لا شك أن برنامج الاستاذ محمد حسنين هيكل الأسبوعي في محطة الجزيرة أستولى على إهتمام وإعجات الرأي العام العربي وأنا شخصيا من الحارصين على متابعثه وقد إستفدت منه الكثير .فالد كتور هيكل علم ساطع في عالم الصحافة العربية والعالمية وهو أعرف الناس عما حدث في فترة الرئيس عبد النا صر لعلاقته الشخصية به ,ألا أن برنامجه في الجزيرة كان مخيبا للأمال, إن سرده التاريخي للأحداث رغم تلاعبه بالمستندات التي يشير أليها في غير مواضعها لم يكن بالأسلوب العلمي الصحيح أو حتى بالأسلوب الصحفي المحايد . ومع إحترامنا للرئيس عبد الناصر وحبنا الكبير له كأعظم زعيم عربي عرفه العرب طوال تاريخهم المعاصر ألا أننا نومن بأن لكل إنسان أخطاءه وعبد الناصرله أخطأ كثيرا وأخطأه كلفته الكثير . وكتابة التاريخ لا يجب أن تتأتر بالعواطف . وهيكل حاول الدفا ع عن عبد الناصر وعهده الذي هو أحد أركانه بإندفاع وأراد أن يحول هزيمة سنة 1967 إلى إنتصار في معارك الأستنزاف وإعداد الجيش المصري تمهيدا لأنتصار الجيش المصري في سنة 1973 بقيادة الرئيس السادات بفضل جمال الرئيس عبد الناصر . لا أريد التعرض لكل تفاصيل سلسة الحلقات التي أذاعها الأستاذ هيكل على قناة الجزيرة الخاصة بمصر والبلاد العربية فهناك من المصريين والعرب من هم أعرف مني بدقائق الموضوع . ولكنه في الحلقات القليلة السابقة تعرض ألى إنقلاب الفاتح من ستمبر في ليبيا في 1 ستمبر 1969 وسرد قصصا خيالية لتشويق القارئ العربي , ولم يأتي بمستندات صريحة واتى باقوال عامة فسرها كما يرى . وكل من إطلع على الوثائق البريطانية والامريكية التي نشرت بعد مضي 30 سنة عليها يعرف جيدا أن ما قاله الاستاذ هيكل إنشاء وبعيد عن الحقيقة . وسأتعرض في تعليقي على نقطتين وهما مدى صحة إستخدام قاعدة الملاحة الأمريكية في الهجوم الأسرائيلي على مصر سنة 1967 ومدى صحة تعرض ثورة الفاتح من ستمبر لتدخل بريطانيا وأمريكا للقضاء عليها أو حتى مجرد وجود تفكير أو إعداد لمثل هذا التدخل .
أولا- قصة الاستاذ هيكل عن إشتراك أمريكا من قاعدة الملاحة في الهجوم على مصرسنة1967 لم تتبت صحتها في جميع الوثائق البريطانية والأمريكية التي نشرت حتى الأن . كما أن الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت الذي كان على علم بكل تحركات الطائرات والسفن الامريكية في المنطقة لم يؤيد هذا الادعاء , ولو لاحظ أي تدخل أمريكي في المعركة بين مصر وإسرائيل لقامت الدعاية السوفييتية ولم تقعد لأستغلالها على أوسع نطاق . ويحاول الاستاذ هيكل بهذا الادعاء التقليل من قدرة إسرائيل على الضرية القاصمة التي وجهت لمصر في الساعات الأولى للمعركة ودفاعا عن النظام السياسي المصري الذي خدمه واشترك فيه . والحقيقة أن ليبيا عندما طلبت جلاء القوات الأمريكية عن جميع قواعدها في ليبيا سنة 1964 وافقت أمريكا على مبدأ الانسحاب وطلبت من ليبيا إعطائها مهلة لأيجاد مكان مناسب لقاعدتها في الشرق الاوسط وقد وافقت ليبيا على إعطاء المهلة على أن يتم الأنسحات قبل إنتهاء الاتفاقية التي كانت في سنواتها الاخيرة . كما طلبت الحكومة الليبية مقابل ذلك إنشاء جهاز مراقبة للجيش الليبي داخل قاعدة الملاحة لمراقبة هبوط وإقلاع الطائرات الامريكية وعدم إستعمالها ضد أية دولة عربية كما تنص الأتفاقيات ,كما أن الرئيس عبد الناصر تدخل وطلب من الحكومة الليبية رسميا عن طريق وزير خارجيتها ورئيس وزرائها أنذاك أعطاء أمريكا المهلة المناسبة التي طلبتها بحجة أن أمريكا دولة عظمى يحتاجها العرب لأيجاد حل للمشكلة الفلسطنية وقد تنقل قاعدتها العسكرية في ليبيا إلى إسرائيل أو تضع مزيدا من الضغوط على مصر .ولهذا لم يكن في إستطاعة أو رغبة أمريكيا خرق إتفاقيتها مع ليبيا التي ترتبط معها بعلاقات صداقة ومصالح كبيرة . كما أن قيام الطائرات الامريكية بحملة تدريب وهجوم على مصر وإستخدام طيارين من إسرائيل كما يقول هيكل لا يمكن أخفاءه على الجهاز العسكري الليبي في مطار الملاحة أوعلى المطارات الليبية الأخري المنتشرة في طريقها إلى مصر. والأستاذ هيكل قد لا يعرف أن قاعدة الملاحة تقع في وسط مدينة طرابلس وسكانها على علم بكل ما يجري فيها وافراد القوات الأمريكية يسكنون بين السكان ويترددون على الأسواق والأماكن العامة في لباسهم المدني . أما إحتجاج ضباط الجيش الليبي على الأعتداء الأسرائيلي وعلى أمريكا وبريطانيا اللتين أتهما صوت العرب بالتدخل المباشر في العدوان مع إسرائيل فقد كان تضامنا مع الشعب الليبي كله الذي وقف موقف رجل واحد ضد الأعتداء الأسرائيلي وأشتراك أمريكا وبريطانيا فيه حسب ما أذاعه صوت العرب وأيده راديو عمان في الساعات الأولى للأعتداء. وقد نفت بريطانيا وأمريكا هذه التهمة رسميا ألى الحكومة الليبية في مذكرة من السفيرين الأمريكي والبريطاني سلمت للحكومة الليبية في الدقائق الاولى للأعتداء . ورغم أصرار السفيرين على نشر النفي في وسائل الأعلام الليبية أسوة بما ينقله صوت العرب من تهم لهما تردد ت الحكومة الليبية في الساعات الأولى للاعتداء في إذاعة النفي البريطاني الأمريكي إنتظارا لظهور الحقائق التي لم تطل فقد أعلن راديوعمان بعد ساعات تصحيح ما أديع عن إشتراك الطيران الامريكي والبريطاني في الأعتداء الأسرائيلي من الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط وبأنه غير صحيح وعندئد فقط أذاعت إذاعت ليبيا التكذيب البريطاني الأمريكي حماية لأرواح المقيمين الأجانب في البلاد . ومن السخافة أن يعتقد أحد أن أمريكا وبريطانيا كانتا مستعدتان للمخاطرة لوضع ليبيا في مثل هذا الموقف الحساس الذي يسئ إلى علاقاتهما الوطيدة ومصالحهما المشتركة. وبريطانبا وأمريكا يعرفان أن الليبيين شعبا وحكومة يكنون لمصر وللرئيس عبد الناصر خاصة كل إحترام وإجلال ويعتبرون الدفاع عن مصر دفاعا عن بلادهم مهما كانت الأختلافات . بالأضافة إلى ذلك أن أمريكا ليست في حاجة إلى إستخدام طائرات من مطار الملاحة على بعد أكثر من ألفين كيلومتر من مصر وكان في إمكانها إذا أرادت التدخل إستخدام قواعدها في البلاد الاخرى المجاورة والقريبة أو من أساطيلها الضخمة التي تحيط بالمنطقة العربية . ومن الساعات الأولى للاعتداء أوقف إقلاع الطائرات الامريكية من مطار الملاحة إلا في حالات الضرورة بطلب ليبي. لقد ذكر الأستاذ هيكل في أول كلامه بالمستندات أن الضربة الأسرائلية خططت في جنوب إسرائيل والطياريون الأسرائليون تناولوا طعام الأفطار مع قائدهم قبل الضربة في ذلك اليوم , وجاءت الطائرات الأسرائلية على علو 50 مترا على سطح البحر تجنبا للرادار المصري وهو بهذا يؤكد بأن الطائرات الأسرائلية جاءت من إسرائيل .أما إشارة الاستاذ هيكل الى ملاحظة الجنرال ديجول للسفير المصري في باريس فلم تكن تأكيدا لمشاركة أمريكا في الاعتداء بل هو أنتقادا لسياسة أمريكا ودعمها لأسرائيل وهو شئ ليس سرا ومعروفا للجنرال ديجول .ان هزيمة حرب يونيو1967 ليست مسئولية عبد الناصر وحده بل هي مسئولية كل الدول العربية ومنها ليبيا كما أن الرئيس عبد الناصر نفسه أكد مرارا حرص ليبيا ملكا وحكومة وشعبا على عدم سماحها للأمريكان والبريطانيين بأستخدام قواعدهما ضد مصر سنة 1956 1967. .
أما النقطة الثانية فهي تعرض الاستاذ هيكل لثورة ليبيا سنة 1969 فقد حاول الاستاذ هيكل أن يعطي الفضل للرئيس عبد الناصر لحماية الثورة الليبية من التدخل البريطاني والأمريكي بالتحفظ على الملك إدريس في مصر حتى لا يستغل كشريعة قانونية للتدخل لقمع الأنقلاب الليبي رغم إعتراف الاستاذ هيكل بأن الأنقلاب كان مفاجأة لمصر ولم يكن لها دور فيه. وحقا أن إنقلاب ستمبر كان مفأجاة للجميع وحتى لمن قاموا به كما ظهر في وسائل الأعلام وحتى في الوثائق التي نشرت حتى الان , رغم تشكك بعض الوثائق حول من هو وراء هذا الانقلاب . وأن حدوثه بهذه السهولة والسرعة والأدوار الأجنبية فيه لازالت لم تعرف ولم تكشف رغم مضي 40 سنة عليه لاسباب كثيرة . فالكلام على ليبيا أصبح موضوعا حساسا في الدوائرالأوربية وفي وسائل الاعلام بما في ذلك حجب الوثائق السرية في ما نشر من مستندات ووثائق تحسبا لأمكانيات ليبيا البترولية والمالية وخوفا من الأضرار بالمصالح الغربية فيها .
وقصة تنازل الملك إدريس عن الملك ليست لها علاقة بالثورة الليبية فهي عادة قديمة للملك يعلنها كلما أراد الأحتجاج على الحكومة أو أية حركة شعبية . أما إعتراف الملك بالأنقلاب فلا أساس له من الصحة . ورغم أن الملك طلب مساعدة الرئيس عبد الناصر في إطلاق سراح إبنة الملكة بالتبني وسكريتيرتها إلا أن هذه الحادثة لها أبعاد إنسانية ولا دخل للسياسة فيها . والملك إدريس لم يقرر الذهاب إلى مصر ألا في نوفمبر بعد اكثر من شهرين من قيام الانقلاب بعد إعتراف جميع دول العالم بالوضع الجديد في ليبيا. ولو كانت أمريكا وبريطانيا تريدان التدخل للقضاء على الأنقلاب لكان عندهما الأمكانيات والوقت الكافي للتحرك بشرعية من الملك أو بدونها . لكن الحقيقة أن سياسة بريطانيا تحت حزب العمال الحاكم لم تعد تهتم بوجود قواتها في المنطقة ومنذ حرب 1956 قررت بريطانيا إنسحاب قواتها من منطقة شرق السويس وأمتد هذا الانسحاب بعد حرب 1967 إلى قواعدها في ليبيا وقبرص . ولهذا عندما طلبت ليبيا إنهاء المعاهدة الليبية سنة 1964 رحبت بريطانيا بذلك وسارعت إلى سحب كل قواتها من بنغازي وطرابلس في أقل من سنة وأبقت قوات قليلة في مطار العدم بطلب من الملك نفسه وحماية له. وحكومة العمال البريطانية لم يكن لها أية رغبة في التدخل في أية حركة ثورية في ليبيا أو في أية بلاد عربية أخرى بعد حرب السويس. وقد أعربت الحكومة البريطانية لممثل الملك إدريس الذي زار لندن بعد الأنقلاب عدم قدرتها على التدخل وأنه على الملك الأتصال بامريكا إذا أراد المساعدة لانها المسئولة عن الامن الغربي في المنطقة . رغم أنه روي عن الملك إنه قال انه لم يكلف مندوبه هذا رسميا بطلب المساعدة من بريطانيا ضد لثورة الليبية وهذه سنة الملك إدريس في نفي أي تدخل له في شئون البلاد السياسية بحجة أنها مسئولية الحكومة وأنه يملك ولا يحكم !!؟. وعندما نقلت الحكومة البريطانية رغبة الملك هذه ألى الأدارة الأمريكية طلبت منها أمريكا عدم التدخل بتاتا فيما يجري في ليبيا لأنه ليس هناك حاجة إلى التدخل لان رجال الأنقلاب تعهدوا باحترام الأتفاقيات الدولية والعقود البترولية وسلامة المواطنين الأمريكيين والاجانب ونفذوا هذا العهد فلم تتعرض الجاليات الأجنبية والمصالح الأمريكية والبريطانية والغربية لاية خطر وبهذا انتهت عملية الحاجة الى التدخل الغربي في ليبيا ليس خوفا من مصر أو رد فعل الشعب الليبي كما ذهب هيكل في حلقاته للجزيرة وقد ورد كل هذا في الوثائق البريطانية والأمريكية التي نشرت ولم يعد سرا. بالأضافة إلى ذلك أن إمريكا بعد أن تفردت بنفوذها في منطقة الشرق الأوسط شجعت الأنقلابات العسكرية على الأنظمة التقليدية الملكية في مصر والعراق واليمن والسودان وسوريا وأحتضنتها بسياسة الجزرة والعصا خوفا من إنقلايات شيوعية كانت كل الدول العربية معرضة لها . ولهذا لم يكن لأمريكا أو بريطانيا أية رغبة أو إعداد مسبق للتدخل في تلك الفترة ضد أي إنقلاب أو ثورة في ليبيا أو أي بلاد عربية اخرى خاصة بعد ضعف التيار الناصري في العالم العربي بعد حرب 1967 . وقد أوضحت الوثائق البريطانية والأمريكية التي نشرت في تقارير السفراء ونتائج المحادثات الثنائية بينهما قلق الحكومتين من تردي الاوضاع في ليبيا , وعدم سيطرة الحكومة الليبية على البلاد وعلى الجيش وقوات الامن, ومرض الملك إدريس ورغبته في التنازل عن العرش والشكوك السائدة بعدم قدرة ولي عهده حسن الرضا على السيطرة على البلاد في حالة تنازل أو موت عمه الملك , والخلافات المعروفة في الجيش الليبي , ونشاط الحركات الشيوعية والقومية والبعثية , وعدم وجود هياكل شعبية مدنية كالأحزاب تتولى توجيه الحكومة ودعمها في حالة قيام أية حركة إنقلابية ضدها .ولهذا كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية تتوقعان وترحبان بأية تغييرات غير شيوعية في ليبيا وقيام حكومة قوية تحافظ على مصالحهما البترولية والتجارية الضخمة فيها .
التعليقات (0)