رحل محمود درويش...بعد تجربة شعرية عربية فريدة...تجربة ارتبطت بالقضية العربية الأولى...فلسطين...رحل درويش وفي نفس شيء من فلسطين...لكنه خلّف بعد رحيله مسارا شعريا عظيما وحافلا بالإبيداع والتميز...عصافير بلا أجنحة...أوراق الزيتون...عاشق من فلسطين...آخر الليل...مطر ناعم في خريف بعيد...يوميات الحزن العادي...يوميات جرح فلسطيني...حبيبتي تنهض من نومها...محاولة رقم 7... أحبك أو لا احبك ...مديح الظل العالي...هي أغنية ... هي أغنية...لا تعتذر عما فعلت...عرائس...العصافير تموت في الجليل...تلك صوتها وهذا انتحار العاشق...حصار لمدائح البحر...شيء عن الوطن...
أعيد نشر إدراج كنت كتبته قبل مدة، وهذا الرحيل القسري يربكني ولا يسعفني في شيء غير البكاء...
من منّا لم يغير لون قميصه أكثر من مرة؟؟؟...في البدء كان الأحمر يستهويك و يأخذ عقلك ويجتاح تلابيب قلبك إلى أن يتمكن منها حد استعبادها، لكنك تفيق من نومك العميق ذات صباح جديد لا يشبه صباحاتك المعتادة على عشق جارف يشدك إلى الأخضر شدًّا...وحين نسألك طامعين في فك رموز هذا التغير المفاجئ ترد علينا بدم بارد: الأحمر يحيل إلى الدم والقتل والفتك والحرب والحقد والمقت، قد بت أتوق إلى الأخضر الزاهي مثلما أهفو إلى السلام والأمان و الحب...أن نقتنع أو لا نقتنع، تلك مسألة لا تعنيك كثيرا ما دمت أنت مقتنعا ومؤمنا إيمانا راسخا باختيارك الجديد...أن لا نقتنع أمر يخصنا نحن دون سوانا، أما أنت يا صاحب الجبهة القاسحة فماض في شطب كل مفردات قاموسك القديمة واستبدالها بأخرى جديدة تليق بك وبعالمك الجديد...كل شيء يناقش إلا الأذواق و الألوان...وبهذا تكون قد أوصدت الباب في وجه كل من سولت له نفسه كيل العتاب و اللوم لك...فلماذا يتغير كثيرون آلاف المرات تغييرا، لماذا يتبدلون تبديلا ولا يقبلون تغيُّر الآخرين وتبدلهم؟؟؟...لماذا يقفزون بلا حياء و لا حشمة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين من دون أن يحاسبهم أحد منا؟؟؟...لكنهم يصرون بالمقابل على إقامة الدنيا ويرفضوا أن يقعدوها إذا تزحزح الآخر من مكانه ولو لشبر واحد...
في غمرة عالم متغير، متجدد ومتحرك لا يستكين ولا يهدأ، يصر كثيرون على أن يلزموا أمكنتهم التقليدية، ويفرضون على أنفسهم الإقامة الجبرية داخل حصن قناعاتهم المنيع، يتنسكون في محراب مواقفهم...وكأنهم لم يتّعضوا من كل حكم حكاية أهل الكهف، ولم يستنبطوا منها العبر والدروس...
دعونا نقر بأننا نعيش صراعا مريرا وشرسا على جبهتين اثنتين متضادتين أومتناقضتين حتى...نواجه الأولى التي تصر كما الظلام على أن تغرقنا في أتون ماض سحيق غطاه شعر اللحى المتدلية مثل عناقيد العنب الحامض، ماض لم يعد صالحا حتى لصنع سلة المهملات...ونواجه الثانية المصرة على أن تسكننا حصنها المنيع الذي يصعب علينا ونحن بداخله أن نصل إلى العالم، كما يصعب على العالم الوصول إلينا...وحين نتمرد على الأولى ونحاول مجابهة المتمترسين خلفها نُتّهم بالكفر والزندقة والعلمانية والإلحاد، وحين نكرُّ باتجاه الثانية عازمين على هدم حصنها الحصين على رؤوس من يسكنه من عبدة شيطان الوهم العابث بسيرورة التاريخ ومجراه نُتّهم بالعمالة والخيانة والرجعية والتراجع والتخاذل...
بهذا نكون قد شكلنا جبهة ثالثة مناقضة للجبهتين الأولى والثانية، وخصصنا لأنفسنا موقعا وسطيا من دون أن ندري، لكننا نخاف أن نُحسب على المعتدلين الجدد كما أبدعتهم الأيديولوجية الأمريكية المعاصرة، هؤلاء الذين لبسوا لبوس الواقعية السياسية فتفننوا في بيع الثوابت التي قامت عليها القضية كمرتكزات رئيسة غير قابلة للمساومة والمقايضة...
فماذا يصنع محمود درويش في زحمة هذه التجاذبات؟؟؟...ما الذي ينتظر منه في عالم متغير، متجدد و متحرك دائما؟؟؟...في زمن انتهت معه القضية إلى الباب المسدود...
هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا : نحن استثناء !
!أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك
(...)
!أيها الماضي ! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك
أيها المستقبل : لا تسألنا : مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف.
(...)
أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين : إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا !ننسى
!أَيها الحاضر ! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل ()
ماذا تبقى لمحمود درويش بعد أوسلو وما تلاها أن يصنع من مواقف؟؟؟...كلكم تغيرتم...جميعكم غيرتم ألوان بشرتكم...كلكم قلبتم الجاكيط...وحين حنّ درويش إلى حيفا بعد خمس وثلاثين عاما من الغياب، وحين هفا قلبه إلى من احتضنت ولادته الأدبية و تبلور فيها وعيه السياسي، وحين قرر العودة – ولو للحظات – إلى حيه القديم الذي فارقه طويلا، طويلا، طويلا...حين عزم على إحياء أمسية شعرية بقاعة الـأوديتوريوم في حيفا المعارضون إعلانا ضد درويش وزيارته، رافعين شعار سجل أنا عربي، وسعر بطاقتي خمسون.. شيكل، في إشارة إلى ثمن بطاقة الدخول بالعملة الإسرائيلية...هذا درويش الشاعر الفحل الذي قدم القضية إلى العالم بشكل لافت، ونجح في إقناع كثيرين بتبنيها والدفاع عنها، كان مدافعا شرسا صلبا أفضل من كل هؤلاء الذين يتهافتون على كراسي السلطة الكسيحة في غزة و الضفة...
(...)
لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم !النبي الجديد
!ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا
(...)
درويش يعيش ضمن محيط غير مستقر، يتنفس المستجدات و المتغيرات كما الأوكسجين، يجلس على الأريكة كل صباح ليطالع جريدته المفضلة، يتابع ما يجري...حرب الخليج الأولى...اتفاقات أوسلو...سلطة فلسطينية...أحداث الحادي عشر من سبتمبر...نظام عالمي جديد...صراع الحضارات...الحرب على الإرهاب...تنظيم القاعدة...عزو العراق وسقوط بغداد...الفوضى الخلاقة...اغتيالات بلبنان...استهداف لسوريا...القواعد العسكرية الأمريكية بالخليج...فوز حماس في الانتخابات...اقتتال داخلي...اقتسام القطاع والضفة...
عناوين كبرى لابد وأن درويش توقف عند كل واحد منها وهو يرتشف قهوة الصباح، يطالع جريدته، مستكشفا مجريات الأحداث، متسلحا برؤية السياسي المحنك فيه، ليتيقن من حقيقة أن العالم قد تغير من حوله...ينهض درويش من على أريكته، يحتسي ما تبقى له من قهوة، يقذف بالجريدة بعيدا، يهرول مسرعا نحو مكتبه، يتناول قلما أحمر، يفتح مجلد أعماله الشعرية الكاملة، ويشرع في خوض مراجعة جريئة، قائلا: أن البداية هي انفجار في الوعي للبحث عن صياغة لنفسي، وعن أسلحة مباشرة للدفاع عن نفسي، أما الآن فالقضية أكثر تعقيدا، أنا لا أومن بالدور المباشر للشعر، الآن أعي أن الشعر لا يقوم بدوره بشكل مباشر، يحقق دوره في سياق تاريخي بطيء، وقتها كنت أعتقد أن بإمكان الشعر أن يغير العالم ...الآن صارت القضية أكثر تعقيدا... يبدو الشاعر هنا مختلفا عما كان عليه في البدايات...لم يعد الشاعر يكتب قصائد واضحة كما كان، ولم يخلد للصمت يوم لم يعد البسطاء يفهمون معاني قصائده، والسبب في ذلك أنه يرى أن الشاعر أصبح، الآن يعي : أنه ليس منقذا وليس مخلصا وليس مسيحا وليس نبيا ، فهذه كانت صفات الشاعر الرومانسي ،فإن الشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتع بعزلته وبكونه معزولا لكي تتاح له فرصـة أن يعيد النظر في فرديته وفي ذاته ، دون أن يكون على حساب القطيعة مع المجتمع... لقد كتب قصائد راسخة في ذاكرة الجمهور «سجّل أنا عربي» و «جواز السفر» تلبية للنداءات الداخلية والخارجية ...القصيدة السياسية بنظر درويش لم تعني له أكثر من خطبة...قد تكون جميلة أو غير جميلة. إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه الى مهنته وليس فقط الى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غداً غضباً، تعبيراً عن أمر ما...وها هو يصرخ عاليا: أنت منذ الآن غيرك، احتجاجا على ما حدث بقطاع غزة مؤخرا...
إن فهمه للعالم الجديد واستيعابه الجيد لتطوراته ومتغيراته قاداه إلى تصحيح مساره الإبداعي الشعري...فهل عيب أن يراجع الشاعر مساره ويصححه كي يستمر ويبدع؟؟؟...هل عيب أن يكتشف – وهو يبحث بين متونه – نصوصا ما كانت جديرة بالنشر؟؟؟...كيف يمكن الفصل القسري ما بين الإبداع و الوعي السياسي؟؟؟...من يستطيع الجمع بين تجدد وعيه وتغيره وبين احتفاظ إبداعه بنفس النهج؟؟؟... السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً من هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبر عن هذه السياسة. كل إنسان فينا مسكون بهاجس سياسي، ولا يستطيع أي كاتب في أي منطقة من العالم أن يقول: أنا نظيف من السياسة. فالسياسة هي شكل من أشكال الصراع، صراع البقاء وصراع الحياة. ومن طبيعة الأمور أن يكون هناك سياسة. والسؤال هو: هل تكون القصيدة سياسية أم أن عليها أن تحمل في كينونتها بعداً سياسياً؟ أو هل هناك إمكان لتأويل سياسي للنص الشعري أم لا؟ أما أن تكون القصيدة عبارة عن خطاب مباشر بتعابير مستهلكة ومستنفدة وعادية فهذا لم يعد يعني لي شيئا...ومع ذلك أقام بعض المشدودين إلى أيام عز الزمن الأحمر الدنيا ولم يقعدوها...لماذا يتغير محمود درويش؟؟؟...لماذا يتراجع؟؟؟...كيف يقوم بعملية مراجعة لمتنه الشعري؟؟؟...ربما أمعنوا في انتقاده و التحامل عليه حتى حدود التشكيك في كل مساره و نعته بالاستسلام والانبطاح والتخادل...إن أكبر درس تعلموه من التاريخ أنهم لم يتعلموا من التاريخ...
قصيدته الأخيرة: أنت منذ الآن غيرك
التعليقات (0)