مواضيع اليوم

محاولة لفهم مسار الثورات العربية

جمعة الشاوش

2012-01-30 22:09:17

0


"بلغ السّيلُ الزُّبى" فثارت الشعوب العربية على أوضاعها المُهينة وأحوالها البائسة رافضة الموجود لتنشد تحقيق المفقود...
المفقود بيئة تتنفّس هواءها حرّيّة،والحرّيّة في جوهرها ليست إلاّ ذلك الشعور بزوال الإحساس بالحرمان والغبن نتيجة القدرة على إشباع ما يحتاجه الإنسان بوصفه إنسانا...
يطفو الزّبد على السّطح بفعل المتهافتين على احتواء الثورات العربيّة والهيمنة عليها ساعين إلى تسكين أوجاع الشعوب الثائرة بذلك التّهريج الخطابي الذي يغازل القيم الإنسانية الخالدة لينال من طهارتها والذي تتحوّل فيه اللغة إلى ظاهرة صوتية لا تعني غير العزف الرّديء على أوتار أعصاب المحرومين...من ذلك:
- إطنابٌ في كشف عورات الأنظمة الدكتاتورية المطاح بها إلى حدّ الاعتقاد بأنّ انهيارها هو هدف في حدّ ذاته وكأنّ جلـْدَ جثّـّتها الهامدة والنّبش في أمعائها كفيل بإرضاء الشعوب على أمل أن تقتات العيوب...في حين أنّ الدّرس المُستخلَص من سقوط أنظمة الحكم الفاسدة يتمثّل،ببساطة شديدة،في أنّ الشعوب لم ترفضها إلاّ لأنها فاسدة وبالتالي غير قادرة على التجاوب مع تطلّعاتها إذ لو لم تكن كذلك لما أطاحت بها،وعليه فالمطلوب من السلطة الجديدة أن تُقنع ببديلها لا أن تقنع بما نسفته الثورات لفساده أو أنْ تُخوّف بعودته وكأنّ الشعوب غبيّة لا تدرك أنّ ما دمّرته بإرادتها لا يُبْعَث من جديد إلا عن طريق محاولة لسلطة جديدة بديلة تتيه في شعاب وعرة لتطرق باب الطالح عوض الصالح...
- تنافسٌ محمومٌ على تعليب القيم في بديع الكلام لتسويقها غذاء للجياع والعاطلين،وكأنّما مجرّد التّغنّي بفضائل الحرّيّة والدّيمقراطية والعلمانية بلسمٌ لشفاء ضغوطات الحياة اليوميّة وغزوٍ لجنّة موعودة في هذه الدّنيا الفانية،أو كأنّما الادّعاء باحتكار شرع الله فهما وتطبيقا وبالتالي"الوعد بالجنّة" كفيل بتوفير رغيف لكلّ فم على أديم أوطان الثوّار الذين كفروا بكلّ طغيان أيًّا كان دينُ دعاته...
- حالة من الارتباك والتشنّجُ أضحى عليها الماسكون بالسّلطة في بلدان "الرّبيع العربي" أو السّاعون لذلك قد تقودهم إلى الاحتماء بثقة بالنفس مبالغ فيها توقعهم حتما فيما يُشبه النرجسيّة البغيضة،فضلا عن سوء تقدير لفهم الدّوافع العميقة التي أنتجت الموجة الثوريّة الجديدة وخصوصياتها والتي صنعتها شعوبهم،في غفلة منهم.ذلك أنّه ليس من المؤشّرات المطمئنة جنوحهم إلى البحث عن مشجب يُعلّقون عليه قصورهم في معالجة المُستعْصي من المشاكل المُسْتغِيثة بالحلول السّريعة تماما كما يستوجبها أيّ حريق مشتعلٍ وجب التّعجيل بإخماده وإلاّ أتى على الأخضر واليابس..
إنّ أخطر الخطابات تضليلا هي تلك التي يدّعي فيها مؤتَمنٌ على مسؤولية تاريخيّة أنّه تعثّر أو فشل بتعلّة أنّ له أعداء شرسين أفشلوه من قوى الجذب إلى الوراء والجشعين والخونة والعملاء و...و...وكأنّما أمطرت بكلّ هؤلاء السماء أو خرجوا من تحت الأرض،والحال أنّه كان على بيّنة بالتحدّيات والرّهانات اللتين فرضتهما الحالة الثوريّة بخلطها للأوراق وطرحها لتحدّي إعادة ترتيبها ترتيبا يجد فيه كلّ مواطن فرصة ظفره بما حَرمه منه القمع والحيف... في كلّ الأزمان والأحقاب ثمّة "صيّادون في المياه العكرة"...لكنّ الحكمة تقتضي النجاعة،والنجاعة في ذات الحال هي إزالة المياه العكرة لا قتل الصيّادين الذين يقترفون إثم الصيد فيها...ذلك أنّه ما دامت هناك بِرَكُ ماءٍ آسِنةٍ فلن نعدم قدوم صيّادين جدد يفعلون نفس الفعل...
ثمّة قضايا حارقة لا تحتمل الإبطاء في المعالجة ولا التأخير ولا التردّد في مقدّمتها تأمين الحدّ الضروري المطلوب للفقراء الذين لا يجدون حلاًّ لقوتهم اليومي،وللعاطلين الذين أفقدتهم بطالتهم المزمنة كلّ معنى جميل في الحياة،مما حوّلهم إلى قنابل موقوتة ناسفة عوض أن يكونوا طاقات بناء وإبداع،وللأغلبية الساحقة من الشعوب الثائرة المتعطّشة لتخفيف وطْء الشعور بالاغتراب في أوطانها نتيجة القمع والإذلال لقرون خَلتْ...تقول الدكتورة هناء عبيد:"..بينما كانت العوامل الاقتصادية أساسيّة في قيام الثورات،فإنّها لعبت دورا مهما بحدّ ذاتها،أو من خلال انعكاساتها على شبكات المصالح في تشكيل النتائج الثورية.وتنصبّ تلك القضيّة على الفترة التالية مباشرة للثورة وآفاق التحوّل الديمقراطي،في ظلّ شبكة العوامل المتفاعلة،وفي القلب منها العوامل الاقتصادية...وأنّ العقبات التي شكّلت الأزمة المؤدّية للثورة تستمرّ في التّأثير في التداعيات والنتائج الثوريّة.ويُواجه قادة المرحلة الثورية التحدّيات السياقيّة نفسها التي أسقطت النظام السابق،بما فيها التحدّيات الاقتصادية والتي قد تزداد سوءا."(1)
أجل قد يبدو من قبيل التعجيز الضغط لطلب تحقيق المستحيل،وإن كانت الإطاحة بالدكتاتوريّة العربيّة كانت تُصَنَّف ضمن المستحيلات بما يعني أنّ إرادة الشعوب إذا تعلّقت بأمرٍ مُحفّزٍ بلغتْه،ولا شكّ أنّ عُلوًّ الهِمَّة من أعظم وسائل الارتفاع بالإنسان إلى أعلى درجات تحقيق طموحاته (إذا تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله)...بلى،ثمّة مسائل مستعصية يستحيل الاستجابة لها في وقت قياسيّ وفي ظروف غير مواتية محلّيا ودوليا،لكن ذات الحاجيات المستعجلة التي تُلحّ في المطالبة بها فئات المُهمَّشين المُهشّمين بفعل العوز والبطالة تطرح تحدّيّات بالغة الخطورة تستهدف أهداف الثورات العربية في أسمى أهدافها،ومن ثمّة فهي تستوجب الاهتداء إلى حلول استثنائية ومعالجة غير تقليديّة...
قد يكون من أولويّات شروط توفّر تلك الحلول والمعالجات ضرورة الوضوح في الأطروحات المُسوَّقة من الماسكين بمقاليد السلطة وضوحا يُرسي التضامن الوطني على قواعد صلبة وسليمة يقتنع من خلالها كلّ مواطن أنّ الثورة ثورته وأنّه معنيٌّ بإنجاحها لأنّ الاستفادة من ثمار النجاح تشمله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة...وعليه فهو يتفاعل سلبا وإيجابا مع مستجدّات الشأن الوطني وإيقاعات تطوّرات الأحداث قولا وإنجازا ويكون فعله أمضى أثرا وفائدة كلّما شعر بأنه طرف في مقاربة تشاركيّة...بتفعيل التضامن الوطني،فحسب،يُمكن التخفيف من وطأة الفقر والبطالة،ودون ذلك التضامن تكون أيّ جهود مبذولة أخرى عديمة الجدوى بل قد تتحوّل إلى ما يُشْبه صبّ الزّيت على النار...وعلى عاتق الممثّلين لسلطة الشعب أكانت منتخبة أو فرضتها ظروف الأمر الواقع تقع أعباء المسؤولية الأولى في بناء الوفاق الوطني لمجابهة التحدّيات المصيرية والظرفية.
على أنّه من المهمّ الإشارة إلى ما أفصحت عنه الثورات العربية من خصوصيّات أبرزها إشكاليّة الهويّة التي قفزت،لاحقا،لتتصدّر حراك المشهد الثوري بعد سقوط الدكتاتوريات وليحتلّ منها المعتقد الدّيني في بعده الإسلامي بالخصوص مشغلا بارزا ينشغل به،تقريبا،الجميع عن طواعيّة أو قسرا بحكم التسويق المقصود لإشكاليات الهوية الإسلامية بين الفرقاء السياسيين...والحقيقة أنّ ذات المشغل ليس نتاجا للموجة الجديدة للثورات العربية بقدر ما هو استمرار في معاودة البحث عن الأسباب التي آلت إلى فقدان الحضارة الإسلاميّة وهجها وسطوتها في العالم منذ قرون مضت.غير أنّ الثورات المستجدّة عربيا مكّنت من دفع قويّ وزخم متزايد لبعد الهوية الإسلاميّة إلى حدّ أنّ المشروع الحضاري الذي يسعى إلى التّشكّل من رحم "الرّبيع العربي" لا نراه إلاّ مشروعا إسلاميا وكأنّما أمسكنا بالإجابة المقنعة عن ذلك السّؤال المحيّر:لماذا تأخّر المسلمون ولم ينهضوا منذ قرون خلت ؟...أو أننا أدركنا: "لماذا لا يمكن للإسلام أن يُطابق خصائصه الثوريّة إلاّ إذا كان إصلاحا دائما ؟"(2) على حدّ تعبير الفيلسوف الإسلامي أبو يعرب المرزوقي...وأننا أمّنّا اليوم منع "سلطة الوساطة الدينية التي هي بالطبع معرّضة للفساد"(3) والتي أتى الإسلام بتحريمها فأجازها "أمراء المؤمنين" إلى يومنا هذا في دول إسلاميّة تحكمها سلطة تستمدّ شرعيتها من المعتقد الديني الذي طوّعته لأهوائها...في كلّ الأحوال يبدو أنّ الثورات العربية داهمت المشروع الإسلامي الجديد وهو بصدد التشكّل وما يزال يشكو من عدم الحسم في الكثير من المسائل الجوهريّة التي يقوم عليها أيّ بناء حضاري حقيقي يعيش عصره ويستشرف المستقبل..وقد يكون الحلّ في جوهره يكمن في أنّه "ينبغي أن يفهم التشريع النصّي ليس إلا نماذج تؤثّر بصفاتها الخلقية لا بمضموناتها الحُكْميّة.ذلك هو المنظور الذي يقبل التعميم على كلّ تشريع سماويًّا كان أو وضعيّا لأنّه يتأسس على مقاصد ومبادئ كلّيّة مشتركة بين معاني الوحي التي لا يمكن استنفاذها وتطوّر التأويل لقوانين الظاهرات الإنسانيّة والطبيعيّة...لأنّ الأمّة هي السلطة الرّوحيّة الوحيدة،وليس الفقهاء إلاّ مستشارين فنّيين مثل أيّ خبير في مجالات الحياة الأخرى"(4)...
وبالعودة إلى حالة الخوف والقلق وعدم الرّضى التي تستبدّ بشرائح عريضة ممّن صنعوا الثورات العربية وناصروها بسبب ضغوط الحياة اليوميّة التي غدت أكثر إيلاما لهم بحكم فقدان القليل الذي كان متوفّرا أو بحكم سقف التطلّعات العالي الذي أصبح يسكنهم،بالعودة إلى هؤلاء نجدهم،كغيرهم من "المُرفّهين"،مُهتمّين أو مُدفوعين على الانشغال بالشأن الدّيني عسى أن يجدوا فيه ما يُسكّن أوجاعهم كلٌّ حسب ظروفه والأوجاع التي يُعانيها...فقد يجد البعض تخفيفا لمعاناته في عمامة أو لحية أو نقاب.. وقد يتذرّع البعض بفتوى لقضاء مأرب حياتي بشري يُضفي عليه صفة "المسلم التّقيّ الذي يخاف الله- بصرف النّظر عن وجاهة الفتوى التي استجار بها أو اقتناعه بها...من ذلك ما اهتمّت به وسائل إعلام غربية،بالخصوص،وهي تنقل ظاهرة من هذه الظواهر الجديدة في المجتمع التونسي بعد الثورة تحت مسمّى:ظاهرة الزّواج العرفي الذي يتحصّن بالعقيدة الدينية الإسلامية...
أورد موقع فضائية "فرانس 24 " العربي تحقيقا بتاريخ 26/01/2012 تحت عنوان: بروز ظاهرة الزواج العرفي في الجامعات التونسية نكتفي بنقل عيّنة منه : "قصدنا جامعة منوبة التي تشهد أكثر من باقي الجامعات التونسية تغلغلا للتيار السلفي وللأفكار الإسلامية، حيث تمكنا من الاتصال ببعض الطالبات اللواتي قبلن الحديث عن هذه التجربة الجديدة على المجتمع التونسي وعلى الوسط الطلابي.
سامية وهي طالبة في 25 من العمر تدرس اللغة الفرنسية في كلية منوبة لا تخفي فخرها واعتزازها باختيارها هذا النوع من الارتباط. وتقول إن الزواج العرفي كان بالنسبة إليها الحل الأمثل الذي يمكنّها من إقامة علاقة مع صديقها الذي تربطها به علاقة حب قوية منذ عدة سنوات. وتعترف سامية المحجبة والمواظبة على القيام بواجباتها الدينية بأن علاقة الحب التي جمعتها بصديقها- الذي أصبح منذ أسابيع قليلة زوجها- كانت مهددة، ذلك أن تربية سامية الدينية والاجتماعية كانت تمنعها من الاستجابة للرغبات الجنسية. وتضيف بأن الاحتياجات الجسدية التي كانت تشعر بها برفقة صديقها كانت من القوة بحيث أنها تسببت لها في قلق نفسي وحنق وتمزق بين رغبة في تلبية هذه الاحتياجات والرضوخ لمبادئ وقيم تربت عليها. ونظرا لصعوبة ظروفهما المادية حيث أنهما طلبة، فقد اختارا بناء على نصيحة بعض "الإخوة" الزواج عرفيا. وتقول إن هذا النوع من الزواج الذي ظهر وانتشر في كلية منوبة منذ بضعة أشهر استهواهما، خاصة أنه يكفل لهما إقامة علاقة غير محرمة اجتماعيا ودون تكاليف تذكر وفي إطار شرعي تماما."(5)...

////////////////////////////////
(1) مجلّة السياسة الدولية ص:56 –العدد:187 يناير 2012.
(2)،(3)،(4) المرزوقي أبو يعرب (مفكّر إسلامي تونسي وعضو المجلس التأسيسي)-المرجع كتاب "أزمة الحضارة العربية المتردّدة (الدار العربية ناشرون—مركز الجزيرة للدراسات-سلسلة أوراق الجزيرة رقم 13 الطبعة الأولى 2009.
(5) موقع الفضائية "فرانس 24" – الرابط: http://www.france24.com/ar/20120126-universities-tunisia-society-temporary-marriage-islamic-law

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !