محمد بوضياف هوأحد مفجري الثورة الجزائرية وأحد أعضاء نواتها الأولى والذي غاب عن الجزائر لمدّة ثلاثين سنة قضى أغلبها بمدينة القنيطرة، فرارا من حكم إعدام صدر في حقه من طرف حكومة أحمد بلّة باعتباره عنصر خطير على الأمن القومي الوطني.
ويعتبر محمد بوضياف أحد آباء الثورة الجزائرية، بدأ مشواره النضالي منذ ثلاثينات القرن الماضي وكان من قياديي التنظيم العسكري التابع لحزب الشعب الجزائري الذي أسسه في 1947 لإعداد الثورة الجزائرية. وبعد انكشاف أمر هذا التنظيم من طرف السلطات الاستعمارية دخل محمد بوضياف في السرية واختفى عن الانظار.
كما ساهم في فاتح نوفمبر 1954 في تأسيس جماعة 22 الثورية للوحدة والعمل وكذلك اللجان الست التي فجرت ثورة التحرير الجزائرية رفقة أحمد بن بلة ورابح بيطاط ومحمد خيضر وكريم بلقاسم وحسين آيت أحمد والعربي بن مهيدي وغيرهم. وحسب الدكتور يحيى بوعزيز، فإن محمد بوضياف تمكّن من انقاذ الجزائر ثلاث مرّات على الأقل.
الأولى في سنة 1954 حينما اشتد الصراع بين الأحزاب وانقسم التيار الاستقلالي على نفسه، فساهم محمد بوضياف في حسم الموقف لصالح حتمية الثورة.
والثانية في سنة 1964 بعد الاستقلال بعامين حينما فضّل المنفى الاختياري خارج الجزائر حتى لايشارك في الصراع الداخلي الناشب بين ثوار الأمس غداة الاستقلال.
والثالثة كانت في 1993 استجابة للنداء الوطني بعد إقالة الشاذلي بن جديد.
ففي عهد أحمد بن بلة أُعدم العقيد شعباني كما أُغتيل محمد خيضر في اسبانيا. وتم اعتقال محمد بوضياف في 1963.وحكم عليه بالاعدام. وبعد تدخل العديد من الوسطاء أفرج عنه وسافر إلى باريس ومنها إلى مدينة القنيطرة حيث قضى فيها قرابة ثلاثين سنة قبل أن تستغيث به المؤسسة العسكرية في الجزائر ليكون رئيسا للجمهورية خلفا للشاذلي بن جديد.
ويقول محمد بوضياف عن اعتقاله أنه كان بطريقة بشعة حيث كان يتجول في الشارع وجرى إلقاء القبض عليه ثم حكم عليه بالاعدام بتهمة التآمر على أمن الدولة. وبعد تدخل بعض الأطراف واعتبارا لماضيه النضالي أُطلق سراحه. ثم هاجر إلى فرنسا حيث أسس حزبا معارضا اشتراكي التوجه، كما ألف كتابه الشهير: الجزائر إلى أين؟ لكن بعد فترة قصيرة قام بإلغاء الحزب وفضل الإقامة بمدينة القنيطرة ( المغرب) حيث أقام مصنعا لصناعة الآجور الكائن بالقرب من قنطرة أولاد برجال. وقد كان محمد بوضياف يؤكد على الدوام دعم المغاربة غير المشروط للثورة الجزائرية.
فمن المعروف أن الثورة الجزائرية اندلعت في وضع سياسي جزائري يتسم بالتعددية الشكلية. وكانت بعض الأحزاب الجزائرية آنذاك ترى عبثية الثورة وتراهن على ضرورة الاندماج الكلي في المجتمع الفرنسي (المجتمع الأم) حسب النخبة الفرانكفونية في ذلك الوقت. كما أن الثورة الجزائرية كانت فقيرة جدا في البداية من حيث انعدام الذخيرة الحربية والسلاح، إلا أنها كانت آنذاك تحتضن شعبا قابلا للتضحية والفداء. وكان اعتمادها في البداية على جملة من البلدان وعلى رأسها المغرب ومصر. وكان المغاربة من الأوائل -شعبا ونظاما- الذين ساندوا الثورة الجزائرية وكانت المقاومة المغربية تتخلى عن نصيبهامن المساعدات العربية لفائدة الثورة الجزائرية. ومختلف شهادات مفجري الثورة الجزائرية تؤكد بجلاء على دعم ومساندة المغرب والمغاربة للثورة الجزائرية ضد فرنسا والحلف الأطلسي.
وكان محمد بوضياف يحلم بجزائر قوّية تعتمد على نفسها وتعمل على تحقيق الأهداف الكبرى التي سطرتها ثورة التحرير بفضل دماء مليون ونصف مليون شهيد، ومن ضمنهم مغاربة وتونسيين وبعض العرب، إلاّ أن الواقع كان خلاف ذلك بالتمام والكمال، حيث أن رفاق الأمس بلغهم التمزق إلى حدّ قرب اندلاع حرب أهلية بالجزائر. وهذا مادفع رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدّة إلى الانسحاب من الساحة في وقت مبكّر. وهذا ما أبرزه بجلاء محمد بوضياف في كتابه: الجزائر إلى أين؟ وهو كتاب خصصه لمعالجة مصير الثورة الجزائرية والخلل الذي انتاب مسيرتها. ألّفه في ستينات القرن الماضي بعد سنتين من استقلال الجزائر، وذلك عندما كان مقيما بباريس قبل توجهه إلى مدينة القنيطرة بالمغرب.
وخلافا لمحمد بوضياف ظل أحمد بن بلة يتهم دوائر في الرباط بأنها كانت وراء الوشاية به عندما غادر المغرب متوجها إلى تونس عبر طائرة مدنية مغربية. وهي الطائرة التي انطلقت من العاصمة المغربية وكانت تقل بعض قادة الثورة الجزائرية(أحمد بن بلة، محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، حسين آيت احمد ) متجهة إلى تونس لكن طائرات حربية فرنسية أرغمتها على الهبوط بمطار الجزائر العاصمة. وقد اعتبرت هذه العملية أوّل عملية قرصنة جوية من نوعها.
وكان محمد بوضياف بالقنيطرة بالمغرب محط رعاية العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، كما كان محل احترام وتقدير كل القنيطريين. وقد تمكّن بعمله وجهده من تحقيق ثروة تكفل له ولأبنائه وزوجته العيش بكرامة. ولذلك لما عُيّن على رأس المجلس الأعلى للدولة في مطلع سنة 1992 رفض أن يتقاضى راتبا تأكيدا على نزاهته ورغبته في اخراج الجزائر من الأزمة.
فبعد ان تمت الموافقة الشعبية على الدستور الجديد في فبراير 1989 انتظر الجزائريون عودة محمد بوضياف، كما فعل أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد. إلاّ أن بوضياف صرح أنّه لا يثق بالديمقراطية كما هو متحدث عنها بالجزائر آنذاك و لا بالمشروع الديمقراطي. آنذاك كان محمد بوضياف قلقا جدّا على مصير الجزائر. وجاء إعلان الحصار في 4 يونيو 1991 ليؤكد ما أقر به محمد بوضياف من أن الديمقراطية الجزائرية كانت شكلية آنذاك.
إذن في الوقت الذي عاد فيه رموز المعارضة إلى الجزائر شكك محمد بوضياف في مصداقية الديمقراطية ورفض العودة إلى بلاده. وبعد أن احتدت الأزمة أجرى الجنرال خالد نزار اتصالات بمحمد بوضياف ودعاه إلى الجزائر لمدّة 24 ساعة. وتم تكليف علي هارون (وهو صديق قديم لبوضياف) باللقاء به بمدينة القنيطرة بالمغرب. وقد حاول أهل بوضياف بالقنيطرة عن ثنيه لقبول الدعوة لتولي الرئاسة باعتبار ذلك ينطوي على مخاطر جمّة.
فعلاوة على المتاعب السياسية والأمنية وجد محمد بوضياف وضعا اقتصاديا مزريا ومديونية بلغت 26 مليار دولار إضافة للديون العسكرية. وكل هذا في ظل كساد الزراعة والمؤسسات الانتاجية وتفاقم البطالة والاختلاسات بالجملة. الشيء الذي سهّل على المنظمات المالية الدولية فرض جملة من الشروط القاهرة على البلاد. وهذا في وقت كانت فيه الدماء تراق في جميع أرجاء البلاد.
أقنع الجيش محمد بوضياف بضرورة العودة إلى الجزائر التي كانت على وشك الغرق. علما أن قادة الجيش الجزائري آنذاك كانوا يرغبون في الواقع في درء الزلزال باللجوء إلى شخصية محورية في ثورة التحرير الجزائرية معتقدين أن شرعية محمد بوضياف في امكانها إلغاء الشرعية الانتخابية. لكن تمت تصفيته بعد 166 يوما فقط من عودته.
لقد خرجت اللجنة الاستشارية، التي كانت تضم رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الخارجية الأخضر الابراهيمي ووزير الداخلية العربي بلخير ووزير الدفاع خالد نزار (علما أنها هيئة استشارية دستوريا)، بفكرة الرئاسة الجماعية (المجلس الأعلى للدولة)، والذي يتكون من خمسة أعضاء: محمد بوضياف رئيسا وخالد نزار وعلي كافي وعلي هارون وتيجاني هدّام. لكن بمجرد الاعلان عنه اعترضت عليه القوى السياسية باعتباره غير دستوري. وكان الاستنجاد بمحمد بوضياف لتغليب شرعيته التاريخية على الشرعية الملغاة بقرار المؤسسة العسكرية بعد فوز الحركة الاسلامية بالانتخابات.
و عندما عاد محمد بوضياف إلى الجزائر في أواسط يناير 1992 اعتبرت بعض الأوساط السياسية الجزائرية أن عودته في ذلك الظروف كانت غير مناسبة. وقد قال البعض بصددها مقولة تداولها الجميع آنذاك وهي “الرجل المناسب في الوقت غير المناسب”. عاد محمد بوضياف إلى الجزائر في وقت كانت فيه تلتهب وتتهاوى وسط صراع مرير بين مؤسسة الجيش والجبهة الاسلامية للانقاذ. وأدى هذا الصراع إلى تفجير الأوضاع وانتشرت الاضطرابات في جميع أنحاء البلاد.
في 15 يناير 1992 على الساعة الخامسة مساءا وصل محمد بوضياف إلى مطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة بعد غياب دام أكثر من 28 سنة. وبمجرد أن لمست قدماه أرض الجزائر صرح قائلا: جئت لإنقاذ الجزائر. وفي مساء ذلك اليوم وجه محمد بوضياف خطابا للشعب الجزائري جاء فيه أنه سيعمل على إلغاء الفساد والرشوة ومحاربة أهل الفساد في النظام وإحقاق العدالة الاجتماعية وطلب من الشعب مساعدته ومساندته ودعمه في أداء مهامه. آنذاك أبرقت إليه الجبهة الاسلامية للانقاذ لتحذيره من مغبة تلويث سمعته التاريخية ودعته لعدم الوقوع فريسة في أيدي الطغمة الحاكمة الراغبة في توظيف سمعته ومصداقيته ونزاهته ورصيده الثوري والنضالي ونقاء مشواره ومساره.
وعندما بدأ الرئيس بوضياف يكشف الفساد والمختلسين، عندها علّق الشارع الجزاري قائلا بأن محمد بوضياف أضحى في خطر محقق.لقد صرح الرئيس محمد بوضياف منذ وصوله إلى الجزائر أنه عاد بعد الفراغ الدستوري الذي نجم عن إقالة الشاذلي بن جديد، وصرح لمجلة روز اليوسف أن السلطة العسكرية هي التي أطاحت بالشاذلي وأن ما وقع بالجزائر هو انقلاب عسكري. وبعد مدّة قصيرة من عودته أخبر الرئيس بوضياف ابنه ناصر بأن الوضع معقد للغاية في الجزائر. هذا ما كان يقوله لنجله ناصر كلما قام هذا الأخير بزيارته في الجزائر العاصمة آتيا من القنيطرة. وبعد الهجوم على رؤوس الفساد في خطبه، أمر الرئيس بوضياف باعتقال مصطفى بلوصيف في قضية اختلاس أموال طائلة من وزارة الدفاع. كما قدم 400 ملفا تتعلق بمختلسي أموال الشعب، كما ظل الرئيس بوضياف يتهجم في كل خطبه وتصريحاته على الجبهة الاسلامية للانقاذ، وسن هجومه على حزب جبهة التحرير الوطني وأمينة العام عبد الحميد مهري الذي كان يعترض على إلغاء الانتخابات التشريعية ويطالب برد الاعتبار للجبهة الاسلامية للانقاذ. وفي آخر أيامه كان الرئيس بوضياف يصف النظام بأنه يسكنه الفساد. وبعد مدة قصيرة من وصوله إلى الجزائر قابل الرئيس بوضياف الملك الحسن الثاني بالرباط في إطار زيارة خاصة ووعده بحل قضية الصحراء بطريقة ترضي المغرب. وقد قيل أن مؤسسة الجيش لم تغفر له هذا الموقف.
وخلاصة القول، لم يقدر رصيد محمد بوضياف التاريخي أن يطفئ لهب الفتنة التي أجهزت عليه بطريقة لم يسبق لها نظير بالجزائر. لقد حاول محمد بوضياف تجنيد الجزائريين حول مشروع وطني موحد لكن اليأس كان قد اسشرى في البلاد. وحاول بعث الاقتصاد الجزائري لكنه اكتشف أنه بيد جماعة من المافيا.
فبعد أن دعى محمد بوضياف لتأسيس التجمع الوطني لم يستجب له إلا بعض المواطنين في عين تموشت ومدينة عنابة، لذلك قرّر التوجه إلى هناك للمزيد من توضيح أفكاره، ولم يرافقه في هذه الرحلة الداخلية إلا وزير الصناعات الخفيفة وبعض صغار المسؤولين.
وفي الساعة الثانية عشر زوالا من يوم 29 يونيو 1992 شرع محمد بوضياف في إلقاء خطابه بالمركز الثقافي بمدينة عنابة، وعندما قال أن الاسلام يحث على العلم انفجرت قنبلة في المنصة الرئاسية فانتصب جندي أمام الرئيس بوضياف وأفرغ رشاشه في جسده. وفي الساعة الواحدة زوالا من نفس اليوم تم الاعلان عن اغتيال الرئيس بوضياف من طرف الملازم مبارك بومغراف أحد عناصر القوات الخاصة. هكذا يكون محمد بوضياف قد عاش بالقنيطرة بالمغرب وعاد إلى الجزائر لانقادها لكنه أغتيل بها.
التعليقات (0)