لأنه قد صدق من سمى قضية مقتل الفنانة سوزان تميم والحكم على رجل الأعمال والمستثمر ونائب مجلس الشورى وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم في مصر "محاكمة العصر".. وذلك حال كونها رمزية شديدة الدلالة على طبيعة هذه المرحلة التي نعيشها ..
ولأنها غنية وثرية بما حوته من حيث نوعية الجريمة المرتكبة وشهرة أطرافها ..
وكذا الظهور الواضح و المؤثر بلا تحفظ لعناصر السلطة والمال والسياسة ..
والتداول القانوني للجريمة من حيث القاضي الذي يحاكم والمحامي الذي يدافع ..
إضافة إلى التناول الإعلاني والتغطية الإعلامية للقضية في عصر الفضائيات...
ما جعلها بالفعل "قضية العصر" أو"قضية الموسم " في بلد بحجم مصر ..
حيث لا زالت تتحف العالم خاصة العربي بقضايا جاذبة لكل عناصر الإبهار كما كانت تجذبه منذ الخمسينات بقضايا السياسة والأدب والفن ..
من أجل هذا ليس كثيراً على هذه القضية أن نتناولها من زواياها المختلفة بقراءة تحليلية عابرة نستكشف من خلالها نوعية الأرض التي نقف عليها..وطبيعة العصر الذي نحياه.. وطبيعة الهواء الذي نستنشقه ..
لذلك نستهل سلسلة مقالاتنا بهذا الذي عنوانه محاكمة العصر والجريمة في مصر.
فلا زالت الأذن المصرية تتناقل الجريمة المعروفة بقضية "ريا وسكينة" والتي وقعت منذ قرابة القرن في الإسكندرية . والتي ذاع صيتها وطبقت شهرتها الآفاق والمتمثلة في تشكيل عصابي مكون من بعض العاطلين تتزعمه امرأتان شقيقتان "ريا وسكينة" للاستيلاء على المصاغ الذهبي للسيدات عن طريق خنقهن ودفنهن ..
حيث أثار اختفاء بعض السيدات موجة من الذعر والهلع جابت ربوع مصر طولاً وعرضاً حتى تم اكتشاف الجريمة "بالصدفة" .. وتم الحكم على ريا وشقيقتها سكينة وباقي المتهمين بالإعدام... وقد حفرت تلك الجريمة المروعة "آنذاك" آثارها شديدة الوضوح في سجل الذاكرة المصرية كدلالة على بشاعة الجرم وفداحة السلوك وموت الضمير ...
وقد مر ثلاثة أرباع ذلك القرن منذ تلك الحادثة على نار هادئة كما يقولون لننتقل دفعة واحدة إلى الربع الأخير من هذا القرن وهو ربع لعين بالفعل من هول العاديات وبشاعة الحادثات التي عمرت بها هذه العقود الثلاثة الأخيرة من عمر المصريين الذين حفل سجل الجريمة عندهم بجرائم من نوعية المرأة التي قتلت زوجها بالساطور ومزقت أوصاله ثم وضعت جثته في برميل ثم صبت عليها الخرسانة الإسمنتية المسلحة وغرست في وسطها عامود هوائي التليفزيون ..
وكذا الطبيب الأشهر الثري الذي أطلق الرصاص في عيادته على رجل ثم قطع الجثة بالمنشار الكهربائي بمساعدة الممرض ثم عبأها في أكياس ليوزعها على أماكن نائية ولا ينسى أن يمر على الأشلاء الممزقة بعجلات سيارته جيئة وذهابا زيادة في النكاية أو التشويه أو إخفاء معالمها!!! وكذا جريمة بني مزار التي يقتل فيها أكثر من عشرة مواطنين من أسر مختلفة في منازل متباعدة وفي وقت قياسي متلاحق وتقطع أعضاؤهم التناسلية جميعا " وفيهم أطفال ونساء وشيوخ وشباب" بحرفية جراحية ملحوظة وتوضع بجوار الجثث حمائم مقطوعة الرأس !!(ولم يزل الفاعل أو الفاعلون مجهولين حتى الآن) حيث تم الصاق الاتهام ببرىء !!!!
ثم ننتقل إلى جرائم الأسرة التي لا تكاد تخلو منها الصحف يومياً من قتل الزوجة لزوجها والأب لأسرته جميعها .. وزوجة الأب لأطفال زوجها ..
علاوة على جرائم الثأر المقيت التي ترتكب في قلب بيوت الله دون انتظار حتى للفراغ من الصلاة ..
كما لم تحرمنا السلطة القائمة على الحفاظ على الأمن من مساهماتها الفعالة ومشاركتها الوجدانية في دنيا الجريمة فنجد قضايا القتل تحت التعذيب السادي التي قام ببطولتها ضباط الشرطة التي هي في خدمة الشعب ضد من يقع تحت سيطرتهم ممن المواطنين الأبرياء والمتهمين في جرائم لم تفصل فيها العدالة...
وقد طفحت الجرائد السيارة بنشر تفاصيل هذه الجرائم المروعة بينما لم تفض الداخلية يدها منها بعد ..
وما بين هذا وذاك العشرات بل المئات من الجرائم الدموية التي يعلوها القاسم المشترك من ذبح وتقطيع وتشويه وتعبئة في أكياس حتى أن الروح المصرية الساخرة بطبيعتها قد عالجتها بجعل الأكياس والساطور والسكين رمزأ أو أداة أو حاكما في العلاقة بين المرأة والرجل عموما وبين الأزواج في الأفلام والمسلسات حتى النكات ببين المصريين ...
كما لم تعدم الجرائم طرافتها وأشهرها سرقة ونش عملاق فائق الضخامة على وجه الخصوص كان يسير "مسروقاً" كالسلحفاة في قلب القاهرة وفي وضح النهار ولم يتم الاستدلال حتى الآن على السارقين ولا على الونش العملاق؟
ولئن كان السبب الرئيس في تلك الجرائم هو اختلال ميزان العدالة الاجتماعية وميله بشدة ما جعل الطبقة الأعظم والأغلبية الأكسح من الشعب تنسحق تحت وطأة استغلال وسيطرة ونفوذ شريحة انتهازية تسيطر على مقدرات البلد وتضع يدها على خيراته وتشغل بأبنائها معظم الوظائف المميزة بل والسيادية سواء تنفيذية أو تشريعية وبعض القضائية .. وهو ما نتج عنه هذا البحر الراكد من البطالة وتلك البحيرة الآسنة العطنة من السلوكيات التي يفرزها الفقر والتصارع على قوت الحياة ورغيف العيش .. والمقاتلة من أجل البقاء على حافة شاطئ الحياة الكريمة ما جعل الجريمة عند هذه الطبقات أبسط من شرب الماء وصار العنف وسيلة الوصول إلى الحقوق أو وسيلة لاستلاب الحقوق .. سيان ..
ورغم رفاهية العيش عند الشريحة الأخرى فإن الجريمة لم تغادر تلك الشريحة الفاحشة الثراء القابضة على الأعناق والباسطة يدها على المقدرات ..
وبالطبع فإن جرائم الأغنياء وإن لم تختلف عن جرائم الطبقة الدنيا ..
كونها مغرقة في بحور أغلى العطور الفرنسية ومعنونة بأشهر الماركات العالمية من نوعية " بيير كاردان " و" كريستيان ديور" ومتخذة الطائرات والدولارات والبنوك والأبراج والفضائيات والصحف مسرحاً وأدوات لها إلا أنها في كل حال جرائم يؤكد تزايد أعدادها
بطريقة جعلتها في مصاف الظاهرة وتؤكد بشاعتها وسهولة الإقدام عليها رغم تفاهة الأسباب الدافعة إلى اقترافها ..
ويؤكد انتشارها وتزايدها أحكام الإعدام الهادرة كالشلال والتي تعدت ال83 حكما بالإعدام في بضعة أشهر ما يعني أن مصر تقف بالفعل على شفا جرف هار....
وأن الخلل بالتركيبة الاجتماعية ينذر بكارثة من الكوارث التي لايمكن أن تطرف عنها عين التاريخ أو أن يتوانى عن إدراجها في سجل الفواجع البشرية والانسانية لديه ..
وهو ما نتمنى أن يشملنا الله بعنايته ...
وأن يكلأ مصر بحفظه...
وأن يقيها شر الفتن وشر أعدائها
ولو كانوا من أبنائها
الذين سفحوا دمها وسلبوا خيرها
وأكلوها لحماً وسحقوها عظاماً ..
التعليقات (0)