مواضيع اليوم

محاولة في نقد فريضة النقد في كتاب ( التجديد عند الصادق المهدي الإشكاليات والاختلالات)

أميرال الاميري

2012-03-14 15:20:44

0

محاولة في نقد فريضة النقد في كتاب ( التجديد عند الصادق المهدي الإشكاليات والاختلالات)
للدكتور حيدر إبراهيم علي
محمد الأمين عبد النبي
... صدر في مطلع هذا العام كتاب ( التجديد عند الصادق المهدي الإشكالات والاختلالات عن مركز الدراسات السودانية نشرته الحضارة للنشر مكون من 181 صفحة بالحجم المتوسط يناير 1012م ) عمل جديد للمفكر الدكتور حيدر إبراهيم علي ، يضاف إلى سلسلة أعماله الفكرية والبحثية بعد كتابه القيم (مراجعات الإسلاميين السودانيين ) والذي وصف فيه مراجعات وكتابات الإسلاميين في السودان بالمراثي والمناحات والبكاء أما في كتابه الجديد هذا يتطرق فيه لفكر ومنهجية الإمام الصادق المهدي بطريقة جديدة تعتمد على الاعتكاف علي كتابات الإمام وتفنيد ما بين السطور وما ورآها في تحليل للأفكار وشخصية الإمام في نفس الوقت واستشفاف رؤيته وفق هذا التحليل والنقد والتي لا تعبر عن رؤية موازية وما يميزه عن بقية الكُتب التي كتبت حول الإمام وأفكاره ومواقفه السياسية انه عميق وناقش الأفكار والمنهج وفق قراءة لعدد أكبر نسبيا من كتب واجتهادات الإمام وتركيزه علي فكره في مراحله ( الايدولوجيا والصحوة والجدلية وأخيرا المرجعية والوسطية ) بينما اقفل كل الكُتاب الذين كتبوا عن الإمام مشروعه الفكري والثقافي ( أبكر ادم إسماعيل - قراءة نقدية لخطاب المهدية الجديدة الصادق المهدي في آخر تجلياته الصادر في القاهرة ـ يناير 2001م ) والذي نشر في صحيفة الحياة فهو نقد لمسيرة الإمام السياسية مبني علي " كتاب العودة من تهتدون إلي تفلحون" ، ( الدكتور عمر ألقراي - الصادق المهدي الانكفائية ودعاوي التجديد الصادر عن دار عزة 2007 م) وهو تجميع مقالات صحفية في نقد لمسيرة الإمـام الشخصية مبني علي كتابـه " نحو مرجعية إسلامية متجددة متحررة من التعامل ألانكفائي مع الماضي والتعامل ألاستلابي مع الوافد" والتي سبق أن نظمت هيئة شئون الأنصار ورشة حول هذه الأطروحة في أغسطس 2004م كما إن هنالك كتابات كتبت بدافع الإعجاب بشخصية الإمام والنظرة الايجابية لنهجه والدعوة لفكره أمثال ( فكري أبو القاسم – الصادق والأنفة المستحقة ، وعصام عبد الفتاح - الصادق المهدي والسودان ، رباح الصادق – مفردات التفرد في تجربة الإمام الصادق المهدي) واغلب هذه الكتابات لم تتناول الرسالة الفكرية للإمام بعمق هذا الكتاب وحتى معهد الدراسات الموضوعية بنيودلهي اغفل هذا الجانب عندما وضع الإمام في قائمة مائة شخصية في القرن العشرين في العالم فقد ادرج اسمه من ضمن الحكام والقادة وليس العلماء والمفكرين فقد ظل كثير من المراقبين يتسألون عن لماذا لم تناقش أفكار الامام الصادق بشكل موسع من قبل الكتاب والمفكرين والنقاد علي الرغم من جراءتها وإنتشارها ؟ والتركيز علي مناقشة مواقفه السياسية فقط ؟؟ عدا بعض المساهمات في شكل اوراق عمل او دراسات ومقالات . .
كما أن للدكتور حيدر قدرة عالية جداً علي تسويق أفكاره ورؤيته النقدية في اختيار الظرف المناسب فتخرج مفسرة لنفسها وميسرة التفكيك والتحليل، فكتابه هذا صدر في قمة ظهور الإمام الصادق المهدي كرائد للوسطية العالمية والإصلاح والتغيير الديمقراطي في الوطن العربي وفي قمة الانتقادات الموجه لاجتهاداته الفقهية والدينية من قبل الجماعات السلفية والمتطرفة والتي وصلت الجراءة بتكفيره والانتقادات الموجه لمواقفه السياسية من قبل الحاكمين والمعارضين ، في هذا الجو المشحون بالقدح والمدح يخرج كتابه هذا كسابقيه ليلقي حيزه من النقاش والتناول والزخم الفكري والتأثير علي مجمل الحركة السياسية والفكرية في السودان .
تتألف مادة الكتاب من مقدمة مع طرح القضايا متتالية تشكل بمجموعها حزمة واحدة لموضوع واحد هو التجديد عن الصادق المهدي والإشكاليات والاختلالات دون أي تبويب أو تفصيل . ما الجديد إذن في هذا الكتاب ؟ من المقدمة التي حوت الإطار العام لمضمون الكتاب تكتشف دقة التناول للكاتب في طرح نقده بالغوص في أعماق نصوص ومسلمات الإمام وتفنيدها برصانة وحبكة مع ربطها بالواقع والمفهوم العام الذي كونه عن شخصية الإمام كانه يبحث عن شي بعينه في كتابات الامام وفكره نقده فالكاتب من دعاة المدرسة التقدمية يجيد كل مناهج النقد وفي كتابه هذا إستعأن بالمنهج الاستقرائي والوصف التاريخي والاستدالي الموغل في النص مع استصحاب الروية الكلية وتجريد الأشياء مستفيداً من علم الإجتماع والنفس لتحليل الوقائع والنتائج وفق ميزان علمي وهو متابعاً ومراقباً لصيق بحركة الفكر العربي والإسلامي( تطوراته ونكساته)... دائم الربط بين الفكر والممارسة ورؤية المفكر ومدي التزامه بهذه الرؤية فقد سبق للكاتب أن انتقد السيد راشد الغنوشي عندما قال " إن مبدأ الحرية أصيل في الحركة الإسلامية" فرد عليه د. حيدر قائلاً كيف تكون الحرية أصيلة لديكم وأنت قد حصلت علي جواز سفر دبلوماسي من نظام الإنقاذ حينها كان المعارضين السودانيين في سجون الإنقاذ فكان رد الغنوشي انه منح له لمدة شهرين ولم يستخدمه ، المسألة مبدأ في المقام الاول في فهم الكاتب .. وتجد في كتاباته كثير من الشواهد لمحاكمات مفكرين وسياسيين ليس بما يقولونه فحسب وإنما وما يفعلونه. وهذه القضية ركزعليها بشكل واضح في هذا الكتاب .
أهمية الكتاب في إعتقادي تنبع من إبراز فكر الامام الصادق المهدي كإحدي المدارس الفكرية والمشاريع التجديدية المطروحة في السودان لإحداث التغيير والنهضة بالامة السودانية والاسلامية قاطبة مقارنة بمشروع محمود محمد طه القائم علي البعد العرفاني علي ضوء " اسلمة السياسة" ومشروع د. حسن الترابي القائم علي البعد العقلاني المتجاوز لسقف التراث والأصل " تسيس الأسلام " مصحوبة بتجليات عقلية الفكر الجمعي بأسم الحزب الجمهوري " اصدارات الفكرة الجمهورية " او الحركة الاسلامية " سلسلة البعث الحضاري" وإمتدادات لمفكرين في ذات المشروع ، بالرغم من ان الكتاب قد أبرز الصورة المغايرة لفكر الامام من داخله والحكم عليه بالفشل الا ان له دلائل واضحة بمدي صدقية واثر الافكار والاجتهادات المطروحة علي ضوء بضدها تستبين الاشياء خاصة انه الفكر الأكثر طرحاً والاقرب للتبني في هذه المرحلة من تاريخ السودان .
.... تأتي هذه المحاولة (القراءة الأولية) ليس للتبرير والتنكر والنقد المضاد (الموازي) مع كامل الإقرار بضرورة النقد كوسيلة علمية للبناء وذلك تحسباً من الدخول في طائلة ( الوسـطاء يمتنعون ) كما نخرجه مـن زمـرة ( المفترون علي الإمام الصادق المهدي ) وذلك للتعبير بشي من التجرد ففي هذه الحالات يحتاج الباحث منا دائماً لنسبة من التجرد تبعده عن الحماسة والولاء الزائد والاهتمام بالظواهر وتقربه إلي الجوهر خاصة عندما يكون الحوار حول الإمـام الصادق المهدي الـزعيم الديني و الـمفكر الإسلامي و الـقائد السياسي بتاريخه و منهجه ومواقفه، ووجوده الكثيف في كل المحافل الفكرية والسياسية ، وتجربته في جميع ضروب العمل العام لأكثر من أربعين عاما فبات من الضرورة بمكان إخضاع هذه المسيرة الفكرية والسياسية للمراجعة والنقد خاصة عندما تأتي من قبل نقاد متخصصين لهم وزنهم في هذا المجال. كما إن النقد في هذه الحالة يكون بيان للإمكانيات المتاحة والحدود التي ينبغي الوقوف عندها في إنتاج أو استقبال الدلالات للممارسات التي تحمل معني السياقات الثقافية علي حد فهم الفيلسوف كانط وليس مجرد البحث عن الثغرات في فكر الإمام أو الاطلاء والإعجاب به .
ينطلق الكتاب من فرضيتين الأولي أن الصادق المهدي يجد صعوبة في قبول النقد إذ لا يناقش مباشرة أراء من يخالفوه وهنا يتراجع المفكر ويتقدم شيخ الطائفة حيث يترك مهام الرد للأسرة والحواريين فيصبح الحوار معه اقرب للمونولوج منه إلي الديالوج ( مع تمنيه من قلبه أن يكون مخطئي في هذا الانطباع ) مما يجعله المفكر المعصوم علي حد تعبيره. كما انه انطلق من رؤية متقدمة تنادي بممارسة فريضة النقد ولاشك ان نقد فكر الامام الصادق يمثل نقد للفكر السوداني قاطبة وذلك للاعتبارات المنهجية والتاريخية والواقعية والكمية علي الرغم من قناعتنا ان المقاربة الكمية لاتقيم وزن لروح الفكرة ... الفرضية الثانية والتي بني عليها معظم مرافعاته أن كل أفكار الصادق المهدي تنطلق من إشكالية مصطنعة والتي تخلق تناقضاً حيث لا يوجد تناقض وتخلق وحدة وانسجام حيث لا وحدة ولا انسجام لهذا لا توثر علي الواقع وهذا ما خذه علي الصادق المهدي في ميله للثنائيات المجردة وما سماه بـ( إختلالات التجديد) ، هذه الفرضية في اعتقادي أصبحت انطباعاً لدي كثير من المفكرين والكتاب ينتقدون أفكار أو قل اجتهادات الإمام الصادق ويعتبرونها ليس ذات قيمة في الإطار العلمي والفكري والشي الذي لا يقولونه أن هذه الأفكار قد اخترقت عقولهم وتصوراتهم بل انشغالهم بها بالنقد والرد والتعليق وهذا دليل علي أثرها وحيويتها ، وما يقال عنها فهو مجرد ردود فعل لا توازي الفعل نفسه، أي مجرد خطاب إيديولوجي مضاد ولذا لم يتولّد عن نقدهم فكرةٌ جديدة أو قراءةٌ مهمة يمكن أن تساهم للخروج من المزألق.
... ناقش متن الكتاب باستفاضة التجديد عن الصادق المهدي القائم علي التوفيقية بين التراث والعصر والأصالة والحداثة والدولة العلمانية والدينية وغيرها كما تعرض في أول مبحث للأسس الفكرية والنظرية والمنهجية للإمام الصادق والتي ربطها بالنشأة والتكوين وقسمها لمرحلة الاغتراب والدراسة الغربية وعقبتها الفترة السراجية ( الطيب السراج ) والتي شدته للأصل أكثر وبعدها فترة الاغتراب الثانية والرجوع والانخراط في الشأن العام ، هذا التتبع التاريخي والدراسة الاجتماعية لحياة الإمام والتي بناء عليها الكاتب كل تصوراته عن نفسية الإمام وفق تحليله انعكست في كل محتويات النقد الموجه لأفكار الامام ومواقفه المبنية عليها فالكاتب لم يفرق مابين الفكرة وصاحبها وما بين المفكر الذي يبحث عن حلول للواقع والزعيم السياسي الذي يبحث عن واقع للحلول ، هذه الجغرافيا والنشأة هي التي شكلت فكر الصادق المهدي يقول في ذلك ( تعتبر مهمة الصادق المهدي هي الأصعب في مجال التجديد حيث يسعى للحداثة من خلال وسائل تقليدية فهو يحاول تجديد الفكر الإسلامي من داخل فكر الطائفية وبالتحديد المهدية فهو يؤسس للتجديد والاجتهاد فوق بناء المهدية السلفي – الصوفي مما يجهده كثيرا ويجبره علي توفيقية صعبة لجمع الأضداد والمتناقضات ) ولعل الكاتب قد أغفل ان الفكر المهدوي نفسه هو فكر تجديدي ونهجه قائم علي القاعدة الذهبية للامام المهدي ( لكل وقت ومقام حال ولكل زمان واوان رجال ) وفي ذلك يقول الدكتور محمد عمارة " في تيارات الفكر الاسلامي" في ص277 حول المهدية ( لكننا اذا وازنا بين هذه البقايا للفكر الصوفي والتي رفضها السلفية وبين الطابع السلفي والتجديد وفق المصالح المتجددة كما يتجلي وطبع فكر المهدي ، راينا السلفية المجددة هي الطابع الغالب عن قمة المهدية الفكرية ومن ثم رايناها في هذا الميزان ، رفضاً لفكر العصور الوسطي وتحدياً لنمط الفكر الذي ساد في عهد المماليك والعثمانيين ، الامر الذي يجعلها " المهدية " في الفكر الي التجديد اقرب منها للتقليد ويسلكها في سلك المواقف الايجابية التي تصدت للتحدي الفكري المتخلف الذي هدد حياة الامة في ذلك التاريخ ) .
يقدم الكاتب تحليله لمنهج الإمام وجدل الواقع قائلاً ( يتميز " الصادق" بعقل فقهي بامتياز وليس فلسفيا وهذا سبب التفكير بالقياس وهو منهج لا تاريخي علي تحليلاته ونتائجه وهو يتحدث عن الاجتهاد باستمرار وليس الإبداع والابتكار فالاجتهاد بناء وتحسين وتجديد وإصلاح علي ما هو موجود أصلا وليس أنشاء وإشكالية " الصادق " فوق ذلك انه يجتهد علي اجتهاد أخر هو فكر المهدية ويتجنب مغامرة التجديد الجزري خشية الوقوع في البدعة ) مشير إلي أن الإمام اتبع في اجتهاده القياس ومبدأ المصلحة والاستصلاح . ولم تكن هنالك إشارة من الكاتب علي ان هذه التوافيقية انها تشكل مشكلة في حد ذاتها وانها ليس بجديدة منذ الامام ابو حامد الغزالي ( صاحب المدرسة التوفيقية ) وقد استخدمها الاستاذ محمود محمد طه حينما قال ( راح الشرق عند تفريطه الروحي وراح الغرب عند افراطه المادي ) وفي هذا الجانب فان للدكتور يوسف فضل حسن راي اخر خلاصته ان ابرز سمات الية توليد الافكار عند الامام الصادق المهدي السمة التوفيقية وهي عنده ليس راية بيضاء لتجنب المواجهة فهي استعراض المتقابلات واكتشافها ثم استخلاص رؤية جديدة معتبراً الامام الصادق المهدي منسجماً مع المناهج البنيوية التفكيكية وما كان ليتم له ذلك لولا قدرته الفائقة علي تشخيص الفكرة الواحدة وتجريدها وردها الي اصولها والكشف عن عناصرها الرئيسية ويمكننا ان نمسك بين الفينة والاخري عبارات تدلل علي وعيه بهذه الالية .. السمة الثانية هي المفاضلة اي انه لايقبل الافكار في مجملها ولايرفضها في مجملها والسمة الثالثة هي استنطاق التاريخ لتحقيق غايتين غاية دلالية لاستخلاص حركة التاريخ التصاعدية واستشراف المستقبل واخري استدلالية لاثبات مواقفه وارائه ( ملاحظات اولية حول الية توليد الافكار عند السيد الامام الصادق المهدي د. يوسف فضل حسن في ندوة عطاء الامام الصادق المهدي مفكراً وسياسياً احتفالية العيد السبعيني في 26 ديسمبر 2005م ) .
تناول الكاتب افكار الامام الصادق في مسارين في اطار الموضوع واطار الذات وان كان الاخير هو الغالب ، فالثابت في نقد الكاتب رؤيته الكلية لشخصية ومنهج الامام والمتغير فيه هو نقد الموضوعات الرئيسية في كتاباته والقضية المحورية لدي الكتاب مرتبطة بأن الامام مفسر للاحداث وليس صانع لها مع تقديم قراءة لعدد من كتب الامام ( يسالونك عن المهدية ، ميزان المصير الوطني في السودان ، نحو مرجعية اسلامية متجددة ، المراة وحقوقها في الاسلام ، والدولة في الاسلام ، الصحوة الاسلامية ومستقبل الدعوة، معالم الفجر الجديد ، احاديث الغربة ) ليؤكد علي هذه الصورة الذهنية او النمطية stereotyping حول الامام الصادق ، نجد الكاتب يبحث عن هذه الصورة في كل القضايا التي جعلها مسار بحثه ونقده ( البحث عن النموزج المثالي ، مصادر المعرفة في فكرالصادق ، فكرة الو سطية عند الصادق ، انماط وبنية الكتابة الصادقية ، التجديد والمهدية والمعاصرة ، الدولة والمجتمع ، الدولة في المهدية الاولي ، تجديد مفهوم الدولة ، الديمقراطية ، دولة متعددة الثقافات ، الدين والصحوة والعلمانية ، نهج الصحوة والتجديد ، العلمانية ، الشوق العالمية ) يبدو للدكتور وبعض المفكرين ان إجتهادات الامام وافكاره تقود لتناقض (شكلي) ولكن بالامعان في جوهرها نجد أن هنالك رابط ( حبل ) بين إنتاجه الفكري في السبعينات والالفية الجديدة مع الاخذ في الاعتبار الحقبة الزمنية وتقلبات الواقع وظهور قضايا مستجدة .
كما ان الفرق بين منهج الامام الصادق ومنهج اليسار واضح حيث يتعامل الامام بفكر مستنير وخلاق مع الواقع حينها تكون الفكرة مستمدة من الواقع بل يعتقد جازماً ان الفكر افراز طبيعي لحركة المجتمع الذي نشأ فيه واليسار(عموماً ) يضع الفكرة اولاً ويصر علي جعل الواقع تابعاً للفكرة والنظرية ولعل الكاتب قد تناول افكار الامام من هذه الزاوية .
لم يشير الكتاب الي ان الامة السودانية بالغة التعقيد لايمكن اختزالها في ثقافة او مذهب فكري واحد وكتابات الامام لا تنفصل عن هذا الواقع المزدحم بالتوجه الديني " المقدس " الذي يعبر الي حد كبير عن هوية اغلبية اهل السودان مع فشل تجارب السياسة " المدنس " في حل مشاكلهم المتفاقمة فجاءت كتاباته تعبر عن اشواق الاغلبية ومعالجة لأخطاء التجارب السابقة ليجعل من افكاره إستصحاب ثمرة المدرستين و يحسب له أنه قدم أفكار ساهمت في ردم الهوة بين الواقع والفكر مما جعل د. يوسف فضل حسن يعتبره من رواد التجديد في الفكر الاسلامي المعاصر.
إن فشل المشروع المايوي" اليساري " والحضاري" الاسلاموي " كتجارب فكرية وراء حرص الإمام علي المراجعة والنقد الذاتيين في الجانب الفكري وتوسيعه وانتاج الجديد وصولاً بمسار القضية السودانية - الاسلامية والانسانية وذلك في سعيه الدوؤب لتصويب الاخفاقات التي صاحبت تلك التجارب مع إستلهامه الدائم بدون اي تحفظ للتجارب الناجحة والبحث لها عن مبرر واقعي وتطبيقي ، كما ان فكره هذا والذي تشرب به كوادر ( شباب وطلاب) أستطاعوا ان يهزموا به مشاريع نميري الفكرية والمشروع الحضاري للانقاذ بالتفنيد والتفكيك وطرح البديل والسند لهذا الزعم المعارضة الشرسة للمشروعين عسكرياً وسياسياً ودبلماسياً بالاضافة لكمية الكتب والمخاطبات واللقاءات الجماهيرية والمقابلات الصحفية في الفترتين .
الربط بين الديمقراطية والاسلام هو ايضاً من العناوين البارزة في فكر الامام وهذا التركيز يظل ظاهرة صحية ولكن توظيفها يتوقف بالكاد علي ازالة التشوهات والشبهات حولها وأقلمتها في الواقع وليس القفز عليه مع يقينه التام ان الديمقراطية وسيلة للحكم الراشد وتطبيق المبادي السياسية العامة للاسلام . إن تصحيح الفهم حول الديمقراطية من كفر والحاد كما تجلت في الوعي الاسلاموي الي علاقة تلازم وتوافق مع الاسلام في جوهره وضرورة للوعي بالذات والاخر هذه ثابتة في فكر الامام الصادق وقد تجد بعض الممارسات التي تخضع للمتحركات وتجليات الواقع السياسي المضطرب في السودان ولكن لأ ترتقي لنسف رؤيته حول للديمقراطية.
توفيقية الامام الصادق بين الروحي والمادي (النقل والعقل ) وثنائياته الاخري لم تكن عفوية بل كانت عميقة بإجتهاد جاد ودوؤب في تفكيك بنية كل من النقيضين والمتقابلين ، وقد جعل لهذا التوجه صيرورة تتجلي في الاندماج مابين الحداثة والهوية والاصل والعصر وسيرورة تتجلي في الدعوة المتكررة لإيجاد مكانها من التنفيذ وتبنيها دون قضاضة أذ لم يربطها بأليات محتكرة وهذه مهمة استعصت علي كثير من المفكرين في عالمنا العربي وهذه تنفي فرية التوفيقية القائمة علي التلفيق وتجنب المواجهة والكسل الفكري فأفكار الرجل اليوم مواجهة وبشراسة من قبل المتطرفين من اقصي اليمين واليسار ، وهذا مايجعله من دعاة الوسطية دون مشقة للإنسجام التام ما بين فكره ومنهجه والتي تعني لديه خياراً أفضل واجود وليس حياداً او عدم إنحيازاً وليس موقفاً يأتي لاحقاً بين طرفين او إتجاهين سابقين والبحث عن الوسط بينهما ، بل أفكاره اليوم في خانة السبق وعلي ضوءها تأتي ردود الافعال تبحث عن المهاجمة والنقيض.
كثير من كتابات الامام تجاوزت الخصوصية الجغرافية الي الفضاء الاسلامي الاوسع مع إحتفاظه بهذه الخصوصية السودانية في كل كتاباته ليقينه أن الامعان في الخصوصية هو سبب تمزق العقلية الجمعية الاسلامية وغياب دور المساهمة الاسلامية في حل المشاكل الدولية .
السؤال الجوهري ما الذي يؤمن العودة للجذور " الاصل " دون السقوط في التطرف والانكفاء ؟ ومن الذي يؤمن العبور نحو المستقبل " العصر " دون القفز في الظلام ؟؟ في فكر الامام الصادق هذا التوازن الرهيب ( العبور والعودة للجذور ) الروحي والمادي والدين والدولة والأصالة والحداثة وغيرها فالعلاقة جدلية ، وفي فكر الامام الصادق تشريح وتحليل لهذه الثنائيات المعقدة والحقيقية والحكمة تقتضي الإعتراف والاقرار الواقع القائم علي هذه الثنائيات وعدم تجاوزها في اي تفكير او تنظير . سمة خلط لدي الكثيرين في تعريفهم للاصالة بانها العودة للقديم وانما هي إعادة صياغة الاصول صياغة جديدة . اما عن الحداثة لايمكن القفز علي الحقيقة التي اوردها محمد عابد الجابري في كتابه التراث والحداثة ص 16 يقول : ( مشكلة الحداثة في الفكر العربي المعاصر الي انها تستوحي اطروحاتها وتطلب مصداقية خطابها من الحداثة الاروبية التي تتخذها أصولاً لها بدلاً ان تبحث عن تلك المصداقية في خطابها نفسه خطاب المعاصرة ويري ان خطاب الحداثة مدعو في ظل سيادة الثقافة التراثية الي التوجه اولاً وقبل كل شي الي التراث بهدف أعادة قراءته وتقديم رؤية عصرية عنه ) . وهذه منطلقات كتابات الامام في هذه الثنائيات .
بمقارنة فكر ومنهج الامام الصادق مع القوي الحديثة ( اليساري والاسلاموي ) فإن الوعي لديهم اكثر التباساً وإشكالياً لانه منقسم بين الواقع القائم علي الجماهير والنخبة القائمة علي الفكر والتنظير فيفتقد الانسجام وهذا هو العائق لتطور الوعي والذي يرجع بالاساس للقيد الايدلوجي مما يوصف بالوعي الزائف . كما ان هذه القوي متخلصة من عب التاريخ ومسؤليتها إتجاهه خفيفة لذا لاتقيم له وزن وإنما همها الراهن والحاضر ولان ليس لها ماضي أو موروث لذلك إنفتحت للبحث عن هوية . وتميز ايضاً عليها فكر الامام الصادق بالمرونة وربط إجتهاداته بالدعوة بالتي هي احسن متمسك بمقاصدها وتاركاً للأخرين الحق في التبني او الرفض فلم يمارس إكراهاً او تعصباً أوتعنتاً كما فعل ذلك اليساريين والاسلامويين مما شكل تلازم فكري أخلاقي لدي الامام في واقع سادت فيه نظرة البحث عن عدو وخصم ، فإتسمت أفكاره بروح البحث والتخاطب بلغة التلاقح الفكري والتباين المنهجي وليس لغة تصادمية نافية للأخر .
ختاماً: الكتاب ناقش قضايا في غاية الاهمية وتطرق لملفات تتعلق بعقلية الامام المنتج للفكر الوسطي مع نقد مطولة للمهدية الاولي والدولة في فهم الصادق المهدي والوسطية والعلمانية وغيرها هذه القضايا تحتاج للمزيد من الحوار والمفاكرة حولها فهذه محاولة أولي لنقد فريضة النقد إستجابة للدعوة للحوار والنقد بعيداً من المبالغة .. لنا عودة إنشاء الله ...


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !