في الوقت الذي سألني فيه الحكيم سليمان عن أي أخبار مطمئنة عن الطفل المختطف "معاذ" كانت جميع الأخبار شديدة السوء ..
الأم الشابة دخلت حالات الغيبوبة والانهيار التام وفزع الدنيا ينتناهبها مع كل مكالمة صوتية تصدر من الخاطفين تهدد الأب الشاب بقتل الطفل معاذ إذا لم يجهز لهم مبلغ الفدية وقدره خمسة مليون جنيه
في ذلك الوقت وفي عز نومي جاءني اتصال تليفوني يطلب مني ارتداء ملابسي في ثلاث دقائق والانتظار في مكان ما .. فقد تم تحديد مكان الطفل المخطوف "معاذ"
انتابتي رعشة شديدة ممتزجة بفرحة متحفظة من المجهول القادم .. كانت السيارة تنتظرني .. لم يحدد قائدها وجهته .. فقط نظر لي نظرة المتأهب لمعركة حربية .. كان وحده الذي جاءته معلومة عن مكان إخفاء الطفل المختطف "معاذ " لم يخبر أحداً به سوى ضابط بالبحث الجنائي صديق لنا ووالد الطفل وأنا ..ولم يحدد مفاد المعلومة إلا بعد تقابلنا جميعاً في نقطة الالتقاء بأحد مراكز الشرطة بالإسماعيلية .. .. فالمعلومة مفادها أن الطفل معاذ تم رصده بشقة إحدى العمارات بالإسماعيلية بمساكن "م" بجوار منفذ بيع .. وهذه الشقة يقطنها أحد الخارجين على القانون وهارب من سجن وادي النطرون أثناء أحداث الفوضى التي أعقبت الثورة .. وتم رصد معاذ مرتدياً زيه المدرسي بلونه البني وعليه بادج "مدارس المنار للغات بالإسماعيلية" وهي ذات الملابس التي كان يرتديها معاذ لحظة اختطافه من السيارة التي كانت متوجهة به وشقيقه "براء" إلى المدرسة . .
امتعض وجه الضابط فور علمه بمكان تواجد الطفل المختطف .. فهو مكان مزدحم بعمارات سكنية متشابهة العالم ومفتوحة من كل الجوانب مما يصعب السيطرة عليها مالم يتم تحديد موقع الطفل المختطف بدقة متناهية حتى لا تفشل العملية خاصة أن أي غريب يدخل هذا المكان ترصده عيون "الناضورجية" المنتشرة بأرجائه ..
وما زاد الأمر صعوبة عدم تواجد أية قوة أمنية في تلك اللحظة بسبب حادث مقتل أحد الأشخاص الهاربين من السجن أثناء مطاردته وقيام الشرطة بتأمين منطقة مقتله .. أبدى صديقي استعداده لحشد رجال مسلحين لتنفيذ عملية الهجوم وتحرير معاذ من خاطفيه .. الضابط أبدى تحفظه على ذلك الاقتراح خشية عدم السيطرة على الرجال المسلحين أثناء التعامل وانفلات الزمام من يده .. ولكن حالة الأب الشاب وحماسنا وتخوفنا من مرور الوقت واستشعار الخاطفين الخطر وهروبهم بالطفل معاذ كل ذلك حسم الموقف نحو موافقة الضابط على القيام بالهجوم مستعينا برجال مدنيين مسلحين ..
وبالفعل وعقب عدة اتصالات وفي غضون نصف ساعة احتشد في مكان ما رتل من السيارات المحملة برجال مسلحين من الأقارب والأصدقاء والجيران دون أن يعرفوا وجهتهم .. تحركت قافلة السيارات بسرعة شديدة خلف السيارة التي ضمتني أنا وصديقي والضابط ووالد الطفل المخطوف "معاذ" نحو المكان المظنون تواجد الطفل فيه .. وحال وصولنا إلى ذلك المكان .. أثار صخب السيارات انتباه المنطقة كلها بصورة ملحوظة .. انتشر الرجال حول إحدى العمارات السكنية وطوقوها ثم انطلق الضابط وخلفه مجموعة نحو الشقة المظنون احتجاز الطفل معاذ بها .. كانت مغلقة .. لم ينفتح بابها رغم الطرقات القوية عليه .. خرج الجيران .. أخبروا الضابط وسط الذعر بمغادرة صاحب الشقة قبيل وصوله بعشرة دقائق .. وبأن لا أحد يقطن الشقة معه غير والدته بينما زوجته غاضبة لدى أهلها ..
في هذه الأثناء انطلقت رصاصة مجهولة أحدثت دوياً هائلاً أثارت هياج الرجال المسلحين ورفع الجميع أسلحتهم وتأهبوا لإطلاق النار دون تحديد هدف معين .. واتضح أن أحد الرجال المتطوعين حين حاول شد أجزاء سلاحه الناري انطلقت منه رصاصة غير مقصودة ولكن الله سلم ولم تصب أحداً ممن حوله ..
قرر الضابط إلغاء المهمة والعودة إلى حيث أتي ..وغادر الجميع المكان ..ركبنا السيارات والأسى يلف الجميع والحزن منتثر على الوجه وأشد الرجال جسارة يشعر بأنه مقيد وضعيف إذ يواجه عدواً جباناً ومجهولاً يتلاعب به ويحتجز طفلاً صغيراً وروحاً بريئة دون التمكن من الوصول إليه ومحاولة إنقاذه .. كنا نشعر أن معاذ في إحدى الشقق وسظ مئات البنايات في مدينة سكنية ضخمة ومتشابهة المعالم والتصميم ..الجميع يشعر بالعجز ..وبعدم القدرة على منع الرغبة الحارقة بالبكاء للفشل في الوصول إلى مكان "معاذ" وإنقاذه وتحريره من يد خاطفيه
وأثناء عودتنا اتصل الرجل الهارب صاحب الشقة بأحد المرشدين السريين وهو لا يعرف أن المرشد كان معنا بسيارتنا وقت الهجوم على شقته وأخبره أنه علم أن البوليس هجم على شقته بمظنة خطفه طفلاً صغيراً واحتجازه بشقته وقد نفى للمرشد هذه التهمة وأنه بريء منها وأنه فقط تاجر مخدرات متمنياً أن يوصل هذه المعلومة للمباحث ..
بعد هذه المكالمة وأثناء مناقشتنا مع والد الطفل معاذ عن مدى مصداقية ذلك الرجل رن تليفون والد معاذ الذي انتبه فجأه وصرخ فينا .. إنها مكالمة من الخاطفين .. صمت الجميع في السيارة التي تقلنا .. فتح والد معاذ جهاز الصوت في التليفون لنتابع معه المكالمة .. جاء الصوت مكتوماً لرجل كأنه أغلق أنفه بيده وتحدث ليغير صوته .. عنف الخاطف والد الطفل "معاذ عن تأخره في دفع الفدية والتي نزل فيها من خمسة ملايين جنيها إلى مليون ونصف المليون جنيه وأخبره أن البوليس لن ينفعه فهم يتحدثون إليه من بلاد مختلفة حتى لا ترصدهم أبراج المراقبة في شبكات المحمول .. وأنهم في حال استشعارهم الخطر سيقتلون الطفل ولن يصل إليهم أحد .. ثم أمهلوه بضعة أيام وقبل أن يغلق الخط أخبره أن الطفل مريض وربما لن يحتمل مزيداً من الوقت وعليه أن يسرع في دفع الفدية وإنقاذ حياة ابنه ثم طلب منه أن يرسل إلى التليفون الذي يحدثونه منه شحناً ليواصلوا التحدث إليه ثم أغلق الخط ..وانهار الأب ..
قمت بتسجيل المكالمة على تليفوني المحمول .. وانقسمت الآراء حول تحديد هوية الخاطفين وتحليل فحوى ومضمون المكالمة .. والعجيب أن "المباحث "كانت آخر من يعلم ..وكأنها في غيبوبة .. وهو الأمر الذي كاد يطير صوابي .. فكل الخيوط مهيأة و"بسهولة" للمباحث لتقصي أثر الخاطفين ومراقبتهم وتحديد أماكنهم والانقضاض عليهم ..ولكن وكأنك تنطح رأسك في الجبل .. فلا من مجيب ..
وقد كشف السر لي أحد الضباط "الكبار" الذي كان مرافقاً لي في إحدى القضايا المتعلقة بالثورة حيث همس لي .. بأن ضباط المباحث وحتى يريحوا أنفسهم من عناء البحث و"المرمطة" والمطاردة .. فإنهم يحولون بلاغات الخطف إلى بلاغات اختفاء عادية أي خرج ولم يعد .. ليواصلوا النوم في العسل ..
كانت صدمة شديدة لي .. أبلغت على إثرها والد الطفل "معاذ" الذي قال لي أنه لم ولا ينتظر منهم شيئاً وأنه لا يملك حالياً ثمة سيولة لجمع مبلغ الفدية ولكنه يشعر أن عليه أن يفعل شيئاً ....
التعليقات (0)