الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
منذ برأ الله الآدمية والصراع قائم على بسط النفوذ في الأرض والسماء، والملائكة ممن علم به غيبيا بوحي الله تعالى وبما خبرته من مخلوقات أخرى كانت قبلنا لا نغور في تفاصيلها، إلا أن أكثر المناطق صراعا على السطوة هو فلسطين، مبعث ومهد كثير من الأنبياء والرسل، ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ما بوأها مكانة مركز التأثير العالمي، إذ تدافعت عليها مختلف طوائف البشر، وعلى رأسها المسلمون والصليبيون واليهود، واستقر الأمر لليهود الآن على صولة فقط.
لفت نظري منشور مكتوب للأستاذ الفلسطيني بجامعة هيدلبرج السيد تيسير خالد في موقع اللينكد إين قائلا{لا جدوى من محاربة الارهاب دون تجفيف منابعه وفصل الدين عن الدولة}.
وإن كان للأستاذ حرية إبداء رأيه في مختلف القضايا، تبعا لفكره وقراءاته للأحداث وتكوينه العقلي والثقافي والعلمي وحتى التاريخي بمحاسنه ومساوئه، فنحن كذلك لنا كامل الحرية في القبول من عدمه لما يطرحه، كما يطرح غيره.
لنا أن نقول: لو صدرت الفكرة من ناطق غربي لفهم الأمر، ولصدق واقعا لا دينا، لأنه عندهم أفيون الشعوب، بحكم التجرية المريرة مع الرهبان والأحبار ردحا من الزمن كبلوا فيه المقدرات الفكرية للأتباع كي تتم لهم السطوة على الشعوب باسم الدين.
أما عند المسلمين فإن الدين والتدين لتكريس عبادة الله المقررة مقصدا شرعيا، قال تعالى{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} سورة الذاريات.
ثم إنه جاء رسالة إحياء موات من العرب والعجم ، قال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}سورة الأنعام، كانوا همجا يتقاتلون ويتسابون لأتفه الأسباب، فنظم حياتهم ونظف أفنيتهم وديارهم وعرفهم بقيمة حياتهم، فبه سادوا بعد تبعية، وعزوا بعد ذلة، وتوحدوا بعد فرقة، وانتظموا بعد فوضى، إلى غير ذلك من المعاني التي بثها الإسلام في الناس، وحققها في واقع حياتهم.
وإذا اغتر مفكرونا بغيرنا المتظاهرين بالعلمانية واللائكية وفصل الدين عن الحكم والسياسة فهي مجرد أكذوبة غروا بها المسلمين، ليقينهم الشديد بقوة الدافع الديني في الحياة، وهو ما يتوجسونه منهم، لأن الاستيلاء على عقولهم وخيراتهم يمر عبر إبعادهم عنه، والدليل ما نراه من عمالة عالية المستويات عند المسلمين، وسياسة الاستيلاب لن تفلح إلا بعد إغرائهم بشعارات براقة للحداثة والعصرنة التي لن تتأتى ـ تمويها ـ إلا بالتضييق على الدين في أماكن العبادة، ضاربين لهم الأمثلة الحية التي صدقت في أوربا على الخصوص للأسباب السالفة وكذبت في العالم الإسلامي، الذي كان يعيش أزهى فترات الحضارة حين كان الغرب يعاني من غطرسة وظلم الكنائس والمعابد.
أما الغرب فقد صحح مساراته بالتنسيق مع الكنيسة والمعبد دون التخلي عن الدافع المعنوي الديني، فبقي ملاذ الحكم عندهم، يتجلى ذلك من تصريحات قياداتهم الكثيرة، وما تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن الرب أمره بغزو العراق إلا دليل على ما أقول، الحروب الصليبية انطلقت بالدين وباسمه، وإن شاء القارىء الكريم التوسع فليراجع كتب التاريخ الراوية لحكاية الخطاب الحماسي من رهبان النصارى إذ حمل بعده جنودهم الصلبان حتى وصلوا إلى بيت المقدس، وبمعنويات الدين انتصروا ولو بجولة.
أغلب زيارات القادة إلى إيطاليا لابد فيها من المرور على الفاتيكان.
الحروب اليهودية تخاض بالدين وباسمه وباسم التوراة، وحتى سلطة إسرائيل لا تفتك المصداقية دون رضى الطاقية اليهودية والشمعدان اليهوديي المعلق على جدران كل المؤسسات الرسمية، كلهم يرجعون إلى التوراة في تصريحاتهم وتصرفاتهم.
كل مترشحي البيت الأبيض يقصدون مصدر التدين عند اليهود لكسب رضا أحبارهم وطمأنتهم على مستقبل اليهودية.
فعلت الشعوب والحكومات الأوربية والغربية كلها هذا كله بعد التحرر من سطوة الكنيسة والمعبد لكن دون الانعتاق من الأصل الذي يعتقدون فيه القداسة والروحانية الممكنة.
بدليل آخر وهو الترخيص لتأسيس أحزاب على أساس ديني بينما يضللون حكام العالم الإسلامي كي لا يرخص لحزب على أساس ديني إسلامي.
هذا مع أديان حرف رهبانها وأحبارها معظم مبادئها وقيمها وكتبها، الإنجيل أصبح متعددا،، لكل راهب إنجيل ينسبه لله، والتوراة فاق عليها التلمود في القداسة.
والإسلام الذي لم تحرف نصوصه وبقي على أصله وضمن الله تعالى له ذلك بقوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} سورة الحجر ، يراد لأهله الانحراف عنه.
ثم يأتي في زمان أوبة الناس إليه بعض المحسوبين على الفكر يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وخاصة في قضية ذات حرمة لا يعرف لها المسلمون سبيلا إلا في إطاره، في حاجة متعلقة بالمقدسات ومنها بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجد قبة الصخرة المعجزة.
والدليل للعيان باد في غزة التي تنافح ومنطلقها التدين والاستبسال بالله استعصت على اليهود وحتى عملائهم، أما الضفة الغربية التي تنازلت عن دينها يشاهد الجندي اليهودي صوالا جوالا بين أزقتها يعتدي ويعتقل.
لو طرح الأمر في بلد آخر قد يغض الناس الطرف، أما وهي مسألة فلسطين فكيف تجرأ البعض على طرح قناعة شخصية على معايشي المقدسات وأعدائها على السواء، فكيف نمنعهم الاحتماء بالدين وهم يرون الصراع هناك دينيا بحتا؟
كيف لا والبرية تسمع كل حين عن الوعد المقدس لليهود بأرض كنعان، وهيكل سليمان؟ كل الوعود الكاذبة التي استند إليها اليهود لتبرير الاحتلال دينية ؟
إن الحرب التي تدور رحاها بدون مصحف مكتوب لها البوار سلفا، تأسف القائد صلاح الدين حين مر على خيمة لرتل من جيشه ولم يسمع فيها تلاوة القرآن مثل سائر الخيام فقال مقولته الشهيرة {من هنا تأتي الهزيمة}.
أما إن كان البعض يريدون حياة بلا دين في الحكم والسياسة مع بقائنا مسلمين فالقرآن لا يبيح ذلك، ولا أظنها سبيل العيش العادي، وقد قرأنا تاريخا طويلا يحكي ازدهار العرب والعجم بالدين بعدما كانوا أقرب إلى الحيوانية بل أضل.
والعذر الأقبح من الذنب الذي يستلهم منه هؤلاء المنافحة عن الفصل بين الدين والحكم هو التخوف على مدنية الدولة، وهذا غير مبرر لأنها في الإسلام مدنية بأحكام شرعية وليست دينية ولا تيوقراطية كما تقول المصطلحات الحديثة.
إن الدولة في نظر التشريع الإسلامي لا تقوم على طقوس، أوتقاليد، أوشعارات، أوكهنوت، بل على تشريعات وقوانين وأحكام، مع اجتهادات في غياب النصوص الثابتة التي تخضع هي الأخرى إلى اجتهاد الفهم والتطبيق حسب الحالات والأعراف والوسائل والأساليب.
ليست دولة الركون إلى المساجد كدولة النصارى واليهود التي لا تقبل الانفكاك عن المعابد والكنائس.
ليست دولة الكهنة وضرب أسهم الغيب، بل هي دولة العلم والبناء والنشاط، دولة المؤسسات والحكم الشوري بكل أساليبه عبر الزمن ومنها الانتخاب ورضى الأمة عن حاكمها بالاقتراع السري والمباشر.
إلا أنها تستمد مصداقيتها من الشرع وقيمه ومبادئه ونصوصه المقدسة فيما هو ثابت غير متغير.
نعذر تخوفات القوم، لكن عليهم أن يفرقوا بين المبادىء والقيم والأحكام والنصوص وبين اجتهادات وتصرفات المنتمين إلى هذا الدين ومنهم العوام.
ولذلك يجب أن تصطاد السمك بما يحب هو لا بما تحب أنت، إن اقتناص النصر لن يكون بغير السهم الممتلك الصحيح السليم، والمسلمون كباقي النحل والملل لن يتأتى لهم المرور إلى خطوط أمامية في الحياة إلا بجانب الحبل العاصم وهو الأصل الديني.
فالدعوة إلى فصل الدين عن معتركات الحياة ودواليبها فلن تكسب نصرا ولن تدفع إلى طريق لأن دعاة فصل الدين عن السياسة..جميع موتاهم شهداء من أجل السياسية.
أما عن الإرهاب فتجفيف منابعه يكون في رأيي بــ:
1 / إدراج التعليم الديني والتدريس التشريعي الأكاديمي بدل ترك الفتوى وتعليم التدين المغشوش للشارع الذي نراه أصل مشكلة الإرهاب ــ الذي يتبناه مسلمون ــ بحكم الأمية المصاحبة لأهله.
والادعاء بأن تجفيف منابعه يكمن في إبعاد الدين عن معترك الحياة هو الذي يغلغل التطرف بين ظهراني الناس لعلة الجهل بأحكامه وحكمه ونوره إلى البشرية.
والدليل على ذلك واقع قيادات الجماعات الإرهابية المنسوبة إلى الإسلام، بله الأتباع، كلهم ممن أشربوا الشرع في الشارع، صبغوا أنفسهم بالتدين المشبوه، قرأوا الكتب تصفحا دون شيوخ ولا أساتذة، وكما قيل {لا تأخذ العلم عن صحفي ولا القرآن عن مصحفي}.
ومكون كهذا لا ينبغي الاستدلال منه على الدعوة إلى فصل الدين عن الحكم والسياسة، مع تسجيل تعجبي من أدعياء الفكر الذين لا يقرأون أويقرأون لكنهم يتجاهلون أويحسدون، فتمرض قلوبهم وتصدر عن شبهات بدل حقائق لأن بصائرهم قصرت عن تلقي نور الحق.
وهذا التوجيه لا يعني الإقرار بالتنازل عن عزة الأمة في وقت الضيق.
2 / العدل والإنصاف في الحكم على المظاهر الإجرامية بنسبة كل جريمة إلى أهلها وليست بالضرورة منسوبة إلى المسلمين، إذ ابتليت الشعوب بكثير من الاعتداءات الإرهابية منسوبة إلى المسلمين ظلما وعدوانا.
لأن الإرهاب مجرد عنوان لكل جريمة حديثة ترعب الناس قد تصدر من المسلمين ومن غيرهم الذين يغلب عليهم، والحياة الغربية طافحة بالجرائم المختلفة من قتل وسلب وسرقة ومداهمة .
3 / الشجاعة السياسية والدولية ولو في إطار الأمم المتحدة لتصنيف الاحتلال في خانة الإرهاب، وتصنيف المقاومة الشرعية لأجل الأوطان محاربة للإرهاب بدل وصفها به، كما يروق للدول الكبرى فعله مع المقاومة الفلسطينية ضد المحتل الصهيوني.
4 / إصدار قرار شجاع يقضي بأن تصدير السلاح بين متنازعين لإذكاء نار الحرب بينهما إرهاب.
5 / الكف عن إنشاء الروافد المسلحة لزعزعة استقرار مناطق معينة وخاصة السنية، وتزويدها بالعتاد ثم استغفال العقول بوسمها تنظيمات إرهابية إسلامية ينبغي محاربتها وتستنفر لها الدول لإغراق المنطقة بالسلاح المباع لها، ففي هذه الحالة يمكن اعتبار دول مخصصة كمخابر صناعة الإرهاب لا علاقة للإسلام به إلا من باب الحيف.
6 / العدل في تصنيف المنظمات الإرهابية، فليس من العدل تصنيف حماس مقاومة الاحتلال إرهابا، أما حزب الله والحرس الثوري الإيراني وجماعات الحوثي اليمنية وما ماثلها غير مصنفة ضمن منظومة الإرهاب العالمي.
إن كل ما تطالب به الشعوب المسلمة هو تنفيذ أحكام الشرع بين ربوعها توافقا مع اعتقادها وانتمائها، ولذلك فمجانبة هذا المطلب استهتار بها، واحتقار لقيمها، وإلغاء لقناعاتها، وعدم اعتبار لدينها، وسحبها من انتمائها، كل هذه النتائج تفجر بين جوانبها بوادر المنافحة قد يصبر بعضها بسبب التشبع بالعلم القاضي بمزيد من الدعوة والتكوين والتمكين القاعدي والنصح لولاة الأمور، وقد ينفد صبر بعضها لخواء علمي أوجهل بسيط أومركب مآله التسلح والالتحاق بالجبال عن غير وعي ولا هدى موقعا دمارا في الأمة، يغرق أناملها وأقدامها في أوحال التخلف الفكري والحضاري وهو مقصد العدو وعلى رأسه الغرب الحاقد.
بل قرأنا وسمعنا عن جماعات إرهابية تتلقى الدعم والتكوين والتسليح لدى بعض دول الغرب لتوجهها نحو بلدانها وذويها تدمر فيهم الحضارة والإنسانية.
فتفويت هذه الفرص لن يتأتى إلا بما ذكرته سلفا، والله على ما نقول شهيد، وإن غدا لناظره لقريب.
التعليقات (0)