مواضيع اليوم

محامي الشيطان,. مبالغة لفظية, أم الزام مهني؟

د.هايل نصر

2009-12-20 23:41:45

0

 

رغم عراقة مهنة المحاماة ونبل رسالتها تبقى عند الكثير من غير الحقوقيين, غير معروفة حق المعرفة. ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن هذا هو حال الكثير من الحقوقيين, أو حتى بعض ممارسي هذه المهنة ــ ليس جهلا بأصولها وإنما تقصيرا بمتطلباتها. وهذا ما يتبين من أعمال المجالس التأديبية وأحكام المحاكم المختصة ــ فعند الإنسان العادي, العربي بشكل خاص, المحامي هو " رجل الخطابة" وصناعة الكلام, الذي يقف في المحاكم يلقي الخطب المنمقة باسم موكله ولصالحه في القضايا المدنية, ويدافع عن البريء وعن المجرم في محاكم الجنح والجنايات. ويقبل أن يكون " محامي الشيطان" ليكسب معيشته من هذه المهنة.

ومما يغلف مهنة المحاماة بضبابية, كذلك, لدى العامة, مواقف بعض المحامين في العالم العربي, من تنكر لأدبيات المهنة déontologie ومنها, بل وأخطرها, السكوت على استمرار أنظمة الطوارئ والأحكام العرفية المستمرة منذ عقود, وعدم الإشارة إليها والمطالبة الدائمة والفعّالة بإلغائها, وإشادة بعضهم, بواضعي هذه الأنظمة والأحكام, (المخالفة للحريات الفردية والعامة, ولحقوق الإنسان, ولحق الدفاع, مهمتهم الأساسية ), والهتاف لهم, بشكل غير لائق برصانة المهنة, في المؤتمرات والتجمعات المهنية والعامة, وكأنهم أعوان السلطة التنفيذية وليسوا أعوان القضاء المستقل.

وقبل محاولة التعريف بأدبيات مهنة المحامي La déontologie de l’avocat نرى ضرورة الاستشهاد بموقف نعرفه لمحامي تولوز, يبين الأدبيات المهنية العالية, والتمسك بالدفاع عن الحق مهما كان الثمن, ومهما كانت صفة صاحبه, وذلك في قضية المرافعات في مراكز حجز الأجانب الداخلين لفرنسا أو المقيمين بها بصورة غير قانونية. فقد رفض جميع المحامين, مؤيدون بنقابتهم, التوجه إليها للمرافعات الشفهية واكتفوا بتقديم مذكرات دفاع عن موكليهم مكتوبة, واستمر ذلك شهورا, رغم عقد جلسات محكمة قاضي الحريات والحجز. ومحكمة الاستئناف, في عين المكان لإجبارهم على الحضور. كل ذلك لم يثن هؤلاء عن موقفهم الذي يعتبر محاكمة المحتجز في مركز الحجز غير قانوني. و يمس بحق الدفاع الذين هم حماته. والدفاع هنا عن أجانب من أديان وقوميات وثقافات متعددة. ولا يؤثر فيه المواقف السياسية للعديد من الأحزاب الفرنسية وبشكل خاص اليمينية واليمينية المتظرفة وبعض الأحزاب اليسارية المتذبذبة. وقد تمت الاستجابة لطلبهم وعادت الجلسات لتنعقد مفي مقار المحاكم .

مهنة المحاماة جديرة بان تسلط عليها الأضواء بهدف التعريف الصحيح بها, وإيصال صورتها الحقيقية للجميع. وهذا ما لا يراه المراقب للواقع العربي, حيث لا يخصص منتسبوها والمهتمون بها ما يكفي لإعطائها حقها في هذا المجال. فالمؤلفات والمقالات والندوات التي تشير إليها نادرة, تخاطب أعضاء المهنة بشكل خاص, وكثيرا ما يكتفي بعضها بالإشادة بفضائلها والتغني بها, والوقوف عند ذلك (في زيارات لمواقع الانترنت لبعض نقابات المحامين العرب والتي تضم المئات وأحيانا الآلاف من المحامين المسجلين في تلك النقابات , نرى عدد المقالات المتعلقة بالمهنة, وبالقضاء, وبالثقافة القانونية محدودة جدا. والأكثر محدودية وبصورة لا تصدق عدد زوار وقراء تلك المقالات عشرات في العام!!!, وقد يرتفع العدد قليلا عندما يكون المنشور قصيدة شعرية, أو إشادة نثرية, مرافعة , بفضائل وعدل زعيم أو رئيس أو أمير). والبرامج الإعلامية ,بما فيها المتلفزة, (المخصصة في غالبيتها لنشرات إخبارية تدوم ساعات عن زعماء الأمة , أقوالهم وحكمهم واستقبالاتهم ومكرماتهم المنزلة على شعوبهم. وللمسلسلات, وللفن الصاعد منه والهابط), لا تخصص لها أية مساحة. هذا إلى جانب الإغفال الكامل للتربية الحقوقية في كل مراحل التعليم وحتى الجامعي, ما عدا كليات الحقوق التي تدرس القانون وليس المهن القانونية ومنها المحاماة.

تعود أصول المحاماة إلى العصور الضاربة في القدم. كان قانون سولون Solon يفرض على المواطن الأثيني الدفاع عن نفسه بنفسه أمام محكمة الشعب. وكانت الخطابة ميزة طبيعية عند اليونان, وعامل نجاح وشهرة لممتهنيها, وعليه كان صاحب القضية يفضل إسناد قضيته للدفاع عنها إلى خطيب سياسي من المشهورين في هذا الفن في أثينا كلها ومنهم ديمستان Démosthène , تيمستوكل Thémistocle , و ليزياس Lysias , الذين يعتبروا في هذا المجال من أوائل المدافعين في التاريخ. ( Bernard Sur. Histoire des Avocats en France, Dalloz ). و لم تكن مهنة المحاماة قد وجدت بعد في اليونان. كان المدافعون يعملون على الدفاع عن حقوق موكليهم وحماية مصالحهم, عندما تطلب منهم المساعدة في حالة وجود صعوبة قانونية. ومع تعقد مجال الحقوق كان من الضروري الاستنجاد بمختصين يعرفون لغة القانون وعلمه. (Roger Perrot ; institution judiciaire, 12 édition ). إضافة إلى synégores التي تقتصر مهمتهم على الشهادة بصفات وأخلاق المتهم . وقد لخص توماس مور ذلك بقوله " لم يكن بين اليونان محامين لأنهم يعتبرون هؤلاء نوع من الرجال مهمتهم إخفاء القضايا, وتحريف القانون. وعليه كانوا يفضلون أن يدافع كل إنسان عن قضاياه مباشرة أمام القضاة". ففي نظام الديمقراطية المباشرة كانوا يرون أن كل مواطن مفترض فيه ان يقوم بنفسه بكل شيء, يدافع عن الحاضرة ـ الدولة كما يدافع عن نفسه.

وعند العبرانيين كان يدمج الدفاع بالمحكمة نفسها, التي تتكون من 23 إلى 71 قاض موزعين بين قضاة اتهام وقضاة دفاع.

وكان لما ساد في أثينا أثره في روما القديمة. حيث لعب الخطباء السياسيون دورهم في الحاضرة Cité لمصلحة موكليهم, بناء على مبادرتهم الخاصة, أو على طلب المساعدة من الموكلين. يقومون بمرافعاتهم الشفهية, المجانية, بطلب من أوغيست Auguste, لكون المجموعة القانونية الرومانية معقدة في الموضوع, وفي القواعد الإجرائية. وقد وجد في القرن الأول قبل الميلاد من يمتهن كتابة المذكرات القانونية لمصلحة المترافع. ثم تم توحيد العملين: المرافعة الشفهية, وكتابة المذكرات. وأخذ دور المحامي advocatus يتعاظم شيئا فشيئا في روما.

وقد أعطت مرافعات ورسائل سيسرون Cicéron نبلا وأهمية لهذه المهنة ولفن الدفاع. وكذلك محامون مثل كاتون Caton . كراسيس Crassus . كانتيليان Quintilien. وغيرهم. وتحت رعايتهم عرفت مهنة المحاماة سموها واتساعها المذهل. فشكل المحامون هيئة مهنية تم تنظيم نشاطاتها.
وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية, لم يعد يمثل من بقي من ممارسي مهنة الدفاع عن الآخرين, في إطار الدعاوى, مهنة حقيقية. ومع عودة اكتشاف القانون الروماني في القرن الثامن, قامت المحاكم الكنسية, ثم العلمانية, بإعادة إنشاء مهن حقيقية للدفاع القضائي. ونظم مرسوم ملكي لأول مرة نشاط المحامين عام 1274 معلنا أن على المحامين المترافعين أمام المحاكم الملكية أن يقسموا يمينا بان لا يدافعوا إلا عن القضايا العادلة juste. وان لا تتجاوز أتعابهم حدا معينا.

في القرن السابع عشر لم يكن هناك أية قيود تفرض على المترافعين. وعليه كان يستطيع أي شخص أن يصبح محام. و لكن ,مع ذلك, كان عليه متابعة دراسات محددة وعلى مراحل. في المرحلة الإعدادية: دراسات عامة. في المرحلة الجامعية: دراسات متخصصة مع التعمق في دراسة الحقوق.

لسنا هنا بصدد تتبع تطور مهنة المحاماة في تلك العصور (على الراغب في ذلك العودة, بشكل خاص, إلى أعمال André Damien, les avocats du temps passé. R. Martin, la déontologie de l’avocat, éd. 2004. Bernard Sur. Op. cit. Loïc DAMIANI, Société internationale d’Histoire de la profession d’Avocat. 1996, N° 8, P.109 et s.) ). وإنما الإشارة إلى بعض أدبيات المحاماة. وستكون مرجعيتنا, في هذا المقال العجالة, نظام المحاماة في فرنسا, المتبع في الكثير من الدول العربية, والذي يهم آلاف المهاجرين من أصول عربية.

كانت مهمة المحامي في فرنسا القديمة (ما قبل ثورة 1789 ) تتمثل في الدفاع الشفهي عن موكليه أمام المحاكم. في حين كان يقوم بالإجراءات المكتوبة متخصص آخر يسمى وكيل procureur الذي عرف فيما بعد بوكيل الدعاوى avoué.

ولعل ما يقرره نيكولا كوراتو Nicolas Corato يبين دور المحامين في تاريخ فرنسا بقوله أن تاريخ فرنسا هو أيضا تاريخ قضائي. فأمام محاكم النظام القديم, ثم المحاكم الثورية أو المحاكم الجنائية, تعاقبت شخصيات مشهورة وقضايا كبيرة .... التاريخ القضائي تاريخ "مكتوب" من قبل محامين... تاريخ مصنوع بكلماتهم التي استطاعت تغيير مجرى الإحداث.
(مرافعات رائعة و دعاوى كبرىGrandes Plaidoiries et Grands Procès, Paris p.5 ).

ومن المفيد هنا الإشارة إلى ما كان مطلوب توافره في المحامي قديما, حسبما لخصه فقيه قانوني في القرن السابع عشر, لاروش فلافان La Roche Flavin: " ازيود (شاعر أغرقي) يقول: لشق ثلم بمحراث خلال فلاحة الأرض, كان يجب توافر مئة قطعة خشبية مختلفة. والذي يريد أن يكون محام جيد عليه التزود بمائة أداة. زيادة على علم الحقوق الذي هو أساس فنه, عليه دراسة معمقة للخطابة. والجدل, وعلم الأخلاق. والسياسة. والتاريخ الخ.." Cité par Maurice Garçon dans sa « lettre ouverte à la justice. Voir Danet, op.cit.p.85 ).

ألغت الثورة الفرنسية فور قيامها كل الوسطاء في القضاء, محامون ووكلاء. من منطلق أنها ضد كل المؤسسات القضائية للنظام القديم. وأن الثورة ضد كل أنواع الفساد.
ورغم وجود أكثر من 200 محام في الجمعية الوطنية التأسيسية لم يتصد هؤلاء لمرسوم إلغاء مهنة المحاماة ولا لمنع حل نقابات المحامين les Ordres d’avocats الذي أعلنه مرسوم 11 سبتمبر 1790:" رجال القانون الملقبون " محامين" لا يستطيعون تكوين نقابة أو حرفة. ولا يجب أن يكون لهم لباس خاص بهم خلال عملهم".

وقد نتج عن ذلك حالة من الفوضى شملت إدارة القضاء. مما أجبر نابليون بونابرت لاحقا على أن يقوم بإعادة مهنة الوكلاء الذين أصبحوا يسمون منذ ذلك التاريخ وكلاء الدعاوى (قانون 27 فانتوز عام 1810 ).ثم إعادة المحامين فيما بعد (قانون 14 ديسمبر 1810 ). وعندما تمت صياغة القانون الجزائي Code pénal لم تكن أية هيئة للمحامين قائمة. وهذا ما يفسر أن قانون التحقيق الجنائي الذي بقي قائما حتى عام 1958 لم يتحدث عن محامين بل عن مستشارين Conseils .( Bernard Beignier et autres, Droit et Déontologie de la profession d’avocat, puf ).

لم تكن السلطات السياسية وقتها مرتاحة لاستقلالية المحامين. وينسب إلى نابليون القول: " طالما السيف إلى جانبي, سيكون ضمن سلطتي قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة ". وقد علق روجيه برروت, على ذلك بقوله: لقد برهن الزمن أن لسان المحامي كان أكثر صلابة من سيف الجنرال. بدليل ذهاب هذا الأخير وبقاء مهنة المحاماة وتوطيدها.

كما لم تكن المحاماة وحياة ممارسيها سهلة وعادية منذ النشأة وعبر القرون الوسطى على المحامين في كل العصور, ومع تطور المجتمعات وتحولها, تم التوصل إلى ابتكار الهيئة la structure التي تحميهم وتسمح لهم بممارسة مهنتهم بما يتناسب مع الواقع الجديد.

في عام 1920 ظهر المحامي المعاصر. قبل هذا التاريخ كان لقب "محامي" يستخدمه حتى من لا يمارس المحاماة كمهنة. فجاء مرسوم 20 جوان (حزيران للعام المذكور ليلبي رغبة ومطلبا قديما للمحامين لحصر ممارسة المهنة بالمسجلين على لائحة المحامين le Tableau بنصه على أن: " يحق فقط لحملة الليسانس في الحقوق, المسجلون على لائحة المحامين, أو على لائحة المتدربين, ممارسة مهنة المحاماة".

وابتداء من عام 1927 فرضت عقوبات على كل من يمارس المحاماة دون أن تتوفر فيه الشروط المطلوبة لذلك: المؤهل العلمي. والتسجيل على قائمة المحامين, أو المحامين المتدربين. ثم تتالت المراسيم والقوانين المنظمة للمهنة إلى أن وصلت لشكلها الجديد عام 1971.

عرف عام 1971 صياغة جديدة لمهنة المحاماة في فرنسا مع الإصلاح الجذري الذي حمله قانون 31 ديسمبر للعام المذكور بنصه في المادة الأولى على أن " المهمة الجديدة للمحامين حلت محل المهن السابقة لهم لدى المجالس القضائية les cours) ), والمحاكم. ومهن وكلاء الدعاوى لدى المحاكم الابتدائية الكبرى ( tribunaux de Grande instance ) .." . كما جاء في المادة الرابعة منه " لا يستطيع أحد, إن لم يكن محام, أن يقوم بتقديم مساعدة للأطراف أو بتمثيلهم, أو المرافعة عنهم أمام المحاكم و الهيئات القضائية, أو التأديبية بأي شكل من الأشكال".

وقد وضع هذا القانون أسس وشروط التكوين المهني المتعلقة بمهنة المحاماة وطرق ممارستها. وبهدف تمتين وإغناء تكوين المحامين من النواحي العلمية والعملية. وتوضيح الحقوق والواجبات وأدبيات المهنة, أوجد مراكز للتكوين المهني centres des formation professionnelle (CFPA ). وقد تتالت الإصلاحات وبشكل متواتر.

فاشترط قانون 30 جوان 1977 في طالب الالتحاق بمهنة المحاماة حيازة شهادة المتريز في الحقوق. وسنة دراسية بعدها للإعداد لدخول تلك المراكز يليها امتحان الدخول, الذي هو في الواقع, اقرب للتصفيات القاسية جدا منه للامتحانات. بعدها يتابع الطالب سنة دراسية, 12 شهرا, في المراكز المذكورة, تكون الدراسة فيها نظرية وعملية, وتدريب في مكاتب المحامين, والمحاكم, والشركات الوطنية والأجنبية. يمنح من يجتاز امتحانها بنجاح شهادة أهلية ممارسة المهنة (CAPA). يحلف بعدها المتخرج يمين المهنة و يتابع تدريبه كمحام متدرب لدى محام أستاذ لمدة سنتين ليصبح بعد قبوله في التسجيل على لائحة المحامين Le Grand Tableau محام أستاذ maître. وقد تبع هذه التعديلات الجوهرية تعديلات لاحقة, تنظيمية وتكوينية, للمحامي وللنقابة ولمجلس النقابات, حتى يومنا هذا, ولا نرى هنا مجال الإشارة إليها.

وقد جاء قانون 130ـ2000 الصادر بتاريخ 2004 ليلغي فترة التدريب بعد التخرج من مراكز التكوين, ويسمح للحاصل منها على شهادة التأهيل لممارسة المهنة التسجيل على لائحة المحامين مباشرة. وفي مقابل ذلك فرض عليه مبدأ التكوين المتواصل الإجباري طيلة حياته المهنية. هذا التكوين تقوم به مراكز تكوين المحامين المشار إليها أعلاه.

وعلى كل مجلس نقابة أن " يسهر على التأكد من أن المحامين المنتسبين له يتابعون, بشكل مرض وكاف, التكوين الإلزامي لدى المراكز المذكورة" ( L.31 déc.1971, art.17-11°, mod. Par la loi de 2004 ). غير أن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الواجبات الأدبية لمهنة المحاماة, التي تدرس في مراكز التكوين وتلتزم النقابات بمراعاتها وفرضها على جميع أعضائها طيلة حياتهم المهنية والخاصة. ولكن بالتأكيد لم يعد المحامي بحاجة لمائة أداة كالتي طالب بتوفرها لديه فقهاء القرن السابع عشر كما سبقت الإشارة. فمحامي اليوم وأدواته مختلفة بطبيعة الحال عما كانت عليه سابقا.

أدبيات مهنة المحاماة la déontologie .

يعود تاريخ أول تدوين في فرنسا للواجبات الأدبية للمحامين لعام 1535. فقد كانت قبل ذلك موزعة في نصوص متفرقة وعامة. ( على الراغب بذلك مراجعة برنار سير. مرجع مشار إليه سابقا و جان لويس دوبريه, جمهوريات المحامين. Gean-Louis DEBRE, les Républiques des avocats. ). و تعرف الواجبات الأدبية على أنها "نظرية الواجبات" ( مصطلحات لالند Vocabulaire Lalande) ). لعل التعريف الأكثر قبولا وشيوعا هو ما يعتمده بهذا الصدد قاموس المصطلحات القانونية المنشور من قبل جمعية هنري كابيتان Henri Capitan: " مجموعة الواجبات الملازمةinhérent لممارسة نشاط مهني حر. وتحددها غالبا النقابة المهنية".

يحدد يمين القبول لممارسة مهنة المحاماة حاليا المبادئ الأساسية التي ستوجه سلوك طالب دخول المهنة, بعد توفر كل الشروط المطلوبة لدخولها بالعبارات التالية: " أقسم, كمحام, بأن أمارس مهامي بكرامة, وضمير, واستقلال, و استقامة وإنسانية". يمين تقع تحت طائلته كل تصرفات ونشاطات المحامي, المهنية منها والشخصية, طيلة حياته.

ويترتب على إخلال المحامي بواجباته تعرضه لعقوبات تأديبية واسعة جدا. فالمادة 183 من مرسوم 27 نوفمبر 1991 تنص على إن " كل مخالفة للقوانين واللوائح, كل مخالفة للقواعد المهنية, كل مخالفة للاستقامة, أو للشرف, أو اللياقة, حتى وان تعلقت بوقائع مرتكبة خارج المهنة, تعرض المحامي المرتكب لها لعقوبات تأديبية محددة بالمادة 184 ". مما يبين الإصرار على إجبار المحامي على أن يكون مثال المواطن المسؤول الذي يحترم كل القوانين والأنظمة. ولكن مع ذلك لا يؤدي المحامي يمين الولاء للنظام السياسي القائم. فالولاء للجمهورية.

عقدت في لبنان عام 2000 ندوة عالمية تحت عنوان "كرامة, أبعاد, وحماية Dignité dimensions , et protection ). تم فيها البحث في الأبعاد المتعلقة في الواجبات الأدبية المشتركة لمهنة القضاة والمحامين. وقرر الكثير من المشاركين انه بقدر ما تكون الالتزامات الأدبية كبيرة بقدر ما تسمو المهنة. وأكدوا على ضرورة مراعاة هؤلاء لبعض الشروط مثل التحفظ, والحذر, والرزانة. وكثيرا ما يقعوا تحت طائلة الملاحقة التأديبية ليس فقط للإخلال بواجبات المهنة, وإنما كذلك لوقائع تتعلق بحياتهم الخاصة. ( A. Sériaux, le droit, une introduction). فقد أراد المشرع أن يفرض في مواجهتهم التزاما كبيرا بالأخلاق يفوق ما هو مطلوب من المواطن العادي. فلا يستطيع محام, على سبيل المثال, أن يترافع في قضية طلاق إذا كان هو نفسه تهرب من دفع النفقة الغذائية الواجبة عليه تجاه أبنائه. كما أن مسؤوليته في مخالفة قانون السير اكبر من مسؤولية المواطن العادي. ( برنار بينيه. المرجع السابق).

يعتبر المحامي في فرنسا "عون القضاء Auxiliaire de la justice." . وهناك عناصر مشتركة بين الواجبات الأدبية للمحامي و للقاضي تتعلق بالالتزام الواجب على كل منها في احترام المؤسسة القضائية. وهذا الالتزام لا يقتصر على المحامي وحده, أو القاضي وحده, وإنما هو التزام مشترك. كما أن احترام المتقاضي هو أيضا التزام مشترك يقع على عاتقهما. op.cit.Canivet ) ). " المحامي شريك القضاء, ولكنه وكذلك ناقد و شاهد على المؤسسة القضائية و على القانون " ( Jean Danet, Défendre, Dalloz, 2001 ).

المحامي الجيد يساهم في إيجاد القاضي الجيد. ونوعية العمل الذي يقدمه وجودته تظهر في صياغة أحكام القاضي. المحامي الجيد, كما أشار فارانت E. Varant رئيس محكمة النقض الفرنسية, ليس ذلك الذي يستشهد بإحكام القضاء فقط, وإنما الذي يقدم بعمله الخاص ما يمكن أن يصبح أحكام قضاء. وقد لاحظ العميد كاربونييه Jean Carbonnier ان « ما يسمى أحكام القضاء ليس هو في غالبيته العمل الذهني للقضاة, وإنما يعود, جزء كبير منه, لعمل المحامين. ووكلاء الدعاوى. والمحامين لدى محكمة النقض. فهم في ملخصاتهم ومرافعاتهم يبتكرون الأنظمة الجديدة في التفسير أو البناء القضائي. ودور القضاة هو الاختيار بين الاطروحات المقدمة لهم ( مدخل puf coll. « Thémis » 1999, p.146).

وقد أشار النقيب Bâtonnier داميان في المؤتمر الدولي للقانون الجزائي المنعقد في روما عام 1952 أن " على المحامي أن يقول ما هو في مصلحة موكله, وليس فقط ما يرضي القاضي". وهذا ما يبين استقلالية المحامي في مواجهة القاضي. سواء أكان قاض حكم أم قاضي نيابة. وما يؤكد دوره كقوة توازن في الدعوى و الحوار القضائي. ولا يكون ذلك إلا إذا توفرت له الاستقلالية, وحرية التعبير, والحماية, والحصانة في مرافعاته الشفهية والكتابية.

فالمحامي في غياب الاستقلالية لا يمكن أن يدافع عن مصالح موكليه التي يحميها القانون و حق الدفاع المقدس في دولة القانون والديمقراطية (الغائب في الدول الدكتاتورية والشمولية).

وكما أن للموكل حرية اختيار محاميه, فان للمحامي حرية رفض طلب التوكيل حين توافر شروط معينة. فزيادة عن تلك التي لا تتلاءم مع المهنة, وتعارض مصالح موكليه, أو طلب مد يد العون لارتكاب جنحة أو جريمة, أو الغش الضريبي, يمكن للمحامي رفض التدخل, إذا كان ذلك ضد مبادئه الأساسية, وضد مبادئ المهنة.

ولعل ما أشار إليه المحامي جاك فيرجاس Jacques Vergès يوضح ذلك : على المحامي أن يدافع عن كل الحالات التي تعرض عليه على شرط: أن لا تكون هذه الحالات متناقضة مع مبادئه. ومع مبادئ المهنة وأصولها. عندما دافعت عن باربي Barbie لم أكن امجد النازية. لو كان باربي طلب مني الدفاع عن العرق الآري كنت سأدعوه لاختيار محام آخر غيري. ما هاجمته في دعوى باربي هو الاستعمار.(مقابلة مع الجريدة الجزائرية. وهران بتاريخ 17/2/2006 .) ".

ليس على المحامي وضع نفسه كليا في خدمة رغبات موكله. وإنما عليه أن بقدم له النصيحة القانونية بصدق فيما يتعلق بالقضية الموكلة إليه. ويدخل ضمن اختصاصه أن يردع بالإقناع رغبات موكله, إذا كانت قضيته غير قابلة للدفاع عنها قانونيا indéfendable ( فقد تمت إدانة أحد المحامين لمساندته قضية غير قابلة الدفاع عنها قانونيا. CA. Paris, 1ère chambre, A, 8 novembre 2000, jcpg 2001,1,I, 348, n°24, obs.Martin ). أما في المواد الجزائية, وحيث لا يمكن تلافي الجريمة التي تم ارتكابها لكون الواقعة قد وقعت فعلا, فان المجرم, مهما كانت خطورته, يجب أن يجد محام يدافع عنه.

وهناك أراء ونقاش مستمر حول موقف المحامي في حالة اعتراف المجرم له بجريمته طالبا إليه, مع ذلك, المساعدة والدفاع عنه كبريء. حيث يرى البعض أن عليه أن يتنحى se démettre. في حين يرى آخرون انه في حالة كون الملف قابل للمرافعة بالبراءة, عليه أن يقوم بذلك, مع معرفته بجريمة موكله. لأن هذه المعرفة تدخل ضمن سر المهنة, أو سرية الاعتراف. فهذه السرية تفرض نفسها على حاملها. وعليه فالمحامي يدافع عن الملف وليس عن الشخص. وهذا, حسب ما يقدرون, لا يتعارض مع الواجبات الأدبية. وحسب فرنسوا بيركلان Jean-François Burgelin النائب العام في محكمة النقض الفرنسية فان موقع المحامي إلى جانب موكله ولكن ليس معه. ( le procès de la justice, Plon. ).

على المحامي عمل كل ما في وسعه للحصول على أفضل النتائج وله في ذلك الحق كله, شريطة أن يبقى ضمن إطار الالتزامات الضرورية بالواجبات الأدبية للمهنة. مضيفا أن المحامي ليس عون القضاء, فالكلمة فيها انتقاص من دوره, ولكنه وسيط بين المتهم وقاضيه. مثل ذلك هو وكيل الجمهورية. إذا خان المحامي يمينه الذي أداه يخرج من موقعه ويصبح غير جدير بلقبه. مثل هؤلاء قلائل. وعليه يجب تعزيز استقلاليته حتى يكون القوة الموازنة في الدعوى. يجب أن يبقى دون ارتباط. أولئك الذين يحاولون توظيف المهنة (جعلها وظيفة) هم الذين يحنون لماضي محاكم التفتيش حيث كان الشيطان le Diable وحده محام.

الحديث عن المحامي يعني الحديث عن الدفاع. والحديث عن الدفاع يعني الحديث عن القضاء. فالمحامي ضروري لتوازن القضاء مثل القاضي وقاضي النيابة. ففي الدعوى ثلاثة مصالح: مصلحة المجتمع, الموكول الدفاع عنها للنيابة. ومصلحة المعتدى عليه الموكول الدفاع عنها للمدعي بالحق المدني partie civile وبالتالي المحامي. و مصلحة المتهم التي يدافع عنها موكله. المحامي.

هل إقامة العدالة تتطلب إصلاح مهنة المحاماة وحدها. أم إصلاح النيابة. أم إصلاح القضاة بدرجاتهم. أم أن الإصلاح لا يستقيم إلا في عمل ذلك كله. لان ليس المحامي وحده المسؤول عن حالة وجود خلل أو فساد في القضاء والتعامل القضائي. و لا القاضي وحده, قاضي النيابة أو قاضي الحكم, هو المسؤول.

حينما تقع أخطاء أو تشتم رائحة فساد, مها كانت درجته أو نسبته, في القضاء الفرنسي تطرح قضية الإصلاح. فتعقد لها الندوات, والمناقشات, والتدخلات, على كل المستويات ويأخذ الأعلام دوره في إبرازها وإيصالها للمواطن العادي, والمهتم, والمتخصص.

وما نشره التلفزيون الفرنسي من جلسات وندوات و لقاءات, مع قضاة ومشرعين, ورجال قانون, وأساتذة جامعات, ومحامين, وأناس عاديين, في قضية اوترو Outreau , وظهور عشرات المؤلفات ولعل من أهمها, لصفة مؤلفيها الوظيفية, كتاب صدر عن الرئيس الأول لمحكمة النقض في باريس, Cour de cassation , جي كانيفه Guy Canivet بعنوان الواجبات الأدبية للقضاة (Déontologie des magistrats, Dalloz ) يقرر فيه الكاتب أنه " تغير الزمن الذي يفترض فيه أن سلطة ومصداقية القضاء تتطلب السكوت عن الأخطاء المرتكبة من قبل القضاة, للتغطية عليهم بأسطورة القاضي غير القابل للمساس به .

فثقافة السرية لم تعد مقبولة من المجتمع. وبالعكس فان سلطة القضاء وثقة المتقاضي هما اليوم, أكثر من أي وقت مضى, تستندان على شفافية الإجراءات, وعلى الأحكام التأديبية التي تسمح لكل مواطن التأكد من أن الأخطاء المكتشفة معاقب عليها فعلا بما يناسبها". وكتاب النائب العام في محكمة النقض المذكورة, بعنوان الدعوى على القضاء. وكتاب المحامي العام في محكمة الاستئناف بباريس فيليب بيلجيه Philippe Bilger من اجل شرف القضاء.., لدليل قاطع على أن في دولة القانون والديمقراطية تحصل تجاوزات وأخطاء ويظهر فساد. لكن هناك رقابة. ومحاسبة. ومقدرة على الإصلاح. والتغيير. وأخذ العبر. واستنتاج الحلول.

أما في الدولة المستبدة, فانه لا يمكن الحديث عن إصلاح قضائي مجد, وحقوق دفاع مصونة, ومحاماة تستطيع أخذ دورها, إن لم يصار إلى قيام دولة القانون والديمقراطية والمؤسسات.

و في عالمنا العربي, أليس على المحامي إن اضطر مرة, لإلزام مهني أن يكون محام ملف الشيطان, وليس الشيطان نفسه, أن يقف صادقا في كل المرات الباقية, ليكون محام العدالة والقضايا العادلة.

والواقع إنه إضافة إلى الجهل, أو التجهيل المعمم, بمهنة المحاماة ودور المحامين, ومحاولات إفسادها, هناك التطاول المستمر والسافر على القضاء والقضاة, والسعي لإخضاعهم, كأفراد وكمهنة, وبشتى الوسائل للسلطة التنفيذية, في توجه مقصود لإفساد كل ما يمثل ضميرا لأمة وكرامتها.
د. هايل نصر.

 


 

 

 

 







التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات