محمود درويش : الظاهرة الأدبية التي لا تُعوّض :
أن تكتب عن محمود درويش الظاهرة الأدبية الكبرى العربية والعالمية التي لا يمكنها أن تعوض والتي لا يمكننا أن نجد مثيلا لها في شعرنا العربي عامة , لأن تجربته الشعرية تميزتْ بالكثير من الخصائص تفتقدها الكثير من التجارب الشعرية العربية الأخرى التي سبقته , أو ستأتي من بعده . ظاهرة درويش الشعرية التي طبقت الآفاق ووصلتْ حدود العالمية وفرضت على الأعداء والأصدقاء احترامها والاهتمام والكتابة عنها والبحث في حيثياتها الفنية والشعرية المتدفقة بالأحاسيس الراقية والأليمة التي رافقت الشاعر في حياته داخل وطنه أو خارجه .
عندما تكتبُ عن محمود درويش يجبُ أنْ تمتاز بقراءة نقدية عز نظيرها في سماء النقد والفكر وبذلك لا يحق لمَنْ لا يقدر على قراءة قصيدة درويش التي تتميز بالكثافة والتفوق اللغوي والقدرة على رسم الكلمات بطريقة بديعة وأسلوب رشيق. وما قررتُ أن أكتب عنه إلا لأنني لم أستطعْ أنْ أتجاهله وأتجاهل شعره وتجربته الشعرية الكبيرة التي أضافتْ إلى الأدب والشعر العربيين الكثيرَ , واستطاعتْ أنْ تصل قصيدته بهذه المكونات البلاغية والفنية إلى العالمية والكونية. ويحقّ لي - كما أعتقد – أنْْ أشارك كل الكتاب والشعراء والنقاد القليل من هذا الإحساس في الكتابة عن قامة أدبية وشعرية كمحمود درويش رغم أنني أتعاطى النقد وأمارسه في مشواري الأدبي والفكري وهذا ما سمح لي أنْ أدخلَ غمار هذه التجربة الصعبة لأنني سأكتب عن قامة شعرية وأدبية استطاعتْ بفكرها الفذ وبأسلوبها الشعري الرائع والجميل أن تكسبَ كل أصناف القراء والمتلقين بكل طبقاتهم الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية , وهذا يحسبُ له لا عليه. ولأول مرة نجد شاعرا وأديبا يجمعُ كل الفئات المجتمعية بمختلف توجهاتها تجتمع على حبّ شعره وأدبه الراقي، وسيكون من المجحف أنْ يتجاهل الشاعر محمود درويش انطلاقا من هذا اليوم لأنه كان بحق شاعر العرب والقضية الفلسطينية والمستضعفين في الأرض والعالم .
ألم يقل هو الشاعر الكبير في قصيدته "خطب الدكتاتورالموزونة" إلى الشعب المستضعف؟ :
فلا حق في دولتي للتجمع، حيا أو ميتا
لئلا يثير الفسادا
ولا حق للموت أن يتمادى
ويقضم نسياننا الحر منا
....
ناموا كما لم تناموا
غدا تصبحون على الخبز والخير ناموا
غدا تصبحون على جنتي
فاستريحوا وناموا...
في هذه القصيدة حاول الشاعرُ أنْ يأخذ موقع الدكتاتور العربي الذي يخاطبُ شعبه بطريقة فيها الكثيرُ من الإهانة والقليل من الاحترام والاعتبار. ومن هنا نجدُ أنّ شاعرنا المتميز والكبير قد جازف بموقعه ووضع نفسه مكان دكتاتور لا يشقّ له غبار في ملكوته الذي لا ينازعه عليه أيُّ أحد يخطب في الشعب كأنه إلهٌ أو نبي مفوه، ولم يكن للشاعر أنْ يقدمَ على هذه الخطوة لولا معرفته اليقينية أنّ جمهوره ومحبيه سيتفهمونه في هذه الخطوة المحسوبة.
يبقى شاعرنا العظيم محمود درويش شاعر القضية العربية الأولى وقضية المسلمين في كل العالم , شاعر استطاع أنْ يقول فيها ما لم يقله أي شاعر آخر في قضية تبناها أو عاش وقائعها ومسبباتها ونتائجها، فقد عاصر الاحتلال لأرضه وقيام دولة من الشتات على أنقاض أهلها وسكانها ومقدساتها العظيمة التي بقيتْ شامخة رغم كل الأفعال الشيطانية التي قاموا بها ويقومون بها يوميا لتشويهها وتشويه معالمها.
لشاعرنا القدرة على إيصال الفكرة شعريا وفنيا ونثريا , فأغلبُ دواوينه كانتْ بمثابة فكر ورؤى نظرية وفلسفية للعديد من الأفكار والمسلمات التي يؤمنُ بها العربُ اليوم َ. فالوحدة الثقافية والقومية والدينية كانتْ بارزة في قصيدته، والدعوة إلى خلق الوسائل القادرة على تغيير القدر العربي الذي جعل العربَ في مؤخرة الترتيب , وفي وجه النار دون مقاومة , اللهم بعض الحركات في هذا البلد أو ذاك , أو من هذه الفئة أو تلك. وهذا ما كان يحز في نفسه , وهو يرى واقعا عربيا مهترئا وتراجعا حضاريا وقيميا واضحا حتى غدا العربُ مجردَ رقم في عالم اليوم لايقام لهم أيُّ حساب خلافا لما كان في زمان آخر ولى بدون رجعة.
في القدس، في رثاء إدوارد سعيد، من دروس كاماسوترا بفن الانتظار، السروة انكسرتْ، لا أنام لأحلمَ ، مقهى وأنت مع الجريدة، جدارية، حالة حصار، .... وغيرها من مئات القصائد الرائعة التي تميز فيها الشاعر وتمكن فيها من رصد الكثير من اللحظات والوقائع والأحداث في أمته وفي عالمه المليء بالمتناقضات وبالأحداث الدامية والعنفية التي رصدها بروعة شعرية وفنية بالغة الجمال والإبداع الراقي.
عندما تستمعُ إلى درويش الشاعر , وهو يُلقي قصائده بطريقة , وبأسلوب رائع وموسيقا قلَّ نظيرها عند أغلب الشعراء، ومن المعروف أنّ الشاعر يتميز بقراءته الجميلة لقصائده التي تجلبُ الكثير من الجمهور والمتتبعين والمتلقين الذين يزيدون أمسياته رونقا وروعة. ولا يمكنُ تجاهلُ الحضور الكثيف لأمسياته في كل البلدان التي يحييها فيها , حتى ولو ارتفع ثمنُ التذكرة , بل ما يثير الإعجاب هو حضورُ الناس البسطاء الذين يجتهدون في توفير المبلغ المطلوب لحضور أمسياته.
كُتبتْ عن الشاعر الكبير محمود درويش العديدُ من الكتب والدراسات والمقالات النقدية والأدبية التي تناولت تجربته الشعرية من كل النواحي , ومن كل الجوانب الفنية والشعرية واللغوية والبلاغية.... ولا يمكن حصرُ هذه الكتابات لكثرتها وقدرتها على معالجة دواوين الشاعر , وكتبه النثرية العديدة التي نشرت بكل أنواع وسائل الإعلام المختلفة وفي كل البلدان العربية وغير العربية. ومن خلال مطالعتنا لموقع محمود درويش الغني بكل ماكتب عنه وبالعديد من قصائده وعناوين دواوينه وكتبه نستطيع أنْ نقولَ بأنّ ما كتب عن درويش حول تجربته الشعرية والأدبية الرائعة التي تركت آثارا قوية لدى كل الفئات , ولدى كل القراء العرب وغير العرب وذلك بترجمة بعض نتاجاته إلى العديد من اللغات الغربية وغير الغربية.
في قصيدة "أنت منذ الآن غيرك" رؤى فلسفية وفكر حضاري ووعي بالوجود وبالموت والتاريخ، وعي بالماضي والحاضر والمستقبل، وعي بالسبب والنتيجة، وعي بالمكان والزمان، ووعي بقدرة بديعة على تصوير الحياة والموت كثنائية متنافرة في الوجود، هذا التنافر الذي يستطيع الشاعر من خلاله أنْ يسردَ علينا حكايات الوجود في زمان غير الزمان ومكان غير المكان، حيث يقول :
أيها الماضي ! لا تغيرنا... كلما ابتعدنا عنك !
أيها المستقبل: لا تسألنا : من أنتم؟
أيها الحاضر ! تحملنا قليلا، فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!
هذه الرؤية الفلسفية لمراحل زمنية ولتاريخنا المليء بالمتناقضات , التي أوجعتنا وأمرضتنا وآلمتنا كثيرا حتى صرنا مجردَ عابري سبيل ثقلاء الظل في حاضر لا أمل في أنْ نتغير , أو نصلح من أنفسنا وذواتنا وواقعنا المريض. هذه الرؤية التي استحضرها هنا شاعرنا الكبير كانتْ بمثابة هزة أرضية ضربتنا جميعا.
ونختم هذه القراءة البسيطة في ذكر شاعرنا الكبير والعالمي محمود درويش بمقطع رائع مليء بالحكم والرؤى والواقعية الأليمة من قصيدته " أنت منذ غيرك " :
لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني
أنصارهم العلمانيون، وأنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلا بدين وحيد:
صورهم في التلفزيون!.
سألني: هل يدافع حارس جائع عن دار سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية
في الريفيرا الفرنسية أو الإيطالية.. لا فرق؟
قلت: لا يدافع !.
وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟
قلت: أنت وأنت أقل من واحد !
لا أخجل من هويتي، فهي مازالت قيد التأليف، ولكني أخجل من بعض ما جاء
في مقدمة ابن خلدون.
أنت، منذ الآن، غيرك!
عزيز العرباوي
كاتب
التعليقات (0)