الجابري والشعر التونسي
سنة 1975أصدر الكاتب و الروائي الراحل محمد صالح الجابري كتابا سيكون هو الأول من نوعه في تونس ؛ وهو الأول من نوعه ليبس لأنه في ستة أجزاء ؛ وليس لأنه موسوعي النزعة ولكن لأنه يتصَّدى لمشكلة من أعمق وأخطر المسائل في الثقافة التونسية ألا وهي مسيرة الشعر التونسي خلال قرن من الزمن ؛ فالشعر التونسي وإلى وقت صدور كتاب الجابري لم يحظ بدراسة معمقة منهجية تستقصي مراحل تطوره وتبحث في إشكالياته الفنية تُجلي مختلف تشكلات أساليبه وتستنطق مضامينه وتبحث في مفاهيمه ضمن دراسة شاملة من منظور البحث النقدي الذي يهجس بسؤال تشكل طرق القول الشعري وأسس جمالية هذا القول على اعتبار إن الشعر مرقى جمالي أولا وبالأساس ؛ هذا إضافة لما تضمنه الكتاب من تراجم ومختارات لشعراء ممن ظلوا مغمورين مجهولين لدى القارئ التونسي رغم مساهماتهم المتعددة وإثرائهم للمكتبة الشعرية التونسية ؛ لن يختلف اثنان في القيمة التاريخية والانطولوجية والأدبية لمنجز صاحب ’’ البحر ينشر ألواحه,’’ والأكيد وإنه وإن حمل على عاتقه مهمة انجاز هذا المشروع الموسوعي فذلك أولا لحبه الكبير للشعر وهو الذي ابتدأ مسيرته الأدبية كشاعر وثانيا كشكل من أشكال التعبير لحبه لتونس إيمانا منه إنها بلد الإبداع والعطاء الفني . والكتاب فعلا موسوعة ضخمة ليس فقط لمن يحتاج إلى معرفة تطورات الشعر التونسي وتراجم شعرائه ولكنه أيضا صفحات من تاريخ تونس منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين فهو يرصد أهم التحولات السياسية متوقفا عند انعكاساتها وتأثيراتها على الجانب الاجتماعي و علاقتها بالجانب الثقافي عموما وخاصة الجانب الفكري وهو مادة ثرية تعكس أهم الأحداث السياسية في تونس وما صاحبها من تحولات فكرية دونما ان يغيب عن ذهن الكاتب التوقف مليا وبعمق عند الأسباب التي ساعدت على النهوض بهذا الفكر وإيقاده وتحريك سواكنه بما يجعله مواكبا للتحولات الحضارية أو يبحث عن دواعي التحجر والعوامل التي كانت وراء تخلف وتراجع هذا الفكر ليربط كل هذا بمسيرة الشعر التونسي ومختلف مراحل تطوراته والبحث في القوادح التي كانت وراء إيقاد شعلة النهضة بأساليبه أو مضامينه وتقصّى عوامل انتكاساته ومن ثمت مراجعة الأسباب التي كانت وراء هذه الردات فعصفت برياح التغيير وجمدت حركة التجديد في شرايينه .
سوف يعتمد الجابري استراتيجية خطية في اقتفاء بدايات الشعر التونسي منذ 1870إلى 1970وهو ما اقتضى خطة أفقية اعتمدت التاريخانية ملتزمة بالمسار الزمني حيث جاءت فصول الكتاب الخمسة وفية للتسلسل الزمني في تواتره الكرونولوجي لذلك عمد صاحب ’’ ليلة السنوات العشر’’ الى تقسم الفصول تقسيما زمنيا جاء كالآتي:
الفصل الأول من 1869إلى 1881
الفصل الثاني من 1881إلى 1914
الفصل الثالث من 1914إلى 1934
الفصل الرابع من 1934إلى 1940
الفصل الخامس من 1943إلى 1970
يرى الجابري أن انطلاقة الشعر التونسي كانت بطيئة محتشمة يكاد يكون لا صدى لها قد هيمن عليها محمود قابادو الذي وفق هذا الكتاب هو الأب الروحي للشعر التونسي المعاصر رغم أنّ هذا الشاعر لم يكن له أثر يذكر على من جاء بعده أو من عاصره (والكاتب لا يذكر شيئا عن معاصريه) فلقد كان شاعر بلاط الأساس وأغلب شعره كان في الباي هو شاعر البلاط بامتياز موظّفا أغلب شعره في مديح الباي وحاشيّته بل إنه إنحاز لهذا الأخير ضد ثورة علي بن غذاهم وانتصر لظلم الباي على حساب إرادة الشعب ولعلّ هذا واحد من الأسباب التي جعلته بلا حظوة عند من سيأتي بعده من المثقفين عموما أو الشعراء ولو ان الجابري لن يذكر موقف الشابي منه ولذلك سوف تأتي الفترة التالية يهيمن عليها شاعر سيحدث حوله سجال حتى بعد موته
فالحضور اللافت للأستاذ خزندار غطّى على جميع معاصريه رغم أنّه سليل العائلة الأميرية وهو الذي حسب رأي الكاتب:" أسّس شعر الالتزام".
هكذا كانت بدايات الشعر التونسي يتجاذبها طرفان متناقضان من حيث الغرض الشعري دونما اهتمام لعنصر الفنيّة أو انشغال بضرورة التجديد في أساليب الكتابة وهو ما لن يجد صدى له إلاّ في بدايات القرن الماضي كأفكار وليس بإبداع وفق ما سيؤكده الجابري من خلال تصفحه لجرائد ومجلات ذلك العصر حول الشعر العصري إذ يقول: ’’ من الواضح الآن إن الشعر التونسي أتم شيئا من مقوماته انطلاقا من السنوات العشر الأولى إذ تحددت خلال هذا الطور المفاهيم الأساسية ( للشعر العصري ) بين الدعوة إلى مساوقة الحضارة الأوروبية وبين التحريض على التحرر والثورة ’’ ص 93
وفق هذا المنهج الخطي يواصل الجابري استعراض سيرة الشعر التونسي من خلال التوقف عند أهم رواده وبعد أن يشير في شيء من التوسع إلى الشاذلي خزندار ومصطفى آغا يخوض في عصر الشابي ضمن فصل تحدد عنده بست سنوات من 34 الى 40 ويراه ممثلا في ’’ الثالوث الرومنسي ’’ الحليوي والبشروش والشابي رغم انه يعود ليقول ’’ ويبدو من العسير تصنيف الشابي من الرومنسيين فهو رومنسي على طريقته ’’ ولأن عصر الشابي هو عصر ازدهار الشعر التونسي الحقيقي بامتياز فسيتوقف الجابري أيضا عند محمد العريبي ومحمود بيرم التونسي وفي الفصل الأخير ينزع صاحب ’’ ليلة السنوات العشر ’’ إلى تصنيف الشعراء التونسيين وفق المدارس : الكلاسيكيون : المختار الوزير مصطفى خريف ؛ أحمد اللغماني
الغنا ئيون : نور الدين صمود ؛ جمال الدين حمدي ؛ زبيدة بشير
شعراء الحلم والواقع : ابن الواحة ؛ محمد العروسي المطوي ؛ على شلفوح
الواقعيون الاشتراكيون: الميداني بن صالح ؛ مصطفى بحري ؛ أحمد القديدي منور صمادح .
يبقى السؤال ؛ إلى أي مدى نجحت إستراتيجية الجابري في تقصي مراحل تطور الشعر التونسي خلال قرن من الزمن وهل هذه المنهجية الخطية وفقت في فهم آليات وطرق أداء الشعر التونسي مضمونا وأسلوبا فالجابري الذي انطلق في موسوعته من فكرة مفادها أن الشعر التونسي نشأ ’’نشأة تعاطفية بعيدا عن ريح المدارس’’ نجده ومن عصر الشابي يبدأ في التصنيف اعتمادا على ريح المدارس وربما الالتزام بالمسلك الخطي هو جعل الجابري يربط مصير الشعر التونسي بالواقع والحركة الوطنية والاستعمار وهب النظرية التى ترى في الأدب انعكاسا لواقع وتمثلا له وهو ما دفعه أن يقرر قائلا :
’’وشعرنا التونسي ؛ كله شعر من الواقع وعن الواقع لما فيه من تقريرية ومباشرة أما في حقيقة الأمر فيصعب أن ننسبه إلى المدرسة الواقعية وحتى إلى الواقعية الاشتراكية ’’ ص624.
ولئن وجدت نظرية الأدب مرآة للواقع صدى لها في منتصف القرن الماضي ووجدت في جنس الرواية تجاوبا معها فإنه لا يمكن إطلاقا تعميمها على الشعر بما هو فعل إبداعي إنساني معقد النشأة والتكوين تتضافر عدة عناصر من أجل توليده وعملية ربطه ربطا ملزما بالواقع إنما هي في الحقيقة محاولة للي عنقه وخنقه وقطع الأوصال التي يتنفس بها ولسوف تكفي إطلالة واحدة علىى قصائد بعض الشعراء ممن ذكرهم الجابري لنكتشف إنها لم تكن واقعية مية بالمية سواء وفق نظرية لوكاتش ومن جاء بعده أو وفق التصور العام للأدب الواقعي بما هو تسجيلي توثيقي فهل تستجيب قصائد الحليوي والبشروش والشابي والعريبي ومن بعدهم خريف والوزير وصمود وجمال الدين حمدي هل تستجيب لنظرية الأدب الواقعي فاغلب إشعارهم يمكن أن تُصنف ضمن الوجدانيات العاطفية كالحليوي والبشروش وجمال الدين حمدي هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فالجابري وهو يقرر في مقولته السابقة أن الشعر التونسي تقريري مباشر انما ينزع عنه صفة الفنية الإبداعية وبالتالي يعدم فيه أهم شرط من شروط الشعرية لكن لا اعتقده مقتنعا بهذه النتيجة التي انتهى إليها انما هي المنهجية الخطية التي أوصلته إليها طالما إنها أشبه بعملية مسح جيولوجي لخارطة الساحة الشعرية التونسية وهو ما نتج عنه إهمال الجانب الفني والإنصات لنبض القصيدة من الداخل ورصد تحولاتها الجمالية ولئن توقف الجابري عند رأي أورده عبد العزيز المسعودي في مجلة السعادة العظمى سنة 1904’’ ولكتاب الأفرنج ومن قلدهم من كتابنا المعاصرين من أساليب غير متعارفة من قبل في الكتابة الشعرية منها استعمال ’’ الشعر في النثر ’’ للأسف لم يتبع الجابري هذا الخيط الذي كان سيصل به إلى نتائج مختلفة تماما من حيث تأمل تحولات بنية القصيدة في الشعر التونسي وأسلوب تعاملهم مع اللغة الشعرية وطريقة معالجتهم لمضامينهم, والجابري الذي أظهر حسا نقديا في معالجته لقصائد بعض الشعراء مثل مصطفى آغا فاعتبر قصائده موغلة في السردية لغتها بعيدة عن الشعر ورأى في قصائد البشروش ترصيفا للكلام كان بإمكانه أن يستثمر هذه الطاقة لديه وهو الذي بدأ شاعرا في أول مسيرته الأدبية وتوقف عن ذلك لحساب السرد عملا بنصيحة الشاعر الراحل منور صمادح ؛ أقول كان بإمكان الجابري أن يقرأ مدونة الشعر التونسي من منظور نقدي بدل الجرد الإحصائي والأكيد إن القراءة النقدية الفاحصة كانت ستبحث في مدونة الشعر التونسي وتتبع مراحل تشكل القصيدة عند الشعراء الرواد وما كانوا يهجسون به من أسئلة جمالية واختبار الأدوات الفنية و أساليب تحكيك القصائد وهو ما كان سيجنب الجابري الوقوع في خلط تعداد بعض الكتاب ممن برزوا في أجناس أدبية أخرى ضمن الشعراء من مثل : الحليوي والبشروش والمطوي وتخصيص صفحات مطولة لهم في حين تمَّ إغفال تجربة الشعراء الرواد من حركة الطليعة من مثل صالح القرمادي و جماعة في غير العمودي والحر من مثل الطاهر الهمامي مختار اللغماني والحبيب الزناد وهؤلاء هم من قاموا بالحركة الانقلابية الثانية في الشعر التونسي بعد الشابي من حيث أساليب قوله وطرق توليد المعنى فيه و أحسب ان المنهج الخطي هو الذي ضغط على الجابري في قراءته هذه للشعر التونسي المعاصر فجاءت قراءته أحصاء عوض التفحص والتامل التحليل ومقارنة النتائج .
غير إن كل هذا لن ينقص في شيء من قيمة المجهود الكبير الذي أنجزه الراحل باعتباره أول عمل موسوعي يتصدى لتأريخ الشعر التونسي ولعل مزيته الكبرى إنه جهَّز مادة خام يعود اليها الدارسون للبحث في اشكاليات الشعر التونسي وهو ايضا مرجع مهم لدراسة الشعر التونسي الحديث بعد السبعينيات .
ربيع قفصة 2010
التعليقات (0)