تابعت الأخبار المتعلقة بالمحاكمة السريعة التي اجرتها تونس لرئيسها السابق زين العابدين بن علي الذي عزلته ثورة الياسمين في يناير الماضي. لم أكن أتوقع أبداً أن تبدأ وتنتهي المحاكمة المهمة والتاريخية في يوم واحد كما حدث. كنت أتوقع أن تستغرق الإجراءات عدة جلسات تتيح فيها الحكمة الفرصة للمدعي باستعراض التهم الموجهة لبن علي الأسانيد والأدلة عليها قبل أن تسمح للدفاع بتفنيد الاتهامات وتقديم الأسانيد والأدلةالمضادة. هذه هي الأجراءات الطبيعية المتبعة في كل جلسات المحاكمة.
القضية التي أتناولها هنا ليست الحكم المشدد بالسجن والغرامة الذي أصدرته المحكمة بن علي. القضية التي أكتب بشأنها هنا لها شقين، الأول هو جدية تعامل السلطات التونسية مع قضايا الفساد في عهد بن علي، والثاني هو السرعة التي تمت بها المحاكمة وعما إذا كانت العدالة التي يطمح إليها التونسيون أخذت مجراها أم لا.
في ما يتعلق بالشق الأول، أخطأ القضاء التونسي بالاكتفاء بمجرد إصدار حكم مشدد على زين العابدين بن علي لمجرد إرضاء الرأي العام التونسي الغاضب من المحاكمة الغيابية، كان على القضاء التونسي توفير محاكمة جادة. ليست محاكمة الرئيس السابق في قضايا الفساد، كما حدث في تونس بالأمس، محاكمة عادية أو طبيعية كغيرها من المحاكمات التي تجرى للفاسدين. محاكمة بن علي سياسية بالدرجة الأولى نظراً لطبيعة المنصب الذي كان يتولاه، وكان من المفترض أن يتم في المحاكمة الكشف عن كل تفاصيل حالات الفساد التي انغمس فيها أو ارتكبها رئيس الدولة السابق.
لكن إنهاء المحاكمة في جلسة واحدة حرم التونسيين والعالم المتابع من معرفة حقائق القضايا التي حوكم بن علي بسببها، خاصة وأن الاتهامات التي وجهت له تعلقت بأموال ومجوهرات قال الرئيس السابق أنه إما تم دسها على قصره بعد مغارته إياه أو أنها هذايا من شخصيات دولية. وقد ذكرت القناة التلفزيونية الفرنسية فرانس24 أنه رغم الحكم المشدد الذي أصدرته المحكمة فإن التونسيين لم يقتنعوا بالمحاكمة ولم يتفاعلوا معها ورأوها مسرحية غير جادة هدفها إرضاء الرأي العام.
أما في ما يتعلق بالشق الثاني، فقد كان من المهم أن يلقى الدكتاتور السابق محاكمة عادلة حتى وإن لم يكن هو شخصياً يؤمن بالعدالة. يزعم الكثيرون أن الطغاة السابقين، ومنهم بن علي، لا يستحقون العدالة لأنهم لم يوفروها لموطنيهم حين كانوا بالسلطة. لكن هذا الزعم الخاطيء مرفوض تماماً في دولة نتمنى أن تكون قد قطعت علاقتها تماماً بكل ما يمت بصلة للدكتاتورية والظلم والأحكام الفاسدة وإهدار الحقوق الإنسانية.
لست أكتب بالطبع هذه السطور للدفاع عن زين العابدين بن علي الذي يستحق أن ينال العقاب على كل خطأ ارتكبه بحق التونسيين كبير كان أو صغير، ولكن ما أود الإشارة إليه والتأكيد عليه هو أنه الدفاع عن حقوق المتهمين، حتى ولو كانوا طغاة أو مجرمين أو سفاحين، في الحصول على محاكمات عادلة هو دفاع عن مباديء حقوق الإنسان التي لا تنفصل ولا تتجزأ. ومن هذا المنطلق يجب أن توفر الدولة التونسية العدالة للمتهم زين العابدين بن علي، فهو كإنسان له حقوقه كاملة ويجب ان تتم محاكمته بشفافية وعدل.
لا نريد لتونس التي ضحت بالمئات من أبنائها للتخلص من حكم الفرد أن تعود لاستخدام نفس الأساليب سيئة السمعة التي استخدمها زين العابدين بن علي خلا سنوات حكمه الثلاث والعشرين. فتونس التي تبدأ هذه الأيام صفحة جديدة في تاريخها إن انزلقت إلى محاكمات صورية معدة أحكامها بصورة مسبقة، فإنها تنهي الأمال والطموحات المعقودة في بداية جديدة لها بداية مرحلة من الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدل وسيادة القانون.
إن محاكمة اليوم الواحد التي جرت بالأمس هي بك تأكيد خطوة في الاتجاه الخاطيء، خطوة تخذل ثورة الياسمين وكل من بذلوا الدماء من أجل الحصول على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في تونس. لم يُغْلَق ملف زين العابدين بن على بعد، المزيد من المحاكمات سيتبع محاكمة الأمس ومنها المحاكمة الأهم في القضية الأخطر وهي قضية إصدار الأوامر لقوات الامن بإطلاق الذخيرة الحية على متظاهري ثورة الياسيمين مما أودى بحياة نحو ثلاثمائة منهم. وأرجو أن تكون هذه المحاكمات جادة وحقيقية وعادلة حتى يسجل التاريخ في صفحاته بصدق دور بن علي ونظامه في كل ما ارتكب من جرائم طوال فترة حكمه وخلال مظاهرات ثورة الياسمين.
التعليقات (0)