قبل أيام قليلة ظهرت والدة الطيار الأردني "معاد الكساسبة" في مقابلة تلفزيونية ، ناشدت فيها تنظيم "الدولة الإسلامية" أن يحسن معاملة ابنها الأسير، وتوسلت بعاطفة الأمومة أن يتم الإفراج عنه. لكن الأم المكلومة لم تكن حينها تدرك أن الذين توجهت إليهم في رسالتها لا يقدرون المشاعر ولا يعرفون للرحمة سبيلا. فقد جاء رد داعش بطريقة مرعبة جدا عندما منح للأم المسكينة فرصة مشاهدة ابنها في شريط مصور، وهو يخطو خطواته الأخيرة نحو قفص جهنم في مشهد يحمل كل معاني السادية والوحشية.
تنفيذ الإعدام لم يكن مفاجئا في حد ذاته، فقد دأب التنظيم على الإحتفال بولائم الدم بشكل يكاد يكون يوميا منذ انتشار سرطان داعش القاتل في سوريا والعراق. وقد شاهد العالم في الأيام الأخيرة آخر صور حلقات الإعدام التي تحمل ماركة: "جئناك بالذبح"، وذلك بإعلان التنظيم عن قتل الرهينتين اليابانيتين، لكن أسلوب إعدام الطيار الأردني الأسير كان صادما بكل المقاييس، لأنه تم بطريقة غير مألوفة. ولابد أن هذا التحول في سلوك القتل الداعشي من الذبح إلى الحرق يحمل في طياته رسائل معلنة وأخرى مبطنة موجهة إلى أكثر من جهة. وهي رسائل تنم عن كيمياء الحقد الأعمى الذي يستولي على "دولة" البغدادي، كما أنها أيضا تصعد درجة التخويف والترهيب إلى أقصى مستوياتها لتزرع الرعب في نفوس مقاتلي التحالف الدولي الذين يقصفون مواقع التنظيم بالطائرات والدبابات. وبهذا المعنى يكون مشهد إعدام "الكساسبة" حرقا بمثابة حرب نفسية. وذلك ما نكتشفه من خلال التمعن في بعض لقطات الشريط "الإستعراضي" الذي صور العملية.
إعدام الطيار الأردني حرقا ليس سابقة في التاريخ، حيث عرفت عدد من الشعوب والثقافات هذا السلوك منذ عصور غابرة. فقد أخبرنا القرآن عن قصة النبي "إبراهيم" الذي تقرر إحراقه حيا بعد تسفيهه لآلهة قومه، لكن نارهم كانت بردا وسلاما على إبراهيم، بينما يبدو أن نار داعش كانت وستكون وبالا على الإسلام والمسلمين .... وفي سنة 1600 أحرقت الكنيسة الفيلسوف الإيطالي " جيوردانو برونو" في روما بسبب مواقفه الفكرية والعلمية المعادية للتأويل الكنسي. أما في العصر الحديث فيحضر "الهولوكوست" النازي كمثال آخر على هذا السلوك البشع والمنافي لكل القواعد والتشريعات والأنظمة. والآن تسجل دولة "البغدادي" اسمها بمداد من الخزي والعار في لائحة إعدامات المحرقة. ولأنها دولة تسعى لإقامة شرع الله، فإن المسوغ الديني لسلوكها الشنيع جاهز ومؤسس على تأويل التراث الديني الإسلامي الذي يتخذ مرجعا لتبرير العنف والقتل. فقد تداولت بعض المواقع الإلكترونية صورة لفتوى صادرة عن ما يسمى ب:"هيئة البحوث والإفتاء" التابعة لتنظيم داعش، والتي تحمل خاتم " الدولة الإسلامية". وفي بعض تفاصيل هذه الفتوى التي تجيب عن سؤال: ما حكم تحريق الكافر بالنار حتى يموت؟، نقرأ ما يلي:
(( فلقد ذهب الأحناف والشافعية إلى جواز التحريق مطلقا، وحملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم:( وأن النار لا يعذب بها إلا الله) على التواضع. قال المهلب: " ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع.".
قال الحافظ بن حجر - رحمه الله-: " يدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمي... وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة".)). (مختصر من فتح الباري 6'174.).
لقد انتبه "شكيب أرسلان" في كتابه الشهير: ( لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟) إلى أن معضلة المسلمين تتجلى في نفوذ الذين أطلق عليهم "غوائل الجامدين"، أولئك الذين يقرأون الواقع الحديث بمنظار العصور الوسطى، وينصبون أنفسهم أوصياء على الدين الإسلامي... وواضح من خلال مضامين الفتوى أن داعش تحاول أن تبرر سلوكها من خلال تأويل ديني يناسب أهواءها وساديتها، فالأسير الأردني في عرف التنظيم كافر يستحق الموت بتلك الطريقة حتى يكون عبرة لغيره. وبهذا يتضح جليا أن تنظيم "الدولة" ومعها كل التنظيمات الإرهابية التي تتخذ العنف منهجا لها ماضية بشكل ممنهج في إساءتها للإسلام، وهي تكرس بسلوكها العدواني الصورة النمطية التي تكونت عن المسلمين خلال العقود الأخيرة، لكن تبرير مثل هذه الجرائم (التي لا يقبلها كل ذي ضمير حي) إستنادا إلى تأويل أو تفسير النصوص الدينية يجعل الإسلام نفسه في موضع اتهام، لأنه يمنح بعض ذوي النفوس المريضة مشروعية أفعالهم الوحشية. ومادام المسلمون غير مستعدين ولا مكترثين بإعادة النظر في إرثهم الديني وقراءته بلغة حديثة تتجاوز الجمود والإنغلاق الوسيطيين وتتوخى النهضة والعقلانية والديموقراطية، فإن منابت التكفير والإرهاب والعنف ستظل مزهرة ومزدهرة.
محمد مغوتي. 04 فبراير 2015 .
التعليقات (13)
1 - الجزائر
خالد فكريني - 2015-02-07 10:17:43
بسم الله الرحمن الرحيم و بعد : داعش فرقة مجرمة خارجة عن جماعة المسلمين, و شيخ الإسلام ابن تيمية من أكثر الناس مفارقةً لمنهجهم بل هو أشد الناس تبيانا لحالهم و ما أكثرهم لا كثرهم الله .فاتقوا الله يا ناس في علماء المسلمين و لا ترموهم بما هم بريؤون منه , فصاحب الباطل إدا استشهد على باطله بكلمة مبتورة أو غير موضوعة في محلها من كلام أهل العلم فلا يلامون عليه بل اللوم على صاحب الباطل و إلا قولو لي بربكم لو استشهد الدواعش الفجار بلآية من كتاب الله فهل معنى ان كتاب الله باطل ؟ فاتقوا الله في العلم و اهله فابن تيمية عالم نحريرٌ و مجتهد صاحب علم رد على مثل داعش في فكرهم وهم الخوارج التكفيريون و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
2 - العراق
ازهر مهدي - 2015-02-07 10:41:20
تحية لك سيد مغوتي العزيز اشتقنا لكتاباتك العذبة وقد انقطعت عن المداخلات لحادث الم بي في حقيقة الامر انا في في صدمة مثل كثير من الناس نتيجة هذه الحريمة واقول من قال ان العرب ليس لديهم اختراعات في العصر الحديث وحالة الاحراق داخل قفص تدل على اعلمية وقدرة فكرية عربية متميزيتين!!!اليس كذلك ؟!! هم يضحك وهم يبكي
3 - ذ
الدكتور جمال الضمور - 2015-02-07 22:05:28
الاستاذ محمد بعد التحيه اود ان اذكر انه في عام 1934 وفي مدينة الكرك مسقط راس معاذ الكساسبه حاصر قلعة الكرك جيش اجداد اردوغان الداعشي ولما فشل الجيش باقتحام القلعه كان قد خطف اثنان من ابنا زعيم القلعه وجرت المساومه ام دخول القلعه او حرق الرهائن فما كان جواب ابراهيم الضمور وزوجته عليا الارض والعرض ثمنهم الدم والقت عليا على الجند الحطب وقالت احرقوهم وحرقوا اماههاولديها علي وسيد فبات حرقهما درسا في التضحيه هذه هي الكرك التي انجبت معاذ
4 - رد على تعليق خالد
محمد مغوتي - 2015-02-08 12:26:22
شكرا على التعليق. لا يتعلق الأمر هنا بابن تيمية أوغيره. نحن أمام مشكلة لا يمكن حصرها في أشخاص محددين. إنها منظومة عقدية عملت على تأويل النص الديني بأسلوب يبدو معه الإسلام محتضنا للإرهاب والعنف، لذلك أرى أنه من اللازم تنقية الخطاب الديني من التكفير والحض على العنف والكراهية. وذلك هو السبيل الوحيد لإبراز الصورة الحضارية لهذا الدين. مع تحياتي.
5 - رد على أزهر مهدي
محمد مغوتي - 2015-02-08 12:29:05
أهلا بالعزيز أزهر. أتمنى لك الصحة والعافية. طبعا لابد أن يصدم كل من يمتلك ذرة من العاطفة والإحساس بمنظر \\\" قفص جهنم\\\" الداعشي. مع تحياتي.
6 - رد على الدكتور جمال
محمد مغوتي - 2015-02-08 12:30:37
شكرا لك. تحية خالصة لروح معاذ ولأهل الكرك الطيبين.
7 - تعليق
مؤيد التبياني - 2015-02-08 18:39:46
استاذ محمد لاشك ان حرق الاسير معاذ الكساسبه مرعب جدا لكن لاتنسى ان هذا الطيار اعتدى عليهم بالقصف وراح ضحايا بالحرق وسقوط الابنيه عليهم وهم مدنين فأنت تتكلم وكأن الدوله الاسلاميه اخرجته من بيته وحظن امه واحرقته ليس بهذه المعادله تكون الحياديه فمالذي جاء بهذا الطيار الى اماكن تواجد الدوله الاسلاميه لقد احرق نفسه بنفسه وهو من اختار لنفسه هذه النهايه اما الاسلام وجواز التحريق نعم يجوز اجازه شرطيه وهو ان استخدم العدو الحرق سيتم تحريقه وان استخدم الغرق سيتم تغريقه ولاشك ان معاذ احرق الابرياء وسيتم حرقه وان اردت الانتقاد فعليك ان تنتقد العلماني السيسي الذي احرق الالوف في فض رابعه العدويه هذا ان اردت الحياد وانا مؤيد للدوله الاسلاميه فهي تدافع عن نفسها والحرق والذبح وماتراه في اصدارات الدوله هي جزء من الحروب وموضوع الحرق سبقهم عليه النظام العلماني السوري والنظام العلماني المصري باقيه وتتمدد
8 - رد على تعليق مؤيد.
محمد مغوتي - 2015-02-08 23:32:24
هذه جريمة يندى لها جبين الإنسانية، ولا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال. إذا نظرنا إلى الأمر بمنطق الحرب، فللحرب قواعد. فأين داعش من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأسرى؟. ثم من الذي فوض لهؤلاء الحالمين بالدولة الإسلامية بأن يتحدثوا باسم الإسلام والمسلمين؟. أما في ما يتعلق بالسيسي ، فإني أدعوك لقراءة كتاباتي لتعرف موقفي جيدا. مع خالص تحياتي.
9 - رد على صاحب المقال
مؤيد التبياني - 2015-02-09 10:31:43
حد الحرابه على المجرم ليست جريمه بل الجريمه ان لايتم معاقبته. هذا الرجل يرمي على الناس قنابل حارقه فكيف تسمح لنفسك ان تحامي عن المجرمين وان كانت للحروب قاعده فلاشك ولاريب ان تكون هذه القاعده العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص هذه هي القاعده التي تسير عليها الدوله فاحراق معاذ تمت من خلال تطبيق هذه القاعده التي تنادي بها . وبالنسبه لكلامك الاخير انت من سمح لك ان تتحدث عن العلمانيه وبأسمها تشوه معنى الحريه التي تنادي بها بالغرب
10 - رد على تعليق مؤيد
محمد مغوتي - 2015-02-09 18:58:25
شكرا على الإهتمام. يبدو أنك لا تملك الحجة الكافية للدفاع عن قناعاتك، لذلك تحاول أن تهاجمني. هؤلاء الذين يتحدثون عن الدولة الإسلامية يقدمون أنفسهم كأوصياء على المسلمينز أما أنا فلست وصيا على أحد. أعبر عن موقفي الشخصي، وهو رأي خاص ولا ألزم به أحدا. مع تحياتي.
11 - الى محمد مغوتي
مؤيد التبياني - 2015-02-10 10:27:49
هذه ليست وجهة نظر انما دفاع عن الاجرام تحت مايسمى الرحمه والعطف احمدك على رحمتك وعطفك بشأن الحرق للشخص معاذ لكن للاسف هذه الرحمه ليست بمكانها المناسب وهي لا تجد لها اعتبار هنا بهذا الموضع وانا لا اريد ان اغير من قناعاتك لكن ابغض من يستغل الظروف ليتهجم على الاديان لامكان للعلمانيه بيننا سنحاربكم ونخرجكم من ديارنا
12 - إلى مؤيد.
محمد مغوتي - 2015-02-10 19:05:07
هذه هي مشكلتنا بالتحديد. أنت تتحدث بصيغتي:\\\"نحن\\\" و\\\"أنتم\\\". أي أن فهمك أنت للدين هو الصحيح ومن يخالفك الرأي فهو كافر يجب طرده أو قتله. إنها الوصاية على الدين والناس. كلامك واضح ولا يحتاج إلى تعليق. مع تحياتي.
13 - الى محمد مغوتي
مؤيد التبياني - 2015-02-10 23:14:14
ليس بمعنى الطرد بمفهومه الرسمي انما منعكم من التهجم على اديان الناس ومنعكم من نشر افكار تعتبر مرفوضه داخل مجتمعات متدينه وتعتبر دينها هو رأس مالها واعز ماتملك وسحب البساط من تحتكم للحفاظ على ديننا للاسف العلمانين من اكثر الناس دعما للدكتاتوريات العربيه مثل السيسي وحفتر الليبي .واخرج من هذا الموضوع واقدم عرفان وشكر لملك المغرب الذي سمح للسورين الهاربين من الموت للدخول للمغرب واحيي شعب المغرب المضياف الكريم الذي اهتموا بالثكالى والشيوخ من السورين الابرياء . تحياتي لك اخ محمد واعتذر ان بدر مني مايغضبك لكننا نرفض مايسمى بالعلمانيه رفضا قاطعا