مواضيع اليوم

محمد ابن مرزوق الخطيب

يوسف الحلوي

2012-10-17 01:19:39

0


يمثل زمن لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون و ابن مرزوق ذروة سنام المجد الأدبي والمعرفي في البلاط المريني ،ولقد يحلو لبعض المؤرخين أن ينسبوا مآثر أولئك الأفذاذ لغرناطة عند الحديث عن ابن الخطيب ولتلمسان عند الحديث عن ابن مرزوق وللقيروان عند الحديث عن ابن خلدون ، فإن ذكروا المرينيين قالوا قوم أجلاف سنوا سنة سيئة بالمغرب وبددوا جهدهم في حروب داخلية أفضت إلى سقوط الأندلس بعد أفول سلطانهم ، ولعمري ما أنصفوا في تجريد المغاربة من كل الفضائل وإلصاق كل نقيصة بهم ، فمعظم من يدرس تاريخ المغرب اليوم لا يتخلص ذهنيا من أغلال الحدود التي ترسمها الجغرافيا المعاصرة وهي حدود وليدة عهد لا يمت لدولة الزناتيين المترامية الأطراف بصلة ، فأبو الحسن المريني وطئ بخيوله تربة القيروان ودانت له بالطاعة ، وتلمسان ما تزال إلى اليوم تحتضن مآثر المرينيين وأمارات عزهم الغابر ، وأما غرناطة فقد شهدت مقتل زوجتي أبي الحسن ووقوع ولده في الأسر ، ولم يكن لغرناطة أن تستمر لولا جهاد أبي الحسن والمنصور من قبله ،ارتوت تربتها بدماء المغاربة فأنبتت أمثال ابن الخطيب وإذا أخذ خصومه عليه اشتغاله بالفلسفة عندما هموا به فقبلها اتهموه بأنه مريني الهوى ولفظته غرناطة غير آبهة بعلمه ، وبالبلاط المريني وجد ضالته ولقي من العناية والرعاية ما لم يلق بموطنه ومثله ابن خلدون الذي صحب ملوك بني مرين في زمن كان حكم القيروان دولة بين المرينيين وخصومهم ، و أما ابن مرزوق فقد ولد بتلمسان ، وهل كانت تلمسان إلا مدينة مغربية قبل أن تقوم للمرينيين قائمة ، ثم اتخذها بعض ملوكهم عاصمة لدولتهم من هنا يكون الانتماء المغربي لابن مرزوق أمرا محسوما فحسناته لذلك من حسنات العهد المريني الزاهر وما مسنده الذي يعبر فيه عن خالص الولاء لأبي الحسن إلا ثمرة ناضجة لهذا الانتماء الذي لا يشوش عليه اختلاف رقعة الدولة في عهدنا عن مثيلتها في عهده فقد اندثرت أمم وممالك وانمحت من الوجود فإذا ذكرت مآثرها نسبت إليها خالصة من دون الأمم حتى وإن لم يعد لها وجود .
ولد ابن مرزوق بتلمسان عام 711ه وهو سليل أسرة بربرية مرموقة عرفت بالعلم والتقوى ، هاجرت من القيروان واستقرت بتلمسان في أواخر القرن الخامس الهجري ويتصل نسب ابن مرزوق بأبي بكر خليل الولي المعروف أبي مدين شعيب المغربي واسمه محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر العجيسي التلمساني ، ويعرف بالخطيب والرئيس والجد وقد ترجم له عبد الرحمان بن خلدون و ابن الخطيب الذي لقيه مرات متعددة بعدوتي المغرب والأندلس وتتلمذ على يديه رغم أن فارق السن بينهما لا يتجاوز العامين .
طلب ابن مرزوق العلم صغيرا واستغل فرصة مرافقة والده إلى الحج عام 717ه لزيارة المدينة ومكة ودمشق والقاهرة ولقاء العلماء بها والنهل من ينابع معرفتهم ، وبمصر ظهرت براعة ابن مرزوق في الخطابة في مستهل حياته ونال إعجاب الشيخ المرشدي فعينه خطيبا بالإسكندرية وحدث أن طاب لوالده المقام بالحجاز ففضل المكوث فيه وأذن لولده في الرجوع إلى المغرب ، وبتلمسان اتصل الخطيب بأبي الحسن المريني فضمه إلى حاشيته وأعجب أبو الحسن بابن مرزوق أيما إعجاب فقربه منه وقدمه على غيره ، فلا عجب أن يحتفظ بمودة عظيمة لهذا الملك الشهم وأن يملأ الآفاق بشذى سيرته العطرة وأن يؤلف في مناقبه ما لم يؤلف في غيره ، شارك ابن مرزوق إلى جوار أبي الحسن في معركة طريف وتجرع معه مرارة الهزيمة ،وانتدبه السلطان لإبرام الصلح مع القشتاليين واستنقاذ ولده تاشفين من الأسر وكفى بذلك دلالة على حظوته في البلاط المريني على عهد أبي الحسن، ولعل تلك الفترة كانت من أجمل المراحل التي عاشها ابن مرزوق وهي الفترة ذاتها التي عرفت لقاءه بابن الخطيب وقد أخذ عنه لسان الدين مما يدل على سعة اطلاعه وعمق معارفه غير أن الدهر لا يستقر على حال ، ولا تصفوا مشاربه إذ ما لبث أبو الحسن أن مني بالهزيمة في القيروان مما أدى إلى اضطراب الأوضاع بالمغرب ، وكان أن تعرض بيت ابن مرزوق للهجوم لأنه واحد من رموز السلطة وأعمدتها ، ثم اقتيد الخطيب إلى السجن ، وبعد محنة الأسر ذاق مرارة النفي بعد إبعاده إلى غرناطة ، لكنه لقي بها ما عوضه عن عذاب السجن إلى حين ، فبها اجتمع بتلميذه ابن الخطيب وبابن السلطان أبي الحسن " أبو سالم "، وخصه ملك غرناطة ابن الأحمر بما يليق بأمثاله من الاحتفاء وعينه خطيبا للحضرة ومدرسا في المدرسة البلاطية ، ولما كان عام 754ه تم استدعاؤه للبلاط المريني مجددا فتأججت شهوة السلطان بداخله ونسي مغارم السياسة وما جلبت عليه في سالف أيامه، فلبى نداء رغائبه تعاوده الآمال في أن يحظى في بلاط أبي عنان بما حظي به في بلاط والده أبي الحسن ، لكن قصور الملوك منذ كانت لم تخل من الدسائس والمؤامرات فلم يكد ابن مرزوق يضطلع بأولى مهامه السياسية في قصر أبي عنان حتى وقع في كمين أعدائه ، توجه ابن مرزوق سفيرا إلى تونس لخطبة بنت أبي يحيى الحفصي ، ولم يكن زواجا عاديا بل كان صفقة سياسية غرضها إنهاء الحرب بين الزناتيين والحفصيين ، وصور خصومه لأبي عنان فشله في سفارته على أنه خيانة لدولته فألقى به في السجن لما يقارب العامين ،
وبعيد مغادرته للسجن سنة 759ه كانت أنظار الأعيان والعلماء بفاس تتطلع إلى أبي سالم المريني وترى فيه خلاص الدولة من أخطار الفتن التي أحاطت بها بعيد اغتيال أبي عنان إحاطة السوار بالمعصم ، فانتهز الفرصة وجاهر بموالاته لأبي سالم صديقه في منفاه بقصر الحمراء ، ومن ضعة السجن خرج ابن مرزوق مرة أخرى إلى سعة السلطان وعاد إلى سابق مجده ، يأمر وينهى ويصطف بباب ديوانه أصحاب الحاجات، لكن سعادة ابن مرزوق لم تدم طويلا فقد غادر البلاط ليحل مرة ثالثة بالسجن بعد اغتيال أبي سالم عام 762ه ، ارتحل ابن مرزوق عن فاس بعيد مفارقته لمحبسه والتحق بالسلطان أبي إسحاق ابراهيم بتونس فأكرم نزله وعينه خطيبا بمسجد الشماعين و ما لبث أبو إسحاق أن لبى نداء ربه فرحل ابن مرزوق إلى القاهرة وهناك استقبله الملك الأشرف ناصر الدين شعبان بن حسين أحسن استقبال وعينه قاضيا وخطيبا ومدرسا في مسجد صلاح الدين وبقي هناك إلى أن وافته المنية عام 781ه .
تلك بإيجاز سيرة ابن مرزوق السياسية التي لا تختلف في شيء عن سيرة ابن الخطيب و ابن خلدون ، فحياة ابن مرزوق طبعها الاضطراب وحفلت بالعداوات وأثرت فيها مكائد الحاسدين ولم تستقر على حال فما إن تهدأ القلاقل من حوله حتى تثور من جديد وقد كان عظيما فلا نستغرب أن يبتلى بأعظم البلايا وأن تحل به أفدح الرزايا ، عاش ابن مرزوق في كنف ثمانية من الملوك وتقلب لديهم في وظائف مختلفة توزعت بين السفارة والخطابة والقضاء وغيرها ، لم يعش ابن مرزوق على الهامش بل كان فاعلا في كل الدول التي استقر بها وكان له تأثير في نفوس السلاطين كتأثير السحر يقول ابن الخطيب في وصفه : " درب على صحبة الملوك و الأشراف متقاض لإيثار السلاطين و الأمراء يسحرهم بخلابة لفظه ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله ، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحدته ، ويصطنع غاشيتهم بتلطفه "
وأما مكانته العلمية فحسبه أن يفتخر ابن الخطيب أنه كان تلميذا له ففيه أبلغ حجة على علو منزلته ، أخذ ابن مرزوق عن الأفذاذ من معاصريه وقد ذكرهم في كتابه "عجالة المستوفر المستجاز " كعز الدين أبو محمد الحسن بن علي الواسطي وشهاب الدين أحمد بن محمد الصنعاني وأبي الصفاء التوزري وغيرهم ، وتخرج على يديه جلة علماء عصره و كبراؤهم و منهم لسان الدين بن الخطيب ، و المقري الجد ، و أحمد بن قنفذ القسطنطيني ، وابن زمرك ، وله مؤلفات نفيسة أهمها " المسند الصحيح في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن " و " برح الخفاء في شرح الشفاء " و " تيسير المرام في شرح عمدة الأحكام " .
أما شعره فمنسوب إلى الأدب العالي ولم يصل منه للأسف إلا القليل ولعله لم يكن مكثرا لكن نظمه لا يقل جودة عن نظم لسان الدين ، ومن ذلك قوله حين رحل عن تونس :
أودعكم و أثني ثم أثني على ملك تطاول بالجميل
وأسأل رغبة منكم لربي بتيسير المقاصد و السبيل
سلام الله يشملنا جميعا فقد عزم الغريب على الرحيل
آثر ابن مرزوق في أواخر أيام حياته الاعتكاف على التدريس والتأليف فأثرى المكتبة المغربية بأعماله الجليلة وإن كان جلها لم يحقق وقد لقي كتابه " المسند " اهتماما كبيرا من قبل المؤرخين الذين عاصروه و أولئك الذين جاؤوا بعده ويعد من أهم المراجع التي أرخت لحياة أبي الحسن على الإطلاق إلى يوم الناس هذا .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !