فقد ذراعه اليمنى في حادثة الصخيرات، وتعلم الكتابة باليد اليسرى، للقيام بكتابة جملة من الدراسات. وحرص على احترام الدولة والمؤسسة الملكية في جميع الأحوال والمراحل مع دأبه على توجيه النقد والمشورة عند اللزوم، وهو أوّل من فكّر في الأبعاد الحقوقية للعمل السياسي بالمغرب.
إنه محمد بلحسن الوزاني، زعيم ومؤسس الشورى، الذي كان يمثل نقيض علال الفاسي من حيث التكوين الثقافي والرؤية السياسية. فالأخير أحد خريجي جامع القرويين النبهاء، المتبحر في علوم الدين وقرض الشعر، بينما كان الوزاني، ذا خلفية قانونية مشبعة بقيم الثقافة الغربية، حيث درس في الجامعات الفرنسية، وأتقن لغة أهلها، وصار يكتب بها في الصحافة. كان الصراع بين الزعيمين حادا مؤثرا على مسار الحركة الوطنية. برزت خلافات الرجلين منذ الانطلاقة الأولى، سواء عند إنشاء كتلة العمل الوطني سنة 1936، التي نحت اسمها الزعيم محمد بلحسن الوزاني نفسه، أو عند نشوب أول خلاف حول قيادة الحركة، واضطرار الزعيم الوزاني إلى الانشقاق وتأسيس الحركة القومية -1937-، أو عند إنشاء حزب الشورى والاستقلال عام 1946 . والمعروف أن محمد بلحسن الوزاني يعتبر أول قائد (زعيم) مغربي يقود حركة التحرير المغربية في بدايتها الأولى، بعد إنهائه الدراسة العليا بباريس، وعودته إلى المغرب.
منشورات okdriss
okdriss.maktoobblog.com/%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%AA%D9%8A/
مسار متألق
يُعتبر محمد بلحسن الوزاني أحد رموز الحركة الوطنية، ازداد في 17 يناير 1910 بفاس، درس بها ومع حلول سنة 1927 هزّ الرحال إلى الديار الفرنسية، وهناك حصل على شهادة الباكالوريا، ثم التحق بالمدرسة الحرة للعلوم السياسية، وهو أول مغربي يحصل على الإجازة في هذه العلوم. كما درس الصحافة والتاريخ.
في فجر ثلاثينيات القرن الماضي توجه إلى جينيف ومكث مع شكيب أرسلان، حيث أصبح عضوا في هيئة تحرير مجلة "الأمة العربية" فبل أن يؤسس جريدته في غشت 1933 والتي حملت اسم "عمل الشعب" ( Action du peuple) وكانت أوّل صحيفة مغربية.
خلافات الزعيمين
حدثان بارزان في تاريخ الحركة الوطنية الحزبية المغربية قبل الاستقلال يرتبطان بالموقف المخالف للزعيم بلحسن الوزاني : الأول أثار جدلا واسعا أكثر، لأنه أدى إلى انشقاق سنة 1937 داخل الحركة .والثاني، رغم أنه لم يكن بنفس الأهمية، إلاّ أن الزعيم بلحسن الوزاني لم يتجاهله عند كتابة المذكرات، وأبى إلا أن يستعيد موقفه من ملابسات المطالبة بالاستقلال، عقب تقديم وثيقة 11 يناير 1944 الشهيرة.
يعتبر الحدث الأول أول انشقاق في صفوف الحركة الحزبية المغربية الناشئة، وقد تضاربت حول أسبابه التفسيرات والتأويلات، ومعظم الباحثين يميلون إلى اعتباره مجرد خلاف شخصي بين محمد بلحسن الوزاني وعلال الفاسي حول من يستحق رئاسة كتلة العمل الوطني، حيث اعتبر الزعيم الأول نفسه هو المؤهل لهذا المنصب للاعتبارات التي ساقها هو نفسه، وأهمها في نظره أن الرئاسة تشريف وليست تكليف، ولا تقيد صاحبها بالعمل المضني والصارم. وتسمح له بقدر من الحرية والحركة في العمل السياسي والخاص، وقد تضاف اعتبارات أخرى كدوره في التأسيس الأول للحركة الوطنية، وتكوينه السياسي والأكاديمي العصري.
وقد حاول البعض الآخر أن يجد تفسيرا آخر موضوعيا، من وجهة نظره، لأسباب الانشقاق، حيث اعتبر أن ذلك يعود إلى التطور الذي طرأ على الحركة الوطنية، وهي تتحول من حركة جماهيرية إلى حركة نخبة وأطر. في حين راح آخرون يبحثون عن أسباب هذا الانشقاق في التنافس بين الزاوية الوزانية، و"زاوية" علماء القرويين الفاسية. واعتبر المؤرخ "ألبير عياش" أن "البعض قد ذهب مع علال الفاسي في تركيزه على العقيدة الدينية والملكية، بينما التف آخرون حول الوزاني، الذي قبل بالشكل البرلماني للحكومة، دون أن تكون له أفكار واضحة ومصاغة بصورة نهائية.
فلمّا بدأ العمل المسلح في خمسينيات القرن الماضي ازدادت خلافات الرجلين، في عاصمة مصر، القاهرة، حيث ادّعى كل من محمد بلحسن الوزاني وعلال الفاسي أنه صاحب الكلمة الأولى في المقاومة. مما جعل الجامعة العربية في وضع مرتبك إذ لم تكن تدري من يستحق الدعم المادي من الأحزاب السياسية المغربية المتصارعة (الاستقلال – الشورى والاستقلال – الإصلاح الوطني)، وهذا ما أكده المهدي بنونة في كتابه "السنوات الحرجة". آنذاك أدلى الوزاني بتصريح نفى فيه أن تكون للمقاومة المسلحة أية علاقة سياسية بالأحزاب السياسية واعتبرها حركة قومية صميمة وحركة نضالية شعبية. إلا أن علال الفاسي كسب المعركة وأزاح منافسه – محمد بلحسن الوزاني – من طريقه بعد توقيعه اتفاقية مع ممثلي جبهة التحرير الجزائرية لإشعال الثورة في شمال المغرب وتنسيق الكفاح ضد الجيش الفرنسي إلى أن يتحقق للبلدين (المغرب والجزائر) الاستقلال التام.
واستمر هذا الصراع بين الحزبين وزعيميهما بعد الاستقلال. وقد أدى التنافس يوم 23 مارس 1956 إلى حدوث نوازل دموية ووحشية في سوق أربعاء الغرب (ضواحي القنيطرة) التي قصدها الشوريون من مدينة وزان والرباط والدار البيضاء مع فرقة الكشافة للاحتفال بتعيين المحجوبي أحرضان عاملا على إقليم القنيطرة. هناك وجدوا أنصار حزب الاستقلال يسيطرون على الشارع، وأسفرت الاشتباكات عن مصرع أربعة أشخاص وإصابة أربعين بجراح كلهم من حزب الشورى والاستقلال.
تفسير الوزاني خلافاته مع علال الفاسي في مذكراته
أما وجهة نظر الزعيم بلحسن الوزاني وروايته لأسباب الخلاف وتداعياته، فقد وردت متفرقة وبين سطور مذكراته رغم أنه خصص لها الجزء الخامس، وأسهب في شرح الأسباب، التي جعلته يرفض منصب الأمين العام، كما عمد إلى عرض المقدمات، التي سبقت ما سمّاه "المؤامرة" ضد شخصه، قبل نشوب الخلاف حول الرئاسة. فقد رفض الموالون لعلال الفاسي اقتراحه للحضور إلى مؤتمر الحزب الاشتراكي الفرنسي حتى لا ينفرد بالزعامة، كما اعترضوا على إصداره جريدة يكلف بها بدعوى ارتفاع التكاليف ...
وقد أراد الزعيم الوزاني من استعراض هذه الأحداث التي فصل فيها أكثر، إظهار الخلاف حول الرئاسة، وكأنه بمثابة النقطة، التي أفاضت الكأس، عكس ما ذكره الآخرون.
أما الجزء السادس من مذكراته، فقد فصل فيه رأيه في تقديم وثيقة الاستقلال، رغم أنه كان معتقلا آنذاك من طرف الاستعمار الفرنسي. وبدا وكأنه يزايد على حزب الاستقلال الغريم القديم في ما يخص أسلوب المطالبة وعدم نهج طرق الضغط.
إن إعادة الاعتبار لدور الزعيم الوطني الكبير محمد بلحسن الوزاني في بداية تأسيس الحركة الوطنية وما آلت إليه الأمور بعد الاستقلال من تهميش حزبي، رغم مواقفه الشجاعة، كل ذلك كان له تأثير في كتب الزعيم بلحسن الوزاني في أواخر حياته عن تاريخ الحركة الوطنية.
افترقا الرجلان منذ الإرهاصات الأولى لنشوء الحركة الوطنية
عد انتهاء مرحلة المقاومة المسلحة بدأت الإرهاصات الأولى للحركة الوطنية تتشكل عبر تأسيس أول تنظيم ذي طابع سياسي أطلق عليه اسم "الرابطة الوطنية" وذلك سنة 1926، وقد ضم زعماء ينتمون إلى الشمال والجنوب، مما يعني رفض الإقرار بواقع التجزئة الذي فرضته الحماية الفرنسية.
وبخلاف المقاومة المسلحة التي تركزت في البوادي، فان المدينة ولأول مرة ستنهض للقيام بدور النضال السلمي كبديل عن النضال بالسلاح، وقد تركزت بدايات الحركة الوطنية بالمدن الرئيسية الكبرى، فاس وتطوان وسلا والرباط، على يد فئة تنتمي إلى البرجوازية المتوسطة التي تخرجت من المدارس العتيقة كالقرويين، فيما البعض الآخر درس في المشرق ومنهم محمد بلحسن الوزاني الذي اختلفت رؤيته واستراتيجيته عن المسار الذي خطط له حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي خريج القرويين.
لم يقتصر صراع محمد بلحسن الوزاني مع علال الفاسي وإنما تعداه ليهم كذلك عبد الخالق الطريس. في غشت 1953 دخل محمد بلحسن الوزاني في صراع مع عبد الخالق الطريس حليف علال الفاسي وقتئذ. وبعد الإعلان عن الاستقلال نزلت ضربات حزب الاستقلال المتحالف مع حزب الإصلاح الوطني بقيادة عبد الخالق الطريس، على قادة بارزين في حزب الشورى والاستقلال.
تجاهل وتهميش
بقدر ما حظي به وعماء الحركة الوطنية من تقدير والاهتمام، حظي الوزاني بالتجاهل وأحيانا كثيرة بالأنكار من النخبة السياسية، بل وحتى من قبل جملة من أعضاء حزبه. علما أن بعضهم عملوا على استغلال تاريخه والافتخار والتفاخر بمواقفه، وذلك لتحقيق أهداف سياسية متناقضة مع جوهر فلسفته ومذهبه وعارضة لها كليا. إلا أن هذه التصرفات والممارسات لم تفقد راهنية فكر محمد بلحسن الوزاني في الحياة السياسية العامة وتميّزه وأسبقيته في جملة من المجلات.
مرجعيته الفكرية
تميّز الوزاني عن باقي رجالات الحركة الوطنية بالمطالبة بإرساء أسس النظام الديمقراطي بنفس درجة مطالبته بالاستقلال، مبيّنا أن هذه المطالبة الثنائية لا تعني رغبته في مواجهة المؤسسة الملكية أو معارضتها من حيث المبدأ، وإنما تدل على رؤية سياسية محددة.
ولعل هذه الفكرة هي التي شكلت جوهر وبرنامج كل الحركات السياسية التي قام الوزاني بتأسيسها على مدى مشواره: الحركة القومية (1936) وحزب الشورى والاستقلال (1946) وحزب الدستور الديمقراطي (1965).
وعن ثنائية هذا المطلب يقول عبد الهادي بوطالب:" ركز الحزب على التزام العمل الوطني من أجل الاستقلال بإقامة نظام سياسي تتوزع فيه السلطة والحكم بين مؤسسات تمثيلية ولا تطغى فيه سلطة راجحة على سلطة أخرى.
كما أن الوزاني قام بترجمة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان مباشرة بعد الإعلان عن تأسيس الحزب، وبذلك كان أوّل من فكّر في الأبعاد الحقوقية للعمل السياسي بالمغرب.
يقول الدكتور محمد الطوزي إن محمد بلحسن الوزاني يحتل مكانة خاصة في تاريخ الحركة الوطنية باعتباره العنصر الذي ذهب في تفكيره إلى أبعد قدر ممكن. يقرّ الطوزي أن فكر الوزاني يميل جذريا في اتجاه حداثة تمّ التعبير عنها بواسطة مفهوم الرقي.
نفي محمد بلحسن الوزاني
عبرت مختلف الافتتاحيات، والمقالات الصادرة في المجلات الأسبوعية (عمل الشعب، الأطلس) أو اليومية (المغرب) عن التذمر الشعبي من سياسة الإقامة العامة. مما دفع هذه الأخيرة إلى منع صدورها بالتوالي بين شهري شتنبر وأكتوبر 1937 . من جهة أخرى شهدت بداية شتنبر 1937 أحداثا عنيفة كان أبرزها في مدينة مكناس ضد تحويل مياه وادي بوفكران لصالح المعمرين. تلتها احتجاجات أخرى عرفتها عدة مدن في إطار التضامن مع القادة الوطنيين المسجونين والضحايا الذين سقطوا برصاص جيش الاحتلال. مثلما أمرت باعتقال وإبعاد مختلف الزعماء الوطنيين: نفي علال الفاسي إلى الكابون، ووضع محمد بلحسن الوزاني تحت الإقامة الجبرية في الجنوب المغربي من 1937 إلى 1946 .
الوزاني في الجمعية الأممية
في عز صراعه مع علال الفاسي، افتخر محمد بلحن الوزاني بكونه الوحيد الذي مثل الحركة الوطنية بحضوره على رأس وفد حزبه دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة المنعقدة بباريس في دجنبر 1951، بينما امتنعت الحكومة الفرنسية عن منح تأشيرات الدخول للتراب الفرنسي لممثلي حزب الاستقلال, لكن في السنة الموالية، 1952، لم يتمكن محمد بلحسن الوزاني من الحصول على تأشيرة الدخول إلى الديار الأمريكية لحضور أشغال الجمعية الأممية، مما دفعه إلى أن اشتكى من علال الفاسي إلى عبد الكريم الخطابي بالقاهرة. وهكذا تجاوزت خلافات الوزاني-الفاسي الحدود لتنفجر في العاصمة المصرية، وقد مال عبد الكريم الخطابي إلى جانب محمد بلحسن الزواني.
توفى بتاريخ 9 شتنبر 1978 أربع سنوات بعد علال الفاسي. وبعد وفاته تمّ إحداث مؤسسة بلحسن الوزاني للإشراف على طبع تراثه الفكري. وتشرف عليها ابنته حورية المقيمة بالديار السويسرية.
التعليقات (0)