محمود درويش يعيدنا إلى فلسطين بعد أن كنا فقدنا اليقين
علم فلسطين سقط في غزة ليرتفع في حيفا ..!
نعم يا حبيبي.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة
بقلم: حسن توفيق
مساء الأحد 15 يوليو - تموز 2007 لم أكن هنا.. وإنما كنت هناك.. اندفع قلبي المشوق لسحر الشعر ولبهاء الحرية، وطار من الدوحة التى أعمل فيها إلي مدينة عربية تستعصي علي النسيان.. إلي حيفا العربية طار قلبي.. وجدتني هناك.. فيها وبين أهليها الذين نسميهم الآن عرب 1948 .. وجدت نفسي قطرة متألفة مع قطرات بحر بشري هائل، يترقب إطلالة شاعر عربي، أري أنه بكل المعايير شاعر إنساني عالمي.. إنه محمود درويش الذي من أجل عشقي لإبداعه، طرت من الدوحة إلي حيفا الجميلة التي يحتضنها بكل جلال جبل الكرمل.
منذ سنوات، تشكو الأمسيات الشعرية العربية من غياب الجمهور.. قاعات فخمة أو متواضعة.. تتجاور فيها مقاعد وثيرة أو خشبية، لكنها جميعها خاوية.. وأشباه الشعراء يعتلون هذه المنصة أو تلك، دون أن يكون أمامهم سوي آخرين ممن يشبهونهم أو ممن يجاملونهم إذا كانوا يعرفونهم.. أشباه الشعراء ليس لديهم ما يقولون- ولهذا كان لابد أن يعاقبهم جمهور الشعر بالغياب، وبالبعد عما قد يسمعونه من هلوسات وهذيان!
في حضرة محمود درويش يختلف المشهد تماماً.. ها هو ذا في مدينته الغالية حيفا التي غاب عنها منذ أربعين سنة.. ها هو ذا وأمامه بحر بشري هائل.. المسرح امتلأ عن آخره.. ليس في قاعة الأدويتوريوم التي شهدت الأمسية كرسي واحد يلعق مرارة أنه بلا عمل.. هذا المسرح يتسع لألف وخمسمائة إنسان.. هؤلاء جميعاً أسرعوا منذ الإعلان عن الأمسية لشراء تذاكر الحضور.. كل التذاكر نفدت.. ربما كان الوحيد الذي لم يدفع ثمن التذكرة هو أنا.. لأني حضرت مع هؤلاء جميعاً من خلال قناة الجزيرة مباشر .. وهكذا كنت- بالروح وبالقلب- في حيفا الجميلة.
في كلمته النثرية الاستهلالية، التي حيا بها جمهور الحاضرين، قال محمود درويش ما لا يستطيع أي سياسي عربي أن يقوله، حتي لو دربه الخبراء بدل المرة مرات علي قول ما ينوي أن يقول!.. فجأة أحسست أني أوشك علي البكاء.. بل إني بالفعل بكيت.. رأيت علم فلسطين زاهياً بألوانه.. ومعتداً بذاته وبما يرمز إليه.. رأيت علم فلسطين بجوار محمود درويش علي المنصة.. أين؟.. في حيفا.. تذكرت- علي الفور- كيف أسقط المجاهدون الحماسيون علم فلسطين في قطاع غزة.. وكيف داسوا علي صورة الرمز القائد ياسر عرفات.. وكيف رفعوا ولا يزالون علم حزبيتهم ضيقة الأفق وشائهة الهدف والمقصد.. هناك في غزة سقط علم فلسطين بأيدي من يفترض أنهم من حماة الوطن وحماة الرمز- العلم- لقد تصور هؤلاء أنهم انتصروا بل إنهم أكدوا أنهم قد فتحوا مكة من جديد.. علم فلسطين سقط في غزة.. وها هو أمامي وأمام الجميع.. ها هو علم فلسطين في حيفا.. أية مفارقة مؤلمة، تدعو للبكاء حتي لو كنا فقدنا العيون!
ما حرضني علي كبح البكاء أني أحسست أن محمود درويش يعود إلي حيفا، ليعيدنا- ولو من خلال أمل شاحب- إلي فلسطين، بعد أن كنا قد فقدنا اليقين، منذ أن شاهدنا كيف يتحمس فلسطينيون لقتل آخرين، يفترض أنهم وإياهم في خندق واحد، وتمضي بنا الغواية، فيتعاطف منا من يتعاطف مع فريق ضد فريق، لمجرد أن بعضنا يحب راية خضراء، وأن بعضاً آخر يري أن هذه الراية ليست ر مزاً للنفرة، وإنما للانقلاب علي ما كان متوافقاً عليه.
بمجرد أن استمعت إلي أولي قصائده في الأمسية التاريخية الرائعة، أحسست بالفعل، أن محمود درويش يعيدنا إلي فلسطين، بعد أن كنا قد فقدنا اليقين.. إني أعرف بل أحفظ هذه القصيدة.. أتذكر كيف غمرتني بالعزة والعنفوان عندما قرأتها للمرة الأولي.. إنها القصيدة التي يؤكد فيها الشاعر الفلسطيني- العربي- العالمي محمود درويش: علي هذه الأرض ما يستحق الحياة .. لن استشهد هنا بأبيات من هذه القصيدة.. يستطيع الذين لم يقرأوها من قبل أن يقرأوا ديوان ورد أقل .. لكن ما أحسست به أن كل الحاضرين كانوا كأنهم يقولون لمحمود درويش: نعم يا حبيبي.. نعم.. علي هذه الأرض ما يستحق الحياة .
من القصائد التي استقبلها الحاضرون بتصفيق متواصل، بمجرد أن قال مبدعها عنوانها، قصيدة أنا يوسف يا أبي لكني لاحظت أن محمود درويش لم يشأ أن يقرأ السطر الأخير منها، تجنباً لما قد يقوله الجهلاء والحاقدون الموتورون الذين تخصصوا في التهجم عليه بمناسبة أو بغير مناسبة، وبحكم متابعتي لأمسيات محمود درويش فإني أعرف أنه لا يحب إعادة إلقاء أبيات يستحسنها الجمهور، وبالتالي فإنها تتطلب إعادة، لكن الشاعر العظيم خرج عن هذه القاعدة التي يتبعها، عندما صفق الحاضرون تصفيقاً متواصلاً له، بعد أن قرأ المقطع الذي يشير فيه إلي دلالات اسمه الأول محمود فقد أعاد الشاعر قراءة هذا المقطع، ليعود إلي جو القصيدة التي لم تكن قد اكتملت، فماذا قال محمود :
… ميم/ المتيم والميتم والمتمم ما مضي
حاء/ الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان
ميم/ المغامر والمعد المستعد لموته.. الموعود منفياً، مريض المشتهي
واو/ الوداع، الوردة الوسطي..
ولاء للولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال/ الدليل، الدرب، دمعة دارة درست، ودوري يدللني ويدميني..
وهذا الاسم لي…
.. ها هو الواقعي يمتزج ويختلط في قلبي وذاكرتي مع المتخيل والمستعاد.. أحسست- فجأة- أن هؤلاء الحاضرين الذين يملأون قاعة المسرح من أوله إلي آخره ومن اليسار إلي اليمين ليسوا وحدهم.. أحسست أن آخرين يستمعون إلي محمود درويش.. لكنهم لم يدفعوا ثمناً لتذاكر الحضور.. ولم يكن أي من هؤلاء جالساً مع الجالسين.. هؤلاء أجمعين غير مرئيين.. هؤلاء أجمعين ترفرف أرواحهم في فضاء المسرح.. هؤلاء أجمعين كانوا من رفاق محمود درويش عندما كان يبدأ خطواته الأولي، وينشد سجل.. أنا عربي في هذه المدينة التي غاب عنها- فيما بعد- ما يقرب من أربعين سنة.. من هؤلاء الذين أحسست أنهم يستمعون إلي محمود درويش.. إميل حبيبي- توفيق زياد- غسان كنفاني- فدوي طوقان التي زارت حيفا بعد نكسة يونيو - حزيران 1967 .. وهناك شاعران لم ألمح وجهيهما في الأمسية، لكنهما- بالتأكيد- كانا يتابعان ويستمعان ويستمتعان.. هما سميح القاسم وسالم جبران.. هكذا نقلني المتخيل والمستعاد من زمان إلي زمان.. لكن المكان وحده ظل علي حاله، رغم محاولات تغيير هويته.. المكان هو حيفا التي تستعصي علي النسيان، رغم أني لست من أبناء فلسطين.
أعتز بأني أعرف محمود درويش وبأني أحبه وأقدر الشاعر فيه، وقد أختلف أحياناً مع طبيعة الإنسان فيه… رأيته منذ اليوم الأول لوصوله إلي القاهرة، عندما حملني أستاذي صلاح عبدالصبور رسالة إليه.. كان هذا سنة 1971 وإن كنت لا أذكر اليوم ولا الشهر علي وجه التحديد، فأنا أكتب الآن اعتماداً علي الذاكرة.
أعرف محمود درويش.. لكني لم أكن أعرف فنانين فلسطينيين عربيين من أبناء حيفا.. وكان مما أسعدتني به الأمسية الشعرية التاريخية أني عرفت هذين الفنانين المبدعين في فن يتآخي مع فن الشعر، وهو فن الموسيقي.. لقد عزف هذان الفنانان الأخوان- كما فهمت من التقديم- عزفاً رائعاً علي العود وقد رافق محمود درويش في الأمسية، كما كانا يريحانه لبعض الوقت من عناء القراءة المتواصلة التي امتدت لنحو ثلاث ساعات، دون أن يحس أحد من الحاضرين بذرة من ذرات الملل.. وكان محمود درويش رائعاً عندما فضَّلَ أن يختم الأمسية بمقطع من قصيدة رائعة له، مبثوثة ضمن ديوان لماذا تركت الحصان وحيداً؟ .. حيث يصور المقطع البديع قيثارتين تبكيان زمان الأندلس، وهنا أشار الشاعر العظيم إلي الفنانين الفلسطينيين العربيين اللذين يحمل كل منهما العود .. وأخذ ينشد أبيات المقطع، ويتوقف قليلاً لتقول الموسيقي من خلال العودين ما تود أن تقول.
استمتعت بأمسية محمود درويش.. بكيت.. تماسكت.. أحسست بعروبتي.. عدت لفلسطين.. صفقت طويلاً مع من صفقوا من الحاضرين.. سأظل أردد: علي هذه الأرض ما يستحق الحياة .
كنت قد كتبت هذا المقال بعد أن تابعت أمسية الشاعر العظيم محمود درويش وأعيد اليوم نشره تزامنا مع صدور ديوانه الجديد عن دار رياض الريس وهو بعنوان : لا أريدلهذه القصيدة أن تنتهى
التعليقات (0)