشاعر الأسباني الشهير والشهيد، وهنا أشير - على وجه التحديد- إلى قصيدتين رائعتين، أولاهما بعنوان الكمنجات والثانية بعنوان تمارين أولى على جيتار أسبانية وفيها يقول:
جيتارتان تتبادلان موشحاً وتقطعان بحرير يأسهما رخام غيابنا عن بابنا.. وترقصان السنديان ... الماء يبكي والحصى والزعفران والريح تبكي... لم يعد غدنا لنا.. والظل يبكي خلف هيستريا حصان مسه وترٌ، وضاق به المدى بين المدى والهاويه فاختار قوس العنفوان...
انطلق محمود درويش من أرض فلسطين بخطوات واثقة تتمثل في أوراق الزيتون و عاشق من فلسطين ومن أرض فلسطين كان لابد لرؤية الشاعر العظيم أن تتسع، ولروحه العبقرية أن ترفرف فوق الأرض العربية كلها، إلى أن اكتمل النضج تماماً، وهنا نستطيع الإشارة إلى الشاعر العالمي وليس مجرد الفلسطيني- العربي محمود درويش الذي انطلق من المحلية إلى الإنسانية جمعاء، لترفرف ابداعاته الرائعة في الآفاق الرحبة التي لم يصل إليها إلا بالإخلاص للشعر وقدرته الفائقة على تجاوز ما سبق، دون تلكؤ أو تكاسل أو استسلام لما كان قد تحقق بالفعل. أتوقف الآن عند القصيدة المطولة جدارية محمود درويش التي صدرت في طبعتها الأولى يونيو سنة 2000، وتتجلى فيها كل روعة استدعاء الإنسان لأشواقه في لحظات مواجهة القادم المجهول الذي يتهدد كل الناس وكل الكائنات الحية، وإن كان الإنسان وحده هو القادر على تصوير تلك اللحظات الحاسمة والصعبة. ذكرتني الجدارية - القمة بقصة قصيرة رائعة، كنت قد قرأتها لأول مرة في الستينيات من القرن العشرين وهي لكاتبنا العظيم نجيب محفوظ الذي اختار ان يسميها ضد مجهول لكن هناك فارقا مهما، يتمثل في أن محمود درويش قد عاش لحظات مواجهة القادم المجهول بنفسه، اما نجيب محفوظ فقد عاش نفس التجربة، ولكن من خلال التمثيل الواعي والعميق. وبعيداً عن قصة ضد مجهول فإن جدارية محمود درويش جعلتني استعيد عوالم شعرائنا العرب القدامى والمحدثين، وهم يصورون مواجهة الإنسان للمصير المحتوم، وهكذا استعدت - أولاً - القصيدة الخالدة لأبي العلاء المعري.
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد وشبيه صوت النَعَّي إذا.. قيسَ بصوت البشير في كل نادِ
واستعدت كذلك تجارب أبي القاسم الشابي ومحمد عبد المعطي الهمشري وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور، خاصة في قصيدته الرائعة شذرات من حكاية متكررة وحزينة التي يتضمنها ديوانه السادس الإبحار في الذاكرة ، وفيها يقول:
أشتفُّ حضورك في صحراء الوقت استشعر وقعك في صخر الصمت تعروني البهجة ثم يفاجئني كالمطر المتقطع حس الخوف من الموت .. يومي عريان يومي أقسى عريا من جذع الشجره فلأحفر في ماضي الأزمان فلعلِّي ألقي بعض الأعشاب النضره أو بعض الأوراق الخَضِره واأسفاه - نَقَّر فيها عصفور النسيان أَبعدْ عن البستان أَبعدْ هذا الشرير عن البستان
تطل علينا قصيدة جدارية لمحمود درويش بعد ديوانيه الحافلين بالشعر بكل معنى الكلمة، وهما لماذا تركت الحصان وحيدا و سرير الغريبة وإذا كان البطل المهيمن على قصائد هذين الديوانين - بصفة عامة - هو المكان، فإن البطل المهمين على جدارية هو الزمان الذي يكاد يكون مطلقا وجارفا بعنفوانه كل الأشياء، حتى المكان ذاته. الرغبة في العودة إلى زمان الأمس ملاذ يحتمي فيه الخائف من زمان الغد، لأن الغد فيه مواجهة للقادم المجهول الذي يحاول الإنسان - الكائن الحي أن يهرب منه أو أن يتحداه وليكن ما يكون. يقول محمود درويش:
في كل ريخ تعبث امرأة بشاعرها - خذ الجهةَ التي أهديتني الجهة التي انكسرت وهاتِ أنوثتي لم يبق لي إلا التأمل في تجاعيد البحيرة.. خذ غدي عني وهاتِ الأمس، واتركنا معاً لاشيء، بعدك، سوف يرحل أو يعود ... قال الصدى لا شيء يرجع غير ماضي الأقوياء على مسلات المدى.
( ذهبية آثارهم.. ذهبية).. ورسائل الضعفاء للغدِ أعطنا خبز الكفاف، وحاضرا أقوى فليس لنا التقمص والحلول ولا الخلود وإذا كانت الحياة - كما رآها شكسبير - مسرحية كبيرة، فإن محمود درويش يتساءل عما إذا كان قد قرأ المسرحية قبل العرض أم أنها قد فرضت فرضا عليه:
وأنا الغريب. تعبت من درب الحليب إلى الحبيب.. تعبت من صفتي.
يضيق الشكل. يتسع الكلام. أفيض عن حاجات مفردتي. وأنظر نحو نفسي في المرايا: هل أنا هو؟ هل أؤدي جيداً دوري من الفصل الأخير وهل قرأت المسرحية قبل هذا العرض أم فُرضتْ عليَّ؟ وهل أنا هو من يؤدي الدور أم أن الضحية غيرت أقوالها لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما انحرف المؤلف عن سياق النص وانصرف الممثل والشهود؟ ... صعب تماماً أن نجتزيء سطوراً أو فقرات من جدارية للاستشهاد، فالقصيدة - القمة تستعصي على التجزئة، إنها كائن خرافي جميل، لا نملك إلا أن ننظر إليه - مجتمعا ومكتملا - ونحن في حالة انبهار!
حسن توفيق |
التعليقات (0)