بقلم : بيانكا ماضية
ليس عنوان الكتاب وحسب هو الذي يحفز المرء على قراءة ماسرده لنا الكاتب حسن توفيق في كتابه ( ليلة القبض على مجنون العرب ) الصادر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت عام 2006 ، وإنما المقدمة أيضاً تلك التي أسهب فيها الكاتب للحديث عن مجنون العرب الذي راح يفتش عنه ( أحمد بك شوقي ) أمير الشعراء ليلقي القبض عليه ، فقراءة تلك المقدمة تعطيك صورة موجزة عما سيليها من عناوين وعن تلك الشخصية التي برغم وصفها بالجنون إلا أنها تمتلك العقل والحكمة في عالم التناقض واختلال الموازين ، فمجنون العرب ليس إنساناً فاقداً لاتزانه العقلي ، لايعرف ما الذي يدور حوله من قضايا ، وإنما هو إنسان يمتلك ثقافة واسعة ، بحيث ينقلك من موضوع إلى آخر ، ومن شخصية إلى أخرى ، لتدرك كم هو مثقف ومهتم بالأدب والشعر وبالسياسة والاقتصاد . وإذا ماعرفنا أن الكاتب قد استخدم أسلوب فن المقامة المعروف بالإيجاز وبالبلاغة ندرك كم هو متأثر بهذا الفن الجميل الذي ازدهر في العصر العباسي وتألق على أيدي كتاب اشتهروا به ومنهم بديع الزمان الهمذاني والجاحظ وابن المقفع وغيرهم ممن أظهروا براعة وخيالاً خصباً وروحاً فكاهية ، وسخرية كشفوا من خلالها النقاب عن مفارقات هذه الحياة ، وعن مظاهر متعددة تندرج تحت الفساد وأشكاله . يمضي حسن توفيق في كتابه ليروي مغامرات المجنون ورحلاته ، مؤكداً أن المجنون ليس هو ، وإنما قد روى له حكاية القبض عليه ونجاحه في الإفلات والهرب بحكم الصداقة العميقة بينهما ، إلا أن المجنون هو حسن توفيق وقد أراد إسقاط هذه الشخصية على نفسه لكي يفلت هو الآخر من محاولة القبض عليه وعلى أفكاره ، وماذاك إلا لرصد القيم المتبدلة في هذا العالم وكشف معاناة الإنسان العربي في ظل قوى تحكم مصيره ومصير بلاده ، وفي إطار مايتعرض له من ظلم وقسوة واضطهاد ، حتى لنكاد نرى صورة بانورامية عن الواقع المعاش الذي يحياه هذه الإنسان على سطح الكرة الأرضية . في كتاب توفيق الذي يقسم إلى أربع مقامات ، يلعب الخيال دوراً بارزاً في إظهار مظاهر الظلم والفساد وتركيبة النفس الإنسانية ، والنوازع الدفينة التي تنتاب من يريدون إحكام سيطرتهم على العالم أجمع ، لكشف كل مايعلو سطح عالمنا من زور وبهتان وحروب ومصائب وويلات ، إذ يضع إصبعه على مواطن الخلل في هذا العالم لكشف مايعتريها من عيوب ونواقص ، فيلتقي المجنون بالحمار وبالخروف والديك والنعامة وكذلك بالروبوت على سطح المريخ وبنساء مختلفات وبرجال من أصناف متعددة منهم ( السيد المهاب ) و ( المهووس الأحمق ) و ( مهبوش بن مرعوش ) ليعلن في النهاية بعد الأحاديث التي تدور مع هؤلاء والوصف الذي يبحر فيه لكشف معالم الشخصيات ، ليعلن أنه لايزال متمسكاً بالأمل الذي يزيح من أمامه حلكة الليل ليطل نور الصباح ، والكاتب في هذا يعكس لنا رؤيته العميقة للواقع ، رؤية تبحث عن العدالة في القيم وعن الخير والسلام والحب ، رؤية إنسان شاعر شفاف همه الخروج بهذا الكون من ربقة كل مايسيء إلى جماله ، فيكشف الستار عن الزيف والخداع ، وعن الكذب والنفاق ، وعن كل ما استفحل في النفس الإنسانية حتى أصابها بالأمراض والعلل ، ثائراً مطلقاً صيحاته العالية ليقول ( لا ) في وجه كل هذا الفساد . يستحضر حسن توفيق في كتابه هذا شخصيات لشعراء عديدين منهم أحمد شوقي وعمر بن أبي ربيعة وأبو البقاء الرندي وقيس بن الملوح والبحتري وغيرهم ، لا ليذكرنا بأشعارهم ,وإنما ليصوغ لنا شعراً على غرار ماكتبوه ، معارضاً قصائدهم ، فندرك الصفة الشعرية التي يحملها هذا الكاتب بالإضافة إلى إتقانه فن النثر ، ومنها ماجاء على لسان أبي البقاء الرندي بمعارضة من الكاتب : لكل شيء إذا ماتم نقصان فقد تمزق ذيل القط فئران وقد يطارد فأر قطة هربت وقد تثور على الأفيال خرفان . مستخدماً في ذلك سخريته ونقده اللاذع ، ليؤصل لقيم تبحث عنها الإنسانية ، وذلك ضمن إطار فني جذاب ، وبرؤية تتصف بالذكاء ، إذ على لسان تلك الحيوانات التي التقاها مجنون العرب يفصح عن أفكاره ، وعما يبتغي تسليط الضوء عليه …. فتحت عنوان ( حمار يعترف للصحافة بأنه لايحب النظافة ) يورد على لسان الحمار : ( لك أن تقول إني عدو للحضارة ، مادام الظلم الذي يتحكم فيها يخفي آثاره … حيث يغسله الظالمون بمعسول العبارة … وعلى العموم إذا كان عندي طموح .. فهو أن تكون النظافة في القلب وفي الروح … أما الآن فلك أن تقول للصحافة .. ولغيرها من وسائل المكر والسخافة .. إن الحمار لايحب النظافة ) . إن المجنون الذي ينطلق في هذا الكون عبر وسائل متعددة تشكل أدواته السحرية لتعينه على التنقل والحركة والاختفاء وهي طاقية الإخفاء والقمقم النحاسي المسحور والصاروخ العابر للزمان وبساط الريح ، ماكان ليستخدمها إلا ليظهر الكاتب من خلالها براعته في الانتقال من موضوع إلى آخر وليسلط الضوء على غير قضية تحتاج إلى كشف ملابساتها ، معبراً عن رؤية نقدية لهذا الواقع ، تبتغي عدلاً وسلاماً وحباً وكرامة ، فتحت عنوان ( المجنون يؤكد عدم وجود البطيخ على سطح كوكب المريخ ) يكشف عن تفريق المجنون بين العلم وبين استغلاله ، من خلال سفره مع المارد إلى المريخ : ( تحركت في عقل المجنون عاصفة هوجاء من الظنون … بعد أن أدرك أن الذين يتحكمون في مصائر الشعوب … ويستفيدون من إشعال نار الحروب … قد كلفوا كثيرين من العلماء … بأن يقوموا دون إبطاء .. بالتجسس على كوكب غامض بعيد … وأن يقدموا لهم ماهو مفيد .. بشأن كل مايتعلق بهذا الكوكب الحمر … حتى يتسنى لهم أن ينقضوا عليه وأن يستعمر … وأخذ المجنون يتذكر … أن العلماء حين وصلوا القمر … قد أفسدوا جماله على البشر … ولم يعد أي واحد من الشعراء .. يصف وجه حبيبته بأنه قمر قد أضاء … خصوصاً بعد أن أكد العلماء أن القمر مليء بالحجارة … وليس فيه مايدعو للدهشة والإثارة … فضلاً عن أنه يسرق أنواره … من الشمس التي تتأجج بالحرارة ) . وهو في إشاراته ورموزه يسلط الضوء على غير شخصية للإتيان بمايتعلق بها من ظلم أو فساد أو مكر أو دهاء ، فمثلاً قد جاء بشخصية ( مهبوش بن مرعوش ) ليشير إلى زيف الديمقراطية عبر كشف حمق وحقد هذه الشخصية وسعيها لتحويل الكرة الأرضية إلى غابة ينهش فيها القوي الضعيف ، وقد قصد بها شخصية ( بوش ) في استخدامه المتقن لدلالة الحروف : (بالقرب من المدينة التي عشقها الرشيد … أيام المجد العربي التليد … شوهد الألوف من الأبرياء العراقيين … وهم يذوقون ويلات الجحيم في الزنازين … على أيدي القتلة والسفاحين … ممن أوهموا الآخرين … بأنهم أرقى المتحضرين … وعلى باب كل زنزانة … تتلاقى نظرات كل سجان وسجانة … والكل يرفع علامة النصر … كأن لهم مع المساجين أقدم ثأر … مع أنهم جميعاً غزاة أجانب … تدربوا على اللسع واللدغ في معسكرات العقارب … منذ أن حول مهبوش بن مرعوش الكرة الأرضية … من واحات ظليلة وندية … إلى غابة مرعبة وحشية ) . ( ليلة القبض على مجنون العرب ) إبداع نثري وآخر شعري ، يسجله الكاتب حسن توفيق بكل ما أوتي من إبداع وابتكار لقالب المقامة القديم الذي حوله إلى قالب عصري لم يسع وحسب رؤيته النقدية للمجتمع وإنما وسع أيضاً رؤيته النقدية للشعر ، نسجه بأسلوب وبطريقة مميزين ليقدم رؤية فلسفية لهذا العالم ، تستند إلى معطيات التاريخ والعلم والأدب مدوناً من خلالها هذا الكتاب الحافل بالخيال المتقد والنظرة العميقة الثاقبة والثقافة الواسعة التي بسطها على صفحاته. ولعل تلك الثقافة المنثورة قد جاءت إغناء لمضمون الكتاب ، أراد من خلالها الكاتب أن يربط الماضي بالحاضر ، وأن يتواصل مع التراث والتاريخ للأخذ منهما والاستفادة من عبرهما ومواعظهما ، ويأتي التناسق الموسيقي في الجمل المنتهية بالسجع والذي قام على أساسه فن المقامة ، كما يأتي التناص ليشكل عنصراً آخر من عناصر الكتاب ، وليضفي عليه رونقاً آخر يسجل للكاتب في إبداعه هذا ، خارجاً به من إطار النقد الأدبي إلى إطار النقد السياسي والاجتماعي ، ليوقظ في القارئ إحساسه تجاه المظاهر السلبية التي يواجهها في عالمه ، معتمداً في ذلك على روح الفكاهة التي تجلت في العمل أغلبه . أما الخيال الذي برع في امتطائه الكاتب فمن خلاله استطاع أن ينقلنا عبر الزمان ، من الماضي إلى الحاضر ، وإلى المستقبل الذي بشر عنه باقتراب موعد العرب مع الشمس ، وبنهاية العدوان على الأمة العربية بالسقوط المريع للجبابرة المتسلطين ، شأنه في هذا شأن اعتماده على الترميز ليظهر من خلال النصوص ما هو وراءها في أسلوب بديع لايصطنع التكلف وإنما يتدرج بسلاسة وعفوية حتى ليظهر مقدرة الكاتب على التلاعب باللغة من أجل الوصول إلى الأفكار المطروحة بصياغة فنية أدبية لاتخلو من التشويق والانجذاب حتى الوصول إلى آخر صفحة من ( ليلة القبض على مجنون العرب ) .
التعليقات (0)