مواضيع اليوم

محمود درويش

يوسف رشيد

2010-05-10 16:21:12

0

 

 

 

كنت طالبا في الثانوية ، عندما عرضْتُ على مدرس اللغة العربية ، ما كنتُ أسمّيه (شعرا) من نظمي ، فقرأه بإمعان ، وكان رفيقا جدا في رده علي ، ونصحني بالاطلاع على كتابه (سفينة الشعراء) ـ وهو كتاب مبسط في علم العروض ـ وبمواصلة القراءة في الشعر والنقد ، وسمّى لي بعض الكتب التي تفيدني في ذلك..
إنه أستاذي العلامة محمود فاخوري الذي أتشرف بأنني تتلمذت عليه أيضا في جامعة حلب ، وظلّ رحب الصدر لأسئلتي الكثيرة له ، حتى عبر الهاتف ، وغدونا ـ مذ ذاك ـ صديقين إلى الآن ، أطال الله في عمره ..

 

 

 

من تلك الكتب التي نصحني بها ، كتاب الاتجاه القومي في الشعر العربي الحديث للدكتور عمر الدقاق ، قرأته بنهم ، وفي آخر صفحاته كان هناك فصل صغير عن شعر المقاومة وشعرائها في فلسطين المحتلة ، فعَرَض لهم عرضا يسيرا لكون الظاهرة حديثة العهد نسبيا ، ولم تتضح معالمها للدراسة والنقد المعمق ..
واستوقفني فيها مقطع شعري معبّر وجميل ، يفيض بكل الأحاسيس التي عشقناها في المقاومة ، وبكلماتٍ هي صرخة مدوية ، ما تزال تتفجّر ثورةً في وجه المحتل وسياسته العدوانية :

سجلْ .. أنا عربي ..
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب ؟؟

سجّلْ
أنا عربي
أنا اسمٌ بلا لقب
صبورٌ في بلادٍ كل ما فيها
يعيشُ بفوْرةِ الغضب
جذوري
قبل ميلاد الزمان رَسَتْ
وقبل تفتّح الحقب
وقبل السّرْو والزيتون
وقبل ترعرع العشب


لا أعتقد أن أحدا لم يسمع بهذه القصيدة وبصاحبها ..

إنه الشاعر محمود درويش ..
الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره ..


لقد عاش حياة مناضل وشاعر، حتى غدا من أهم شعراء القرن العشرين في العالم ، ونال كثيرا من الأوسمة ، والجوائز العربية والعالمية ، وترجمت أشعاره إلى أكثر من عشرين لغة ، وهو الذي صاغ إعلان قيام دولة فلسطين ، وهو الذي غنى للأرض وللإنسان وللفدائي وللشهيد ، وناضل بشعره ضد الاحتلال ، والعنصرية ، والظلم والاضطهاد ..

محمود درويش حالة إنسانية وشعرية وثقافية ونضالية فريدة ومتميزة .. أسهم في صياغة وبلورة فكر عربي تقدمي ، واستطاع أن يؤسس لحالة شعرية ، اتسمت بالواقعية ، والتزمت بقضايا التحرر ضد كل أشكال الاستعمار في العالم ..
وإذا كان الموت قد غيّب الشاعر يوم السبت التاسع من آب عام 2008 .. إلا أنه سيبقى حيا بشعره وبصورته وبصوته في وجدان الملايين الذين عشقوا أشعاره ، كما عشق أرضه وضيعته ( البروة ) والتي لم يرها بعد نزوحه في الستينيات ..
وقد استشعر قرب أجله ، فتوقع أنه سيموت في يوم سبت ، كما جاء في قصيدته (إجازة قصيرة ) من كتابه الأخير ( أثر الفراشة ) عام 2007 ، ورسم صورة لساعاته الأخيرة ، ثم لجنازته ، وكأنه يودعنا ويودع كل ما عشقه ..

أما في (الجدارية) ـ وهي قصيدة طويلة في كتاب ـ فكان مشهد الوداع أكثر وضوحا ، وأشد تأثيرا ، وإن كانت نُشِرت في عام 2001 ، إلا أن إلقاءه للمقاطع الأخيرة منها ، في أبوظبي وعمّان وحيفا المحتلة وغيرها ، قبل عام تقريبا من غيابه ، يدلل على شدة إحساسه بدنو الأجل ، لما فيها من إشارات واضحة على ذلك .. إذ يقول في المقطع الأخير من الجدارية :

واسمِي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
وهذا الاسمُ لي …
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جَسَدي المُؤَقَّتُ ، حاضراً أم غائباً …
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ ،
يشربني على مَهَلٍ ، ولي
ما كان لي : أَمسي ، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ ، وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أَبطالِهِ …
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
لي .
أَما أَنا - وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي .
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي …

۞۞۞

التقيته في حياتي ثلاث مرات ..

الأولى :

في كلية الآداب من جامعة حلب في 02/05/1976 ، وكنت بين آلاف الحاضرين الذين غُصَّ بهم مدرّج الجاحظ في الكلية ، وكان الواقفون أكثر من الجالسين ، والذين خارج المدرج أكثر ممن بداخله ، قدمه عميد الكلية الدكتور عمر الدقاق بكلمات عجلى ، لأن الحاضرين شغوفون بسماع شاعرهم ، وليسوا في وارد الإصغاء لغيره ، ثم ذبنا مع كلمات الشاعر وأنفاسه ، ونحن نطالبه بالإعادة تارة وبالمزيد تارة أخرى ، حتى التهبت أكفنا وحناجرنا ، وتجلى يومها محمود درويش بقصائده الوطنية الممزوجة بتراب فلسطين وزيتونها وسنديانها وبلوطها وبياراتها ودماء شهدائها ، وكانت القصيدة التي أعاد علينا كثيرا من مقاطعها استجابة للأكف والحناجر هي قصيدة ( سجل .. أنا عربي ) ..
{ سبق أن نشرت القصيدة كاملة في المنتدى .. }
الثانية : وهي واسطة العقد :

كانت في مطلع عام 1979

وفي نفس المكان ، لكن ، كان لها طعم آخر هذه المرة ..
حيث أعلنت عمادة الكلية عن أمسية للشاعر محمود درويش ، ثم أعلنت اعتذارها وتأجيل الموعد إلى أجل قادم ، إلا أن كثيرين جدا ممن لم يصلهم الاعتذار ، أو وصلهم ولم يصدقوه ، تقاطروا إلى الكلية قبيل الموعد بساعات ليحجزوا مكانا لهم داخل المدرج ، وظنوا أن في الأمر مزاحا أو لعبة مقصودة تستهدف عدم الحضور البشري الهائل الذي يخلق للكلية متاعب جمة ، انضباطا وتنظيما ، فلم يبرح الحاضرون ممرات الكلية ولا ساحاتها ، انتظارا للشاعر ، حتى تأخر الوقت ، وتملكتهم خيبة الانتظار الطويل ..

وليس بعيدا عن ذاك ، أُعلن عن الموعد الجديد في 18 كانون الثاني/1979 ..
فحضر الشاعر مصحوبا بعميد الكلية قبيل الموعد بساعتين تقريبا .. ودخلا من الباب الغربي للكلية ، متجنبيْن الباب الشرقي الرئيسي الذي يدخل منه الوافدون للحضور ..
وكنت أنا وابنتي ـ ذات السنوات الخمس آنذاك ـ وبعض موظفي الكلية ، ننتظر وصولهما في البهو الذي دخلا إليه .. رحبنا بهما ، وصافحَنَا الشاعرُ جميعا ، وسألني ممازحا : أتحب أختك شعري أيضا ؟
قلت له : أولا : هي ابنتي .. ثانيا : أردت أن أحتفل لها بعيد ميلادها ـ الذي يصادف غداـ في أمسيتك .. وثالثا : إننا جميعا نحبك ونحب شعرك .. ضحك بفرح طفولي شفاف ، والتفت إلى العميد كأنه يستأذنه بمرافقتي لهما ، فقال له العميد (وكانت تربطني به علاقة ودية طيبة) : لا بأس ، ليس بعيدا ولا غريبا عنا ، وأشار إلي أن أرافقهما ..
لم تبدُ على الشاعر ملامحُ تغير تذكر، خلال السنوات الثلاث التي مرت على رؤيتي له في المرة الأولى .. لذلك أحسست أني أعرفه جيدا ، وكنت في غاية السعادة وأنا مع الشاعر الكبير محمود درويش على مقعدين متلاصقين في مكتب العميد ، فطلب الشاعر قهوته (مضبوطة من غير وش) حسب تعبيره ، وسايرته في طلبي ، ودار حديث مسهب بينهما لم أتدخل فيه ، أصغيت وأصغيت فقط ، قال إنه لم يدرس أوزان الشعر ، وإن القصيدة تفرض نفسها عليه بشكلها وبمضمونها بعد كتابة الأسطر الأولى منها ، وإن الفن والأدب عموما يجب أن يعبرا عن قضية سامية .. وقال إنه يكتب القصيدة مرات ومرات قبل أن يستقر على شكلها النهائي ، ولا يحب الكتابة في الليل ، بعكس أغلب الشعراء ، وينشر معظم ما يكتب وليس كله .. وكان الحديث طويلا لم تسعفني ذاكرتي بكثير منه الآن ، فقد كان الحوار ينقطع كثيرا لاضطرار العميد الرد على الهاتف ، كما جاء المصور فالتقط بعض الصور ، وطلب الشاعر من المصور أن يلتقط له صورة معنا أنا وابنتي كذكرى في عيد ميلادها ، ومضى الوقت سريعا ، فيما حضر وكيلا الكلية وبعض أساتذتها ، فأثنى بعضهم ـ ممازحا ـ على فكرة الاحتفال بعيد ميلاد ابنتي ، ودارت أحاديث مجاملة مع الشاعر ، فيما كانت أصوات ضجيج الجمهور تتناهى إلينا ، وتتصاعد وتيرتها كلما اقترب الموعد ، ونستشعر ضخامة العدد الحاضر من خلال الوصف الذي نسمعه من كل قادم ..
وحين غادرْنا المكتب ، أدركنا صعوبة الوصول لمكان الأمسية ، فحملتُ ابنتي ، وأصرَّ الشاعر أن أمشي بجانبه حرصا عليها ونحن نشق الطريق بصعوبة وبمساعدة أعداد كبيرة من المنظمين .. وفي المدرج لم يبق مكان لأحد منا ، فبقينا واقفين حول الشاعر وهو يلقي شعره ، فيما تنازل أحدهم عن مكانه للعميد ، فانتقل إليه بعد أن قدم (الشاعر المناضل) ببضع كلمات ، وبدأت الأمسية باعتذار الشاعر عن تخلفه في الموعد السابق قائلا :
كنت مريضا حقا ، وقد غاب صوتي ، فكيف أجيئكم بلا صوت ؟؟
وبعد أن هدأت عاصفة التصفيق الحار ، روى الأسطورة الفلسطينية التي استقى منها قصيدته الأولى ( نشيد إلى الأخضر ) ، وبأدائه الصوتي الفريد والساحر والمعبر ، أنشد :

إنكَ الأخضر لا يشبهكَ الزيتون ..
لا يمشي إليكَ الظل ..
لا تتسع الأرض لرايات صباحك ..
ونشيدي لك يأتي دائما من كثرة موتي قرب نيران جراحك
فلتجددْ أيها الأخضر موتي وانفجاري
إن في حنجرتي عشرة آلاف قتيل يطلبون الماء
جددْ أيها الأخضر صوتي وانتشاري
إن في حنجرتي كفًّا تهز النخل
من أجل فتىً يأتي نبيا
أي فدائيًا ...

لست أدري أيهما يُضفي على الآخر روعة وعظمة وأناقة وسحرًا وجمالية موسيقية أخاذة : صوته أم شعره ؟؟؟؟؟
إنه مبدع آخر في إلقائه لشعره ، وبما لا يقل أبدا عن إبداعه في الكتابة ..

ويبدو أن الحق ـ كل الحق معه ـ في عشقه لصوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في تلاوة القرآن الكريم وتجويده .. إذ قال : إنه يعشق ذاك الصوت ..

ثم أنشد : عائد إلى حيفا ، وأحن إلى خبز أمي ، وعاشق من فلسطين ، على ما أذكر ... وأنشد وأنشد .. ولم يرتو أحد .. وبين كل هذا الجمهور المحب ، بل العاشق لمحمود درويش وشعره ، كان الشاعر يزداد تألقا وحيوية ، ويتصلب عوده النحيل مع قوة قصائده وتأثيرها في الحضور ، لكن تنويعات صوته بدأت تميل للهدوء المصحوب بآثار ما كان يعانيه من مرض ، فطالبه العميد بالكف حرصا على صحته ، وأنهيت الأمسية بعد قرابة الساعتين ، وصفق له الجمهور طويلا في مشهد قلّ نظيره ، حتى كاد الشاعر يعود للإلقاء لولا إصرار العميد وهو يقول له : لوأنشدتَ حتى الفجر لاستزادوك ..
أمسَكني من ذراعي وأنا أحمل ابنتي ، وبصعوبة كبيرة خرجنا من المدرج ، ودّعته بكلمات قليلة عند الباب الغربي ، وطبع قبلة على جبين ابنتي وهنأها بأجمل عيد ميلاد وسط هذا الحشد ، وتمنى لها السعادة والعمر المديد ، وغابا في برد كانون الثاني وظلمة ليله ، فيما لم يسمح الحراس بخروج أحد من الباب خلفهما ..
وما زلت أحتفظ بشريط تسجيل للأمسية ، نسخته من أحد الأصدقاء الذين سجلوها ، كنت أسمعه كلما ادلهمت الخطوب حولنا .. لكني لم أستطع الحصول على أي من الصور التي التقطت في مكتب العميد ، فقط حصلت على صورة للشاعر أثناء الإلقاء ، وكان الشاعر الفلسطيني المقيم في حلب محمود علي السعيد ، حائلا بيننا في الصورة ..


أما الثالثة : فكانت في قصر الثقافة في الشارقة :

في شهر تشرين الثاني من عام 1995

وصل الشاعر من أبو ظبي حيث كانت له أمسية هناك قبل يوم ، وكان الحضور نوعيا هنا ، وليس زخم الحضور كما عهدناه في حلب ودمشق وبيروت و ....الخ .
المهم ، كان حضور الشاعر وحده يكفينا ، ألقى ما ألقى من القصائد ، وردد المكان صدى صوت لم يأْلفه قوة ومعنى ..
صفقنا بحرارة لقصائد تاقت لها نفوسنا ، بعد سنين عجاف من واقع عربي مر ، ( استقال الشاعر من عضويته في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، احتجاجا منه على توقيع المنظمة اتفاقيات أوسلو مع الكيان الصهيوني ) ..

وبعد انتهائه من إلقاء قصائده ، كان حريصا أن يغادر المسرح صاعدا من بين صفوف الحاضرين الذين وقفوا جميعا لتحيته ، وحين التقت عيوننا ، توقف برهة يستحضر صورة من الذاكرة البعيدة ، لم أكن واثقا من أنه سيجدها ، لكنه سرعان ما وجدها ، وخطا باتجاهي معانقا وقائلا : إيش صار في بنتك ؟ وينها ؟؟
عانقته بحرارة وبهجة ارتعش لها كل جسدي ، وتهدج صوتي وأنا أقول له : تزوجتْ منذ ثلاثة أشهر ، وهي هناك ..
انتظر الحاضرون نهاية المشهد ، ليعرفوا تفاصيل الحكاية مني .. خرجنا معا ، لكن لم يترك لنا الآخرون فرصة أي حديث .. وعند الباب الخارجي ، أكملت مسلسل الصور الذي بدأته داخل المسرح عن بُعد ، بصورة مشتركة ، ثم تصافحنا وتعانقنا ، (ومضى كل إلى غايته ، لأن الحق شاء ) ..

(كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن)

  


الخميس 25/آذار الخير/2010

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !