مروة كريدية من دبي: العوْد إيقاع الكون نفسه وتأكيدٌ على أن ما بعد الحياة قائم وان غابت الاجساد ، و الشاعر الوجودي قصائده دومًا ذات نهاية مفتوحة على ممكنات لا تحصى ، تبقى مفتوحة ليكملها القارئ كما يرى ووفق خبرته كما يشاء. هكذا العظماء يدونون ويرحلون عن عالم الحس ويعودون عبر إبداعاتهم و بأقلام غيرهم وأصوات الآخرين فيولد من حس شاعر مئات الشعراء على مرّ العصور.
رقصة تراثية فلسطينية
لم يرحل محمود درويش كي يعود بل تغيّر حضوره ربما، وان غاب البدن فروحه دومًا حاضرة عبر قصائده، عبر قضيته الانسانية، وعبر كل من أحبوه درويش المُكرم الحاضر في أول مهرجان دولي عربي للشعر في أرض النخيل والخيل من البيداء حيث ولد الشعر وفي "بيت الشعر" الذي ملأ اركانه الجمهور والشعر والغناء، وربما بالحنين وبعض ما تيسر من بكاء على من علموا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
كل شيء مساء أمس كان يوحي باحتفالية تليق باسم صاحبها، فالجمهور لم يأت باكياً بل فرحاً مبتسماً في أناقة واضحة، فلم يكن هناك صوت رثاء أو مرثية، بل احتفالية حضر فيها الغناء والشعر بكثافة تليق بمن علّم الحروف معنى الكتابة والحضور. بدأت الأمسية التي أقيمت تحت عنوان "درويش في حضرة الغياب"، التي تأتي ضمن الأمسيات الخاصة والمميزة في فعاليات مهرجان الشعر بحضور أقرب إلى الهمس من الشاعرة الإماراتية المعروفة نجوم الغانم، التي كان أداؤها كمقدمة للفعالية متناغماً مع طبيعة الحدث وجسراً يربط بين الفقرات بما يكمل النص الاحتفالي.
حبها لشعر درويش كان واضحاً، وحزنها على غيابه كان أكثر وضوحاً، فكانت تضبط نفسها، أو نضبطها مرات تغالب الدمع بالقصيدة لتعود إلى الاحتفال منتشية بما تقدمه من صور الحياة الطالعة من أرض درويش ورمل قصائده.
غانم زريقات يتلو قصيدة لم تُنشر لدرويش
و قدم صديق الراحل درويش غانم زريقات كلمة تعريفية بمن لا يحتاج إلى تعريف، فقال: نحتفل اليوم بالحاضر الغائب محمود درويش الذي استحق لقب شاعر العرب في مهرجان الشعر الذي عقد في القاهرة في العام2007 ولقب ملك الشعر في مهرجان عالمي عقد في مقدونيا في العام نفسه.
وأضاف: "إن شاعرنا كان يردد دائماً أنه في حاجة إلى بعض الوقت ،لأنه لا يزال يختزن الكثير من الشعر الذي يتبنى قيم الحب والحرية والجمال".
وقرأ زريقات مقطعاً من قصيدة لدرويش لم تنشر بعد منها:
من قال حين تكون الطفولة
تغتسل الأبدية من النهر زرقاء
فلتأخذيننى إلى النهر
سيأتي إلى ليلك النهر
حين أضمك يأتي إلى ليلك النهر
رفيق علي أحمد وبروين حبيب أداء مميز
وبعد ذلك أدى المسرحي اللبناني المعروف رفيق أحمد علي والشاعرة والإعلامية البحرينية بروين حبيب مقاطع من شعر درويش من أهمها قصيدة عابرون في كلام عابر.
جانب من الحضور
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسمائكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى - ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا.. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا.. من بحرنا
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!..
جاهدة وهبي تغني قصائد درويش والبرغوثي يستعيد الفراق
وفي الحفل تألقت المطربة اللبنانية المعروفة جاهدة وهبي في تقديم أغنيات من قصائد محمود درويش فجعلته، بصوتها القوي وإيقاع موسيقى عازف القانون العراقي أسامة عبد الرسول، حاضراً بقوة تمزج الفرح بالمخلوقات والبحر الذي يحيط ببيت الشعر بحنين إلى درويش، وهو الحنين الذي جعل شاعراً كبيراً مثل مريد البرغوثي يغادر القاعة للحظات بعدما غلبته دموعه، إذ ذكرته الأغنية أو بيت شعر مما غنته جاهدة بأن درويش مات وكأنه يسمع النبأ للمرة الأولى ..
ما فعله البرغوثي كان حاضراً في عيون الجميع رغم طابع الاحتفال بالحياة، فالدمع كان حاضراً بقوة، وإن ألجمته العيون لتمنح للقلب فرصة للفرح بالحياة الذي حرض عليه درويش في كل شعره. قدمت جاهدة في بداية الاحتفال مقطعاً من قصيدة الجدارية، ثم قدمت بعد أن ألقى رفيق أحمد علي وبروين مقطعاً من قصيدة الغياب، ومقطعا ثانيا من الجدارية، وبعد ذلك ألقى الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم قصيدتين، الأولى أهداها إلى درويش وقال فيها:
ما مات من ألقى قصيدته
ثم مات
ما مات من قال أصعدوا روحي جهراً
ثم اهبطوا سراً عصي الفهم
أو فهما عصي السر
تعرفه
وتنكره الجهات
..ثم قال فيها أيضا:
محمود نم
يا أيها الطفل الشقي
أرح يديك من القلم
كم كنت تهوى الرمل
ها أنت أقرب ما تكون إليه
فلتحتضنه
وليحتضنك
علً شجيرة بالحب
تنمو فوق قبرك
تطرح الزيتون والرمان
من هذا الألم.
زاهي وهبي والجواز الفلسطيني
ثم قدم إبراهيم قصيدة أخرى تحية إلى غزة، وشهدائها الأبطال. أما الشاعر والإعلامي اللبناني زاهي وهبي، فقد قدمته نجوم الغانم قائلة:" إن وهبي كان صديقا مقرباً من محمود درويش، وقد حاوره كثيراً في برنامجه التلفزيوني الشهير "خليك بالبيت"، وأوصى درويش الرئيس الفلسطيني بمنح وهبي جواز سفر فلسطيني، فكان وهبي أول عربي يحصل على الجنسية الفلسطينية".
وهبي قدم قصيدتين إحداهما تحية لدرويش والأخرى إلى حورية أم درويش.
الأولى كتبها وهبي في عام 2003،وقال الشاعر اللبناني قبل أن يلقي قصيدتيه: "تعلمنا أن نحب الفلسطيني شهيداً وضحية، وفي هذه القصيدة أقول لمحمود درويش ولكل فلسطيني نحبك كما تشاء وكما تحب أنت أن تكون"، ومن أجواء القصيدة:
لك أن تفعل ما تشاء
صدقني
يليق بك الصيف
مثلما يليق بك الشتاء
لك أن تقاتل
لك أن تغني
أن تطلق غزالة
من أسر الخيال
و من أجوائها أيضا: َ
حبك للحياة
جدير بالحياة
وأخطاؤك الصغيرة
لا تستحق الاعتذار
إذاً
لا تعتذر عما فعلت
وامش كما تشاء.
ثم غنت جاهدة مرة أخرى إلى غزة، وقالت بصوت يحرض ويمتع في آن :
جاهدة وهبي تغني درويش
غداً لن يبقى من الجدار
سوى أثر الجدار
غداً لن يبقى من الحصار
سوى أثر الحصار
وتتهاوى غربان الفولاذ
وتصبح مصفحاتهم خردة
وعلى نجمة الضغينة يدوس
طفل من فلسطين
وأعادت الجملة الأخيرة عدة مرات بانتشاء حرًض الحضور على التصفيق طويلاً.
وما أن همست المطربة المتألقة تجاوب الجمهور الكبير معها حتى صرخت صرخة درويش الشهيرة بالحياة، وكأنها تقول: درويش لم يمت فمن قال كلمات كهذه لا يموت:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة
على هذه الأرض
سيدة الأرض
أم البدايات
أم النهايات
كانت تسمى فلسطين
صارت تسمى فلسطين
سيدتي ــ استحق
لأنك سيدتي
استحق الحياة
واشتعل المكان صخباً من فرح وكأنه جاء خصيصاً ليسمع تلك الدعوة ويستجيب لها ويستحق الحياة، وكان التصفيق ربما لروح الشاعر وأداء المغنية وعزف القانون أو ربما للحالة كلها.
خيري منصور يحذّر من استغلال درويش
وقدم الشاعر والكاتب المعروف خيري منصور كلمة قال فيها إن لكل منا محمود ولكل منا ما يقوله لمحمود ويغني له، وحذر ممن رأى أنهم يستغلون درويش، وأكد أن لدرويش حضوراً أكبر من كل قصائده، فوراء درويش عوامل كثيرة شعرية، وإنسانية وثقافية احتشدت فيه لتجعل منه ما نعرفه جميعاً.
وفي الختام ألقت الشاعرة السودانية المعروفة روضة الحاج قصيدة عن محمود درويش، تحدثت إليه فيها عن كل الحيل التي تعرفها لتتجنب البكاء، ولكن كل حيل عكا نفدت في تجنب الدمع عندما غاب درويش فبكت.
http://www.elaph.com/Web/Knowledge/2009/3/417240.htm
التعليقات (0)