كثيرة هي الحقائق التي كشفتها ثورة الحرية والكرامة في سوريا، وخطيرة كانت تلك الفضائح التي أماطت عنها اللثام الانتفاضة الوطنية التي أشعلها الشعب السوري في 15 آذار 2011 محاولا إعادة الربيع الى بلاده بعد نحو 48 عاما من خريف حزب أتى من خارج التاريخ والجغرافيا، ليحكم سوريا حكما أحاديا بقبضة من حديد.
أول ما يمكن ملاحظته يتعلق بأسباب الثورة السورية، فصحيح أنها تتفق مع سواها من الثورات العربية في تفجرها من رحم الأوضاع الاقتصادية المتردية ونسبة البطالة المرتفعة واحتكار الثروات من قبل العائلة الحاكمة، ورفض الحكم الفاسد والديكتاتوري وقمع الحريات وحظر مختلف أشكال العمل الديموقراطي التعددي... إلا أن ما يميّز هذه الثورة عن سابقاتها هو أنها ثورة على الكذب والخداع والنفاق!
نعم، هي ثورة على الكذب والخداع والنفاق، فالشعب السوري بعدما اتخمت آذانه باجترار نظامه في أدبياته السياسية ومناهجه الدراسية وصحافته الموجهة... مصطلحات الممانعة والمقاومة والعروبة وشعارات العداء لإسرائيل ومواجهة أميركا، إذ به يرى الآلة العسكرية التي يديرها ذلك النظام "المقاوم" و"الممانع" "والعروبي" تضل طريقها، فبدلا من أن تتوجه الى الجولان السوري المحتل لكي تحرره من العدو الصهيوني بعد أربعة عقود لم تطلق فيها رصاصة واحدة، إذ بها تتجه الى درعا وبانياس وحمص لتقصفها بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها مدافع الدبابات في محاولة آثمة ومجرمة لإسكات المتظاهرين ووأد الثورة قبل أن تنهض من مهدها، إلا أن ذلك التصرف الوحشي والإرهاب الأمني ما زادها إلا إصرارا وعزيمة، لا بل سرّع عملية العد العكسي الموصل الى يوم الخلاص والحرية وتفتح ورود الربيع الدمشقية.
وفي خضم عمليات القتل المنظم، إذ بأكاذيب جديدة مفضوحة تطفو على سطح المياه الإعلامية العكرة والآسنة التي تضخها الأجهزة الاستخباراتية: "سوريا تتعرض لمؤامرة خارجية لأنها ركيزة مشروع المقاومة في المنطقة"! "ليس هناك من متظاهرين بل مخربون ينتمون الى مجموعات إرهابية مسلحة"! "إلقاء القبض على النائب اللبناني عقاب صقر داخل فيلا في بانياس برفقة ضباط إسرائيليين وأردنيين وسعوديين يديرون تحركات المتظاهرين"! "النائب اللبناني جمال الجراح يدير شبكة إرهابية لإشاعة الفوضى في سوريا"! "سفن محملة بالأسلحة ترسل من شمال لبنان الى الساحل السوري"! "شيكات بمبالغ كبيرة لصالح معارضين سوريين وشخصيات لبنانية مصروفة من أمير سعودي للتآمر على سوريا"! "الكشف عن مشاريع جاهزة لإمارات إسلامية في عدة مدن والقبض على وزراء دفاع تلك الإمارات وبعض أمرائها"! "لا شيء في المدن السورية والمواطنون يستمتعون بالأجواء الربيعية في الحدائق والمنتزهات"!
وجد الشعب نفسه وحيدا في ميدان الحرية والتحرر، فالأكاذيب تحيط به من كل جانب، والاتحاد الأوربي رغم لهجته الحادة والمتفوقة بمراحل كبيرة على النبرة الأميركية الخجولة في التنديد بالأعمال البربرية للنظام السوري ضد شعبه، لم يجرؤ هذا الاتحاد على فرض عقوبات على الرئيس السوري مكتفيا بسلسلة إجراءات ضد رموز نظامه. أما أميركا التي سارعت الى "نجدة" الشعب الليبي عندما شعرت أن "القذافي" يعد لعملية عسكرية موسعة في "بنغازي" إذ بوزيرة خارجيتها "هيلاري كلينتون" بعدما بلغ عدد القتلى السوريين بضع مئات تصف الأسد في 28آذار الماضي بـ"الإصلاحي"، ثم تعود في السادس من أيار الحالي (عيد الشهداء في لبنان وسوريا) لتصرح بلا خجل أنها "لا تزال تؤمن بمستقبل للنظام الحاكم بقيادة الرئيس السوري بشار الأسد"، مؤكدة أن "الأوضاع في سوريا مختلفة عن تلك السائدة في ليبيا"!
تابع الثوار في سيرهم على درب الحرية الذي ملأه نظامهم بالأكاذيب والترهات والأضاليل، وصبغه بالدماء وبمشاهد الجثث والتعذيب والاعتقال والقتل، ليكتشفوا يوما بعد يوم وبسبب حالة التخبط والرعب التي انتابت أركانه على أثر سماعه عبارات "الحرية" و"الكرامة" و"الديموقراطية" و"التعددية" المفقودة في قاموسه وغير المألوفه في سياسته وفكره، حقائق جديدة لأكاذيب المقاومة القديمة والبالية، وذلك مع قراءتهم في 10 أيار الحالي تصريح رجل الأعمال السوري وابن خال الرئيس السوري بشار الأسد وحليفه رامي مخلوف لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، حيث حذر في معرض استيائه من الضغوط الدولية على نظامه لوقف العنف والاستجابة لمطالب المتظاهرين من انه: "إذا لم يكن هناك استقرار هنا (في سوريا) فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا يوجد طريقة ولا يوجد أحد ليضمن ما الذي سيحصل بعد، إذا لا سمح الله حصل أي شيء لهذا النظام"!!
لم يتأخر الرد الإسرائيلي الذي جاء بعد يومين عبر صحيفة "الجيروزالم بوست" التي عنونت " على إسرائيل التزام الصمت في شأن سوريا"، موضحة "إن الرسالة التي أراد رامي مخلوف ايصالها الى إسرائيل والمجتمع الدولي (...)مفادها ان الأسد أكثر اعتدالاً من الذين قد يحلون محله. وهذا الكلام لا يشكل تهديداً لإسرائيل بقدر ما يعكس يأساً داخل معسكر الأسد. وتتابع الصحيفة الصهيونية:"من المهم جداً ان تمتنع إسرائيل عن التعبير عن آرائها في ما يتعلق بالثورة في سوريا. ويجب ألا ننسى أن لا علاقة لنا بالثورة العربية لا في مصر ولا في غيرها من الأماكن. وهناك أوضاع من الأفضل ان نقلل كلامنا عنها".
هي ثورة على الكذب والخداع والتضليل والنفاق قبل أي شيء آخر. ثورة على نظام يجب أن يحاكم على تضليله شعبه بشعارات زائفة وانتحاله صفة شريفة لا يملكها، كما يجب إدانته بجريمة "وهن نفسية الأمة" طوال 49 عاما من الخداع، وهي التهمة التي يلصقها بكل حر يجري اعتقاله.
هي ثورة بألف ثورة، الشهيد فيها بألف مما سواها، والثائر فيها بألف ممن ثاروا قبله. ثورة تشق طريقها وحيدة مجردة من الدعم الدولي والأميركي تحديدا الذي واكب ودعم ثورات تونس ومصر وليبيا، ثورة تسبح عكس التيار الصهيو-أميركي، ثورة سورية خالصة وثورة وطنية مئة بالمئة، ويكفيها فخرا وشرفا أنها أسقطت أقنعة المقاومة والممانعة وأنهت معزوفتها الى غير رجعة.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 13/5/2011، وجريدة جدار الالكترونية
22- الهجاء الغزلي والعطف الأوبامي!
أب متكبر، يرى ابنه أجمل من القمر، ولا يرضى عنه بديلا فهو في عينه غزال مهما اقترفت يداه ومهما عنه صدر. يتمادى الابن في الاعتداء على محيطه والإساءة الى البشر، فيحرج أباه الذي يضطر حياء الى تأنيبه لئلا يقال عن الأب انه يرعى أفعال ولده الذي ظلم وفجَر، "فينهره" قائلا: "ولدي حبيبي، توقف عن هذه الأفعال ولا تسبب الضرر"! وقد "يعاقبه" حياء أيضًا لكن بعقوبات غير مؤثرة على تصديره الخطر: "الى أوروبا وأميركا لن أدعك تسافر لقضاء العطلة الصيفية، ابحث عن وجهة غيرهما للسفر"!
لا نتحدث عن علاقة أميركا بإسرائيل كما قد يكون تبادر الى أذهان البعض، بل نصف سياسة أميركا وخطابها تجاه النظام السوري.
فبعد سقوط نحو ألف شهيد وآلاف الجرحى والمعتقلين من أبناء الشعب السوري المنتفض منذ شهرين لحريته وكرامته، وبعد اكتشاف مقابر جماعية وعمليات تعذيب وحشية على أيدي نظام شابه الإجرام الصهيوني وفاق بإرهابه الأمني النموذج المصري وحتى الليبي في التعامل مع التظاهرات الشعبية... بعد ذلك كله بدلا من أن يحذو الرئيس "اوباما" مع قائد النظام السوري الدموي الأسلوب نفسه الذي اعتمده مع الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك" حين طالبه بالرحيل صراحة بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة المصرية ("الآن يعني الآن" ثم "الآن يعني الأمس") ولما يتجاوز بعد عدد ضحايا التظاهرات المصرية ثلاثمئة شهيد... وبدلا من أن تسارع أميركا الى إحالة الرئيس السوري على المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما فعلت مع القائد الليبي "معمر القذافي"، إذ بالإدارة الأميركية تعتمد مع "الأسد" أسلوب "الهجاء الغزلي" النابع عن العطف "الأوبامي" الموصى به من اللوبي الصهيوني!
فغداة فرضه عقوبات اقتصادية (غير مؤثرة) على شخص الرئيس السوري "بشار الأسد"، أشاد الرئيس الأميركي "باراك أوباما" في 19/5/2011 بشجاعة الشعب السوري، وانتقد الرئيس السوري قائلا: "أمام الرئيس الأسد الآن خيار: إما ان يقود هذه العملية الانتقالية وإما أن يخرج من الطريق"!
إذا، رغم كل الجرائم التي اقترفتها يداه، لا تزال قيادة "العملية الانتقالية" مقبولة أميركيًا من الرئيس السوري، فهو غير مدعو الى الرحيل الآن بل بإمكانه أن يبقى شرط أن يحقق الإصلاحات، كما لا داعي ولا مبرر لإحالته على المحكمة الدولية، فيمكن لأميركا تجاوز كل تلك الجرائم وكأن شيئًا لم يكن إذا قاد "الأسد" العملية الانتقالية الى الديموقراطية!
انه "الهجاء الغزلي"، أسلوب أدبي إنكليزي-عبري جديد، كشفه الواقع الحرج الذي يعاني منه النظام السوري منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في 15 آذار الماضي، والذي انعكس بدوره احراجًا لأميركا وحليفها العدو الإسرائيلي الذي يعبر في صحفه يوميًا عن مأزق حقيقي يعيشه بسبب اهتزاز النظام السوري، ولا سيما مع رسالة ذكرى "النكبة" التي قطعت خلالها بعض الأسلاك الشائكة على حدود الجولان المحتل، والتي أتت مكملة وترجمة لرسالة "رامي مخلوف" التي اعترف فيها بتأمين نظامه استقرار الكيان الغاصب.
بعد ذلك الخطاب الأميركي المعيب، مما لاشك فيه أن الشعب السوري أدرك أن الكرة لم تغادر ملعبه فهي ليست في ملعب النظام ولا في ملعب المجتمع الدولي ولا في أي ملعب آخر. الشعب وحده هو من سيقرر مصيره ومستقبله وعليه أن "يقلع" شوكه بيده، فإما أن يتابع انتفاضته على كلفتها الأمنية والبشرية الباهظة حتى النهاية فيحرج المجتمع الدولي ويجبر "أوباما" نفسه على مطالبة "الأسد" بالرحيل فورًا وإحالته على محكمة دولية ثانية تضاف الى المحكمة الأولى المختصة بلبنان، وإما أن ينكفئ الشعب فينعى الحرية ويطفئ شعلتها في سوريا.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 20/5/2011، وجريدة جدار الالكترونية
23-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [8/11]
مصر..بين مطرقة "الإخوان الإيرانيين" وسندان الجيش الأميركي
قسّم "برنارد لويس" مصر في مشروعه لـ"الشرق الأوسط الجديد"، الى أربع دويلات، الأولى: "دولة سيناء وشرق الدلتا" الخاضعة للنفوذ اليهودي، والثانية: "الدولة النصرانية" أو "القبطية"، وعاصمتها "الإسكندرية"، وهي ممتدة من من جنوب "بني سويف" حتى جنوب "أسيوط"، واتسعت غربًا لتضم "الفيوم" وتمتد في خط صحراوي عبر "وادي النطرون" ليربط هذه المنطقة بـ"الإسكندرية"، وتضم أيضًا جزءًا من المنطقة الساحلية الممتدة حتى "مرسى مطروح". الدولة الثالثة: "دولة النوبة" المتكاملة مع الأراضي الواقعة في أقصى شمال السودان، عاصمتها "أسوان"، وتربط الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان باسم "بلاد النوبة" بمنطقة "الصحراء الكبرى" لتلتحم مع "دولة البربر" التي سوف تمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر. أما الدولة الرابعة فهي: "دولة مصر الإسلامية"، عاصمتها القاهرة وتضم الجزء المتبقي من مصر، ويراد لها كما لـ"دولة سيناء وشرق الدلتا" أن تكونا خاضعتين للنفوذ اليهودي، حيث إنهما تدخلان في نطاق إسرائيل الكبرى "من النيل الى الفرات".
بيد أنه بالنسبة لشمال شرقي مصر، ثمة أفكار صهيو-أميركية قديمة-جديدة لا تزال تطرح وعمرها حوالي 50 سنة، تتحدّث عن "خيار الدول الثلاث"، الذي يقوم على ضم "قطاع غزة" الى مصر، والجزء المتبقي من "الضفة الغربية" الى الأردن (الخيار الأردني)، فيما تتسيّد إسرائيل بمستوطناتها المجال الكلي في فلسطين.
وفي 4/6/2006، برز مشروع "جيورا آيلاند"، رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي سابقًا، والرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني المسؤول عن وضع الاستراتيجية الأمنية للدولة الصهيونية، فقد طرح خطته لإعادة تنظيم الشرق الأوسط (في حديث له مع آري شفيط من صحيفة هآرتس)، واقترح "ضم 600 كلم2 من مصر إلى "قطاع غزة" ويوطن فيها مليون نسمة (لإقامة ميناء بحري ومطار دولي)، على أن تعطى مصر 150 كلم2 في النقب تعويضًا لها".
كما قام المستشرق والمؤرخ والكاتب الصهيوني "جاي بخور"، بتقديم خطته لإعادة صياغة "الشرق الأوسط"، في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 27/7/2006، فتطرق الى الوضعين الفلسطيني والمصري قائلا: "أما مصر فستصبح مسؤولة عن قطاع غزة، وهو شيء أصبح يحدث في الواقع أكثر فأكثر"!
وفي منتصف شهر كانون الثاني 2010، نُشرت دراسة خطيرة أعدها مستشار الأمن القومى الإسرائيلى السابق، اللواء احتياط "جيورا آيلاند" (آنف الذكر)، لصالح "مركز بيجين - السادات للدراسات الاستراتيجية"، بعنوان: "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين"، عرض فيها المشروع الإسرائيلى المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين، وقد نصت على تزويد الدولة الفلسطينية المستقبلية بظهير شاسع من الأراضي المقتطعة من شمال "سيناء" يصل إلى ٧٢٠ كيلومترًا مربعًا، ويبدأ من الحدود المصرية مع "غزة"، وحتى حدود مدينة "العريش"، على أن تحصل مصر على ٧٢٠ كيلومترًا مربعًا أو أقل قليلا داخل "صحراء النقب" الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية.
وقد أنهى "آيلاند" عرض دراسته بالخلاصة الخطيرة التالية: "نجحت إسرائيل بجهود سرية خاصة فى إقناع الولايات المتحدة بالضغط على مصر والأردن للاشتراك فى حل إقليمي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يقوم على استمرار سيطرة إسرائيل على مساحات ضخمة من الضفة الغربية، مقابل تعويض الفلسطينيين بمساحات ضخمة من شبه جزيرة سيناء لإنشاء دولة فلسطينية مستقرة وقادرة على النمو والمنافسة.
وكانت عملية الانسحاب الأحادي من غزة عام 2005(يتابع "جيورا")، هي الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه. وبمجيء الرئيس "أوباما" آن الأوان لتنفيذ الخطوة التالية فى المشروع؛ غير أن مسؤولاً رفيعًا ومؤثرًا فى الإدارة الأميركية سبق أن اطلع على مشروع التسوية الإسرائيلي، قال للمسؤولين في تل أبيب: «انتظروا عندما يأتي وريث مبارك»"!
هذه هي الأفكار المطروحة لتقسيم مصر، والتي لا يمكن تهميشها وتنحيتها جانبًا لدى الحديث عن الثورة المصرية الأخيرة (ثورة 25 يناير)، والتي أدت الى الإطاحة بالرئيس المصري "حسني مبارك". كما لا يمكن تجاهل العامل الجيو-سياسي المهم لمصر الذي يجعلها في دائرة الاستهداف من قبل أصحاب الأطماع والمشاريع الخارجية والمشبوهة، فمصر مهيأة بالتراكمات التاريخية لتكون مفتاح المنطقة بما تملكه من خزان بشري وإمساك بالممرات البحرية والنهرية والبرية الأساسية، بالإضافة الى الثقل الحضاري الذي مكنها من لعب دور محوري على مر التاريخ سواء كانت امبراطورية أم كانت مستعمرة.
أولا: "حسني مبارك" من حاجة لا بد منها الى عنصر غير مرغوب فيه
تولى الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك" الحكم في مصر عام 1981، بعد اغتيال الرئيس السابق "أنور السادات"؛ وقد جمعت "مبارك" بأميركا وإسرائيل علاقات مميزة جدًا، فقد كان حليفًا استراتيجيًا لهما -إن لم نقل عميلا- من الطراز الأول.
في تلك الحقبة، كانت السياسة الصهيو-أميركية بحاجة الى "حسني مبارك" للقيام بثلاث مهام رئيسة هي: 1- الحفاظ على معاهدة السلام التي وقعها السادات مع إسرائيل (كامب دايفد) مع ما يترتب عليها من التزامات. 2- قمع وتحجيم "الإخوان المسلمين" اجتماعيًا وسياسيًا وتنظيميًّا. 3- تأهيل وترويض وتدجين الجيش المصري، وربطه بشكل مباشر بأميركا، تمويلا وتدريبًا وتسليحًا، بحيث يصبح خط الدفاع الأول والأخير عن المصالح الصهيو-أميركية في مصر.
عمل "مبارك" على تحقيق هذه الأولويات الأميركية بإخلاص، فكسب ودّ الإدارة الأميركية وحليفتها إسرائيل، وقد استغل منصبه والتفويض المطلق الذي حظي به في اتجاه إقامة نظام استبدادي واستخباراتي وأمني في مصر التي حكمها طوال عهده(30سنة) بنظام الطوارئ، كما عمل على استغلال منصبه وصلاحياته للانتفاع من ثروات بلاده، فنما ماليًا هو وعائلته بشكل سريع، وكوّن علاقات دولية واسعة، حتى ظن نفسه فعلا حاكم مصر الأوحد، في حين لا يعدو كونه حقيقة أكثر من مدير أعمال السياسة الصهيو-أميركية في بلاده.
بعد مرور 22 سنة تقريبًا أو أكثر بقليل على تلزيم مصر بشعبها وثرواتها وسلطاتها أميركيًا لـ"مبارك"، نجح الرئيس المصري في مهمته التي باتت في حكم المنجزة، واستطاع تلبية مطالب السياسة الصهيو-أميركية لتلك المرحلة التي بلغت نهايتها مع تحقق الأهداف الثلاثة المطلوبة، ودخول عوامل جديدة قلبت المعادلة، محوّلة الرئيس المصري من عنصر أساسي لا غنى عنه بالنسبة للسياسة الصهيو-أميركية في مصر، الى عنصر ثانوي يمكن التخلي عنه إذا تمنّع من التجاوب مع متطلبات المرحلة التالية وأهدافها.
ومن أهم العوامل الجديدة التي فرضت عملية الانتقال من مرحلة الى مرحلة، وغيّرت طريقة التعامل الأميركية مع الرئيس المصري: "مباردة الشرق الأوسط الكبير" التي طرحتها إدارة "بوش" الابن عام 2004، وتغيّر سياسة جماعة "الإخوان المسلمين"، وإحكام الولايات المتحدة قبضتها على الجيش المصري.
وهنا نتوقف قليلاً لشرح تلك العوامل وتقييمها:
فمع وصول الرئيس الأميركي السابق "جورج بوش" الابن الى الحكم في الولايات المتحدة، ، كان في مقدمة أولوياته تطبيق "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وبات مطلوبًا من النظام المصري التجاوب مع مهمات جديدة ذات صلة وثيقة بـذلك المشروع الذي وُضع من قبل السياسة الصهيو-أميركية على نار حامية، وبالتالي أصبح مطلوبًا من "مبارك" جعل حكمه أكثر مرونة، ما يعني إدخال تعديلات تخرجه من الديكتاتورية المطلقة (التي كانت ترعاها أميركا بكافة تجاوزاتها فسادها وسلبياتها في الماضي) الى الديموقراطية وإطلاق الحريات، وذلك من خلال فك الخناق عن "الإخوان المسلمين" والجماعات التي تطالب بالديموقراطية والحرية، وتنظيم انتخابات نزيهة، وإتاحة حرية العمل السياسي أمام الأحزاب المعارضة، وإعطاء حرية التعبير والعمل للجمعيات المستجدة (ذات الدعم الأميركي) على الساحة المصرية، وتلك التي تعنى بتشييع الشعب المصري والمرتبطة بـ"ولاية الفقيه". كما بات مطلوبًا من "مبارك" تأمين المزيد من الحقوق الدينية والسياسية للأقباط الشاعرين بظلم النظام وانتهاكه لحريتهم الدينية، ولا سيما في بناء الكنائس وتوسيعها وترميمها وفتح المغلقة منها (48كنيسة) وهو ما يطالبون به منذ عقود، فضلا عن أمور أخرى متعلقة بتنظيم الدولة والأحوال الشخصية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.
ومن العوامل التي طرأت على المجتمع المصري وساهمت في إنهاء المرحلة الأولى والإيذان بالدخول في الثانية: ما يتعلق بـ"الإخوان المسلمين". فقد بذل "مبارك" قصارى جهده في قمعهم وتحجيمهم وحظر تنظيمهم، وزج بالآلاف منهم في السجون المصرية، كما كان مطلوبًا منه تمامًا؛ غير أن "الإخوان" (الذين تشكل "حماس" إحدى فروعهم) لم يعودوا ذلك التنظيم الذي يقلق السياسة الصهيو-أميركية في مصر، لأنهم تغيّروا عما كانوا عليه في السنوات العشرين الأولى لحكم "مبارك"، حتى أصبحوا أجدر بأن تطلَق عليهم تسمية: "الإخوان الإيرانيين".
لقد وقع تنظيم "الإخوان المسلمين" في فتنة الانبهار بـ"إيران" و"شيعة ولاية الفقيه"، ولا سيّما بعدما عملت السياسة الصهيو-أميركية على رفع أسهمهم في المنطقة، سواء لدى الإنسحاب الإسرائيلي التكتيكي من جنوب لبنان عام 2000، أو من خلال مسرحية "حرب تموز" عام 2006، أو من خلال الخطابات الدعائية والعنجهية المفرّغة من أي مضمون عملي أثناء العدوان الصهيو-إيراني على "غزة" 2008-2009. وحسبنا أن نذكر كلام مرشد الجماعة في ذلك الحين "مهدي عاكف" وهو يدافع بعنفوان وقوّة عن الخط الإيراني المتطرّف والتخريبي في المنطقة، في مقابلة أجرتها معه مجلة "الوطن العربي" ونشرت في آب 2006، حيث قال متحدثًا عن طبيعة التحالف بين "الجماعة" و"حزب ولاية الفقيه": "هو تضامن وتحالف وتأييد، وكل شيء". وحينما سئل عن وجود أجندة إيرانية للسيطرة على المنطقة العربية وإشاعة النفوذ الإيراني، بادر "عاكف" إلى القول: "فلنترك هذا الكلام جانبًا، ما يقال عن أجندة إيرانية يقوله أعداء الأمة(...)، الإيرانيون عندما نتحدث معهم نجد كلامهم موزونًا فيه المنطق والحجة، ولا يتحدثون إطلاقًا عن رغبتهم في السيطرة وإنشاء دولة عالمية"!!
ولم يكن الخلف أفضل حالا من سلفه، فقد حذر المرشد العام الجديد لجماعة الإخوان المسلمين "محمد بديع" في 19/6/2010 من "مغبة توجيه ضربة لإيران"، مشددًا على أن "قبول العالمين العربي والإسلامي بمثل هذا الأمر أمر غير مقبول، ولا ينبغي أن تصمت الجماهير إذا ما رضخت الحكومات لإرادة واشنطن وتل ابيب"، (مع العلم أن الإرادة الصهيو-أميركية عكس ذلك تمامًا، على الأقل في المرحلة الحالية)، وقد أتى ذلك التحذير بعد تردد معلومات حول عبور 12 بارجة حربية أمريكية "قناة السويس" في طريقها للبحر الأحمر.
لا يختلف موقف المرشدَين العامَّين لـ"الجماعة" عن آراء الدكتور "محمد سليم العوّا" المنسق العام لـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" والمحسوب على "الإخوان" في توجهاته الفكرية والسياسية، والمعروف باعتزازه وافتخاره بما يسمى "المقاومة" في لبنان أي بـ"حزب ولاية الفقيه" وبدور ايران الداعم لحركات "الممانعة"، حتى صح فيه أن يوصف بـ"سفير إيران في مصر والعالم الإسلامي".
ومن المفيد التوقف هنا عند تصريح الدكتور "كمال الهلباوي" المتحدث السابق باسم "إخوان أوروبا" والتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في الغرب، فقد قال لـصحيفة "الشرق الأوسط" في مقابلة أجرتها معه بتاريخ 19/03/2011 إنه سافر إلى طهران مرتين في فبراير (شباط2011) الماضي، أولاهما للمشاركة في أعمال مؤتمر "الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية" (البهتان الإيراني العظيم)، بدعوة خاصة من الشيخ "محمد علي تسخيري"، نائب رئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، والثانية لإلقاء محاضرة في جامعة طهران حول "مستقبل الإخوان المسلمين"!!
وأضاف "الهلباوي" مؤسس "الرابطة الإسلامية" في بريطانيا، لـ"الشرق الأوسط" ردًا على ظهور أشرطة فيديو له صورت في طهران بحضرة الولي الفقيه "خامنئي" و"أحمدي نجاد" رئيس الجمهورية، إنه "من أشد المعجبين بشخصيتَيهما، لبساطتهما وأمانتهما وشجاعتهما، لأن ما يقولانه في طهران يقولانه أيضًا في نيويورك، أي ما يتحدثان به في الداخل يقولانه أيضًا في الخارج، مع الأعداء والأحباب على حد سواء"! وشدد على أن "الشجاعة التي يتحلى بها قادة إيران خاصة قائد الثورة خامنئي يضرب بها المثل"!! وأشار إلى أن "الإخوان" تربطهم علاقات دائمة وجيدة مع الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني، موضحًا أن "التأثيرات المباركة للثورة الإسلامية (أي الخمينية) كانت واسعة النطاق وقد شملت العالم أجمع".
وقد أحرجت هذه التصريحات جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر ولا سيما أنها أتت في توقيت حساس بالنسبة إليها بعد سقوط "مبارك" وفي خضم استعدادها لخوض الانتخابات، فنفت مسؤوليتها عنها، وعقّب الدكتور "عصام العريان" المتحدث باسم "جماعة الإخوان المسلمين" على هذه التصريحات قائلا لـ"الشرق الأوسط"، إن "الهلباوي مفكر كبير وباحث محترم، لكنه يمثل نفسه فقط"، مشددًا على أن "مواقف الجماعة لا تؤخذ إلا من المرشد العام الدكتور محمد بديع أو من المتحدثين باسمها.
والجدير بالذكر، أن إيران مهتمة منذ زمن بعيد بإسقاط نظام "حسني مبارك"، فقد ظلت تحاربه منذ سقوط الشاه عام 1979، عن طريق فتح علاقات وطيدة مع "الإخوان" والجماعات الإسلامية الأخرى المعارضة للنظام، الذين حرصوا بدورهم شيئًا فشيئًا على تعميق علاقاتهم بالدولة الشيعية-الفارسية، فقاموا يزيارات منتظمة لطهران للقاء الزعماء الإيرانيين.
ومما زاد الارتياح الأميركي لجهة "الإخوان الإيرانيين"، ما نقرأه في الصحف الأميركية عن تقييمها لوضع "الإخوان" الحالي، حيث يعتبر بعض المحللين الأميركيين أن "الاخوان المسلمين المصريين عدا عن تاريخهم الطويل كمكوِّن سياسي أساسي في المجتمع المصري، بدا في السنوات الاخيرة أنهم تطوروا فكريًا وسياسيًا باتجاه قبول الفكرة الديموقراطية الليبرالية". أضف إلى ذلك أن المرحلة القادمة هي مرحلة تفتيت المنطقة الى دويلات طائفية، و"الإخوان" يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" الذي يقلق 12مليون قبطي في مصر يمثلون نحو 10% من الشعب الذي تعد "جماعة الإخوان" الحزب الأكثر تنظيمًا على ساحته رغم الحظر الذي تفرضه سلطة "مبارك" عليهم، وقد أثبتوا ذلك بجدارة في انتخابات 2005 فقد حصدوا نحو 20% من مقاعد مجلس الشعب وكادوا يفوزون بأكثر من ثلث مقاعده لولا انتهاكات النظام وتدخلاته القمعية، وقد هزمت "الجماعة" في الدورة الاولى من انتخابات نهاية 2010 التي شابها تزوير وأعمال عنف، وقررت عدم المشاركة في الدورة الثانية، وقد عكست نتائجهم الانتخابية أنهم يعدّون أنفسهم للقفز على السلطة في مصر مستخدمين الضغوط الدولية على الحكومة المصرية في المزيد من الديموقراطية والحرية السياسية.
وفي حال استيلاء "إخوان ولاية الفقيه" على السلطة في مصر، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام أحد خيارين: إما أن تبقى مصر موحدة في حال تخلي "الإخوان" عن "الدولة الإسلامية"، وإلا فتقسيم مصر بين المسلمين والأقباط بسبب رفض الطرف الأخير"الدولة الإسلامية" بتحريض من المنظمات الأميركية التي ربما لجأت الى إحداث فتن طائفية من خلال عمليات إرهابية من جماعات إسلامية في العنوان والمظهر، وصهيو-أميركية التمويل والتنظير. وبالتالي سوف تكرس الدولة الدينية مبدأ تقسيم مصر وثرواتها بين المسلمين والأقباط.
هذا فيما يتعلق بـ"الإخوان"، أما بالنسبة للجيش المصري الذي يعد صمام أمان المرحلة الثانية بالنسبة للأهداف الصهيو-أميركية، فقد أحكمت الولايات المتحدة قبضتها عليه، بفضل المساعدات التي خصصتها وتخصصها له، والبالغة مليار وثلاثمائة مليون دولار سنويًا، وتقدر بنحو 40 مليار دولار منذ بدء تطبيق "برنامج التعاون" بعد توقيع معاهدة "كامب دايفيد" عام 1979، هذا فضلا عن توليها تسليحه وتدريبه، وتنظيمها دورات عسكرية لضباطه في أميركا. وقد أوردت صحيفة "النيويورك تايمس" في 6/3/2011، أن "المساعدات العسكرية الأميركية للجيش المصري ساهمت في إيجاد شبكة من الصفقات الداخلية والفساد في الجيش"، وأعطت أمثلة عن "مستشفى عسكري موّلته الولايات المتحدة مطلع التسعينات، وحوّله الجيش مستشفى فخمًا لاستقبال المدنيين والأجانب وكسب المال. كما استخدم سربًا من الطائرات النفاثة التي حصل عليها من أميركا للسفر المترف". وهذا ما يبيّن لنا مدى وقوع الجيش المصري في القبضة الأميركية، لا بل وانتفاعه منها.
وإذا أردنا التوسع بعض الشيء في تفسير التركيبة البنيوية لقادة القوات المصرية، سنلاحظ أنها تنتمي إلى الجيل العسكري الذي خاض معظمه "حرب أكتوبر" (1973) كضباط شباب صغار الرتب. ثم تدرجوا في الارتقاء إلى المناصب العسكرية العليا، مع انتقال الجيش المصري من السلاح الروسي إلى السلاح الأميركي. ولعل خير من يمثّل هذه الانتقالية، الفريق سامي عنان (63 سنة) رئيس أركان الجيش المصري حاليًا؛ إذ تشير بعض التحقيقات المنشورة حديثًا، إلى أن رئيس أركان الجيش المصري "سامي عنان" على علاقة وطيدة مع جهازين كبيرين يناط بهما حفظ الأمن القومي الاميركي وهما الـ"سي آي إي" ووكالة الأمن القومي الاميركي، فعلى مدى خمسة أعوام كان "عنان" يزودهما بتقارير عن تغير الاوضاع الداخلية في مصر وتململ الشعب من زيف ما تروج له أجهزة إعلام النظام وحقيقة الأوضاع الاجتماعية التي تغوص بسرعة كبيرة الى قاع الفقر والحرمان، وتطورت الى البحث عن رغيف الخبز في حاويات القمامة.
وتفيد تلك التحقيقات أن الإدارة الأميركية بدأت مراقبة الأوضاع الداخلية المصرية عن كثب بعد خمس سنوات من ظهور "جمال مبارك" على الساحة السياسية المصرية وتقاعس مبارك عن أداء واجباته الخارجية والداخلية المناط به، وكانت حصيلة تفاهمات اميركية - اسرائيلية - مصرية منذ أن تولى الحكم.
وبصرف النظر عن مدى صحة تلك المعلومات، فمن المؤكد أن تسليح الجيش المصري بأسلحة أميركية متفوقة على السلاح الروسي، قد سمح باحتكاك أكبر بالقادة والضباط العسكريين الأميركيين، بحكم عمليات التدريب والصيانة والمناورات المشتركة والزيارات المتبادلة... وبالتالي تمكّن الأميركيون من نقل التقاليد العسكرية الأميركية إلى القيادات المصرية، وهي تقاليد ممارسة النفوذ لدى الـ"كونغرس" و"البيت الأبيض" والطبقة السياسية، من دون تدخل مباشر وظاهر في السياسية. وبهذا غدا المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الذي يضم عددًا كبيرًا من قادة أسلحة الجو والبر والبحر، مختلفًا عن قياداته السابقة التي تربت وتدرّبت في روسيا والتي باتت قلة قليلة في تركيبة الجيش المصري الحالية.
هكذا، ومع مرور الأيام، وبفعل المساعدات والعلاقات الأميركية، أصبح الجيش المصري ضابط الإيقاع وحارس النظام والمصالح التي يرعاها، لا الرئيس المصري "حسني مبارك" وإن كان القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي بات الجيش مؤهلاً وموضع ثقة للإشراف على أية عملية انتقال سلمي للسطة في مصر، وإنجاحها بطريقة سلسة ومنظمة وآمنة، في حال اتخذ القرار صهيو-أميركيًا بإزاحة "مبارك" على خلفية تمنّعه عن السير في متطلبات المرحلة الجديدة. وهذا ما ظهر جليًا من خلال انضباط الجنرالات المصريين الجدد الذين تأثروا بالليبرالية الديمقراطية الأميركية، فقد ساعد على حسم الوضع في الثورة المصرية الأخيرة، حين نفذوا التعليمات الأميركية وانحازوا الى مطالب المتظاهرين متخلين عن قائدهم الأعلى "حسني مبارك". وهو ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" في 2/3/2011، عندما صرحت من لبنان "أن العلاقة الأميركية مع الجيش المصري منعته من فتح النار على مواطنيه خلال الثورة المصرية".
ولا تخفى أهمية دور هذا الجيش في الحفاظ على "اتفاقية السلام" مع إسرائيل، والتي عمل "مبارك" على صونها واحترام بنودها، كما زوّد إسرائيل بالغاز المصري بأسعار تلامس سعر الكلفة إن لم يكن أقل، لكنها بالتأكيد أرخص من تلك التي يتكبدها الشعب المصري.
ويبدو أن رئيس أركان الجيش المصري "سامي عنان" الذي اضطلع بالدور الأبرز في المسار الذي اتبعه الجيش المصري إسقاط "مبارك"، مقبل على إعلان عدد من التصريحات التي تشنف آذان المصريين، حيث سيعجب المصريون به أكثر وبدوره الجوهري أثناء ثورتهم، وسيدعونه بالتالي الى الترشح للانتخابات ليفوز بالفعل ويصبح رئيسًا لمصر، معتمدًا مسارًا سياسيًا يتلاءم والتوجهات الأميركية ومن خلفهما الإسرائيلية. وهو سيناريو نرجو أن لا ينطلي على الشعب المصري.
وبالعودة الى صلب موضوعنا، فعلى ضوء العوامل الجديدة الطارئة آنفة الذكر، اصطدمت السياسة الصهيو-أميركية بطريقة تعامل الرئيس المصري مع متطلبات المرحلة الجديدة، فقد لاقت منه إعراضًا واضحًا عن السير في متطلباتها، ولا سيما تلك التي يفرضها المشروع الأميركي الذي أطلقت عليه الإدارة الأميركية تسمية "مبادرة الشرق الأوسط الكبير"، والتي سوقتها عام 2004 على أنها تهدف إلى تشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ونشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى، دون أن تتعرض الى لب المشكلة في المنطقة المتمثل بالصراع العربي-الإسرائيلي؛ فقد رفضت المملكة العربية السعودية ومصر المشروع الأميركي، وأعلنتا في بيان مشترك صدر مساء 24/2/2004 في أعقاب زيارة الرئيس المصري "حسني مبارك" للرياض، أنهما "ترفضان المشاريع المفروضة من الخارج على البلدان العربية والإسلامية". وجاء في البيان: "إن الدول العربية تمضي على طريق التنمية والتحديث والإصلاح بما يتفق مع مصالح شعوبها وقيمها وتلبية لاحتياجاتها وخصوصياتها وهويتها العربية، وعدم قبولها فرض نمط إصلاحي بعينه على الدول العربية والإسلامية من الخارج". وشدّد الجانبان في بيانهما، على أنهما يريدان التوصل الى استقرار الشرق الأوسط، وأن ذلك يستلزم "إيجاد حلول عادلة ومنصفة لقضايا الأمة العربية والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية العراق".
كما اصطدمت أميركا برفض "مبارك" تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ورفع الحظر عن "الإخوان المسلمين" حلفاء الأداة التقسيمية في المنطقة إيران، واستمرار الرئيس المصري في تضييقه على المنظمات الداعية الى الديموقراطية والحكم الرشيد في مصر الممولة مباشرة من الإدارة الأميركية. كما تابع "مبارك" محاربته لحركات التشييع المرتبطة "بولاية الفقيه"، فلم يعطها حرية العمل على الأراضي المصرية، لا بل أعطى الضوء الأخضر لأئمة المساجد والخطباء للتحذير من كيدها ومخططاتها. أما معاملة الأقباط، فلم تتحسن على النحو المطلوب.
وقد اشتد الاستياء الصهيو-أميركي من "مبارك" أثناء العدوان "الصهيو-إيراني" على غزة (2008-2009)، مع رفض الرئيس المصري الانصياع للضغوط الأميركية والدولية لفتح معبر "رفح" الحدودي أمام "الغزاويين"(مع العلم أنه كان مفتوحًا للدواعي الطبية فقط)، ما يعني تفريغ "غزة" من شعبها الذي سيدخل الأراضي المصرية الى أجل غير مسمى ريثما يعاد إعمار القطاع، الأمر الذي سيؤدي بشكل أو بآخر الى تطبيق المشروع الصهيو-أميركي بضم غزة إلى مصر وجعلها مسؤولة عنها. فقد كان الرئيس المصري "حسني مبارك" واعيًا للمؤامرة التي شارك فيها "حسن نصر الله" بدعوته في خضم الحرب الى فتح المعبر، فأكد "مبارك" في 30/12/2008، أن بلاده "ترفض مخطط إسرائيل للفصل بين الضفة والقطاع، والتنصل من مسؤوليتها عن غزة وتحميل مصر بتبعاتها(...). إن هذا المخطط يستدعي إلى الذاكرة الترويج منذ الثمانينات لمقولة "غزة أولاً" بالنسبة للقطاع و"الخيار الأردني" فيما يتصل بالضفة الغربية(...)". وتابع مبارك: "إن مصر لن تقع فى هذا الفخ الإسرائيلي، ولن تشارك في تكريس هذا الفصل (...) بفتح معبر رفح في غياب السلطة ومراقبي الاتحاد الأوروبي".
وفي 7/4/2009، وعلى أثر اكتشاف أجهزة الأمن المصرية في أواخر العام 2008 "خلية سرية إرهابية" (خلية سامي شهاب) جنّدها "حزب ولاية الفقيه" للقيام بعمليات تخريبية عدائية تمس بالأمن القومي المصري، ومن بين عناصرها الموقوفين أعضاء سابقون في "الإخوان المسلمين"، اتهم النائب العام المصري الحزب الإيراني بالتخطيط "للقيام بعمليات عدائية داخل البلاد"، والسعي الى "نشر الفكر الشيعي" في مصر. وقد اعترف "حسن نصر الله" في 10/4/2009 بمسؤولية حزبه عن تلك الخلية الموقوفة، زاعمًا أن مهمتها "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة"! وقد صدرت عام 2010 الأحكام في حق "خلية الحزب"، وحكم بالسجن مدة 15 عامًا على قائدها "محمد يوسف منصور" الذي دخل الأراضي المصرية باسم "سامي شهاب" (لإخفاء شهرته الشيعية "منصور" باستعمال شهرة سنية ومسيحية "شهاب")، وذلك من خلال جواز سفر مزور رسميًا، أعطي له من قبل جهاز الأمن العام اللبناني الخاضع لسيطرة الحزب الإيراني!
ومنذ ذلك الحين، تدهورت العلاقات المصرية-الإيرانية شبه المقطوعة أصلا منذ عام 1979، وتضاعفت التصاريح الحادة من قبل الرئيس المصري ووزير خارجيته " أحمد أبو الغيط" ضد النظام الإيراني الصفوي وتدخلاته المسمومة في مصر والمنطقة، وبدا واضحًا أن مصر (رغم ديكتاتورية وفساد نظامها) تقف وحدها حائلاً وسدًّا منيعًا يحول دون تنفيذ إيران مشروعها التقسيمي والتشييعي في المنطقة المدعوم صهيو-أميركيًا، لتصفية حسابات قديمة واستعادة "خلافتها الفاطميّة" في مصر عبر حلفائها "إخوان ولاية الفقيه"، لكن هذه المرة بوشاح إسلامي موقّت وزائف، يتستر بالقضية الفلسطينية لاختراق الشعوب والدول العربية والإسلامية.
وبناء على ما تقدّم، بات الرئيس المصري "حسني مبارك" يشكل عائقًا أمام تنفيذ المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة، وتحول من عنصر لا بد منه "أميركيًا" الى عنصر غير مرغوب فيه. وبذلك، بدأت الولايات المتحدة الأميركية تنتهج سياسة دعم منظمات مصرية معارضة للنظام المصري تطالب بالديموقراطية والحكم الرشيد، وتعمل على تجييش الشعب المصري المستاء أصلا من رئيسه؛ وقد لعب "الإخوان الإيرانيون" دورًا فعالا في إثارة هذه النقمة، مدفوعين بحقد ساهمت أميركا في تولده بسبب رعايتها قمع وتسلط نظام "مبارك" الذي طالهم أكثر من سواهم، يوم كان النظام يحظى بالدعم الأميركي الكامل، وقد حان الآن وقت استثماره.
وفي هذا السياق، أظهرت برقيات نشرها موقع "ويكيليكس" في 27/1/2011، أن الولايات المتحدة "دفعت عشرات الملايين من الدولارات الى منظمات تدعو الى الديموقراطية في مصر، مما أثار دهشة الرئيس المصري حسني مبارك الذي بدا ممانعًا للإصلاح، وأبدى مرارًا تخوّفه من النفوذ الإقليمي لإيران"، بحسب وصف البرقية.
وجاء في برقية صادرة عن السفارة الأميركية في القاهرة بتاريخ 6/12/2007، أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية "يو أس ايد" خصصت مبلغ(66,5) مليون دولار عام 2008 و(75) مليون دولار عام 2009 لبرامج مصرية لنشر الديموقراطية والحكم الرشيد. وورد في برقية أخرى من السفارة في تاريخ 9/10/2007، أن "برامج الحكومة الأميركية تساعد على إنشاء مؤسسات ديموقراطية وتقوية أصوات الأفراد من أجل إحداث التغيير في مصر".
وأبرزت المراسلات أن الديبلوماسيين الأميركيين استخدموا شبكة واسعة لجمع المعلومات عن عنف رجال الشرطة. وقد تابعت السفارة الأميركية، عبر تواصلها مع محامين مدافعين عن حقوق الإنسان، قضايا عدة، بينها التعذيب الذي تعرض له متهمون في قضية خلية "حزب ولاية الفقيه" التي اعتقل أفرادها في نهاية عام 2008!!
وورد في الوثائق أن استعداد مبارك لتحمّل الإصلاحات في البلاد لا يتعلق بمجالات في الأمن العام أو الاستقرار، بل بأمور على صلة بحقوق المرأة وتشغيل الأولاد. ذلك أن الرئيس المصري يرى أن الإصلاحات السياسية تؤدي إلى "التطرف". وجاء في إحدى المراسلات: "سمعناه يأسف لنتائج جهود أميركية سابقة للتشجيع على الإصلاح في العالم الإسلامي"، وهو "غالبًا ما يستشهد بشاه إيران (السابق محمد رضا بهلوي) الذي خضع لضغط من واشنطن، لتحل محله حكومة أكثر قمعًا وعدائية". وتشير الوثائق أيضًا، أن الرئيس المصري تحدث مرارًا عن إيران، إذ حذر ديبلوماسيين أميركيين من أنها "تمد مخالبها من الخليج إلى المغرب" عبر "حماس" و"حزب الله". وهو وصف "حماس" بأنها تهديد مباشر لحكمه. وقال للجنرال الأميركي "ديفيد بيترايوس" في حزيران 2009، إن الحكومة الإيرانية تريد بناء "جيوب" مؤثرة لها داخل مصر.
ويُستشف من أجواء تلك الوثائق، أن "مبارك" كان على دراية بأن من يقف وراء بعض العمليات الإرهابية التي شهدتها بلاده في الآونة الأخيرة هو إيران التي تريد زعزعة استقراره من خلال دعمها لتلك العمليات بشكل مباشر عبر خلاياها أو عبر مصريين تبنتهم ورعتهم. مع العلم أن الدولة الفارسية ركزت في السنوات القليلة الماضية على العمل في "شبه جزيرة سيناء" من خلال تأليب "البدو" على النظام المصري، فضلا عن قيام رجالها بعمليات إرهابية عديدة ضد السياح الأجانب وقوات الأمن في "شرم الشيخ" و"طابا" و"رفح"، إضافة الى عمليات تهريب سلاح ومال لـ"حركة حماس" في غزة.
وبالعودة الى الوثائق السرية، فقد ذكرت صحيفة "الدايلي تليغراف" البريطانية التي نشرت تلك الوثيقة السرية المؤرخة في 6/12/2007، أنها علمت أن الحكومة الأميركية تدعم بصورة سرية شخصيات بارزة وراء الانتفاضة المصرية، وأن هذه الشخصيات كانت تخطط لتغيير النظام منذ ثلاث سنوات. وحسب ذات الصحيفة ووثائقها، فإن السفارة الأمريكية في القاهرة، ساعدت معارضًا شابًا على حضور ندوة برعاية الولايات المتحدة في نيويورك للنشطاء الشباب، وعملت على إخفاء هويته عن أمن الدولة في مصر. وأضافت "الدايلي تليغراف" أن هذا الناشط الشاب لدى عودته إلى مصر عام 2008، أبلغ دبلوماسيين أميركيين أن تحالفًا من الجماعات المعارضة وضع خطة للإطاحة بـ"مبارك" وتنصيب رئيس منتخب ديمقراطيًا عام 2011. وحسب الصحيفة ذاتها، فإن هذا الناشط قد اعتقل من قبل الأمن المصري بسبب مظاهرات. وهذه المعلومات تنطبق على الشاب المصري "وائل غنيم" الذي نشط في الدعوة الى التظاهرات على الـ"فايس بوك"، واعتقل على أثر ذلك ثم خرج محاطًا برعاية إعلامية بارزة أيام الثورة المصرية كما سنبيّن فيما بعد.
هذا، ولا يمكن الحديث عن المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة دون ذكر إحدى أهم أدواته المتمثلة بدولة قطر المشبوهة والساعية الى فرض نفسها كدولة محورية ورائدة في العالم العربي، على حساب الدورين البارزين اللذين تضطلع بهما المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية؛ وفي سياق الدور القطري التآمري على دول المنطقة، نشر موقع "ويكيليكس" في 6/12/2010 وثيقة أميركية سرية بعثتها السفارة الأميركية بالدوحة بتاريخ ٢٤/2/٢٠١٠ إلى الخارجية الأميركية، تكشف أن لقاء عقد بين "حمد بن جاسم" رئيس الوزراء القطري والسيناتور "جون كيري"، وقال "بن جاسم" خلال اللقاء، إن "مصر لها مصلحة فى استمرار محادثات المصالحة الفلسطينية بين حماس وفتح لأطول فترة ممكنة"، واعتبر أن "مصر تبدو مثل طبيب لديه مريض واحد، وإذا كان هذا هو العمل الوحيد فسيسعى الطبيب لإبقاء المريض على قيد الحياة ولكن فى المستشفى لأطول فترة ممكنة".
وتشعر قطر -وفقا لـ"بن جاسم"- بالقلق حيال مصر وشعبها، الذى بدأ صبره ينفد، وتابع بن جاسم قائلا إن القاهرة تؤكد أن قناة "الجزيرة" هي مصدر المشاكل فى مصر. وهذا ليس عذرًا، وأضاف أنه عرض على مصر "وقف بث قناة الجزيرة فى مصرة لمدة عام، إذا وافقت على التوصل خلال تلك الفترة إلى تقديم تسوية دائمة للفلسطينيين"، وأنه لم يتلق ردًا مصريًا.
وفي هذا الإطار، كشفت بعض الوثائق الدبلوماسية المسربة من السفارة الأميركية فى الدوحة، التى نشرها موقع "ويكيليكس" الإلكتروني، عن استخدام قطر لقناة "الجزيرة" كـ"ورقة مساومة" لتحسين علاقاتها مع الدول الأخرى، من خلال تعديل السياسة التحريرية والتغطية الإعلامية للقناة بما يتناسب مع خدمة مصالح السياسة الخارجية القطرية!
وأضافت الوثيقة أن "الجزيرة كانت تغير فى تغطيتها الإعلامية للقضايا الإقليمية والدولية، بما يتلاءم مع الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة، كما أنها عرضت وقف انتقاداتها لهم مقابل الحصول على امتيازات كبيرة".
وقال الدبلوماسيون الأمريكيون فى برقياتهم إلى واشنطن، إن المواد الإعلامية التى تنتجها القناة صارت جزءًا من مناقشتهم الثنائية، خاصة بعد التأثير الإيجابي الذى أحدثته "الجزيرة" على العلاقات بين قطر والسعودية والأردن وسوريا وغيرها من الدول.
وفي 2/2/2011 كشفت وثائق خطيرة سربها موقع "ويكيليكس" أن لقاءً سريًا جمع بين الشيخ "حمد بن جاسم وزير" الخارجية القطرى ومسؤول إسرائيلي نافذ فى السلطة، كشف فيه الشيخ "جاسم" للمسؤول الإسرائيلي أن الدوحة تتبنى خطة لضرب استقرار مصر بعنف، وأن "قناة الجزيرة" ستلعب الدور المحوري لتنفيذ هذه الخطة، عن طريق اللعب بمشاعر المصريين لإحداث هذه الفوضى.
تتحدث الوثيقة التى حملت رقم 432 بتاريخ الأول من يوليو/تموز 2009 عن اللقاء الذى استغرق 50 دقيقة بين الشيخ "حمد بن جاسم" وقناة "الجزيرة" والذى أسهب فيه "بن جاسم" متحدثًا عن السياسة الخارجية القطرية، فى عدد من الموضوعات بما فيها المصالحة الفلسطينية وعملية السلام، ولم يدخر جهدًا في شن هجوم شرس على مصر وسياساتها بشكل مباشر وغير مباشر في لحظات أخرى، وقد قام السفير الأميركي بتحليل اللقاء، وأشار فى مجمل تحليله إلى كون "الجزيرة أداة فى يد القطريين يستخدمونها كيفما يشاءون لخدمة مصالحهم على حساب أطراف أخرى".
أما الوثيقة الثانية وحملت رقم 677 بتاريخ 19 نوفمبر 2009، فقد تعلقت بتقييم شامل تعده الأقسام المختلفة بالسفارة الأميركية كل في اختصاصه حول قطر، وتطرق التقييم إلى دور قناة "الجزيرة" فى منظومة السياسة القطرية وتحليل توجهات الشبكة منذ تولي الرئيس "باراك أوباما" لمقاليد السلطة فى واشنطن.
وأشارت الوثيقة إلى أن "تغطية الجزيرة أصبحت أكثر إيجابية تجاه الولايات المتحدة"، وفي الوقت نفسه يؤكد التقييم "بقاء الجزيرة كأداة للسياسة الخارجية القطرية".
وأكدت الوثيقتين أن وزير الخارجية القطري الشيخ "جاسم" أوضح لعدد من المسئولين الإسرائيليين والأميركيين أنه بمجرد خروج المصريين إلى الشارع فإنه سيكلف قناة الجزيرة ببث كل ما يزكي إشعال الفتنة فى الشارع، ليس فقط بين المصريين والنظام ولكن بين المصريين بعضهم البعض.
وأشارت الوثيقتان إلى أن النظام القطري يستخدم دائماً قناة "الجزيرة" في تصفيه حساباته مع خصومه، وأنه نجح أكثر من مرة في إشعال الفتن في عدد كبير من العواصم العربية عندما توترت العلاقات مع الدوحة، وأن "الجزيرة" هي إحدى أهم القنوات الإخبارية فى المنطقة ونجحت فى جذب المشاهد العربي منذ تأسيسها.
وتجدر الإشارة الى أن موقع "ويكيليكس" كان قد أشار إلى أن لديه 7 وثائق عن قطر، نشر منها 5 وثائق، وحجب وثيقتين بعد تفاوض قطر مع إدارة الموقع الذى طلب مبالغ ضخمة حتى لا يتم النشر لما تحويه من معلومات خطيرة عن لقاءات مع مسئولين إسرائيليين وأميركيين، وأن هذه اللقاءات كلها للتحريض ضد مصر.
وعلى الرغم من أن الموقع التزم بسرية الوثيقتين السابقتين بعد أن حصل على الثمن من القطريين، إلا أنه تم تسريبهما إلى عدد من وسائل الإعلام، أهمها جريدة الـ"جارديان" البريطانية والتي نشرت نصهما على موقعها وشملت ضمن محتواهما تحليل السفارة الأميركية لموقع قناة "الجزيرة" على خريطة التحرك السياسي لقطر، ودورها فى رسم ملامح سياسة قطر الخارجية.
ثانيًا: العدوى التونسية تنتقل الى مصر
دخل قرار إسقاط الرئيس المصري حيّز التنفيذ، فحطت "الفوضى الخلاقة" رحالها في مصر آتية من تونس. فقد كان لنجاح "الثورة التونسية" في إسقاط الطاغية "زين العابدين بن علي" في 14/1/2011، وإرساله فورًا صاغرًا ومذلولاً إلى مزبلة التاريخ، وما رافقها من دعم دولي وإعلامي مؤيد وضاغط، كان لذلك دور أساسي في إلهاب مشاعر وحماسة الشعوب العربية المقهورة من ظلم حكامها، وهو ما شكل لهم بارقة أمل يمشون على خطاها لكسر حاجز الخوف بينهم وبين أنظمتهم القمعية الفاسدة، ما ساعد على إشعال فتيل موجة تظاهرات مماثلة في عدد من الدول العربية لإسقاط انظمتها الحاكمة، وفي مقدمتها مصر التي يترأسها "حسني مبارك" منذ 30 عامًا.
لا شك أن الشارع المصري كان يعيش حالة غليان واحتقان شديدين منذ سنوات عديدة، غير أن وفاة شاب من الاسكندرية يدعى "خالد سعيد"(28عامًا) في 7/6/2010 -بعد تعرضه لاعتداء بالضرب الوحشي على أيدي عنصرين من الشرطة السرية في أحد مقاهي الإنترنت حتى فقد حياته، وذلك عقابًا له على نشر فيديو على شبكة الإنترنت يظهر تورط رجال شرطة في تجارة المخدرات- تلك الوفاة تحولت إلى الحدث الأهم في مصر طوال الأشهر السبعة التي سبقت انطلاقة الثورة المصرية ومهدت لها، حيث نظمت وقفات احتجاجية ارتدى فيها المصريون الملابس السوداء وهم وقوف على كورنيش النيل والاسكندرية، لاقت كالعادة قمعًا وحشيًا من السلطة المتذرعة بـ"قانون الطوارئ". ومع لمعان نجم الثورة التونسية أواخر عام 2010، بدأ المصريون ينظرون الى ضحية التعذيب "خالد سعيد" باعتباره "بوعزيزي" الثورة المصرية.
بدأت التظاهرات الشعبية المصرية على الطريقة التونسية، مع إقدام أحد المواطنين في 17/1/2011 على إحراق نفسه أمام مجلس الشعب احتجاجًا على الفساد السياسي والإداري، محاكيًا طريقة المواطن التونسي "محمد البوعزيزي". ثم تبعه أربعة مواطنين مصريين قاموا بحرق أنفسهم، ولقي أحدهم حتفه متأثرًا بحروقه البليغة.
شهد بداية التحركات الشعبية يوم الثلاثاء 25/1/2011، بعد دعوة أطلقها عدد من الناشطين السياسيين والحقوقيين المصريين إلى تنظيم تظاهرات ووقفات احتجاجية واسعة في مصر في ذلك التاريخ، ضد "التعذيب والفقر والفساد" (دون التعرض الى موضوع إسقاط النظام)، وذلك بالتزامن مع الاحتفال الرسمي الذي تنظمه الدولة بمناسبة عيد الشرطة.
وفي الوقت نفسه، انتشرت دعوات عديدة عبر موقع التواصل الاجتماعي "فايس بوك" (مثل صفحة "كلنا خالد سعيد التي يديرها الشاب "وائل غنيم" والتي جمعت أكثر من مئة ألف مشارك) وموقع "تويتر"، تدعو المصريين إلى النزول الى الشارع للمطالبة بحقوقهم في الحرية والديمقراطية، وتوصيل رسالة إلى العالم بأن الملايين غير راضين عن أوضاع بلادهم. وكذلك وجهت "حركة شباب 6 أبريل"، الدعوة إلى الشباب من مختلف التيارات السياسية وجميع أطياف الشعب المصري للمشاركة في التظاهرات.
وقد تمّ الإعلان عن عدّة مطالب لهذه الاحتجاجات، منها: عدم ترشيح رئيس جمهورية مصر الحالي "حسني مبارك" ونجله "جمال" في الانتخابات المقبلة (المقررة في أيلول2011)، وإقالة الحكومة، وتشكيل حكومة وفاق وطني، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فضلاً عن إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ممن ليس عليهم أحكام جنائية، ومحاكمة كل رموز الفساد والمستفيدين منه، إضافة إلى إلغاء قانون الطوارئ، وإجراء تعديل فوري في المواد المعيبة في الدستور المصري مثل المواد 66 و67 و5 و88 و179 لضمان انتخابات رئاسة حرة، إلى جانب توفير حد أدنى من الأجور (1200 جنيه) لضمان حياة كريمة للمصريين.
نظمت التظاهرة في موعدها المحدد، وشارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين مطالبين بإجراء اصلاحات سياسية وإدارية في البلاد، فيما لفت مطالبة بعض المتظاهرين باسقاط نظام "حسني مبارك". كما استرعى الانتباه منح شبكات التلفزيون الأميركية والأوروبية أفضل الفرص للمتظاهرين كي يعربوا عن سخطهم ضد السلطة المصرية، وذلك توازيًا مع ترويج صحف هذه الدول لاحتمالات سقوط عدة أنظمة عربية زعمت انها مرشحة للانهيار الواحدة بعد الاخرى.
بعد تلك التظاهرة التي لاقت قمعًا همجيًا وعنيفًا من الشرطة المصرية (لا الجيش)، سقط على أثره ثلاثة قتلى ومئات الجرحى والمعتقلين، دعت الحركات المعارضة الى استمرار التظاهرات، كما اتهم الدكتور "محمد بديع" المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمين" النظام الحاكم "بأحداث الفوضي لنهب ثروات الشعب وتزوير إرادته"، وطالبه "باتخاذ العبرة من مصير شاه إيران وتشاوشيسكو وصدام حسين وأخيرا بن علي"، مضيفًا: "ما أغنى عن هؤلاء حين انتفضت شعوبهم ما كانوا يكسبون من جاه وسلطان وقوات أمن وثروات منهوب". وأعلنت قوى المعارضة المصرية، ومنها "جماعة الاخوان المسلمين" اكبر قوّة معارضة البلاد، عن أن يوم الجمعة 28/1/2011 سيكون يوم الغضب، مطلقين عليه اسم (جمعة الغضب).
ما بين التظاهرة الأولى و"جمعة الغضب"، بدأ يتكشّف المستور، مع بروز أربعة تطورات ذات دلالات بالغة الأهمية:
1-أوردت وكالة "فارس" الإيرانية شبه الرسمية في 26/1/2011، أن "متدربين للبحرية على متن سفن حربية إيرانية أُرسِلوا في بعثة تدريبية لمدة سنة عبر خليج عدن الى البحر الأحمر ومنه الى البحر المتوسط عبر قناة السويس". وكان هذا الخبر مثيرًا لدهشة المراقبين، فعلاقة القاهرة بإيران متوترة منذ أكثر من 32 سنة، وبالتالي لا يمكن للنظام المصري الذي لم يهتز بعد ولا يزال ممسكًا بزمام الأمور أن يسمح بذلك العبور، علمًا أنها لم تعبر سفن حربية إيرانية القناة منذ عام 1979، تاريخ قيام "الثورة الخمينية" في إيران وقطع العلاقات مع هذا البلد...الأمر الذي فسره البعض على أن نظام "مبارك" فعلاً يعيش أيامه الأخيرة، وأن إقدام إيران على هذه الخطوة يدل على أنها على دراية بما ينتظر مصر، وينم أيضًا عن تنسيق مع أميركا، التي من خلال تحريضها على خلع حكام وإضعاف آخرين لم يعودوا مرنين مع طلباتها، إنما تعمل على تقوية نفوذ وشوكة إيران ومشروعها التقسيمي والتوسعي في المنطقة.
2- وفي ذلك اليوم أيضًا(26/1/2011)، وصل الى مصر للمشاركة في "جمعة الغضب"-بحسب قوله- آتيا من الإمارات العربية المتحدة مقر عمله، الناشط في مجال المنظمات الداعية الى "الديموقراطية والحكم الرشيد" المدعومة أميركيًا، وصاحب الصفحة التحريضية على التظاهرات في "الفايس بوك" "كلنا خالد سعيد" والتي ساهمت في إشعال "ثورة 25 يناير"، الشاب "وائل غنيم" (33سنة)، خريج الجامعة الأميركية، ومدير تسويق شركة "جوجل" الأميركية في الشرق الأوسط، وهو متزوج من أميركية أيضًا، ويدعم "البرادعي" الذي عمل لمصلحة أميركا في الوكالية الذرية، كما ينسق حملته الإنتخابية غير المعلنة رسميًا، ويمهد له الطريق في الأوساط الشبابية الناخبة للوصول الى الرئاسة المصرية.
وقد ساهم هذا الشاب في إلهاب مشاعر الجماهير الشابة والثائرة على نظام "مبارك"، وذلك على خلفية اعتقاله بُعَيد وصوله الى مصر في 27/1/2011 من قبل أجهزة الأمن المصرية، ثم إخراجه منها بضغوط أميركية بعد 11 يومًا أمضاها في سجون أمن الدولة، ليظهر على وسائل الإعلام في 7/2/2011 راويًا ما حصل معه، فبكى وأبكى معه ملايين المصريين، على نحو ما سنذكره في موضعه. مع التذكير بأن "وائل غنيم" هو الشاب الذي تنطبق عليه الأوصاف والمعلومات المذكورة في وثائق "ويكيليكس" والتي نشرتها الـ"دايلي تيليغراف" كما ذكرنا آنفًا. كما يذكر، أن هذا الشاب كثير الإرتداء لقمصان تحمل شعارات خاصة بالماسونية مثل الأسد الذي ظهر في أعلى قميصه أثناء إلقائه الخطابات في جموع المتظاهرين.
3-التطور الثالث حدث مساء الخميس 27/1/2011، فقد وصل الى القاهرة -ليركب موجة التظاهرات- قادمًا من النمسا رئيس "الجمعية الوطنية للتغيير" في مصر ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق "محمد البرادعي" (68 عاما)، الذي يعد من أبرز المرشحين للرئاسة المصرية بفضل الدعم "الإخواني" والأميركي له. وقد قال "البرادعي" إنه سينضم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة والتي تجري في محافظات عدة في مصر، وذلك بعد أن أكد سابقًا أن الوقت قد حان لتقاعد الرئيس "حسني مبارك". ولدى وصوله الى القاهرة، حيث كانت في استقباله مجموعة صغيرة من مؤيديه، قال "البرادعي": "إن مصر تقف عند مفترق طرق خطير، وقد جئت للمشاركة مع الشعب المصري"؛ وكان قبيل وصوله إلى القاهرة صرّح: "إن حسني مبارك خدم لمدة ثلاثين عامًا وقد حان وقت تخليه عن السلطة".
هذا، ويعد "البرادعي" صديقًا أو رئيسًا مستقبليًا مقبولاً بالنسبة لإيران فضلاً عن أميركا، إذ يعدّ الأداة الأميركية التي استخدمت تمهيدًا للحرب على العراق، واستهلكت فيما بعد في الملف النووي الإيراني، حيث مارس "البرادعي" دورًا أميركيًا مشبوهًا يدخل في اطار "مشروع الشرق الأوسط الجديد" القائم على البعبع الفارسي والفزاعات المتسترة بالإسلام والتي تدار من خلف الستائر بواسطة السياسة الصهيو-أميركية في المنطقة.
فخلال توليه إدارة "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، كان "البرادعي" يعمل على اعطاء الفرصة لإيران للعمل بهدؤ على مشروعها النووي حتى الرمق الأخير؛ وفي هذا السياق صرّح في تشرين الأول 2007: "إن إيران تحتاج ما بين ثلاث إلى ثماني سنوات لتطوير قنبلة نووية(...)، ويتعيّن عدم استخدام القوة مع إيران إلا حين تُستنفد جميع الوسائل الدبلوماسية الأخرى"، وأضاف: "لا يزال هناك الكثير من الوقت للدبلوماسية والعقوبات والحوار والحوافز لكي تؤتي ثمارها(...)، إنني أريد أن أبعد عن الأذهان فكرة أن إيران سوف تصبح تهديدًا في الغد".
تابع "البرادعي" الذي باتت تصاريحه تشعر بأنه مدير المشروع النووي الإيراني، مواقفه المنسجمة مع السياسة الإيرانية، فهدّد في 20/6/2008 في مقابلة تلفزيونية مع قناة "العربية" بـ"الاستقالة إذا وجهت ضربة عسكرية الى ايران"، وقال: "ما أراه في إيران اليوم هو خطر داهم وحقيقي. إذا وجهت ضربة عسكرية الى إيران الآن، لن اتمكّن من الاستمرار في عملي"، وتابع قائلاً: "إن الحل العسكري في نظري هو أسوأ الخيارات، إذ من شأنه تحويل المنطقة برمتها الى كرة من نار". وذلك قبل أن يناقض نفسه في العام التالي (11/5/2009)عندما قال: "إن برنامج إيران النووي الذي تقول طهران إن الهدف منه هو توليد الكهرباء، هو محاولة لإجبار العالم على الاعتراف بها كقوة اقليمية"، معلنًا أنه "يمكن أن يساعد طهران في إظهار أن خططها النووية سلمية".
4- أما التطور الرابع، والذي أشار بوضوح الى إدارة أميركا مشروعها في مصر بواسطة الجيش المصري، فكان تصريح الجنرال "جيمس كارترايت" نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الاميركي في 27/1/2011، "أن رئيس أركان الجيش المصري الفريق "سامي عنان" الذي يقود وفدًا لمحادثات عسكرية كان من المقرر أن تستمر حتى الأسبوع المقبل، يعتزم العودة الى مصر يوم الجمعة (جمعة الغضب) من الولايات المتحدة قاطعًا زيارته بسبب الاضطرابات التي اجتاحت مناطق مختلفة من مصر". وخلال "الثورة المصرية" وبعدها بقليل، كان لافتًا أن يبقى اسم الفريق "سامي عنان" غائبًا عن الأحداث، باستثناء مرتين ذُكِر فيهما، الأولى: تصريح الجنرال "كارترايت" السابق، والثانية: عندما رجّحت إسرائيل في 24/2/2011 أن يتم ترشيحه لمنصب الرئاسة المصرية!
كما كان متوقعًا، خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في العاصمة المصرية القاهرة، ومدن أخرى منها الإسكندرية والسويس الى الشارع يوم الجمعة تلبية لدعوة "يوم الغضب" مطالبين هذه المرة بـ"إسقاط نظام الحكم ورحيل مبارك" وهاتفين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولا سيما منهم أنصار "الإخوان المسلمين". وبذلك أخرجت التظاهرات عن مسارها الذي انطلقت على أساسه عندما كانت تدعو الى إنهاء البطالة ورفع الحد الأدنى للأجور وإصلاح الدستور وتوفير فرص عمل للشباب وإلغاء التزوير الذي حدث في الانتخابات البرلمانية، وهي مطالب شريفة يريدها كل شاب ومواطن، والتي تحوّلت ابتداء من هذه "الجمعة" إلى مطالب تتوافق مع المخطط الأميركي الذي لم يعد يريد للرئيس المصري "رجل المرحلة السابقة" أن يكمل ولايته، حتى ولو وافق على المضي في الإصلاحات المطلوبة منه، نظرًا لوجود خطة أخرى رسمت للشرق الأوسط لتنهي مرحلة سابقة و تشرّع الباب أمام مرحلة جديدة ليس "مبارك" ملائمًا لها، وبالتالي بات يجب رحيله "الآن"، لا لأن أميركا لا تريده، بل لأن شعبه يريد ذلك!
توسّعت التظاهرات بشكل سريع، وقام المتظاهرون بحرق المقر الرئيس لـ"الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم وسط القاهرة، ثم قاموا بحرق مقر الحزب بمدينة الاسكندرية، فضلاً عن حرق عدد من المركبات الحكومية. وأسفرت المواجهات مع الشرطة عن مقتل نحو 20 شخصًا وإصابة أكثر من ألف آخرين. وقرر المتظاهرون الاعتصام والتظاهر اليومي في "ميدان التحرير" وسط القاهرة، كما جرى سحب الشرطة من الشوارع ونزل الجيش ليشرف على سلاسة الانتقال السلمي للسلطة في مصر.
دخل نظام "حسني مبارك" في مأزق كبير، مع تيقنه تخلي حليفه الأول (أميركا) عنه وشعوره أنها غدرت به بعدما كانت تقدم له كل الدعم لتيسير مصالحها في المرحلة المنصرمة، ولمس "مبارك" ذلك في عدم تلقيه الدعم على الصعيد الدولي، بل تعرّض لضغوطات تهدف الى منع استخدام العنف مع المتظاهرين. فعلى أثر إجراءات القمع المصرية، أعرب "البيت الأبيض" الأميركي عن "قلقه العميق" تجاه أحداث مصر، وأعلن الرئيس الأميركي "باراك أوباما" عن أن "الوقت قد حان ليقوم الرئيس المصري حسني مبارك بإجراء إصلاحات سياسية جذرية في بلاده"، داعيًا الى "عدم ممارسة العنف ضد المتظاهرين".
فهم النظام المصري النوايا الأميركية وما تسعى الى تحقيقه في المنطقة، وظهر الرئيس "مبارك" في ساعة متأخرة من ليل "جمعة الغضب" (28/1/2011) كما في 2/2/2011، من على شاشات التلفزيون المصري، معلنًا استجابته لمطالب الشعب، فدعا حكومة بلاده الى تقديم استقالتها، على أن يتم في اليوم التالي تشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها مهام إصلاحية عدة. وقام بتعيين نائب له، وذهب إلى أبعد من ذلك ليطالب البرلمان بتنفيذ الأحكام الصادرة بحق الطعون المقدَّمة نتيجة لما حدث من تزوير في الانتخابات البرلمانية، وطالب الحكومة الجديدة (برئاسة "أحمد شفيق") بتحقيق مطالب الشباب والحوار معهم وتعديل مواد الدستور التي أشاروا إليها، معلنًا عدم نيته الترشح مرة أخرى للرئاسة، وتكليف نائبه "عمر سليمان" بالحوار مع القوى السياسية كافة وتعويض المتضررين نتيجة الأحداث التي جرت في مصر والقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين، مؤكدًا حرصه على انتقال سلمي للسلطة، وأنه سيتيح الفرصة لمن يختاره الشعب لتسلم السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ما كاد "مبارك" ينهي خطابه الأول، حتى نشرت "الجزيرة" (التي خصصت كامل ساعات بثها لتغطية الثورة المصرية) في أسفل شاشتها خبرًا عاجلاً مفاده: "المتظاهرون يعتبرون كلام مبارك التفافًا على مطالبهم، ويعلنون انهم لن يغادروا الساحات حتى يتنحى". واستمرت التظاهرات المليونية في العديد من المدن المصرية.
أحدث تجاوب "مبارك" مع مطالب المتظاهرين و"عرضه السخي" ذاك انقسامات في صفوف المعارضين، بين من اعتبر أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم والتفاوض مع نائب الرئيس "عمر سليمان"، وفريق آخر أصرّ على التظاهر في ميدان التحرير حتى "الرحيل الآن" وفي مقدمته جماعة "الإخوان المسلمين".
دخلت واشنطن على الخط بسرعة مذهلة، فأوفد الرئيس "باراك أوباما" السفير الأميركي السابق في القاهرة "فرانك ويزنر" الذي التقى "مبارك" صباح الثلاثاء 1/2/2011. وبعد نقاش متواصل على مدى ساعتين عرض السفير الأميركي على الرئيس المصري أن يذهب معه على متن طائرة خاصة الى الولايات المتحدة أو بريطانيا بعد أن يفوّض سلطاته الى نائبه "عمر سليمان"، وبهذا الشكل يتم "الرحيل المشرّف" للرئيس المصري، إلا أن "مبارك" رفض العرض الأميركي.
أما بالنسبة للخطاب الثاني للرئيس المصري، فقد أتى في منتصف ليل 2/2/2011، بعدما تحوّل "ميدان التحرير" في قلب القاهرة إلى ساحة معارك حقيقية سبّبها اقتحام الآلاف من "البلطجية" الموالين لـ"مبارك" هذا الميدان الذي يتجمع فيه منذ تسعة أيام آلاف المتظاهرين المطالبين برحيله، والذين قُتل 3 منهم فيما أصيب 640 على الأقل في هذه المواجهات بحسب وزارة الصحة المصرية.
ففي ذلك اليوم (اليوم التاسع من الانتفاضة)، بدأت ما يمكن تسميته بـ"الانتفاضة المضادة"، حيث نـزل أنصار النظام الى الشارع مستخدمين شتّى أنواع الأسلحة، بما فيها الخيول والجمال، وحدثت المواجهات الدامية التي أوقعت العديد من القتلى والجرحى، كان خلالها العالم بأسره يشهد على شاشات الفضائيات الاقتتال بين المصريين من مؤيدين للنظام ومعارضين له. وفي خبر لافت، قال مراسلون لـ "رويترز": "إن الجيش لم يرد على دعوات المحتجين المناهضين لمبارك للتدخل لوقف العنف"!
شنت "الولايات المتحدة" مساء ذلك اليوم الدامي وقبل خطاب"مبارك" هجومًا حادًا على الرئيس المصري، بعد المجزرة التي وقعت في "ميدان التحرير" وراح ضحيتها المئات من المتظاهرين العزل الذين هاجمتهم جيوش من البلطجية، وقال المتحدث باسم "البيت الأبيض" "روبرت غيبس": "إن الرئيس باراك أوباما كان واضحًا أن "انتقال السلطة يجب أن يبدأ الآن" وإن "الآن" هذا يعني "الأمس"، ولا يعني أن يكون بعد أيام أو شهور. ورفض "غيبس" التعليق على حياد الجيش المصري أثناء الصادمات بين البلطجية الداعمين لـ"مبارك" والمتظاهرين الداعين إلى تنحيه عن السلطة، كما رفض الكشف عن تفاصيل المكالمة الهاتفية التي وقعت بين "أوباما" و"مبارك" في 1/2/2011 واستمرت لثلاثين دقيقة، لكنه قال:"لا أعتقد أن الرئيس الأمريكي كان يمكن أن يكون أكثر وضوحًا مما كان بالأمس عندما تحدث هاتفيًا مع الرئيس المصري". كما أكدت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لنائب الرئيس المصري عمر سليمان "أن العملية الانتقالية يجب أن تبدأ الآن".
أما جماعة "الإخوان المسلمين" فقد تولت مهمة الرد داخليًا على الخطاب الثاني، معلنة "رفضها بقاء مبارك في السلطة". وقالت في بيان: "إن الشعب يرفض كل الإجراءات الجزئية التي طرحها رأس النظام (مبارك)، ولا يقبل لرحيل النظام بديلاً". استكملت التظاهرات، ومع حصول اشتباكات بين مؤيدي "مبارك" وبلطجية النظام وبين المتظاهرين، دخلت مصر في أجواء "الفوضى الخلاقة" المطلوبة أميركيًا، وسقط عشرات القتلى وآلاف الجرحى.
وفي تطور خطير سبق خطاب "مبارك" الثاني، فعلها "الإخوان الإيرانيون"، فقد أفاد مصدر أمني مصري في 30/1/2011، أن آلاف السجناء تمكنوا من الفرار بعد تمرد في سجن "وادي النطرون" على الطريق الصحراوي بين القاهرة والاسكندرية، والذي يضم عددًا كبيرًا من الإسلاميين المحتجزين فيه منذ سنوات إضافة الى بعض السجناء الجنائيين، من أخطرهم على الإطلاق أفراد "خلية حزب ولاية الفقيه" الإرهابية. وأوضح المصدر أن السجناء البالغ عددهم عدة آلاف قاموا بتمرّد وتمكنوا جميعًا من الفرار بعد أن استولوا على أسلحة رجال الأمن. وشهدت سجون أخرى عمليات فرار مماثلة، في عمليات اقتحام وتمرّد داخلية وخارجية قام بها على ما يبدو جماعة "الإخوان" الذين تحتجز السلطات المصرية الآلاف منهم ظلمًا وعدوانًا، ويحتمل أن يكون هؤلاء هم أنفسهم من أمّن الفرار لسجناء "ولاية الفقيه"، ليعلن عضو المجلس السياسي في "الحزب" "محمود قماطي" من بيروت في 3/2/2011، أن "قائد خلية حزب الله في مصر سامي شهاب أصبح خارج السجون المصرية وهو بخير وأمان".
في اليوم الحادي عشر من حركة الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في مصر، والموافق ليوم الجمعة 4 شباط2011، أطلت الأفعى الإيرانية برأسها لتنفث سمها في الجسد المصري، فبعدما اعتبر وزير الخارجية الإيراني "علي أكبر صالحي" في 2/2/2011 أن الثورة في مصر "ستلعب دورًا في إنشاء شرق أوسط إسلامي لجميع الذين يسعون الى الحرية والعدالة والاستقلال"، برز إعلان السلطات الإيرانية من رأس هرمها "دعمها للمطالب المشروعة للمتظاهرين في مصر الذين يتجمعون بالآلاف في ميدان التحرير في القاهرة للمطالبة بتنحي مبارك"، وذلك في خطبة باللغة العربية لمرشد الجمهورية "علي خامنئي".
ففي تلك الخطبة دعا "خامنئي" الشعب المصري الى مواصلة انتفاضته حتى إقامة نظام شعبي يقوم على الديانة الإسلامية قائلا: "لا تتراجعوا حتى إحلال نظام شعبي على أساس الدين". وأضاف موجهًا تعليماته و"تكليفاته الشرعية" هذه المرة الى علماء "الأزهر الشريف" وآباء "الكنيسة القبطية" على حد سواء: "إن رجال الدين يجب أن يلعبوا دورًا نموذجيًا، فعندما يكون الشعب خارج المساجد ويردّد شعارات عليهم تأييدها. إن شاء الله ينضم جزء من الجيش الى الشعب". وتابع "أمر اليوم" للقوى المسلحة المصرية قائلا: "إن العدو الرئيسي للجيش المصري هو النظام الصهيوني وليس الشعب المصري". وأعلن "خامنئي" أن الثورة في تونس والاحتجاجات الشعبية في مصر هي "بوادر يقظة إسلامية في العالم مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979"!
ولم يقف "المرشد الأعلى" في تدخله السافر بالشؤون المصرية الداخلية عند هذا الحد من الوقاحة، بل تابع كلامه التحريضي متهمًا الرئيس المصري "حسني مبارك" بأنه "خادم للصهاينة والولايات المتحدة"، معتبرًا أن مصر "كانت لمدة ثلاثين عامًا بين يدي عدو للحرية (...) خادم للصهاينة". وأكد أن مبارك "عليه أن يعرف أن اليوم الذي يهرب فيه وإن شاء الله سيحدث ذلك قريبًا، سيكون الأميركيون أول من يدير ظهره له وأول من يغلق الباب في وجهه كما فعلوا مع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي".
هذا، وتابع "الولي الفقيه توجيهاته مستخدمًا هذه المرة أسلوب قلب الحقائق، فأشار إلى أن انتفاضة كل من مصر وتونس ستكون إيذانًا بهزيمة منكرة للولايات المتحدة في الشرق الاوسط، قائلا: "إذا تمكن (المحتجون) من المضي قدما في هذا، فإن ما سيحدث في السياسات الأميركية في المنطقة سيكون هزيمة منكرة لأميركا"!
في تلك الخطبة كشف "الولي الفقيه" جزءًا من قناع "التقية" الذي يتستر خلفه لدى إعلانه عن مواقف إيران من مختلف القضايا الحساسة في المنطقة مثل الصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية والخلاف العقائدي السني-الشيعي... فمجاهرته الصريحة بضرورة إسقاط "مبارك" ونظامه وتحريضه على ذلك ليسا من قبيل الدعم للحرية والديموقراطية المفقودتان أصلا في نظام "الملالي" الصفوي، ولا في الرغبة بالتخلص من نظام لا يخفي تحالفه مع أميركا وسلامه مع إسرائل -قبل أن تتدهور علاقته بهما في السنوات الأخيرة- على عكس نظام "ولاية الفقيه" الذي يبطن ذلك التحالف والسلام متبعًا سياسة التقية والتضليل مع شعبه وشعوب المنطقة، وإنما غاية إيران الكبرى من دعم الحراك الشعبي المصري هي التخلص من مصر المناوئة لنظام طهران، طامعة في أن يفتح لها سقوط النظام المصري الباب واسعًا أمام تمدد الامبراطورية الفارسية وتوسع نفوذها نظرًا للأهمية الجغرافية والسياسية لمصر.
بيد أن محاولة "المرشد الأعلى للثورة الإيرانية" خطْف الحركة المصرية للديمقراطية والحرية لم تكن ناجحة (الى الآن على الأقل) بالرغم من تعمد الخطيب الإيراني التحول من اللغة الفارسية الى اللغة العربية في خطبة أتت على شكل تعليمات فظة وواضحة بشكل مثير للاستغراب، وجهها الى الجيش المصري وعلماء ورجال الدين ولمتظاهرين ممنيًا نفسه بشرق أوسط إسلامي عاصمته طهران. ذلك أن ما تفوه به ذلك "المرشد" أحرج عمليًا "الإخوان المسلمين" أكبر المعارضين لنظام "مبارك" أكثر مما ساعدهم، كما أثار خطابه موجة اعتراض شديدة على جميع المستويات، وكانت المفاجئة الأولى في الردّ المصري الشعبي للشباب المحتج في "ميدان التحرير" الذي ارتفعت هتافاته ضد إيران في اليومين التاليَين بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية المصرية، حيث قال متحدث أمام المتظاهرين: "هناك من يحاول استغلال ما يجرى في مصر لتحقيق مكاسب خاصة به، لكنّ المصريين جميعًا لن يسمحوا بذلك، وعلى هؤلاء أن ينظروا إلى ما يجرى في بلادهم من ظلم وديكتاتورية، ومصر لا يمكن أن تكون إيران أخرى، لن تحكمنا ديكتاتورية دينية كما في إيران". وأضاف هذا المتحدث متهكمًا من تصريحات "مرشد الثورة" في إيران
"على خامنئي" بأن ما يجري في مصر مستلهم من الثورة الإيرانية "المصريين لا يستلهمون ثورتهم من أحد بل هم من يستلهم العالم منهم".
وتحدث عدد من الشباب من قيادات حركة "6 إبريل" المعارضة، قائلين "إنهم يسعون لشرق أوسط ديمقراطي وليس إسلاميًا كما يقول خامنئي، وإنهم سيعملون على ذلك خاصة في إيران".
المفاجئة التالية جاءت من رجال الدين المسلمين تحديداً. فمن جهته طالب شيخ الأزهر "أحمد الطيب"، الشباب المتظاهرين الحفاظ على الدين والسنة النبوية، كما حذر "الطيب" الشباب من إثارة مشاعر واللعب بعواطفهم عبر الفتاوى الدينية التي صدرت بالأمس القريب من مرجعيات فقهية دعت فيها إلى فتنة أجمع المسلمون كافة على تأثيم كل من يدعو لها" غامزًا من قناة "الخامنئي". وأدان "الطيب" صراحة "السياسات الإيرانية التي تستخدم مرجعياتها الدينية العليا التي تتناقض مع مبادئ الإسلام وتخرج خروجًا سافرًا على صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة".
أما "جماعة الأخوان المسلمين" نفسها، فرغم تأييدها للسياسة الإيرانية الهدامة في المنطقة، اضطرت محرجة -وربما تقية!- الى استنكار كلام "خامنئي"، فسرعان ما أدلى مرشدها العام "محمد بديع" بتصريح لصحيفة "دير شبيغل" الألمانية قال فيه: "إنّ جماعة الإخوان المسلمين يعتبرون الثورة ثورة جميع أبناء الشعب المصري وليس الثورة الإسلامية، لأن من شاركوا بها هم مسلمون ومسيحيون بكل الاتجاهات والآراء والميول السياسية المختلفة... وليعلم خامنئي أنه ونظرًا لأن جميع فئات الشعب من المسلمين والمسيحيين شاركوا في التظاهرات فإن ثورة مصر ثورة شعبية وليست إسلامية".
أما أكثر الردود القاسية فكان مصدرها من رأس هرم السياسة الخارجية المصرية، وعلى لسان وزير الخارجيَّة المصري "أحمد أبو الغيط" الذي انتَقَد بشدة حديث "مرشد الثورة الإيرانيَّة" واصفًا كلام "خامنئي" بأنه "يكشف عن مكنون ما يعتمل في صدر النظام الإيراني من أحقاد تجاه مصر ومواقفها السياسيَّة، حيث شكلت دعوة الخامنئي تخطياً لكافة الخطوط الحمراء في تناول الشأن المصري". وختم "أبو الغيط" رده على "خامنئي" متوعدًا بأنّ "اللحظة العصيبة لإيران لم تأت بعد، وسوف نشاهد تلك اللحظة بالكثير من الترقب والاهتمام". ولعل ذلك التصريح المشرف والحازم والذي ينم عن فهم دقيق للمشروع الإيراني وأبعاد الغطرسة الإيرانية في المنطقة، لعله التصريح الأخير الصادر عن السياسة الخارجية الصائبة خصوصًا حيال إيران والتابعة لنظام الرئيس المصري "حسني مبارك"، وهو المطلوب تغييره أميركيًا وما سنفتقده بالتأكيد في مرحلة ما بعد ذلك النظام.
هذا ولم يعكر صفو الموقف المصري الموحد (وإن اختلفت اعتبارات توحده) تجاه خطبة "علي خامنئي" الأخيرة، سوى ما نقلته مواقع إخبارية إيرانية من تصريحات صادرة عن المتحدث السابق باسم "إخوان أوروبا" و"التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في الغرب"، الدكتور "كمال الهلباوي" قال فيها: "إن الشعب المصري رحب بتصريحات قائد الثورة الإسلامية الإيرانية بخصوص الثورة المصرية، وكانت هذه التصريحات جميلة وعظيمة للغاية وكان لها دور مؤثر جدًا في شحذ همم الشباب المصري"! وأضاف: "إن كلمات الإمام خامنئي بخصوص الثورة المصرية أنارت الدرب أمام الثورة"، مؤكدًا أن "جماعة الإخوان" تلقت تصريحات قائد الثورة الإسلامية باهتمام كما كانت تتلقى باهتمام أيضًا تصريحات الإمام الخميني الراحل وتستفيد منها"! وقد دفع ذلك الكلام مجددًا الدكتور "عصام العريان" المتحدث باسم "جماعة الإخوان المسلمين"الى الرد قائلا لـصحيفة "الشرق الأوسط": "إن جماعة الإخوان رفضت قبل ذلك هذه التصريحات الإيرانية، وأكدت أنها "غير مقبولة"، مشددًا على أن "الجماعة لا تقبل أي تدخل خارجي في الشؤون المصرية". وأوضح "العريان" أن "الثورة في مصر كانت وستظل ثورة قومية قامت بها القوى الوطنية".
بعد خطاب "حسني مبارك" الثاني، والذي استجلب تعاطف الكثير من المصريين معه ربما لم لمسوه من صدقية في كلام حاكمهم، دخل زخم التظاهرات المصرية في فترة حساسة جدًا، في ظل مخاوف من تراجع حماسة المحتجين وسط سياسة الخطوات المتجاوبة مع مطالب المتظاهرين التي انتهجها "مبارك" باستثناء طلب "التنحي". حيال ذلك كان لا بد من إعادة تزخيم وتيرة المنتفضين، فظهر على شاشات التلفزة الشاب "وائل غنيم" في 7/2/2011، راويًا ما حصل معه على خلفية اعتقاله بعيد وصوله الى مصر في 27/1/2011 من قبل أجهزة الأمن المصرية، ثم إخراجه منها بضغوط أميركية بعد 11 يومًا أمضاها في سجون أمن الدولة، فبكى وأبكى معه ملايين المصريين. وفي خلال المقابلة، حمل "غنيم" على النظام هاتفًا: "مبارك ارحل ارحل"، وقال بصوت مرتفع بعدما بكى منحنيًا على الطاولة لدقائق: "عايز امشي"، ثم غادر الأستديو باكيًا على الهواء قبل انتهاء المقابلة!!
وفي اليوم التالي على خروجه من المعتقل، انضم "وائل غنيم" للمرة الأولى الى المعتصمين في "ميدان التحرير"، حيث استقبل استقبال الأبطال كزعيم لحركة شعبية داعية لتغيير النظام، وقد أكسبت إطلالته الإعلامية الإحتجاجات زخمًا جديدًا، وضخت فيها الحماسة، فتدافع الآلاف من المتظاهرين لتحيّته وراحوا يصفقون له ويهتفون: "تحيا مصر"، أما هو فخاطبهم قائلاً: "لست بطلاً أنتم الأبطال، أنتم الذين بقيتم هنا في الميدان، لازم تفضلوا مصرِّين على مطالبنا، علشان خاطر شهدائنا"، فرد عليه الشعب باللازمة الشهيرة التي طارأت بعد تظاهرة 25 يناير: "الشعب يريد إسقاط النظام".
توازيًا مع ذلك، وفي سياق تحفيز الجماهير وشحذ هممهم، برز فجأة تسريب في الصحف الأميركية يفيد أن رصيد الرئيس المصري ربما يصل الى 70 مليار دولار، ما أعاد موجة الغضب الشعبي الى وتيرتها التصاعدية، نظرًا لهول حجم الثروة التي جمعها "مبارك" من خلال انتفاعه بمقدرات الشعب وثروات البلاد، فتتابعت التظاهرات المليونية في كبرى المدن المصرية. ( أكد مساعد وزير العدل لجهاز الكسب غير المشروع "عاصم الجوهري" في 18/5/2011، عدم صحة كل الأرقام التي ذكرت في شأن ثروة "مبارك" وأفراد أسرته).
وفي اليوم السابع عشر للتظاهرات المصرية (10/2/2011) صدر البلاغ رقم واحد عن الجيش المصري، والذي أتى بعد الدعوة الشعبية التي حملت شعار "القصر بعد العصر" في إشارة الى توجه المتظاهرين الى القصر الرئاسي بعد صلاة الجمعة. وقد عقد "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" جلسته هذه المرة من دون الرئيس المصري "حسني مبارك"، الأمر الذي فُسّر على أنه إشارة الى استبعاده عن القيادة العليا للقوات المسلحة كخطوة أولى في اتجاه تنحيته. وأعلن "المجلس الأعلى" في بيانه "تأييده لمطالب الشعب المشروعة وأنه "قرر الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل لبحث ما يمكن اتخاذه من اجراءات للحفاظ على الوطن ومكتسباته وطموحات شعب مصر العظيم".
وظهر الرئيس الأميركي "أوباما" مساء الخميس 10/2/2011، فى تمام السابعة مساء بتوقيت القاهرة وسط تهليل الشعب الأميركي ليعلن عن "ميلاد ديمقراطية جديدة فى مصر". ومما قاله: "إن مصر تشهد كتابة تاريخ جديد"، مشيرًا إلى أن "عملية الانتقال تتم لأن الشعب المصري يطالب بالتغيير، وإن الشباب كان في الصدارة وانضمت إليه بقية طوائف الشعب(...). وأضاف: "نريد أن يعرف هؤلاء الشباب وأن يعرف كل المصريين أن اميركا ستفعل كل ما هو ممكن لدعم عملية انتقال منظمة وحقيقية نحو الديموقراطية في مصر، ونحن نتابع الوضع...".
تلقى "مبارك" تلك الصفعات مذهولا من تخلي الأميركيين عنه، ومن توحد الموقفين الصهيو-أميركي والإيراني-الصفوي في سعيهما لإسقاط نظامه، فخرج في 10/2/2011 بخطاب متلفز متحدثًا الى الجماهير المنتفضة للمرة الثالثة منذ بداية التحركات، ومعلنًا استمراره على رأس السلطة حتى نهاية ولايته(7أشهر)، مع تفويض سلطاته لنائبه عمر سليمان في اختصاصات رئيس الجمهورية وفق ما يحدده الدستور، وذلك في أعقاب مظاهرات عارمة تشهدها المدن المصرية منذ 25 كانون الثاني 2011.
وحذر مبارك من خطورة استمرار حالة الاحتقان التي يشهدها الشارع المصري، مؤكدًا أن: "دماء شهداء وجرحى التظاهرات التي تشهدها البلاد منذ 25 يناير لن تضيع هدًرا". وشدد على أنه "سيعاقب المسؤولين عن المصادمات التي حدثت بين المتظاهرين وقوات الأمن".
وعلى الرغم من أن كلمة "مبارك" الثالثة تعني أنه قد تنحى عن كل سلطاته وصلاحياته فى إدارة الدولة، إلا أن وقعها كان سيئًا جدًا بالنسبة للمصرّين على إسقاط النظام، فعدُّوها كلمة مخيّبة لآمال الجماهير التي حُوّل مطلبها بين ليلة وضحاها من معالجة الهموم المعيشية والمطالب الإصلاحية الى إسقاط النظام وتنحي الرئيس، واستتبع ذلك ان أصيب "الإخوان الإيرانيون" بنوبة صرع، كما أنتابت الإدارة الأميركية موجة من الغضب لم يستطع "أوباما" إخفاءها، فقد صرّح عقب استماعه الى كلمة الرئيس المصري وبعدما حث الحكومة المصرية على تجنّب العنف: "خطاب مبارك غير كافٍ وليس له صدقية"!
انتفض قياديو "الإخوان" الذين حرصوا على عدم الظهور في واجهة الحراك الشعبي منذ بدايته بعدما ركبوا موجة التظاهرات الشبابية واستحكموا في توجيه خط سيرها من وراء الستار بفعل تنظيمهم ومخزونهم الشعبي، فخرجوا وسط "ميدان التحرير" وهم ينادون عبر مكبرات الصوت: "على المتواجدين بأن يمكثوا وألا يخرجوا من المظاهرات في الميدان...مازالت المعركة مستمرة"، وقد أتبع ذلك الكلام بخطب نارية تحث على التظاهر والإصرار على إسقاط النظام ألهبت مشاعر المتظاهريين وخصوصًا الإسلاميين منهم.
يوم الجمعة 11/2/2011 الموافق للذكرى 32 لـ"لثورة الخمينية" في إيران بما ترمز وتمثّل، خرجت الجماعات الإسلامية في جميع أنحاء الجمهورية، تساندهما جحافل "الإخوان"، وظلوا يهتفون بسقوط النظام طوال النهار. لم يكن أمام "حسني مبارك" في مواجه "الإخوان الإيرانيين" والهجوم الأميركي الذي اشتد عنفًا في ذلك اليوم الإيراني "المجيد"، إلا اتخاذ قرار التنحي عن الحكم والرحيل ليصير بعد الرئيس التونسي السابق "زين العابدين بن علي"، ثاني زعيم عربي تطيحه ثورة شعبية.
ففي اليوم الثامن عشر للتظاهرات المصرية، أعلن "عمر سليمان" نائب الرئيس المصري إنه: "في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس مبارك تخليه عن السلطة وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد".
وفور إعلان "سليمان" قرار تنحي "مبارك" عن السلطة، اشتعل "ميدان التحرير" وسط القاهرة بهتافات الفرح من قبل المتظاهرين الذي يحتشدون فيه. واحتفلت مصر و"إمارة غزة الإسلامية" وإيران و"حزب ولاية الفقيه" وجميع المنظمات الإسلامية الدائرة في الفلك الإيراني برحيل الرئيس "حسني مبارك"، ذلك الانتصار الساحق الذي حققته انتفاضة "الإخوان الإيرانيين" التي بدأت بانتفاضة شبابية صادقة ثارت على الظلم وقمع الحريات وطالبت بالإصلاحات الدستورية، قبل أن يخطفها البعض داخل معسكر "ميدان التحرير" ويتجه بها الى إسقاط النظام بعد تحركات احتجاجية دامت 18 يومًا، سقط خلالها أكثر من ستة آلاف جريح وقرابة 850 قتيلا قضى بعضهم برصاص بنادق "لايز" لا تملكها الشرطة المصرية ولم تكشف الى اليوم هوية "الطابور الخامس" الذي استخدمها!!
ثالثًا: الجيش يتولى السلطة تمهيدًا لنقلها الى "الإخوان"
انهار حكم الرئيس المصري "حسني مبارك" في ذكرى "الثورة الإيرانية". وبثّ التلفزيون الرسمي الإيراني خبر استقالة "مبارك" تحت عنوان "بين ثورتَين: إيران 1979 ومصر 2011". وعرضت الشاشة المقسومة إلى نصفَين وسط طهران صور الاحتجاجات ضد "مبارك" في القاهرة والاحتجاجات ضد الشاه في طهران قبل ثلاثة عقود، مع تمرير مقاطع من خطب ألقاها كل من الرئيس المصري والشاه الإيراني فيما كانا يحاولان التمسّك بالسلطة في أيامهما الأخيرة! إنها عيون إيران تحدق بمصر، إيران الخمينية الي تريد استرجاع ملكًا تظنّه لها منذ تأسيس القاهرة والجامع الأزهر في عهد العبيديين (الفاطميين)، وذراعها في هذه العمليّة "الإخوان المسلمون" والدعم الأميركي.
صبيحة اليوم التالي على تنحي "مبارك"، حيّا الرئيس الأميركي "باراك أوباما" "شعب مصر الذي أدت انتفاضته الى طرد الرئيس حسني مبارك من السلطة"، وقال "أوباما" في خطاب رسمي من "البيت الابيض" بعد ساعات على استقالة "مبارك" وتسليمه السلطة الى الجيش: "إن شعب مصر قال كلمته وأسمع صوته، ومصر لن تعود أبدًا كما كانت". ودعا الجيش الى ضمان عملية انتقالية "تتصف بالصدقية" الى الديموقراطية.
رد الجيش المصري التحية الأميركية بأحسن منها، فصرّح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" الذي تولى السلطة في مصر بعد تنحي الرئيس السابق "حسني مبارك" في البلاغ رقم 4، انه "يتطلع الى الانتقال السلمي للسلطة الذي يسمح بتولي سلطة مدنية منتخبة لبناء الدولة الديموقراطية الحديثة"، وأكّد "التزام جمهورية مصر بكافة الالتزامات والمعاهدات الاقليمية والدولية"، في إشارة خصوصًا الى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية المبرمة في العام 1979، وهي المعاهدة التي لو لم يكن الجيش قادرًا على صيانتها لما قامت الثورة وجرى التخلي عن "مبارك". وأعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو"عن "الترحيب بتأكيد الجيش المصري على احترام مصر اتفاق السلام مع اسرائيل".
وقد كان "المجلس الأعلى" حاذقًا في تقدير ظروف توليه السلطة المدنية، فلم يظهر الفريق "سامي عنان" رجل الجيش القوي كقائد للمرحلة الراهنة، لفهمه المتغيرات العربية والدولية غير المواتية لانقلابات عسكرية واضحة على السلطة المدنية.
في 16/2/2011، وفي احتفال أقامه "حزب ولاية الفقيه" في ذكرى "قادته الشهداء" في الضاحية الجنوبية لبيروت، ظهر "محمد يوسف منصور" المعروف بـ"سامي شهاب"، قائد "خلية الحزب" الإرهابية في مصر، والذي كان فرّ من سجنه خلال الأحداث الأخيرة مع السجناء الذين كانوا معتقلين في سجن "وادي النطرون" بين القاهرة والإسكندرية، وبينهم 22 سجينًا بتهمة الانتماء الى الخلية نفسها. وبعد أن بدأ عريف الاحتفال كلامه بالإشادة بسقوط نظام "حسني مبارك"، قال: "نرحب بالأسير المحرَّر الأخ المناضل سامي شهاب"، الذي اعتلى المنبر وسط تصفيق مئات الحاضرين المحتشدين الذين هتفوا له ولوّحوا بأعلام الحزب الإيراني والأعلام اللبنانية والمصرية والتونسية. وحمل "شهاب" علمًا للحزب على المسرح الذي برزت في خلفيته صورة ضخمة لإحدى التظاهرات المصرية الأخيرة، وحيّا الموجودين. وذلك وسط علامات استفهام وتعجب كبيرة عن كيفية وصوله الى لبنان، هل هرّب عن طريق "غزة" ثم "تل أبيب"؟!
بدأ الجيش المصري تنظيم المرحلة الانتقالية التي ذكرها "أوباما" في توجيهاته الأخيرة، والتي يفترض أن تنقل البلاد الى النظام الديموقراطي. وفي هذا الإطار أعلن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" برئاسة المشير "محمد حسين طنطاوي" في 1/3/2011 تحديده يوم 19 آذار موعدًا لاستفتاء شعبي يجري فيه التصويت على تعديلات دستورية توطئة لإجراء انتخابات نيابية في غضون أشهر قليلة تعقبها انتخابات رئاسية. وأوضحت مصادر مطلعة أن الجيش تعهد حماية الثورة من "الثورة المضادة" بعد مخاوف من أن يحاول المقربون من "مبارك" إحكام قبضتهم على السلطة، كما أعلنت عن تعديلات وزارية منتظرة. وبالفعل فعلى أثر تظاهرات مطالبة باستقالته، استقال رئيس الوزراء "أحمد شفيق" الذي كان قد عينه "مبارك" في آخر أيام رئاسته، وعيّن "المجلس" مكانه "عصام شرف" المعروف بقربه من الشباب ومشاركته في الثورة.
لكن المنهج السريع الذي وضعه العسكر أثار مخاوف لدى بعض المصريين الذين يقولون إن ثمة حاجة الى مزيد من الوقت كي تنشط الحياة السياسية بعد عقود من القمع. فإجراء الانتخابات بسرعة يناسب جهتين فقط: الأولى هم الساسة المرتبطين بـ"الحزب الوطني الديموقراطي" الذين نجوا من حملة على الفساد استهدفت الشخصيات البارزة في عهد "مبارك". وقد بدأ هؤلاء فعلا في الإعداد للانتخابات النيابية، بينما لا تزال جماعات سياسية تنتظر "المجلس الأعلى" لرفع القيود التي حالت دون إنشاء الأحزاب في عهد "مبارك".
أما الجهة الثانية التي يلائمها هذا التسرّع فهي جماعة "الإخوان المسلمين"، فهي تستطيع أن تكون مستعدة للانتخابات خلال أسابيع لكونها جماعة متمرسة، بالرغم من إعلانها من قبل أنها لا تسعى الى الحصول على غالبية في البرلمان ولا على كرسي الرئاسة.
بدأت الفعاليات السياسية والشبابية القديمة والتي برزت في أيام الثورة تعد قواعدها الشعبية تحضيرًا ليوم الاستفتاء، وكان لافتًا أداء "الإخوان" الذين صبغوا الاستفتاء باللون الطائفي!
فالأجواء البالغة السخونة المصاحبة للاستفتاء المنتظر إجراؤه على تسعة مواد دستورية اقترحها "المجلس الاعلى للقوات المسلحة" الذي يحكم البلاد، وتتمحور حول أزالة "الشروط التعجيزية" التي وضعها "مبارك" لتقييد حق الترشح لمنصب الرئيس، أظهرت أن الصراع على صورة مصر السياسية بعد "مبارك" بدأ فعلا، وتجلى في الاستقطاب والفرز غير المسبوقين اللذين انتهى إليهما الجدل العاصف الذي دار طوال أيام التحضير للاستفتاء حول الاجابة عن سؤال: هل نعدّل ونرقّع دستورًا مهترئًا حكم به "مبارك" البلاد حكمًا عائليًا بسلطات مطلقة وشبه إلهية طوال ثلاثين عامًا وعطله "المجلس الأعلى" نفسه فور توليه السلطة في 11شباط الماضي؟ أم نذهب مباشرة وبعد فترة انتقالية محدودة يحكمها إعلان دستوري مختصر الى دستور جديد ديموقراطي وعصري تضعه جمعية تأسيسية قد تأتي بالانتخاب أو بالحوار والتوافق بين قوى المجتمع وتياراته السياسية والفكرية المختلفة؟
بسرعة بدأ فرز الأفرقاء الذين ظهروا كأنهم حلفاء أيام الثورة على نظام "مبارك"، فتكتلت وأجمعت على قول "لا" لهذه التعديلات الدستورية كل القوى والأحزاب والحركات السياسية المدنية بمختلف تنوعاتها وأطيافها من الليبراليين إلى اليساريين، ومن ناصريين وقوميين وشيوعيين إلى أحزاب تقليدية مثل حزب "الوفد" وحزب "التجمع" إلى حركات احتجاجية وشبابية جديدة مثل "كفاية" و"الجمعية الوطنية للتغيير" ومؤسسها المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية "محمد البرادعي"، وكذلك "حركة 6 أبريل" و"ائتلاف شباب ثورة 25 يناير"، ومع هؤلاء شخصيات بارزة كالأمين العام لجامعة الدول العربية "عمرو موسى" الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة منافسا للـ"برادعي". وقد اعتبر هؤلاء أن "الاحتفاظ بدستور مبارك، ولو موقتًا، إهانة للثورة. ذلك أن التصويت بنعم في الاستفتاء يبث الحياة في دستور مبارك مما سيؤدي الى برلمان معيب".
غير أن جماعة "الإخوان المسلمين" وهي القوة السياسية الوحيدة التي تمثلت في لجنة إعداد هذه التعديلات الدستورية التي شكلها "المجلس العسكري" خرجت عن هذا الاجماع السياسي، فسارعت الى إعلان تفردها بتأييد التعديلات قبل أن ينضم إليها ما تبقى من حزب "مبارك" (الحزب الوطني) وباقي الحركات والتجمعات الإسلامية الهامشية الأخرى من جماعة "السلفيين" المرتبطين بالأجهزة الأمنية لنظام "مبارك" وحتى حزب "الوسط" الجديد الذي أسسه منشقون عن الجماعة. وقد بدت "الجماعة" بعد انحيازها العلني لمسار التعديلات الدستورية، وكأنها دخلت في صفقة أو تحالف سافر مع "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" فضلا عن فلول حزب "مبارك"، وباتت بمثابة قاطرة جرت خلفها كل الجماعات والحركات الإسلامية على تنوعها بين معتدلين ومتطرفين، وبالتالي بات الاستفتاء مصبوغًا بصبغة دينية بل طائفية!
في الظاهر لم تكن هناك ذريعة أو مناسبة يمكن استغلالها في إثارة الموضوع الديني والطائفي، إذ تخلو المواد الدستورية المعروضة للاستفتاء من أية إشارة الى المادة الثانية المثيرة للجدل في الدستور المعطل الذي استحدثه الرئيس الأسبق "أنور السادات" وتنص على أن "مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". لكن جماعة "الإخوان المسلمين" قادت مع رفاقها في معسكر المؤيدين للتعديلات حملة دعاية جرى خلالها التركيز على شعارات دينية صرفة تدعو المواطنين البسطاء في الريف والمناطق الشعبية الى التصوت بـ "نعم" باعتباره "واجبًا شرعيًا" لتأمين بقاء هذه المادة الثانية!!
وتكاملت الدعاية الدينية للتعديلات مع الخط الذي اتبعه الإعلام الرسمي في ترويجها باعتبارها أقصر الطرق لاستعادة الاستقرار الاقتصادي في البلاد، والعودة إلى الحياة الطبيعية بسرعة، وإنهاء الأوضاع الاستثنائية التي خلفتها أيام الاحتجاج الثوري الطويلة وأثرت مباشرة على أرزاق شرائح من المواطنين، وخصوصًا في أوساط الطبقات الفقيرة والمهمشة.
ولعل هذه الدعاية التي توسلت معاناة الفقراء وشعارات الدين، ولم تتورع عن إثارة النعرات الطائفية الى درجة بث شائعات وتوزيع مناشير تحض المسلمين على التصويت بـ"نعم"، لأن "النصارى سوف ينفذون أوامر الكنيسة بالذهاب للمشاركة في الاستفتاء والتصويت بـ"لا"، هي التفسير المنطقي لتضخم نسبة الموافقين على التعديلات الدستورية في المناطق الريفية والأحياء الأشد فقرًا في المدن (تجاوزت التسعين في المئة أحيانًا) قياسًا بالمناطق والأحياء التي يقطنها المتعلمون وشرائح الطبقة المتوسطة.
ولم يجد كثيرون تفسيرًا لهذه الدعاية الدينية في موضوع سياسي بامتياز، سوى محاولة تعبئة جمهور الناخبين من أجل تمرير هذه التعديلات التي يعتقد "الإخوان" أنها وسيلتهم لفرض قواعد اللعبة الديموقراطية الجديدة بما يناسب مصالحهم.
وسط هذا المناخ المشحون طائفيًا جرى الاستفتاء في موعده المحدد (19/3/2011)، وكانت النتيجة لصالح "الإخوان" و"المجلس العسكري" فقد تبيّن أن نسبة من قالوا "نعم" لهذه التعديلات بلغت أكثر من 77 في المئة بينما لم تتجاوز نسبة من قالوا "لا" نحو 23 في المئة. وأعلنت اللجنة القضائية العليا للإشراف على الانتخابات نجاح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في الحصول على تأييد شعبي لرؤيته في شأن مسار المرحلة الانتقالية.
وقد أزالت المواد الدستورية التسع المعدلة "الشروط التعجيزية" التي وضعها "مبارك" لتقييد حق الترشح لمنصب الرئيس وجعله يكاد يكون حقًا حصريًا له ولنجله "جمال". وعلى رغم أن التعديلات لم تقترب من الاختصاصات والسلطات شبه الإلهية التي يمنحها الدستور الذي حكم به الرئيس السابق 30 عامًا، إلا أنها خفضت مدة الولاية الرئاسية من ست سنوات إلى أربع فقط، ووضعت سقفًا لبقاء أي رئيس في السلطة بما لا يتجاوز ولايتين، كما ألزمت مادة من المواد المعدلة مجلسي الشعب والشورى اللذين سينتخبان على أساس هذه التعديلات الشروع خلال ستة أشهر في اختيار هيئة تأسيسية تضطلع بوضع دستور جديد للبلاد يجري استفتاء عليه قبل نهاية السنة المقبلة.
وبمجرد إعلان النتيجة، سادت حالة احباط لدى النخب المصرية وشباب الثورة، حيث بدت زهور الثورة وكأناها آخذة بالذبول، فالتعديلات لم تُدخل كثيرًا من روح الديموقراطية الى النظام، وبدأت التساؤلات عن مصير أحلام شباب "ميدان التحرير"، وهل باتت مصر عالقة بين مطرقة "الإخوان المسلمين" وسندان الجيش المصري؟! فقد كان الاصطفاف الذي أسفرت عنه دعوة "المجلس العسكري" الى الاستفتاء مفاجئًا بحيث سمح -قبل الأوان- بانتصار فعلي لـ"الاخوان المسلمين" بين قوى الثورة على جميع قواها الأخرى، وهو ما أعطى صورة مسبقة لما يمكن أن تكون عليه نتائج الانتخابات القادمة. لهذا عبرت الصدمة عن نفسها بأشكال مختلفة، إلا أن الشكل الأكثر مدعاة للقلق بينها هو ذاك الإحباط المبكر الذي أصاب العديد من النخب التي خاضت نضالا مشرفًا في "ميدان التحرير"، بينما ما زال العرس الثوري المصري وارتداداته التفاؤلية العربية في الذروة.
في 28/3/2011 في رد جزئي على الاتهامات الموجهة الى "المجلس" بالمراوغة والتباطؤ وغموض موقفه من مطالب الثورة العاجلة وخصوصًا مطلب تطهير الدولة من رموز النظام السابق وأركانه، أعلن الجيش حزمة قرارات ووعود وإجراءات أبرزها تأكيده أن "مبارك" وأسرته "يخضعون للإقامة الجبرية"(وذلك قبل أن يعلَن في 24/5/2011 عن إحالته ونجليه "علاء" و"جمال"، على محكمة الجنايات بتهم قتل متظاهرين والتحريض على قتلهم والفساد المالي). كما تطرق الجيش في بيانه الى موضوع الانتخابات، فقال إن الانتخابات النيابية ستجري في أيلول المقبل، وأن موعد الانتخابات الرئاسية سيعلن بعد الانتهاء من الانتخابات الاشتراعية، مؤكدًا بذلك إصرار "المجلس العسكري" على رفض مطلب غالبية القوى والتيارات الحركات السياسية إجراء الانتخابات الرئاسية أولا.
ونقل عن المشير "طنطاوي" تعهده إلغاء حال الطوارئ المعلنة في البلاد منذ 30 سنة قبل الانتخابات النيابية.
الى ذلك، صدر عن الجيش المصري في 30/3/2011 إعلانًا دستوريًا موقتًا الغى بموجبه "الدستور الدائم" الذي حكم به الرئيس السابق "حسني مبارك" حكمًا مطلقًا مدة 30 سنة، وقد تضمن الإعلان المواد التسع التي أقرت سابقًا في استفتاء 19 آذار. وطبقًا لمواد الإعلان الانتقالي، سيتعين على مجلسي الشعب والشورى اللذين سينتخبان خلال ستة اشهر، اختيار جمعية تأسيسية من مئة عضو يضعون دستورًا جديدًا للبلاد، بحيث يجري الاستفتاء عليه قبل مرور ستة أشهر اخرى، أي قبل نهاية 2012.
رابعًا: النتائج الأولية لإسقاط نظام "مبارك"
بقيت العلاقات المصرية مع أميركا على حالها، لا بل تحسنت في المرحلة الانتقالية التي يمسك بزمامها "المجلس العسكري" وذلك مقارنة مع ما كانت عليه في عهد الرئيس المخلوع الذي لم يكن مطواعًا "أميركيًا" بما فيه الكفاية في آخر سني ولايته. وكذلك يقال بالنسبة لإسرائيل، فقد تعهد الجيش المصري المحافظة على اتفاقية "كامب دايفد"، كما لم تنقطع الزيارات الرسمية لمسؤولين صهاينة الى مصر، وسيستأنف خلال أيام تصدير الغاز المصري لـ"تل أبيب" بعد توقفه مؤخرًا إثر انفجار وقع بمدينة "العريش" واستهدف أحد خطوط توريد الغاز لإسرائيل، ولا تزال المفاوضات قائمة بين مصر وإسرائيل حول قضية تعديل أسعار الغاز الزهيدة جدًا مقارنة مع السعر العالمي والتي كانت معتمدة في عهد "مبارك". وبصريح العبارة، لو لم تكن أميركا مطمئنة الى تحقق واستمرار هذا "الستاتيكو"، لما دعمت الثورة المصرية ولما ساهمت في إشعالها.
وباستثناء استعادة الشعب المصري حريته بعد تخلصه من الحكم البوليسي وفساد الطبقة السياسية التي حكمت بلاده، فإن بقية النتائج الأولية لإسقاط نظام الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك" كانت في غاية السلبية ومن الخطورة بمكان، ولا سيما منها توسع النفوذ الإيراني ومن يكنون له مشاعر المودة مثل جماعة "الإخوان المسلمين"، وبروز شبح الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط.
1- توسع النفوذ الإيراني والانفتاح المصري على إيران:
أولى النتائج السياسية لإسقاط نظام "مبارك" تمحورت حول العلاقات المصرية-الإيرانية التي قُطِعت منذ قيام "الثورة الخمينية" عام 1979.
ففي 22/2/2011 كانت مصر والعالمين العربي والإسلامي على موعد مع عبور سفينتين حربيتين تابعتين للبحرية الإيرانية "قناة السويس" في اتجاه البحر المتوسط للمرة الأولى منذ قيام "الثورة الخمينية" عام 1979، وذلك بعدما وافقت السلطات المصرية في 18/2/2011 على عبورهما. ويتألف طاقم السفينة "خرج" من 250 بحارًا ويمكن أن تحمل ثلاث مروحيات، أما الثانية "الفاند"، فهي مزوّدة بطوربيدات وصواريخ مضادة للسفن، وقد توجّهتا الى سوريا حيث رستا في ميناء "اللاذقية".
وبذلك، في أول اختبار سياسي له منذ توليه إدارة شؤون البلاد في 11 شباط 2011، أثبت "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" المصرية جدارته تجاه الإدارة الأميركية -الساعية الى تقوية نفوذ إيران في المنطقة واستخدامها فزاعة لدول الخليج-، بموافقته على طلب إيران عبور السفينتين "قناة السويس".
وفي أول تعلق لها على عملية العبور، اكتفت "واشنطن" بالقول إنها تراقب هذه العملية وإنها على علم بالتحرك الإيراني، وأنها لا تعتقد أن السلوك الإيراني في المنطقة يتسم بالمسؤولية! وقد مرّت السفينتان الحربيتان الإيرانيتان بمحاذاة السواحل الإسرائيلية، دون أن تزيلا إسرائيل عن الخارطة (الدعاية الإيرانية الكاذبة)، كما أن إسرائيل لم تعترض طريقهما، بل اكتفت بإعلان حالة التأهّب والجهوزية للرد على أي استفزاز.
وفي سياق تعزيز الانفتاح المصري على إيران والتنظيمات الملحقة بها، أعلنت مصر في 29/3/2011 للمرة الأولى عن بعض ملامح سياستها الخارجية الجديدة بعد "ثورة 25يناير"، إذ وعدت حركة "حماس" بتغيير طريقة التعامل مع "معبر رفح" مؤكدة أن اتفاقية تنظيمه ليست ملزمة لها كما طالبت إيران بفتح صفحة جديدة (تقرر فتحه بشكل دائم في 26/5/2011، وكانت القاهرة أقفلته عام 2007 "حماس" على القطاع). وقال وزير الخارجية المصري "نبيل العربي" (قبل أن ينتخب أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية خلفًا لـ"عمرو موسى") وذلك في أول مؤتمر صحافي له منذ توليه منصبه إن "إيران ليست دولة عدوة لمصر(...) ومصر تفتح صفحة جديدة مع جميع الدول بما فيها إيران، حيث إنها دولة من دول الجوار التي لنا بها علاقات تاريخية طويلة". وعن إمكانية رفع مستوى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين إلى سفارة، قال "العربي" إن هذا الأمر يتعلق بالموقف الايراني "نحن نعرض فتح صفحة جديدة وننتظر رد فعلهم".
وردًا على سؤال ما إذا كانت مصر ستنفتح على "حزب ولاية الفقيه" في لبنان (المسمى بـ"حزب الله") كما هي الحال مع "حماس" حاليًا، أكد "العربي": "إن هناك فارقًا كبيرًا بين "حماس" و"حزب الله"، حيث إن الأولى أرضها محتلة، بينما الثاني جزء من نسيج سياسي في دولة، ومن يرغب في الحضور إلى مصر فإن مصر لا تمنع ذلك، ومن يرد الاتصال فإن الباب مفتوح".
وحول عدم تأثر العلاقة مع إسرائيل بزوال نظام "مبارك"، قال "العربي" في21/4/2011: "أود ان أؤكـــد أن إسرائيل تحلم بأن تتم معاملتها كأي دولة أخرى، وأنا أرى هذا مطلبًا مشروعًا وليس لدي مشكلة في هذا، وإنني أكرر ما قاله المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقلته أنا من قبل من أن مصر ملتزمة كل المعاهدات الدولية التي أبرمت قبل ثورة يناير، وليست لدينا نية لتغيير هذا".
هذا، وقد رحبت إيران بالخطاب المصري الجديد، وبدأ العمل على إعادة تبادل السفراء، كما صرح رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني "علاء الدين بروجيردي" في 14/5/2011، بأن "طهران والقاهرة قررتا زيادة معدل الزيارات المتبادلة لرجال الأعمال والعلماء بين البلدين في إطار سعيهما الى تعزيز العلاقات الثنائية"، موضحًا أن "سبل تعزيز العلاقات بين البلدين ستتخذ إطارًا فعليًا على المستويين الرسمي والشعبي في وقت قريب".
وقبل ذلك الإعلان، كانت لافتة زيارة الأمين العام لـ"حزب العمل الإسلامي" المصري "مجدي حسين" طهران بشكل رسمي، حيث استقبله وزير الخارجية الإيراني "علي أكبر صالحي" في 18/4/2011، وأكّد "صالحي" على "ضرورة إبقاء تضامن الأمة المصرية ويقظتها حتى النصر النهائي"، فيما شدد "مجدي حسين" على أن "الثورة الإسلامية الإيرانية واعدة بالنسبة الى وحدة المسلمين"، و"إقامة علاقات متينة بين البلدين والحكومتين الإيرانية والمصرية"!
غير أنه في تطور أمني لافت ومتشعب الدلالات، ما لبث أن طرأ على العلاقات الإيرانية-المصرية مؤكّدًا صوابية سياسة نظام "مبارك" التي كانت متبعة حيال إيران والتنظيمات المرتبطة بـ"ولاية الفقيه"، تبدد جزء كبير من "أمل" داعب خيال بعض الجاهلين بالمشروع الإيراني التخريبي والمتعامين عنه والمتواطئين معه، في أن تشهد العلاقة المصرية مع إيران بعد "ثورة 25 يناير" تطورًا دراماتيكيًا سريعًا يضع حدًا لـ32 عامًا من التوتر والقطيعة، فقد أعلن فجأة في 29/5/2011 أن السلطات الأمنية في القاهرة أوقفت مساء السبت 28/5/2011 الديبلوماسي الإيراني "محمد قاسم الحسيني" وبدأت التحقيق معه في نيابة أمن الدولة العليا بتهمة التجسس على مصر و"الإضرار بمصالحها".
وأوضحت مصادر نيابة أمن الدولة أن المخابرات العامة المصرية رصدت تحركات "مشبوهة" للـ"حسيني" منها أنه "استغل حال الفراغ الأمني في البلاد أثناء أحداث الثورة، ونشط في جمع معلومات استخبارية عن الأوضاع الداخلية وخصوصًا الحال الأمنية في شمال "سيناء" وأوضاع المواطنين المصريين الذين يعتنقون المذهب الشيعي".
وأضافت أن التحقيق مع الديبلوماسي الإيراني تضمّن مواجهته بوقائع "قيامه بجمع معلومات سياسية واقتصادية وعسكرية عن مصر ودول الخليج، من خلال تجنيد أعضاء في شبكات تجسس سرية وإمدادهم بمبالغ مالية، كما طلب من مصادره الاتصال بجماعات وتنظيمات سياسية مصرية لمعرفة مدى استعدادها لقبول دعم مالي من ايران". لكن المصادر لم تذكر بالاسم الجماعات والأحزاب التي حاول الديبلوماسي الإيراني الاتصال بها، كما لم تدل بأية معلومات عما إذا كان هناك موقوفون آخرون جرى التحقيق معهم في هذه القضية.
وبعد ساعات من توقيفه والتحقيق معه، أفرج عن "الحسيني" بعدما أفادت وزارة الخارجية أنه ديبلوماسي معتمد في "مكتب رعاية المصالح الإيرانية"، إلا أن السلطات الأمنية أبلغته أن عليه مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة.
وجاء الإعلان عن توقيف "الحسيني" وترحيله معاكسًا لاتجاه الإشارات التي صدرت عن القاهرة منذ تنحي "مبارك"، وآخرها اللقاء الذي جمع قبل أيام وزير الخارجية المصري "نبيل العربي" ونظيره الإيراني "علي أكبر صالحي" على هامش الاجتماع الوزاري لدول مجموعة عدم الانحياز في مدينة "بالي" الأندونيسية.
تبقى الإشارة الى أنه على الرغم من فك القيود الصارمة التي حكمت علاقة الدولة المصرية مع إيران في عهد "مبارك"، وما ترتب على ذلك من تحرر في تحركات الأحزاب المقربة والمؤيدة للسياسة الإيرانية الاستكبارية والفتنوية والتوسعية في المنطقة، مثل جماعة "الإخوان المسلمين" وسواها ممن بدأت تتكشف أقنعتهم، تبقى الأنظار مشدودة الى موقف مشيخة "الأزهر" والخطاب الذي ستعتمده في مرحلة ما بعد الثورة من السياسة الاستكبارية الإيرانية في المنطقة. وقد استرعى الانتباه في هذا السياق تصريح شيخ الأزهر الإمام الأكبر "أحمد الطيب" في 19/4/2011، تعليقًا على تدخلات إيران في البحرين وتصريحاتها العدائية والاستفزازية تجاه دول الخليج، فقد أهاب "الطيب" بإيران "الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأن تنظر إلى ما يحدث في العالم العربي من مشكلات على أنه شأن داخلي بحت تتكفل به شعوب هذه المنطقة وأصحاب الشأن فيها، وذلك درءًا للفتنة وحقنًا للدماء وحفظًا للجوار وحقوقه ودعمًا لمشروع الحوار بين السنة والشيعة".
2-الانفتاح على النظام السوري:
في تطور سياسي ثان لا يقل خطورة عن سابقه، إتفقت سوريا ومصر في 10/3/2011، على "فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية" في مرحلة ما بعد تنحي الرئيس المصري السابق "حسني مبارك" الذي سيطر الجمود خلال فترة رئاسته على العلاقات السورية-المصرية، وخصوصًا في السنوات الأخيرة والتي وصلت فيها العلاقة أحيانًا الى حدّ القطيعة.
وأتى هذا التطور بعدما بعث المشير "محمد حسين طنطاوي" رئيس "المجلس العسكري الأعلى" في مصر برسالة الى الرئيس السوري "بشار الأسد" شدد فيها على "متانة العلاقة بين البلدين" وضرورة "فتح صفحة جديدة" بينهما، فأبدى الرئيس السوري في رسالة جوابية استعداد بلاده "للتعاون الوثيق" مع مصر، وأمل أن "تستعيد مصر دورها الطبيعي في العمل العربي المشترك". وقد عقد أول لقاء مصري-سوري في المرحلة الانتقالية بعد أسبوع من تبادل الرسائل، وذلك لدى استقبال الرئيس السوري "بشار الأسد" رئيس المخابرات العامة ومبعوث "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في مصر اللواء "مراد محمد موافي" في 17/3/2011.
ويذكر أن العلاقات السورية المصرية قطعت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وقد عملت إسرائيل جاهدة على إخراج سوريا من عزلتها الدولية على خلفية الاشتباه القوي بوقوفها وراء عملية الاغتيال، ونجحت في مهمتها فعلا مع فرنسا "ساركوزي" أولا، ثم مع الولايات المتحدة كما تحسنت العلاقة مع المملكة السعودية، لكن بقي "مبارك" عصيًا على الاستجابة لتلك المصالحة، فكانت العلاقات بين "الأسد" والرئيس المصري تتسم بالبرودة، وخصوصًا نتيجة اختلاف وجهات نظرهما في الملف اللبناني والعلاقات مع إيران.
بيد أن نتيجة هذا الانفتاح المصري الطارئ على سوريا لن تكون بمستوى الضرر نفسه الذي سببه وسيسببه للقضايا العربية والإسلامية الانفتاح المصري آنف الذكر على إيران، ذلك أن الشعب السوري انتفض لحريته وكرامته في 15/3/2011، معلنًا ثورته على النظام البعثي الشمولي والفاسد والدموي الذي يتسلط على الحكم في سوريا منذ العام 1963، كاشفًا زيف شعارات "الممانعة والمقاومة والعروبة" التي يتستر خلفهما النظام الحاكم ليخفي علاقته بإسرائيل التي خرجت بعض تفاصيلها الى العلن مع تصريحات الرجل البارز في النظام "رامي ومخلوف" وكتابات الصحافة الإسرائيلية.
ومما لا شك فيه أنه بعد سقوط نحو ألف ومئة شهيد وعشرة آلاف جريح والإعلان عن مئات المفقودين، باتت أيام نظام "الأسد" معدودة وهو الى زوال بالتأكيد، إلا أن ما يؤخر سقوطه هو الدعم الأميركي والإسرائيلي الذي يمنح "الأسد" المزيد من الوقت لمحاولة وأد الثورة بالحديد والنار.
وهذا الدعم الصهيو-أميركي المفضوح لم يتوقف عند اعتراف الرئيس الأميركي "باراك أوباما" بقبوله أن تكون عملية الانتقال الى الديموقراطية بقيادة "الأسد" رغم الحرب غير المعلنة التي يشنها على شعبه، حين صرّح في 19/5/2011: "إن الرئيس السوري بشار الأسد أمام خيار: إما أن يقود عملية الانتقال الى الديموقراطية وإما أن يخرج من الطريق"! بل كانت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" أشد وقاحة وصراحة في دعم "الأسد"، حيث سئلت في اليوم التالي لتصريح "أوباما" عن سبب عدم اتخاذ خطوات أشد قسوة حيال سوريا، فكانت إجابتها الفظة والمهينة بحق الشعب السوري: "لا شهية لذلك. لا يوجد إرادة. لم نر أي نوع من الضغط كالذي رأيناه يتراكم من حلفائنا الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي وجامعة الدول العربية وغيرها لنفعل مثلما فعلنا في ليبيا... نحاول أن نكون أذكياء في تقويم كل حالة على حدة"، مشيرة (في إشادة ضمنية بالرئيس السوري) إلى أن "الأسد قال الكثير من الأمور التي لم نسمعها من زعماء آخرين في المنطقة عن نوع التغييرات التي يريد رؤيتها"!!
ويشار الى أن سقوط النظام السوري سيعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط، نظرًا للدور الاستراتيجي الذي يلعبه في المشروع الصهيو-إيراني الذي يتوسل شعارات "الممانعة والمقاومة" للوصول الى أهدافه.
3-بروز شبح الفتنة الطائفية:
ثالث نتائج إسقاط "النظام المصري" وأشدها خطورة وارتباطًا بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، تمثلّت بعدة حوادث واشتباكات طائفية بين مسلمين وأقباط، أعادت هاجس التقسيم الى الأذهان، وخصوصًا مع بروز خطابات مشينة وتحركات مريبة لجماعات إسلامية متطرفة لا تؤمن بالعيش المشترك ولا تعترف بالآخر، رافتها أصوات نشاز لزعماء أقباط تطالب بإقامة دولة مستقلة قبطية على نموذج "الفاتيكان"!
وقد كان "عوديد ينون"، الصحفي الأميركي اليهودي، أول من أوحى لقادة الأقباط عام 1982 بهذا التطلع؛ ففي الورقة التي نشرها بعنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات من القرن" قال فيها: "مصر مقسمة وممزقة بين بؤر عديدة للسلطة، وإذا تقسمت مصر فإنّ دولا مثل ليبيا والسودان أو حتى الدول الأبعد لن تستمر في توحدها في شكلها الحالي. إنّ رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر إلى جانب عدد من الدول التي تعاني من ضعف السلطة وبدون حكومة مركزية كما هي عليه الآن، هو مفتاح للتنمية التاريخية التي كان من المقرر العودة إليها بموجب اتفاق السلام، ويبدو أنّ ذلك لا مفر من ذلك على المدى البعيد ".
وبالعودة الى تفاصيل الحوادث الطائفية، بدأت محاولات إشعال الفتنة الطائفية في مصر قبل أقل من شهر على بدء التظاهرات. ففي الوقت الذي كانت تحتفل فيه مصر بأعياد رأس السنة الجديدة، تعرضت محافظة الإسكندرية لعمل إرهابي، حيث انفجرت سيارة أمام "كنيسة القديسين" في تمام الساعة الثانية عشرة و20 دقيقة أثناء القداس مسفرة عن وفاة 25 شخصًا وإصابة 80 بينهم 8 مسلمين.
تنبهت "جبهة علماء الأزهر" لخطورة الأمر، فناشدت جميع المصريين تغليب العقل وترجيح المصلحة الوطنية وألمحت إلى أن جهات ترمي من الحادث إلى "ضرب الأمن في المجتمع المصري، وتأجيج نيران الفتنة بين المسلمين وإخوانهم من أهل الكتاب". وأضافت الجبهة: "ما يحدث في مصر وفي غيرها من بلاد العروبة والإسلام ما هو إلا جزء من المؤامرة التي تحاك وأحيكت للعراق والسودان، والصومال وأفغانستان، ومصر عندهم على الجرار، فاحذروا أيها العقلاء من أهل مصر من أن تقعوا فيما نصب لكم من الشراك".
تزامن هذا الاعتداء مع التحضيرات لإجراء الاستفتاء في السودان على انفصال "جنوب السودان المسيحي" والتي ظهرت نتيجته المؤيدة للانفصال بعد شهر. وقد تناولت الصحف المصرية الصادرة في 10/1/2011 ملفات عدة كان أهمها ما يتعلق بالاستفتاء الجاري حول تقرير مصير جنوب السودان، وينافسه في الأهمية ما فجرته حادثة الاعتداء على "كنيسة القديسين" بإسكندرية مصر من قضايا متعلقة بالأقباط، فاوردت صحيفة "المصريون" أنباء عن دعوة لقيادات أقباط المهجر إلى قيام دولة مستقلة للأقباط في مصر، بالتزامن مع إجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، مؤكدين أن الدولة الجديدة تشكلت من خلال هيئة تأسيسية من مائة قبطي من داخل وخارج مصر، مطالبين بالحصول على 25 بالمائة من المناصب السيادية في مصر وإطلاق حرية بناء الكنائس بلا حدود وتشكيل محاكم للأقباط، تمهيدًا لحكم ذاتي للأقباط في مصر حسب قولهم. وتبنى تأسيس ما تمسى بـ "الدولة القبطية" قيادات قبطية معروفة بمواقفها المناصرة لإسرائيل ودعواتها الدائمة لها من أجل التدخل لحماية الأقباط في مصر، ومن بين هؤلاء "موريس صادق" رئيس "الجمعية الوطنية القبطية" و"منظمة كميل الدولية من أجل يسوع"، وقناة "الحقيقة" المسيحية ومنظمة "ستاند آب أمريكا"، وقناة "الطريق" المسيحية بولاية "نورث كارولينا".
بعد سقوط نظام مبارك، فعّل دعاة الفتنة المنظمة من السياسة الصهيو-أميركية تحركاتهم على الساحة المصرية لإشاعة مناخ فوضى وخوف، وباتوا يركزون جل نشاطهم على النفخ في "التوتر الطائفي" وزيادة حوادث الفتنة "المنظمة" بين المسلمين والمسيحيين بسرعة مثيرة للانتباه، وهي حوادث تتلطى خلف عناوين تمويهية لا تمثل سوى الجزء البسيط الظاهر من جبل الجليد، كالعلاقات العاطفية بين شباب وفتيات مسلمين وأقباط، والاحتجاجات على تعيين محافظ قبطي في "قنا" جنوب مصر قبل أن يتم إرجاؤه مدة ثلاثة أشهر، مع العلم أن المحافظ السابق كان قبطيًا أيضًا!
فقد أقدم مجهولون في 23/2/2011على ذبح كاهن كنيسة قبطيًا يدعى "داود بطرس" (82 سنة) داخل شقته في أحد الأحياء السكنية وسط مدينة "أسيوط" جنوب مصر. وقال راعي كنيسة "مار مرقس" بـ"أسيوط" القس "أبانوب ثابت"، أن جيران المجني عليه، أبلغوه أن مجهولين عددهم بين ثلاثة وأربعة أفراد ذبحوا المجني عليه وهم يهتفون "الله أكبر"، قبل العثور عليه مضرجًا بدمائه. وتظاهر الآلاف من الأقباط في المدينة بعد جنازة الكاهن في "كنيسة القيامة" في "درنكه" التابعة لـ"أسيوط"، وكذلك في "القاهرة". وأعلن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" الحاكم في مصر، أنه "يراقب بدقة محاولات لإحداث الفتنة بين المواطنين، مناشدًا المصريين التصدي لهذه المخططات".
بعد تلك الحادثة الإرهابية توالت الصدامات الدامية بين المسلمين والأقباط فسجل وقوع نحو 15 حادثًا دمويًا حتى نهاية أيار2011 ذهب ضحيتها عشرات القتلى ونحو 500 جريح، وكان أخطرها على الاطلاق ثلاثة حوادث:
الأول وقع في 5آذار2011، حيث قتل شخصان وأحرقت "كنيسة الشهيدين" في قرية "أطفيح" في أعمال عنف بين مسلمين وأقباط في ضاحية "القاهرة"، فيما عُزِيَ الى خلافات عائلية تطورت الى تبادل للنار على خلفية علاقة عاطفية بين مسيحي ومسلمة في محافظة "حلوان"، مما أدى الى مقتل والد الفتاة وابن عمها. وعقب الانتهاء من إجراءات دفن القتيلين تجمعت أعداد كبيرة من أهالي القرية وتوجهوا إلى "كنيسة الشهيدين" احتجاجًا على العلاقة المشار إليها، إلا أن بعض العناصر المتطرفة المشبوهة والمنتمية الى ما يسمى "الجماعة السلفية" المعروفين بقربهم من أجهزة أمن النظام البائد، أقدمت على اعتداء وهدم تدريجي (غير مسبوق) لـ"كنيسة الشهيدين" وقامت بإشعال النيران في الكنيسة واقتحامها وإتلاف محتوياتها مستغلين حادثة الخلاف العائلي. ومنذ ذلك الحين بدأت التظاهرات والاعتصامات القبطية الاحتجاجية والمنددة بهدم كنيسة "أطفيح" وبالطائفية تنظم في القاهرة والإسكندرية.
وكان "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" أعلن أن الجيش سيعيد فورًا بناء الكنيسة المهدمة، وسيلاحق المسؤولين عن الاعتداء عليها. لكن هذا القرار لم يفلح في أمتصاص غضب المعتصمين بعدما شاع نبأ أداء أتباع "الجماعة السلفية" في قرية صول بالصلاة على أطلال "كنيسة الشهيدين" وزرع لافتة في المكان كتب فيها: "مسجد الرحمن"!
الحادث الثاني وقع في 8/3/2011، مع خروج المئات من أعضاء "الجماعة السلفية" في تظاهرات في شوارع القاهرة ومدن أخرى رافعين شعارات ومطالب "طائفية" مثل احياء قضية زوجتي القسَّين "وفاء قسطنطين" و"كاميليا شحاته" اللتَين قيل إنهما اعتنقتا الإسلام قبل أن تسلمهما الأجهزة الأمنية الى الكنيسة القبطية. غير أن الامر لم يقف عند حدود التظاهر، وإنما شن العشرات من "السلفيين" المسلحين في المساء هجمات منسقة استهدفت مواطنين مسيحيين يقطنون "حي الزبالين" و"حي الزرائب" حيث الغالبية المسيحية في منطقة "المقطم" غرب القاهرة، ما أسفر عن سقوط 13 قتيلا و140 جريحًا. وقد تفجر الوضع بعدما سرت شائعة أن المتظاهرين الأقباط متوجهون لحرق "مسجد السيدة عائشة" انتقامًا لحرق "كنيسة أطفيح"، وهو ما أدى لاشتعال المواجهات، كما قيل إن المتظاهرين الأقباط قطعوا طريق الأوتوستراد وقاموا بإحراق عدد من السيارات لتشتعل الأحداث بعدها.
الحدث الفتنوي الثالث وقع في 7/5/2011 حيث بلغت المواجهات الطائفية ذروتها عندما اشتعلت في حي "إمبابة" الشعبي شمال شرق القاهرة صدامات دموية بين مئات من المتطرفين المسلمين السلفيين ومواطنين مسيحيين من سكان الحي، أدت إلى حرق كنيستين وتخريبهما وسقوط نحو 15 قتيلا وأكثر من 240 جريحًا.
وفي التفاصيل، تذرع مئات من "السلفيين" المتهمين على نطاق واسع بنسج علاقات وثيقة مع جهاز مباحث أمن الدولة السيئ السمعة الذي تم حله بعد أسبوعين من سقوط مبارك، تذرعوا بشائعة عن وجود فتاة مسيحية قيل أنها أسلمت بعدما ارتبطت بعلاقة عاطفية مع شاب مسلم محتجزة في كنيسة "مار مينا" في حي "إمبابة"، فحاصروا الكنيسة وحاولوا أقتحامها بالقوة لتحرير الفتاة، مما أدى إلى الصدامات التي أوقعت قتلى وجرحى من المسلمين والمسيحيين. وبعد ساعات قليلة هاجم نحو 50 شخصًا مسلحين بأسلحة بيضاء وزجاجات حارقة كنيسة "العذراء" الواقعة في الحي وأحرقوا محتوياتها قبل أن يلوذوا بالفرار. لكن شهودًا أكدوا أن هؤلاء الأشخاص ليسوا من سكان الحي، وبدا من سلوكهم أنهم "بلطجية مأجورون" لتنفيذ الاعتداء.
وعلى أثر ذلك الحادث، عقد رئيس الحكومة المصرية "عصام شرف" إجتماعا طارئًا لحكومته وجه بعده بيانًا الى الشعب تلاه وزير العدل المستشار "عبد العزيز الجندي" أكد فيه أن حكومته "ستضرب بيد من حديد على كل من يعبث بأمن الوطن وكل من يحرض على إثارة الفتن الطائفية"، محذرًا من أن "مصر قد تكون أصبحت بالفعل ، أمة في خطر"، وأشار إلى أن الحكومة ستطبق على المشاركين في حوادث العنف الطائفي بنود قانون الأرهاب التي تصل العقوبات فيها إلى الإعدام .
كما تعهّد "شرف" في 11/5/2011 بتأليف لجنة للبحث في الاستجابة لطلبات فتح كنائس مقفلة واقتراح الحلول للمشاكل الطائفية المختلفة، وكذلك مشروع قانون لتوحيد قواعد بناء دور العبادة، وهو ما يطالب به الأقباط منذ عقود، إلى مشروع قانون آخر يجرم "التحريض والتمييز الديني".
هذا، وقد كان "المجلس العسكري" الحاكم قد حذر في 3/5/2011 من "مواقع إنترنت وصفحات في موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تبث من دول أجنبية وتحرض على الفتنة الطائفية في مصر. وقد جاء هذا التحذير بعدما بُث شريط مصور على شبكة الانترنت يدعو إلى حرق كنائس "امبابة". وأضاف "المجلس" انه بعد تتبع هذه المواقع والصفحات تبين "انها مجهولة الهوية وتعمل من داخل بعض الدول الأجنبية وليس من داخل مصر حتى يصعب اكتشافها".
وهكذا، عوض ان تأتي الثورة بالتغيير والمساواة، ثمة أياد آثمة عملت على حرفها عن مسارها، لتسود في ظل انفلات العصبيات وتكرار الحوادث الطائفية، مشاعر الخوف والقلق الشارع المصري من أن تتحول مصر بعد ثورتها من قاطرة التغيير نحو الديموقراطية في العالم العربي الى بوابة للتمزق والتفتيت الذي لن ينجو من شره أحد، خصوصًا مع الشعارات والهاتافات التي رفعت في الاعتصامات القبطية المحتجة على استهداف الكنائس والعنف الطائفي، حيث رفعت هتافات مطالبة بالحماية الدولية للمسيحيين في مصر، وقد جرى رفضها فيما بعد من الأقباط الواعين للمؤامرة التي تحاك لمصر، إلا أن بعض المتظاهرين لم يستطيعوا إنكار تخوفهم المبرر من سعي البعض في مصر الى اقامة دولة إسلامية تهمش المسيحيين الذين يمثلون حوالي 12 في المئة (نحو 10 ملايين) من سكان مصر التي تعد 85 مليون نسمة تقريبًا.
4-تسليم البلاد الى "الإخوان المسلمين" برعاية "المجلس العسكري":
تلك هي النتيجة الرابعة لسقوط نظام "مبارك". فقد شكلت جماعة "الإخوان المسلمين" منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام بعد "ثورة 25 يناير" وتولي "المجلس العسكري" زمام السلطة بتوجيهات أميركية، ركيزة أساسية للوضع السياسي المصري الى حد يمكن معه ملاحظة أن هناك نوعًا من التفاهم العميق -إن لم يكن التحالف نتيجة لصفقة ما- بين الجماعة والمؤسسة العسكرية في الضبط التدريجي لمرحلة ما بعد تنحي الرئيس "حسني مبارك".
صحيح أن الحركة القيادية لـ"الإخوان المسلمين" سعت في أيام الثورة الأولى الى بذل اقصى ما يمكنها في إخفاء نشاطها وشعاراتها الدينية وإظهار الانكفاء داخل التحالف الشبابي الواسع الذي نشأ في "ميدان التحرير"، إلا أن نشاطها ما لبث أن ظهر بوضوح بعد خطاب "مبارك" الثاني يوم انقسم "شباب الميدان" بين من اعتبر أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم والتفاوض مع نائب الرئيس "عمر سليمان"، ومن أصرّ على التظاهر في "ميدان التحرير" حتى "الرحيل الآن" وكان في مقدمة هؤلاء جماعة "الإخوان المسلمين" الذين شحنوا جمهورهم لمتابعة الاحتجاجات حتى إسقاط النظام بشكل كامل.
وازداد دور جماعة "الإخوان" فعالية وريبة، مع المنهج السريع الذي وضعه "المجلس العسكري" للمرحلة الانتقالية، خصوصًا فيما يتعلق بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون أشهر قليلة، وهو ما أثار تساؤلات حول الغاية من وراء هذا التسرع، فضلا عن المخاوف من النتائج التي ستفرزها تلك الانتخابات المتسرعة، خصوصًا أن ثمة حاجة الى مزيد من الوقت كي تنشط الحياة السياسية المصرية وتنشأ الأحزاب وتتنظم بعد عقود من القمع. فإجراء الانتخابات بسرعة يناسب جماعة "الإخوان المسلمين"، التي تستطيع أن تكون مستعدة للانتخابات خلال أسابيع لكونها جماعة متمرسة والأكثر تنظيمًا على الساحة المصرية رغم التضييق الذي كان يمارس عليها قبل الثورة.
وتأكد التحالف الإخواني-العسكري، مع طرح "المجلس العسكري" موضوع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث كان "الإخوان" القوة السياسية الوحيدة التي تمثلت في لجنة إعداد هذه التعديلات الدستورية التي شكلها العسكر، كما كانوا بتأييدهم تلك التعديلات -فضلا عن فلول النظام السابق- الوحيدين الذين شذوا عن إجماع القوى والأحزاب والحركات السياسية المدنية بمختلف تنوعاتها وأطيافها التي كانت عماد الثورة، والتي رفضت التعديلات مطالبة بصياغة دستور جديد للبلاد.
فوسط مناخ مشحون طائفيًا استخدم خلاله "الإخوان" أبشع أنواع التحريض والتخويف الطائفي، جرى الاستفتاء في 19/3/2011، وكانت النتيجة لصالح "الإخوان" و"المجلس العسكري" فقد صوت بـ"نعم" للتعديلات أكثر من 77 في المئة من المقترعين، وبالتالي أعلنت اللجنة القضائية العليا للإشراف على الانتخابات نجاح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في الحصول على تأييد شعبي لرؤيته في شأن مسار المرحلة الانتقالية، وهي الرؤية التي تصب بشكل كامل ومباشر في مصلحة "الإخوان المسلمين"!
هذا، ولم يجد كثيرون تفسيرًا للدعاية الطائفية التي شكلت ركيزة حملة "الإخوان" لتعبئة جمهور الناخبين وحثهم على التصويت تأييدًا لتعديلات تتعلق بموضوع سياسي بامتياز، سوى محاولة تعبئة لفرض قواعد اللعبة الديموقراطية الجديدة بما يناسب مصالحهم، ويسمح لهم بالحصول على نصيب يتجاوز حجم نفوذهم الواقعي في المجتمع من خلال اغتنام فرصة التعديلات للدستور المعطل التي يؤدي تمريرها الى إجراء الانتخابات البرلمانية في غضون أشهر قليلة، أي قبل أن تتمكن القوى السياسية القديمة والقوى الجديدة التي أفرزتها الثورة من التبلور وتنظيم صفوفها، وهو ما يتيح للـ"جماعة" أن تنافس وحدها في هذه الانتخابات رجال الأعمال من فلول النظام القديم، مستفيدة من الميزة النسبية التي تتمتع بها حاليًا والمتمثلة في كونها القوة السياسية الوحيدة ذات الإمكانات التنظيمية والمالية الضرورية لخوض معركة انتخابية من هذا النوع وفي هذا الوقت.
وفي سياق تحضيراتها لخوض الاستحقاقات الانتخابية القادمة، أعلنت جماعة "الاخوان المسلمين" في 30/4/2011، إنشاء حزب سياسي سيشارك في الانتخابات التشريعية في ايلول المقبل والتي تسعى من خلالها الى الفوز بنحو نصف مقاعد مجلس الشعب، وعينت أحد أبرز صقورها "محمد مرسي" رئيسًا للحزب الجديد الذي أطلقت عليها اسم "حزب الحرية والعدالة". وأكد "مرسي" أن الحزب الجديد "ليس حزبًا اسلاميًا بالمفهوم القديم، ليس حزبًا دينيًا، وإنما هو "حزب مدني" و"سيعمل بصورة مستقلة عن الجماعة". وكشف "مرسي" أن الترشح لمجلس الشعب "سيكون في حدود 45 الى 50 في المئة" من المقاعد خلال الانتخابات المقبلة.
وعلى الرغم من قول الجماعة إنها لن تتقدم بمرشح لانتخابات الرئاسة التي يفترض تنظيمها قبل نهاية السنة، وأنها لن تدعم أيًا من أعضائها إذا ما ترشح، فقد خلط الأوراق إعلان القيادي البارز في الجماعة "عبد المنعم أبو الفتوح" في 12/5/2011 ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية مستقلا، ما أثار التساؤلات عن إمكانية وجود عملية توزيع أدوار داخل صفوف الجماعة بهدف الإطباق على جميع مفاصل السلطة في مصر.
أما صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية فقد كشفت في اليوم نفسه لترشح "أبو الفتوح" عن أن الرئيس الأميركى "باراك أوباما" أكد لأحد مساعديه أنه يريد أن يصبح "وائل غنيم" (الناشط السياسى وعضو ائتلاف الثورة) "رئيس مصر القادم"، لافتة إلى أن "أوباما" يأمل أن يفوز "شباب الشارع" فى المرحلة المقبلة فى مصر، ناقلة عنه قوله:"وذلك ما أعتقده طريقًا طويلاً وصعبًا".
وعلى أي حال، يبدو أن أميركا مطمئنة لهوية الفريق السياسي الذي سيدير مصر بعد الانتخابات حتى ولو كان "الإخوان المسلمين" أنفسهم، وذلك بمستوى الاطمئنان ذاته الذي تكنه للجيش الذي يدير المرحلة الانتقالية. ففي مقابلة أجرتها صحيفة "الواشنطن بوست" مع "عصام العريان" أحد أهم رموز "الإخوان المسلمين" في مصر، ونشرت بتاريخ 15/5/2011، تركز الحديث حول مستقبل مصر، وفي ذلك قال "العريان": "مصر يجب أن تكون دولة ديموقراطية ذات نظام برلماني". وعن مصير اتفاق السلام مع إسرائيل قال: "ستحترم الدولة المصرية اتفاق السلام، والبرلمان الجديد هو الذي سيقرر في شأن مستقبله". أما عن العلاقة مع الولايات المتحدة فقال: "نحن لا نتحدث عن الولايات المتحدة بصفتها عدوة"، لكنه دعاها الى مراجعة سياستها في المنطقة". وعن تطبيق الشريعة في مصر قال: "إن مبادئ الشريعة هي أهم مصدر للتشريع في مصر كما ورد في الدستور"، وشدد على إيمان "الإخوان" بالمساواة بين المرأة والرجل، وبالمساواة بين أبناء الأقليات.
لذا، يمكن اعتبار سيناريو وصول أو إيصال "الإخوان" الى الحكم -كما هو متوقع- الاحتمال الأنسب بالنسبة للولايات المتحدة، إذ يرجح في حال تم ذلك أن تزداد الحساسيات مع الأقباط، ما سيعزز الخطة الصهيو-أميركية بتقسيم مصر طائفيًا من خلال إقامة مصر "إسلامية إخوانية"، وأخرى قبطية، هذا فضلا عن تعمق علاقات مصر "الإخوانية" مع إيران.
تلك كانت النتائج الأولية لسقوط نظام "مبارك"، ويمكن حصر أشدها خطورة بتعاظم النفوذ الإيراني وحلفائه من "الإخوان"، والفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط، تلك الاعتداءات الكريهة والطائفية البغيضة التي تديرها السياسة الصهيو-أميركية القذرة بما تقوم به من دعم لبعض الجمعيات المشبوهة سواء التي تنسب نفسها الى المسلمين أو الأقباط.
لسنا ضد "الثورة المصرية" في بعدها المطلبي والمعيشي والحقوقي وما يندرج فيه من تعديل للدستور وإطلاق للحريات ومحاسبة للفاسدين واجتثاث للفساد، ولا يفهم مما تقدّم أننا نؤيد فساد نظام الرئيس المخلوع أو ديكتاتوريته، وإنما نؤيد ضبطه لتلك المخاطر ووعيه إياها وحرصه على مصر موحدة وآمنة من تدخلات "ولاية الفقيه". ومن هذا المنطلق كان الأفضل -من وجهة نظرنا- الاكتفاء بتعديل سلوك النظام مع شعبه لا بإسقاطه تمامًا ولا سيما بعد استجابته لمعظم مطالب الثوار الذي ترجمه صراحة في خطابه الثاني، وهو ما يعني أننا أقرب الى شباب الثورة الذين اعتبروا بعد الخطاب الثاني أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم، وأننا أبعد بأشواط طويلة عمن أصروا على التظاهر في "ميدان التحرير" حتى "الرحيل الآن" وفي مقدمتهم جماعة "الإخوان المسلمين" التي تتحضر لوراثة النظام السابق عبر صناديق الاقتراع وبفعل خطوات "المجلس العسكري" المتسرعة.
يجب أن نعلم أن الأحداث الطائفية والإرهابية المتفرقةَ الأليمة التي تشهدها مصر منذ سقوط نظام "مبارك" أو حتى قبل ذلك التاريخ، ما هي إلا حلقات مترابطة في سلسلةٍ هادفة الى تقسيم المنطقة وفق "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، يعلم حقيقتها جيدًا من رسَمَها ويقف وراء تنفيذها، بهدف وزرع مناخات الكراهية والتجزئة في مصر، لإخضاعها للإملاءات والشروط الخارجية في قضايا عدة، ليس آخرها أو جديدها فقط فرض تَخلي مصر عن جزء من أرضها في سيناء لنقل الفلسطينيين إليها، وإقامة الدولة الفلسطينية في غزّة الكبرى عوضًا عن فلسطين، واغتيال القضية الفلسطينية، وترسيخ يهودية الدولة في إسرائيل... نقول ذلك رغم الجو الإيجابي الذي نتج عن المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس" والتي تمت برعاية مصرية وجرى التوقيع عليها في 3/5/2011، وهي مصالحة لا نعلّق عليها آمال كبيرة لأن الطرفين المتضررين منها هما إسرائيل وإيران اللذان يشكلان حقيقة محورًا واحدًا في المنطقة، وكلاهما سيعمل على إفشال المصالحة مستغلا نفوذه وعلاقاته بالحركتين المتصالحتين (الأول بـ"فتح" والثاني بـ"حماس").
الرهان اليوم على وعي الشعب المصري في إسقاط أهداف المؤامرة بجميع تفرعاتها الإيرانية والطائفية والتقسيمية، وعدم الوقوع في فخ يريده المجرمون الحقيقيون المخططون لتلك الجرائم الطائفية.
وإننا إذا نظرنا في التقارير التي تصدر عن الحريات الدينية من المنظمات الحقوقية الممولة أميركيًا في مصر، سنجد ملامح بقية المشروع الذي يطمح في قيام منطقة حكم ذاتي للنوبيين وأخرى للمسيحيين، وتفتيت بقية الشعب الى سنة وشيعة وبهائيين وقرآنيين!!
نقول ذلك على أمل أن يفكر المصريون طويلا ويتأملوا مليًا في المرحلة الجديدة التي دخلتها بلادهم، فيعوا الخطر الذي يحوم فى الأفق ولا يلتفت إليه كثيرون تحت نشوة "فرحة الانتصار"، وإلا فإن التنكر أو الاستخفاف بالدورين الإيراني والأميركي في اندلاع الثورة ومحاولة التحكم بمسارها، قد يجعل القوى الشبابية والمدنية تشاهد حلمها يتبخر وترى ثورتها تخطف وتصادر وتفرغ من مضمونها على أيدي رجال إيران وعصابات الفتنة الطائفية التي لاتفقه من مبادئ الإسلام ولا المسيحية شيئًا!
والى أن تنجلي الأمور، عيننا على السياستين الأميركية والإيرانية تجاه مصر، كما على تحركات "المجلس العسكري"، و"الإخوان المسلمين" وحلفائهم ممن يسمون أنفسم "سلفيين"، وفلول النظام السابق، والحركات الشبابية، والأحزاب والائتلافات الجديدة، وحوادث الفتنة الطائفية، وما ستفرزه صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية والرئاسية وما سيترتب عليها من تبعات ومفاعيل، فمستقبل مصر لم يتضح بعد، و"ثورة 25 يناير" لا تزال مستمرة...
عبدو شامي
إيلاف، نشر 1/6/2011
الثورتان الليبية واليمنية موضوع الحلقة التاسعة من هذه السلسلة.
24- ...وفي 5 حزيران انتحر النظام
المخضرمون منا ومن تجاوزوا الخمسين من عمرهم يذكرون جيدًا طبيعة الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في سوريا قبل الستينات من القرن المنصرم، فقد حفلت تلك الحقبة المضطربة من تاريخ سوريا بانقلابات كثيرة، حتى كان الشعب السوري ينام على نظام حكم معيّن ليستيقظ على آخر... الى أن استولى "حزب البعث العربي الاشتراكي" على الحكم عام 1963 ثم قام "حافظ الأسد" بحركته التخربيبة -أو "التصحيحية" كما أطلق عليها- عام 1970، واعتلى سدة الرئاسة في الجمهورية العربية السورية.
منذ ذلك الحين، عرفت سوريا استقرارًا سياسيًا لافتًا جدًا طوى صفحة الانقلابات التي اعتاد عليها الشعب السوري، وقد ظل الوضع على حاله الى 15 آذار 2011، تاريخ اندلاع انتفاضة الحرية والكرامة في سوريا.
يعيد بعض المتعمقين في السياسة السورية ذلك الاستقرار السياسي الذي خيم على الساحة السورية في فترة حكم "حزب البعث"، الى صفقة عقدها "الأسد" الأب مع العدو الإسرائيلي، تقوم على معادلة واضحة تختصر بأربع كلمات: "الجولان مقابل بقاء النظام". وبناء على ذلك، تنازل "الأسد" عن هضبة الجولان السورية المحتلة وتعهد إغلاق جبهتها الى الأبد مقابل تأمين إسرائل لنظامه البقاء والاستمرارية عبر مختلف أشكال الدعم بما فيها الرعاية الدولية، كما جرى الحديث عن 500 مليون دولار دفعتها اسرائيل ثمنًا لتلك الأرض العربية والسورية المحتلة، وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت ذا قيمة عالية جدًا.
مات "الأسد" في حزيران من العام 2000 ليعود الى الحياة مجددًا بعد أقل من ربع ساعة استغرقها من ينتحل صفة "مجلس الشعب" لتعديل الدستور بخفض سن الترشح لرئاسة الجمهورية وجعله على مقاس "الأسد" الابن الذي تولى الرئاسة بعد أبيه ومشى على خطاه ملتزمًا تعهدات والده والمعادلة الشهيرة آنفة الذكر، لا بل زاد عليها تخليه عن "لواء الاسكندرون" لمصلحة تركيا، كما شرّع أبواب سوريا أمام المد الفارسي مفسحًا المجال أمام إيران الفارسية لكي تتغلغل في النسيج السوري فاتحة الجامعات والحوزات ومطلقة حملاتها لتشييع الشعب السوري ولا سيما في القرى والبلدات... وبذلك بات "الأسد" الابن يستحق بجدارة لقب "بطل الممانعة والمقاومة ورجل العروبة الأول" بلا منازع بعدما جمع "المجد" من جميع أطرافه.
مضت الأيام والسنون والعقود الى أن شارفت سوريا "السجينة" على نحو نصف قرن من حكم "البعث" الذي أفرط باستعمال شعارات براقة وخداعة ضلل بها الشعب السوري أو البسطاء منه وأوهمهم أنه ركيزة مشروع المقاومة والممانعة في المنطقة، وأنه المدافع الأول عن العروبة وجنديها الشرس والصلب...ضاق الشعب ذرعًا بذلك الدجل المنظم، وانتهز فرصة "الفوضى الخلاقة" أو ما يسمى بـ"الربيع العربي" الذي انطلق من "تونس" ليثور على سجّانه ابتداء من 15/3/2011 مدافعًا عن حريته وكرامته، قائلا بملء فيه لطاغيته "ما منحبك والشعب السوري ما بينذل".
دخلت "الثورة السورية" شهرها الثالث غارقة في بحر من الدماء والجثث وعمليات الاعتقال والتعذيب والتمثيل التي قابلها بها النظام، إلا أن ذلك المشهد البربري والوحشي لم يحرك المجتمع الدولي على النحو المطلوب، فلا قرار دوليًا يدين إجرام النظام بحق شعبه في مجلس الأمن، ولا محكمة جنائية دولية تحقق في جرائم الحرب التي يرتكبها والجرائم ضد الإنسانية، لا عقوبات أوربية ولا أميركية رادعة، فقط منع من السفر ومضايقات اقتصادية وتجميد أرصدة بعد نحو 15 يومًا من الإنذار لكي يتسنى لرموز النظام سحب أموالهم من تلك البنوك الأوربية والأميركية، هذا إن كانت لهم أرصدة هناك أصلا!
استفز السلوك الدولي المشين الشعوب الحرة والشعب السوري المنتفض الذي راح يبحث عن سبب تخلي المجتمع الدولي عن نصرته وسكوته المخجل والمخزي عن المجازر التي يرتكبها النظام المجرم في حقه. جالت الأفكار في العقول، راحت وجاءت، صعدت ونزلت، فلم تجد لها مقرًا ولا مستقرًا إلا في مكان واحد: إنها "المعادلة الشهيرة" التي لا تزال سارية المفعول، والتي أبى "رامي مخلوف" (ابن خال الرئيس السوري وحليفه الذي شملته أضحوكة العقوبات الأوروبية والأميركية غير المؤثرة) إلا ان يؤكدها في 10 أيار2011 حيث صرّح لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، انه "إذا لم يكن هناك استقرار هنا (في سوريا) فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا يوجد طريقة ولا يوجد أحد ليضمن ما الذي سيحصل بعد، إذا لا سمح الله حصل أي شيء لهذا النظام".
بعد كلام "مخلوف" الخطير والذي كشف المستور للبعض وأكد المؤكد لكثرة آخرين، كان العالم العربي على موعد مع ذكرى "النكبة" و"العودة" حيث تقرر تنظيم تظاهرات في مختلف الدول العربية ولا سيما المتاخمة منها للحدود مع فلسطين المحتلة لا تقتصر فقط على فلسطينيي الشتات.
ففي 15 أيار، أحيا الفلسطينيون الذكرى الـ63 للنكبة في الداخل، كما في لبنان وسوريا، بتعبئة فاجأت اسرائيل التي ردت بإطلاق النار على آلاف المتظاهرين الذين طوقوها من ثلاث جبهات، في الضفة الغربية وغزة ومارون الراس اللبنانية ومرتفعات الجولان السورية المحتلة، مما أسفر عن مقتل 15 متظاهراً وجرح المئات. وفي ترجمة دقيقة لتصريح "مخلوف" قرر النظام السوري اللعب بالنار لكن عن حسن نية ومن باب تذكير اسرائيل أنه الحامي الأمين لحدودها واستقرارها، فغض الطرف عن تظاهرات الجولان مفسحًا المجال أمام مئات من الفلسطينيين ومؤيديهم لاختراق الحدود هناك وصولا الى قرية مجدل شمس، مما اثار ذعرًا في اسرائيل من هذه الخطوة التي تعتبر الاولى من نوعها منذ عام 1974 تاريخ توقيع اتفاق "فك الاشتباك" بين دمشق وتل أبيب.
سارعت اسرائيل الى توجيه تهديدات مفادها أنه يجب ألا يخطئ أحد من حيث تصميم الدولة العبرية "على الدفاع عن حدودها وسيادتها"، واصفة اختراق الحدود بانه "عمل خطير". واتهمت دمشق وطهران بتدبير هذه العملية لتحويل الانتباه عن الاحتجاجات التي تجري في سوريا ضد نظام الرئيس بشار الاسد، وبعثت بعدة رسائل تهديدية وتذكيرية وتنبيهية لمن يهمه الأمر ولمن يعلم أنه المعني الحقيقي بها، وذلك استعدادًا وتحسبًا لما يشاع عن تحضير مظاهرات أكثر حشدًا وفعالية في 5حزيران الموافق ليوم "النكسة".
وصلت الرسالة "البعثية" الى إسرائيل والعالم الغربي، والأهم من ذلك أنهم فهموها على حقيقتها وأدركوا على ما يبدو أن مخاطرة النظام تلك نابعة من الحالة الحرجة والدقيقة التي أدخلته بها الثورة، ومعبرة عن حسن نيتيه مع اسرائيل التي يريد أن يؤكد لها أنه يمثل الخيار الوحيد المتاح لحكم سوريا وحراسة الحدود. وقد أكد تفهم إسرائيل وأميركا للموقف السوري قول "هيلاري كلينتون" بعد خمسة أيام (في20أيار) عندما سئلت عن سبب عدم اتخاذ خطوات أشد قسوة حيال سوريا، فكانت إجابتها الفظة والمهينة بحق الشعب السوري: "لا شهية لذلك. لا يوجد إرادة. لم نر أي نوع من الضغط كالذي رأيناه يتراكم من حلفائنا الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي وجامعة الدول العربية وغيرها لنفعل مثلما فعلنا في ليبيا... نحاول أن نكون أذكياء في تقويم كل حالة على حدة"، مشيرة (في إشادة ضمنية بالرئيس السوري) إلى أن "الأسد قال الكثير من الأمور التي لم نسمعها من زعماء آخرين في المنطقة عن نوع التغييرات التي يريد رؤيتها"!!
استمر الشعب السوري في اتنفاضته وأدرك يقينًا أن عليه الاعتماد على نفسه وبذل المزيد من الدماء والنفوس على درب الحرية، فطالما أن "اللوبي الصهيوني" لا يزال متمسكًا بنظام "الأسد" لا أمل في أي تحرك أو إجراء دولي رادع. وقد نجح الشعب بفضل تصميمه وإصراره على المتابعة وعدم الاستسلام لآلة القتل البربرية التي تواجهه في إحراج المجتمع الدولي والأوربي تحديدًا، الذي لم يستطع مجاراة أميركا في تجاهلها صور المجازر والمقابر الجماعية وعمليات التعذيب والقتل والتمثيل بجثث الأطفال، فطالب باستصدار قرار رادع عن مجلس الأمن يضع حدًا لإرهاب النظام ضد شعبه، الأمر الذي دفع نظام "الأسد" نحو اتخاذ قرار الانتحار!
عشية ذكرى "النكسة" قرر أمين عام "حزب ولاية الفقيه" "حسن نصر الله" إلغاء التظاهرة التي كان يحضر لها في جنوب لبنان، وكذلك فعلت حركة "حماس"، فهم جميع المعنيين الرسائل الإسرائيلية المحذرة من اللعب بالنار في يوم "النكسة"، وتذكر الأطراف المعنيون حقيقتهم وحجمهم ووظيفتهم باستثناء النظام السوري الذي قرر اتخاذ قرار الانتحار من خلال المضي في تظاهرة الجولان التي حشد لها بضع مئات من المخيمات الفلسطينية بالتواطؤ مع الفصائل الخاضعة لسلطته، لكي تقدَّم قرابين على مذبح القضية المتاجر بها في رسالة "مخلوفية-بعثية" ثانية لا نتم عن حسن نية كسابقتها، بل اتخذت هذه المرة طابع رفع العصا ولَيّ الذراع بوضوح، وهنا كانت بداية النهاية؛ فعندما يشعر العميل بكينونته ويتجرأ على التلفظ بكلمة "لا" في وجه من صنعه، أو التفوّه أمامه بكلمة "أنا" ظنًا منه أنه يملك عصا ليهزها، أو صوتًا ليرفعه، أو أصبعًا ليهدد به ويتوعد...عندئذ وفي تلك اللحظة يكون العميل قد انتحر وكتب نهايته بيده.
ففي 5 حزيران 2011، وفي مشهد مستعاد للمواجهات التي تخللت إحياء الذكرى الـ63 للنكبة، وصلت موجات المتظاهرين -غالبيتهم من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا- الى الحدود لإحياء ذكرى مرور 44 سنة على نكسة حرب 1967. وعلى رغم التحذيرات الاسرائيلية، حاول متظاهرون سوريون ومن فلسطينيي الشتات اختراق الحدود في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، فرد عليهم الجيش الاسرائيلي بالرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع موقعا 23 قتيلا ومئات الجرحى، وقد استمرت المواجهات حتى ساعات المساء الأولى دون تدخل من الجيش السوري، ما أكّد أن هناك قرارًا سوريًا بالسماح لهم بذلك، مما يعكس استراتيجية مدروسة غايتها تحويل الأنظار عن التحركات الداخلية المعادية للنظام داخل سوريا، والأخطر من ذلك محاولة ابتزاز اسرائيل لكي تضاعف جهودها وتعمل على إحباط المساعي الأوربية الرامية الى إدانة النظام الساعي لوأد الثورة.
ألقت اسرائيل على سوريا تبعة هذه الأحداث مشددة لهجتها هذه المرة، وقائلة ان النظام في دمشق يسعى الى صرف الانظار عن الاحتجاجات القائمة في الداخل السوري. ومنذ ذلك التاريخ أخذت اللهجة الدولية حيال ممارسات النظام السوري منحى جديدًا أوحى وكأن إسرائيل رفعت الفيتو والحصانة عنه وبدأت تبحث عن بديل.
ففي تصريح أشبه بـ"ورقة النعوة"، ذهب وزير الدفاع الاسرائيلي "إيهود باراك" في 6حزيران2011 إلى حد توقع نهاية النظام السياسي في سوريا قائلاً: "أعتقد انه)الاسد) سيسقط. لقد فقد شرعيته... ربما لا يزال قادرًا على الحفاظ على استقراره ستة او تسعة أشهر أخرى، لكنه سيضعف كثيرًا... إذا توقف اليوم عن استخدام القوة سينظر إليه على أنه ضعيف وسيطاح. إذا استمر فسيكون القتل أعمق وستحدث انشقاقات في الجيش أيضًا... في رأيي إن مصيره قد تحدد". وأعلن أن "إسرائيل ستواصل الدفاع عن حدودها"، وأن "الأسد لن يتمكن من استغلال المواجهات على الحدود لتجنب تبعات حركة الاحتجاج الواسعة التي تهز سوريا".
وفي اليوم نفسه باشرت إسرائيل بمعاملات "تجهيز الميت" استعدادًا ليوم "الدفن"، فأصدر وزير خارجيتها "أفيغدور ليبرمان" تعليماته الى بعثة إسرائيل لدى الأمم المتحدة لتقديم شكوى ضد سوريا "لاستخدامها المتظاهرين في محاولة لانتهاك السيادة الاسرائيلية في المنطقة الحدودية".
أما فرنسا فقد قادت في 7 حزيران محاولة في مجلس الأمن لاتخاذ إجراء ضد الرئيس السوري "بشار الأسد". وأعلن وزير الخارجية الفرنسي "ألان جوبيه" أن الأسد "فقد شرعيته"، وحض أعضاء المجلس على التصويت "في أسرع وقت ممكن" على مشروع قرار يندد بالعنف الدامي في سوريا، قائلا إن ثمة "مجازر تتصاعد" في هذا البلد.
وفي تحول لافت طرأ على الموقف الروسي المنحاز كليًا تجاه النظام السوري، أعلن المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة "فيتالي تشوركين "أن بلاده "مستعدة للنظر" في مشروع قرار معدل، بعدما كانت موسكو ترفض حتى مناقشة الأمر باعتبار هذه الأحداث "شأنا داخليًا سوريًا". وقد طرأ هذا التعديل المفاجئ على الموقف الروسي عقب مشاورات ديبلوماسية واسعة النطاق بين عواصم الدول المعنية، وفي أروقة مجلس الأمن حيث اجتمعت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة "سوزان رايس" مع نظيرها الروسي، في محاولة لإقناع موسكو بعدم استخدام حق النقض، حتى لو كانت تريد الامتناع عن التصويت. وفي حال تذليل العقبة الروسية، يُتوقع أن تحذو الصين حذو روسيا.
وفي لندن، وتماشيًا مع الموقف الفرنسي، رأى وزير الخارجية البريطاني "وليم هيغ" أن "الرئيس السوري فقد شرعيته" وان عليه القيام بـ"إصلاحات او التنحي".
في العاشر من حزيران زاد الضغط الدولي على سوريا ولا سيما من تركيا، التي قال رئيسها "عبدالله غول"، بعد ساعات من اتهام رئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" النظام السوري بارتكاب "فظاعة"، إن بلاده تتابع عن كثب التطورات الاخيرة في سوريا و"إننا مستعدون لمواجهة أسوأ السيناريوات". كما جهدت الديبلوماسية البريطانية والفرنسية والألمانية والبرتغالية، مدعومة من الأميركيين، مجددًا لتليين المواقف المتصلبة التي تتخذها خصوصًا موسكو وبيجينغ، في محاولة لتجنب استخدامهما حق النقض في حال عرض مشروع القرار على التصويت في جلسة متوقعة لمجلس الأمن خلال أيام.
وفي تطور مهم جدًا، وافقت روسيا في ذلك اليوم على استقبال وفد من المعارضة السورية وإجراء مباحثات معه. كما ندد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بـ"المجازر في حق الابرياء" التي يرتكبها النظام السوري، معتبرا ان "شرعية" الرئيس بشار الاسد باتت موضع تساؤل".
لقد حقق الشعب السوري بإصراره على التحدي ومواصلة التظاهر انجازًا مهمًا وتقدمًا كبيرًا على طريق الحرية والكرامة، غير أن ما يجب أن ندركه لكي لا نغرق في الأحلام الوردية أن المسألة الآن بالنسبة للمجتمع الدولي باتت مسألة التوافق على بديل مناسب لأميركا ومقبول لإسرائل يتسلم الحكم بعد نظام "الأسد" المنتحر في 5 حزيران . للأسف هذا ما يجب أن يعرفه الشعب السوري وهو على ما يبدو ما حصل في مصر قبل ذلك، وهو الأمر نفسه الذي يجري التفاوض عليه مع الثوار في ليبيا، وإلا لقضي على الزعيم الليبي ونظامه وجيشه بعد أيام قليلة من اتخاذ قرار التدخل العسكري.
إن أي بديل موحى به خارجيًا لن يكون بالتأكيد بوحشية وبربرية وتخلف وعمالة النظام "البعثي" الذي يحفر اليوم قبره بنفسه في سوريا الجريحة، ولا تزال الفرصة متاحة لفرض الشعب السوري إرادته على العالم باختياره البديل الذي يراه هو مناسبًا لحكم بلاده ديموقراطيًا، بيد أن ذلك يبقى صعب المنال ما لم يقل الجيش كلمته وتتحرك حلب والشام فتنضمان الى ركب الثورة لإيصالها الى النهاية المرجوة بإسقاط النظام واسترجاع الكرامة، وإحلال الحرية في الربوع السورية.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 13/6/2011، وجريدة جدار الالكترونية
25- حكومة ربع الساعة الأخير
صدر الأمر من قصر "المتاجرين" في دمشق، أشعل الضوء الأخضر، وصلت كلمة السر الى بعبدا والضاحية وعين التينة وفردان والرابية، جرت الاتصالات اللازمة، تألفت حكومة "الانقلابيين" في لبنان في غضون سويعات أربع.
كثرت الأوصاف والتسميات التي أطلقتها قوى 14 آذار على الحكومة الجديدة التي أبصرت "الظلام" في 13 حزيران 2011، بعد نحو خمسة أشهر من جدالات بيزنطية وتناتشات حقائبية وصراعات مصلحية وطلبات كيدية بين مكونات الفريق الواحد المسمى "أكثرية"؛ ومن أبرز تلك التسميات الانتقادية: "حكومة الأسد وحزب الله"، "حكومة كلنا للأسد"، "حكومة المواجهة"، "حكومة الكيدية" ، "حكومة الانقلاب"، "حكومة جسر الشغور"، "حكومة مصالح الآخرين"، "حكومة التصادم مع المجتمع الدولي"، "الحكومة الميقاتية"، "حكومة العصر الحجري"... إلا أن أغرب التسميات وأعجبها كان انتقاد بعض أفرقاء قوى 14 آذار الحكومة الجديدة من خلال نعتها بـ"حكومة اللون الواحد"!
غريبة عجيبة أحوال السياسيين في لبنان خصوصًا عندما يضيّعون البوصلة، يقولون الشيء اليوم، ثم لا يفتأون يتبنون نقيضه غدًا، ليعودوا بعد غد الى تأييد ما تفوهوا به أمس الأول!
"حكومة اللون الواحد" المباحة لـ8آذار والمحرمة على 14 آذار، تسمية مديح لا تسمية ذم وهجاء، لأنها تمثل التطبيق الصحيح للديموقراطية الحقيقة التي تعني: "أكثرية تحكم وأقلية تعارض وتراقب وتحاسب". هذا ما كان ينادي به أفرقاء قوى 14 آذار أثناء حملتهم الانتخابية عام 2009، وهذا ما طرحوه بقوة بعد اعتذار الرئيس سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة في آب 2009 وإعادة تكليفة ثانية بأصوات أكثرية 14 آذار، وتلك كانت ردودهم على طروحات بدعة الديموقراطية المشوهة والممسوخة التي يطلق عليها فريق 8 آذار تسمية "الديموقراطية التوافقية"، والتي نادى بها بعد خسارته انتخابات 2009، فماذا تغير اليوم لكي نسمع بعض سياسيي 14 آذار ينتقد الحكومة الجديدة من خلال تعييرها بأنها "حكومة اللون الواحد"، مع العلم أنهم هم -وهو قرار صائب- من رفضوا المشاركة فيها!
إن تصويب أدق السهام وأشدها فتكًا على الحكومة الجديدة التي لا تستحق الرأفة ولا الرحمة أمر مطلوب، لكن ليس انطلاقًا من كونها "حكومة اللون الواحد"، بل انطلاقًا من ركيزتين أساسيتين:
الأولى: التذكير الدائم بأن الأكثرية التي شكلت تلك الحكومة كانت نتاجًا لعملية سطو مسلح أدت الى سرقة الأكثرية من مالكيها الأصليين، من خلال الانتشار العسكري على محور القماطية-عاليه للضغط على النائب وليد جنبلاط لإجباره ونوابه على عدم تسمية الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة من جديد، ونتيجة لانقلاب القمصان السود في شوارع بيروت.
الثانية: عملية الولادة القيصرية المعيبة التي ضربت مفاهيم الحرية والسيادة والاستقلال بإنجابها الحكومة على طريقة الوصاية السورية التي خبرها اللبنانيون ما قبل عام 2005، وما شاب تشكيلتها من اعتداء على الأعراف الميثاقية (ضرب التوازن الطائفي والمذهبي)، ومن مخالفات بروتوكولية (مشاركة رئيس مجلس النواب في اجتماع التأليف وشكره مرارًا على تضحيته لتسهيل الولادة).
ومع ذلك أحب أن أدلي بدولي في "سوق التسميات" معدداً أربعة أسماء جديدة غير مستخدمة من قبل للحكومة سيّئة الذكر:
1- "حكومة ربع الساعة الأخير": هي كذلك فعلا، فعمرها لن يتجاوز عمر مؤسسها وراعيها المتمثل بالنظام السوري الذي يعيش اليوم آخر أيامه، وذلك بعدما انتفض الشعب السوري لحريته وكرامته وصمم على إسقاط حكم "آل الأسد" البعثي من غير أن ترهبه أو تثنيه أو تفت من عضده حملات القتل والتنكيل والتعذيب والتمثيل والاغتصاب التي تشنها ضده آلة القتل الأكثر بربرية ووحشية في المنطقة، الأمر الذي جعل ذلك النظام البائد فاقدًا للشرعية بالنسبة لبعض الدول الأوربية، ومنبوذًا ومحاصرًا من معظم دول العالم بما فيها أميركا وحليفه السابق المتمثل بالكيان الغاصب.
2-"حكومة من بأسهم بينهم شديد": فضلا عما تقدّم، ومن العوامل المساهمة في انهيار "حكومة ربع الساعة الأخير" بعد أقل من ربع ساعة على انهيار وسقوط راعيها -وربما قبل ذلك-، هو أنها حكومة تجمع بين عدة أفرقاء من ذوي المآرب والأطماع والمشاريع المختلفة والمتناقضة أحيانًا كثيرة، والتي لا يستطيع جمعها والتأليف فيما بينها إلا الراعي والوصي السوري الذي يحتضر اليوم؛ فقد حفل مخاض تأليف الحكومة بالعقد والمناكفات والمشاحنات التي دارت بين أكلة الجبن من أفرقاء الأكثرية الجديدة، قبل أن يتدخل الوصي السوري لفضها.
كما شاهدنا انقسام تلك الأكثرية على بعضها وفشلها في تأمين أكثريتها لكي يسمح لها النصاب بعقد جلسة مجلس النواب غير الشرعية وغير الدستورية وغير القانونية التي دعى إليها الرئيس نبيه بري في 8 حزيران الفائت في ظل وجود حكومة مستقيلة، ذلك أن مقاطعة قوى 14 آذار وحدها لم تكن كافية لمنع اكتمال النصاب، بل حصل ذلك على أيدي كتلتين من الأكثرية نفسها، هما كتلة النائب وليد جنبلاط، وكتلة الرئيس ميقاتي وحليفيه الطرابلسيَين.
كما سمعنا واستمتعنا بالمؤتمرات الصحافية شديدة اللهجة التي عقدها على عجل وبعد أقل من ساعة على ولادة "حكومة الانقلاب" بعض سياسي 8 آذار استنكارًا واعتراضًا وعتابًا على حلفائهم لعدم إشراكهم إياهم في التشكيلة الحكومية السورية، ومن بينهم النائب طلال أرسلان، والوزير السابق عبد الرحيم مراد، وعبد الرحمن البزري.
هذا فضلا عما كشفته وثائق "ويكيليكس" من مواقف ومكنونات تؤكد أننا أمام من "بأسهم بينهم شديد" ومن "نحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى"، مثل مواقف الرئيس ميقاتي تجاه الجنرال عون("نكتة" و"شخصية مضحكة"، "لا أحد يأخذه على محمل الجد" و"هو موجود نتيجة الألعاب السياسية المتداولة في البلاد")، ومواقفه تجاه "حزب ولاية الفقيه" وسلاحه (ورم سرطاني يجب ازالته من أجل الحفاظ على لبنان). وكذلك مواقف عون من الحزب قبل مجيئه الى لبنان بصفقة كريم بقرادوني واميل اميل لحود (لم يعد من تبرير لبقاء حزب الله مسلحاً بعد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بما أن الخطر الإسرائيلي ومسألة مزارع شبعا ليسا سوى أعذار يستخدمها حزب الله)، واعتبار الجنرال كما ورد في الوثائق أن "سقوط نظام الأسد في سوريا مع احتمال وصول حكومة سنية هو القادر على تغيير كل شيء بما فيه وقف الدعم السوري لحزب الله". وتحفظات واعتراض النائب العوني ابراهيم كنعان على توريط الحزب لبنان في حرب تموز 2006، وعلى ورقة التفاهم الموقعة بين الطرفين. واعتبار الوزير محمد جواد خليفة أثناء لقائه السفير الأميركي في لبنان أن "حزب الله يريد تحويل حياتنا الى جحيم"، وأن "رئيس المجلس النيابي نبيه بري خدع حزب الله" وأنه "على خلاف مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي يظنّ نفسه أكبر من صلاح الدين، وأكبر منّا كلنا"، وهو التصريح الذي حرم خليفة منصبه الوزاري الثابت في الحكومة الجديدة. وذلك كله وفق ما نسبته "ويكيليكس" لهؤلاء مما نشرته الصحف اللبنانية.
3- "حكومة قائد ومرتزقة": فهي أشبه بجيش مؤلف من قائد له مشروعه العقائدي والشمولي الذي يشكل امتدادًا للمشروع الفارسي-الإيراني، يسخر لتحقيقه ألوية من المرتزقة التي نال كل منها الأجر الذي يغريه ويلائمه ويشفي أطماعه وشغفه في الوصول الى السلطة، والذي تراوح ما بين حقيبة دولة، وحقيبة سيادية، وعشرة مقاعد وزارية لتأكيد زعامة هشة وموهومة.
4- "حكومة رعاية الإرهاب": هي كذلك مهما حاولت صبغ بيانها الوزاري بمساحيق التجميل وتبرير سياستها وقراراتها بعبارات الحفاظ على الوحدة الوطنية والعيش المشترك واعتماد أفضل العلاقات مع الدول الشقيقة، ذلك أن أي دعم لما يسمى زورًا وبهتانا "سلاح المقاومة" الذي يتعارض مع اتفاق الطائف وقد استخدم ولا يزال يستخدم في الداخل والذي تعتبر هذه الحكومة من نتاجه، وأي مس بالمحكمة الدولية، كما أن أي معارضة لقرار دولي يدين ويعاقب النظام السوري على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها ضد شعبه، إنما يعد رعاية ودعمًا للإرهاب بعينه.
قد تكون الورقة الأخيرة التي يملكها بشار الأسد في صراعه العبثي من أجل البقاء في السلطة هي استخدام الساحة اللبنانية والحكومة التي شكلها فيها. لذا فإن المرحلة الجديدة والحساسة التي دخلها لبنان مع تشكيل "حكومة ربع الساعة الأخير" يتطلب من قوى 14 آذار التركيز على المعارضة الفعالة والمراقبة الدقيقة، مع الحفاظ على نفَس وروحية "ثورة الأرز" التي ولدت من جديد في 13 آذار الماضي، وعدم ترك الفرصة لحكومة الانقلابيين كي تعبث في ما تبقى من منجزات "ثورة الأرز"، فتسخر مؤسسات الدولة لمصلحة الدويلة وتحولها الى قطاعات مغصوبة تابعة لـ"ولاية الفقيه" وسوريا.
إن سقوط نظام الأسد سيشكل بلا شك ولا ريب كارثة استراتيجية لطهران ولتطلعاتها في المنطقة، ذلك أن دمشق تمثل بوابة النفوذ الإيراني الى العالم العربي، والتي بفضل التواطؤ معها تستطيع إيران تمويل وتسليح حليفها الثاني في المنطقة وذراعها الطويلة في لبنان. وفي وقت بدأت فيه براعم الحرية والكرامة تتحضر للتفتح في سوريا معلنة بداية الربيع السوري، من غير المقبول ولا المنطقي أن تنطفئ وتذبل أزهار ربيع "ثورة الأرز" في لبنان معلنة العودة الى خريف الوصاية المقيتة.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 18/6/2011، وموقع ليبانون ديبايت
26- وللعدالة ربيعها أيضًا
أخيرًا، وبعد طول انتظار تخلله نضال طويل عمّد بدماء شهداء أبرار دفعوا أرواحهم ثمنًا لوطن سيد مستقل حر القرار، دقت ساعة الحقيقة، وصدر القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
الثلاثون من حزيران 2011، بات يومًا تاريخيًا ومفصليًا ختم فترة زمنية دامت ست سنوات وأربعة أشهر وستة عشر يومًا مضت على جريمة العصر، لم يفوّت خلالها المجرمون أي فرصة للهروب من العدالة وإعلان الحقيقة، ابتداءً من تصفية خيرة قادة "ثورة الأرز"، مرورًا بافتعال حروب داخلية وخارجية وتوترات أمنية بالتوازي مع عرقلة إقرار المحكمة الدولية في مجلس النواب، وصولا الى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري بعدما فشلوا في انتزاع توقيعه على إهدار دم والده وسائر شهداء مسيرة الحرية والسيادة والاستقلال.
أوهموا أنفسهم ومن استطاعوا أسره من شعبهم أن بإمكانهم إجهاض المحكمة الدولية وقتل قرارها الاتهامي قبل ولادته من خلال استرهانهم لبنان بقوة الحديد والنار، وعبر التهديد بالفتنة وهز السلم الأهلي وزعزعة الاستقرار (بمواكبة إعلامية وسياسية صهيونية مريبة ولافتة)، وعبر الضغط على الرئيس سعد الحريري وابتزاز قوى 14 آذار لثنيهما عن التمسك بالمحكمة وإرغامهما على القبول بالمساومة على دماء الشهداء والتخلي عن العدالة مقابل الاستقرار، وبالتالي تكريس منطق الجريمة السياسية وتسييد شريعة الغاب في لبنان.
ظنوا أنهم يستطيعون الوقوف في وجه محكمة أنشئت بموجب قرار دولي وتحت أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ووصل استكبارهم الى حد وصفها بالمؤامرة وأنها "ستذهب أدراج الرياح"!
أوقعوا أنفسهم المذعورة في كثير من التخبطات، وشابت مرافعاتهم التضليلية جملة سقطات وعثرات، ولا سيما في صيف 2010 أثناء عرضهم مسلسلهم البوليسي ذي الخمس حلقات، الذي ابتدأ بحلقة "كاد المريب يقول خذوني" وختم بحلقة "تمخّض الجبل فولد فأرًا"، يوم حاولوا إلباس جريمة العصر للعدو الإسرائيلي، من خلال مؤتمر صحافي جمع بين الكوميديا والدراما والهزل والهراء، مستعينين بأفلام فيديو وتحقيقات وشهادات مسجلة خارجة عن السياق، ومعتمدين كما جرت العادة أسلوب الاستخفاف بالعقول واستغباء المشاهدين والقراء.
اليوم، مع صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تضمّن بدفعته الأولى أربع مذكرات توقيف صادرة في حق أمنيين لبنانيين من "حزب ولاية الفقيه"، ينتظر أن تتبعها مذكرات أخرى تشمل متهمين آخرين من لبنان وسوريا وإيران، انتقل ملف الجريمة من مرحلة الحرب بالمناظير المستندة الى التسريبات والتكهنات والفبركات والترهات والإشاعات والاتهامات السياسية...الى مرحلة الأدلة الدامغة والحجج المقنعة والبراهين القاطعة والقرائن القوية الساطعة التي لا ينفع معها التلطي خلف قناع ما يسمى "مقاومة" أو "ممانعة" كشفه رامي مخلوف، ولا اللجوء الى عقد مؤتمر صحافي جديد يناقش المحكمة في الشكل ويتعامى عن أدلتها، ولا إعادة اجترار مسلسل تلفزيوني مكرر مبني على فرضية تسييس المحكمة و"أسرَلتها"، كما لا يجدي حيالها "تكليف الشرعي" يحوّل في أعين متبعيه الأسود أبيض والأبيض أسود، والأسد حملا، والفيل طائرًا، والنملة وحشًا، والعصفور من الزواحف، والثعبان من الثدييات، والقط من الحشرات.
اليوم، دخلنا مرحلة المرافعات وغرف المحاكمات ورزم الملفات، والإعلان عن الوقائع وإبراز الأدلة والوثائق التي لا يمكن دحضها أو التشكيك في صحتها إلا من خلال مواجهتها بأدلة أخرى مضادة لا تقل عنها قوة، ذلك أن المصادقة على القرار الاتهامي تعني أن القاضي "فرانسين" مقتنع بوجود أدلة كافية ومقنعة للانتقال الى المحاكمة، فسمعة المحكمة وصدقيتها ومهنية كادرها القضائي على المحك، وكل ما سيصدر عنها خاضع لمراقبة العالم بأسره.
لا جدال في أن القرار الاتهامي ليس حكمًا بالإدانة، وأن أي متهم يعتبر بريئًا حتى تثبت إدانته في المحاكمة، لكن ذلك لا يعني أنه يمكن الفصل في هذه الجريمة وملحقاتها بين الشخص المتهم والحزب الذي ينتمي إليه كما يدعي البعض محاولا تلطيف الأجواء، فهذه أضحوكة كبرى لا قيمة لها قانونيًا ولا قضائيًا ولا منطقيًا، ولا سيما أننا أما جريمة يحتاج تنفيذها الى إمكانات دول سواء على صعيد الاستخبارات أو الاستطلاع أوالتمويل أوالتجنيد أوالتخطيط، أوالتنفيذ بعد تأمين ألفي كيلوغرام من المتفجرات!
القرار الاتهامي وما أرفق به من مذكرات جلب وتوقيف لم يفاجئ أحدًا لا من أهل السياسة ولا من عامة الناس، كما لم يُحدِث صدمة شعبية في لبنان، إلا أن سبب ذلك ليس لأن الناس لم تعد تقيم للمحكمة شأنًا بعدما صوّب عليها "حزب ولاية الفقيه" صواريخ التسييس والتخوين "ففضح أمرها" و"قوّض سمعتها" وأفرغ قرارها من مضمونه "المفبرك" كما يدعي "الحزب" اليوم، بل السبب الجوهري يكمن في أن الجهة التي دأبت طوال السنوات الماضية على محاولة تعطيل مسار العدالة وعرقلة عمل التحقيق الدولي كانت حقيقة أوّل من سرّب مضمون القرار الاتهامي موجهة أصبع الاتهام الى نفسها بنفسها، من خلال جلب الشبهات التي تؤشّر الى ضلوعها في جريمة العصر وما ارتبط بها من اغتيالات، فجاء الإعلان الرسمي عن القرار الظني بالنسبة لعموم الناس ليؤكد المؤكد ويكرر المكرر ويعلن ما سبق للمتهم أن أعلنه بنفسه.
وليس صحيحًا أن القرار الاتهامي كان في سباق مع تشكيل "حكومة رعاية الإرهاب" في لبنان وسوريا وإعدادها البيان الوزاري الذي اعتمد عبارات حمّالة أوجه للتنصل من التزامات لبنان تجاه المحكمة الدولية، بل على العكس تمامًا، كان الحزب الحاكم الذي أصر على اتهام نفسه بالتورط في تلك الجرائم هو من يسابق القرار الاتهامي ابتداء من إقدامه على إسقاط حكومة الحريري وسط معلومات عن اقتراب موعد صدور القرار، مرورًا باتخاذ قرار التأليف بعد نحو خمسة أشهر من المراوحة عندما سادت الأجواء نفسها وأصبحت أكثر تأكيدًا، وصولا الى الاتفاق على بند "النتصل" من المحكمة العالق في البيان الوزاري بعد خلاف "أكثري" صباحي ما لبث أن انتهى مساء عندما تأكد الانقلابيون أن صدور القرار بات مسألة ساعات معدودات.
إن صدور القرار الاتهامي والانتقال الى مرحلة المحاكمة إنما يعد انتصارًا لمنطق العدالة في لبنان وخطوة مهمة باتجاه وضع حد لمسلسل الاغتيالات السياسية والإفلات من العقاب الذي حكم لبنان منذ سنة 1976 حاصدًا أرواح زعماء وطنيين وسياسيين وعلماء دين وصحافيين وقادة رأي ومفكرين.
في خضم التغيّر المناخي الذي تشهده المنطقة حيث يجتاح ربيع حرية الشعوب وكرامتها خريف الأنظمة الديكتاتورية البائدة، وصل في عز الصيف ربيع العدالة وربيع الشهداء الى لبنان، الذي مع سير المحاكمات وتقدم مسارها ستتفتح أزهاره ووروده تباعًا حمراء قانية بعدما تغذت من تربة روتها دماء شهداء ماتوا ليحيا لبنان.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 3/7/2011، وموقع القوات اللبنانية في "الموقف اليوم"، وجريدة المستقبل، وموقع ليبانون ديبايت، وموقع "يا بيروت"
27- وزير الداخلية و"الخصوصيات"!
عندما يقرع مسامعنا مصطلح "الخصوصية" أو "الخصوصيات"، أول ما يتبادر الى أذهاننا وجوب احترام خصوصيات الآخرين لناحية عدم التدخل في حياتهم الشخصية، أو ربما ضرورة مراعاة خصوصيات الطابع المعماري لمدينة أو قرية ما عندما تعطى الرخص لتشييد أبنية جديدة فيها، وإذا توسعنا في الفكرة قد نفهم مراعاة خصوصيات المهاجرين فيما يتعلق بمساعدتهم على اجتياز صعوبات الاندماج والانخراط في المجتمعات التي تحتضنهم.
سياسيًا، قد نفهم من ذلك المصطلح مراعاة خصوصيات الدول لناحية عدم التدخل في شؤونها الداخلية، ومراعاة خصوصيات الشعوب والأمم في اختيار النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تراها ملائمة لحكم بلدانها، وأن علينا عندما نحصل على "فيزة" سياحة أو هجرة الى إحدى الدول مراعاة خصوصيات وعادات وتقاليد وقوانين الدولة التي تستضيفنا على أرضها...
وإذا ما سمعنا وزير داخلية يستخدم ذلك المصطلح داعيًا الى "مراعاة خصوصيات المناطق لعدم حصول أي اشكال وتحاشي حصول أي حادثة أمنية "، نعتقد للوهلة الأولى أنه يتحدث عن اللوحات الإعلانية المبتذلة التي يستخدم فيها جسد المرأة لأغراض دعائية والتي تلاقي استياء من أهالي بعض المناطق لأسباب دينية أو أخلاقية. لكن العجيب في الأمر، أن يستخدم وزير الداخلية والبلديات العميد المتقاعد مروان شربل ذلك المصطلح في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 20/7/2011 في معرض تعليقه على ما تعرض له فريق محطة "أم تي في" من اعتداءات في "لاسا" و"طريق المطار"، طالبًا من اللبنانيين مراعاة خصوصيات مناطق واقعة ضمن الأراضي اللبنانية من حيث تقييد حرية الصحافة والتصوير والتجوال ضمن نطاقها، ما يعني بعبارة أوضح تقييد واجبات الدولة في بسط سلطتها على كامل أراضيها، وتكريس منطق "الكانتونات" والتقسيم برعاية حكومة "الدويلة"!
وبما أن كلمة "مبدئيا" "الميقاتية" في "حكومة رعاية الإرهاب" قد وسّعت نطاق عملها التخريبي والانقلابي لتشمل بعد التنصل من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تقييد سلطة الدولة على كامل أراضيها، مستخدمة هذه المرة تعبير "خصوصيات المناطق" الذي يجعلها خاضعة "مبدئيا" و"اسميًا" لسلطة الدولة، فإنني حرصًا مني على حسن سير أمور الوزارة المعنية أرفع الى الوزير مروان شربل مجموعة المقترحات التالية شاكرا له سلفا رحابة صدره وحسن تجاوبه معها:
1- حبذا لو تعمل وزارة الداخلية بإشراف وزيرها الجديد على اصدار لائحة مفصلة بخصوصيات كل منطقة أو جمهورية أو دويلة واقعة على الأراضي اللبنانية "مبدئيًا"، لكي يعرف الشعب قوانين وآداب ومحظورات ومباحات كل منطقة، وما إذا كان دخوله اليها يحتاج الى تأشيرة دخول أو تصريح مسبق أو مواكبة أمنية، وتحديد هوية السلطة التي تخضع لها تلك المواكبة -إن احتيج إليها- من حيث تبعيتها لما يسمى "الدولة" أم "الدويلة".
2- عطفًا على الاقتراح الوارد في النقطة الأولى، حبذا لو يجري التعاون مع وزارة الدفاع لترسيم خارطة دقيقة تظهر عليها بوضوح حدود الجمهوريات والكنتونات الواقعة على الأراضي اللبنانية "مبدئيًا".
3- ولكي يعم النفع والفائدة وحفاظًا على وجه لبنان السياحي "مبدئيًا"، حبذا لو يتم النتسيق بين وزارتي الداخلية والسياحة لناحية تعميم "لائحة الخصوصيات" و"خارطة الدويلات" على السواح عبر المطار والمرفأ والمعابر الحدودية البرية، لكي يكون المتواجدون على الأراضي اللبنانية على علم وبصيرة بحدود وخصوصيات المناطق التي يقيمون فيها أو ينون قصدها.
4- أنصح الوزير الكريم بالمباشرة بإعداد "سجل ذهبي" يحصي إنجازات وزارة الداخلية في عهده قبل أن يتصاعد عددها فيصعب إحصاؤها أو يسقط مؤسسها فتسقط معه، وذلك بدءا من تبشير الوزير اللبنانيين والمجتمع الدولي بأن وزارته لن تتمكن من توقيف المتهمين الأربعة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من خلال إشارته غير البرئية في 1/7/2011 الى وجود "بين 15 الى 20 ألف مذكرة توقيف في لبنان لم نتمكن من تنفيذها لأننا عاجزون عن إيجاد أصحابها الذين قد يموتون أو يسافرون ولا نعرف بهم"، مرورًا بالمجريات المشينة والمهينة في حق الدولة اللبنانية التي رافقت إطلاق الأستونيين السبعة الذي تم بعيدًا عن علم وأنظار الدولة التي تركت المهمة لأجهزة الاستخبارات الأوربية، ثم نسبة "حكومة رعاية الإرهاب" ذلك الانتصار والانجاز الوهمي لها ورفضها التصريح عن هوية الخاطفين...وصولا الى الكارثة الكبرى التي تمثلت بالاعلان الرسمي عن قيام "الدويلة" من خلال تسليم الوزير بوجود خصوصيات لكل منطقة ودعوته الى مراعاتها.
5- أخيرًا، أتمنى على الوزير مروان شربل المبادرة فورًا الى تعديل اسم وزارته من "وزارة الداخلية والبلديات" الى "وزارة الداخلية والخصوصيات".
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر23/7/2011، وموقع ليبانون ديبايت
28- مراسلة بين متطرف ومعتدل
يبدو أن بعض شركائنا في وطننا الحبيب لبنان لم يتمكنوا بعد من الخروج من أجواء الحرب الأهلية والتخلص من تركتها الثقيلة رغم مرور 22عاما على انتهائها، فهم في خطابهم اليومي وسلوكهم الاجتماعي لا يزالون أسرى مشاعر الحقد والخوف والكراهية التي أفسدت على اللبنانين حياتهم في تلك الفترة الحمراء والسوداء من تاريخ لبنان الحديث، والتي حاول النظام السوري البائد استثمارها وتغذيتها لإحكام قبضته على لبنان،وهي المشاعر نفسها التي تتهدد السلم الأهلي والعيش المشترك اليوم وكل يوم.
هذه المعلومة ليست جديدة بالنسبة لكثيرين من بينهم كاتب هذه الكلمات بالتأكيد، ولكنها برزت بشكل لافت في تلك المراسلة التي أحببتُ نقلها الى الرأي العام لكونها تعكس بشكل جريء وصريح وصادق منطقين متضادين يحكمان اللبنانيين في حياتهم اليومية ومحادثاتهم الخاصة والعامة.
بدأت الحكاية مع ارسال شخص يدعى "معتدل الانفتاحي" رسالة عبر البريد الالكتروني الى صديقه "متطرف الانعزالي" يدعوه فيها الى دعم تلفزيون "القوات اللبنانية" الذي باشر بثه مؤخرا على شبكة الانترنت، فما كان من "متطرف" الا أن أرسل الى صديقه "معتدل" الرسالة التالية:
(حفظكم الله وتقبّل الله منكم أعمال "الخير"... أخي العزيز "معتدل" هلاّ أرسلت إلي خارطة البرامج التي تستحق إنفاق الأموال لأجلها. وهل حقًا هنالك برامج تدعوا الى الله يقدمها تلفزيون القوات اللبنانية لكي ننفق أموالنا فيها؟!
ما رأيك أن ندعم أيضاً القناة الصهيونية الأولى والثانية مع دعمنا لقناة القوات اللبنانية الأصولية والعنصرية لكونهما لا يختلفان عن بعضهما، فهذه تنطق بالعربية وتلك بالعبرية والهدف واحد؟! وغدًا بعد زوال سلطة حزب إيران سيعود "الحكيم" إلى سابق عهده لدعم المارونية السياسية والضحيَّة في هذا الصراع كله هي نحن الضائعون بين الجهال والمتآمرين.
أخي الكريم "معتدل"، أدعوك الى مراجعة حساباتك جيدا والتفكر مليًا فيما أقوله لك، فما يظهر لي أنك على خطر عظيم وضلال بعيد.
صديقك "متطرف الانعزالي")
قرأ "معتدل" رسالة صديقه "متطرف" بشكل دقيق وامتلأ قلبه حسرة وأسفًا على صديقه الذي يمثل شريحة لا بد لأحدنا الا أن يكون قد احتك بها واصطدم بـ"منطقها" في محيطه الاجتماعي، فأمسك "معتدل" بلوحة مفاتيح حاسوبه وكتب لصديقه "متطرف" الرد التالي.
(أخي وعزيزي وصديقي "متطرف الانعزالي" المحترم،
بعد التحية والسلام وتقديم فائق الاحترام، وقبل الاجابة على على سؤالك الأول الوجيه وما تبعه من أسئلة استنكارية تهكّمية، يهمني مصارحتك بأني انطلاقا من الأخوة والصداقة التي بيننا والشراكة الوطنية التي تجمعنا لا أرضى لك الانحطاط بحال من الأحوال الى الخطاب التخويني والخشبي والدعائي الذي نسمعه كل يوم من محور ما يسمى "المقاومة والممانعة" الآيل الى زوال، لذا أغتنم هذا المقام لكي أدعوك الى التنبه والحرص على أن لا تكون من ورَثة خطابهم في كيل تهم العمالة والخيانة الى كل من يخالفك في الرأي أو النظرة السياسية الى الأمور، فليكن صدرك رحبًا في تقبل الآخر والتخلّق مع شركائك في الوطن بالآداب والتعاليم السمحة والراقية التي نص عليها دينك.
ومع ذلك صديقي "متطرف" يعجبني فيك قدرتك الخارقة على كشف المستور، ولا سيما معرفة النوايا المبيتة وما يدور في صدور الآخرين وما تكنه نفوسهم وخصوصا "القوات اللبنانية"، لكنني أحتار أحيانا وأتساءل: هل تلك القدرة الخارقة التي تتمتع بها تقتصر على القوات ومسيحيي 14 آذار فقط، أم أنها تنسحب أيضا على إيران وحزبها في لبنان والحركات التي تدعمها في العالم لتوسيع نفوذها وتصدير ثورتها وشق الصفَّين العربي والاسلامي وزيادتهما تشرذما وخلافا؟!
لا داعي الى التوتر والشروع في صوغ اجابة على هذا السؤال، فإنا أعلم أنك لم تعد من أنصار ذلك المحور بعدما افتضح أمره وبانت حقيقته بفضل "ثورة الحرية والكرامة" التي فجرها الشعب السوري في وجه من حكمه وأذله ما يزيد على أربعة عقود بالجزمة العسكرية، ولكن يبدو عزيزي "متطرف" أن "أدبيات" ذلك المحور لا تزال عالقة في ذهنك، تتحكم بطريقة تعاطيك مع المستجدات وتعاملك مع الآخرين، ولذلك يهمني إنعاش ذاكرتك وفكرك وضميرك بالمعلومات التالية:
أنت وأبناء طائفتك لا تعيشون في لبنان وحدكم، بل نحن في مجتمع تعددي متنوع فيه من اتباع الأديان كافة، وهؤلاء الناس على تنوع انتماءاتهم الدينية قد أقمنا معهم معاهدة أواخر عام 1989 هي "اتفاق الطائف" الذي طوينا بموجبه صفحة الحرب الأهلية، ثم جددنا العهد معهم عام 2005 بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واتفقنا لا بل أقسمنا على أن نبقى موحدين ومتعايشين بأمن وسلام واحترام فيما بيننا، وبالتالي يجب علينا دينيا وأخلاقيا الوفاء بالعهد والبر بالقسم والتخلق مع شركائنا في الوطن بالآداب والأحكام التي حض عليها الدين طالما أنهم لم ينقضوا العهد الذي بيننا.
هذه قناعتي التي لا أرى فيها تعارضًا مع الشرع والدين والعرف، انما أجدها نابعة من روحية الدين الذي يجمعنا ونعتز به ومنسجمة مع احكامه، فلست من أنصار الانغلاق على الذات والتقوقع في المناطق ذات اللون الطائفي الواحد، بل ادعو الى الانفتاح على الآخر ومخالطته وشد أواصر النسيج الاجتماعي الوطني وتقويته وتمتينه.
وللأمانة أذكرك أن الطرف الوحيد الذي رفع السلاح على شركائه في الوطن بعد اتفاق الطائف موجهًا السلاح الى صدور اللبنانيين ثم أعاد الكرة بعد "اتفاق الدوحة" ضاربا بالتزاماته وبحرمات وكرامات الآخرين عرض الحائط إنما هو "حزب ولاية الفقيه" وملحقاته لا "القوات اللبنانية" الذين صببت عليهم حقدك وجام غضبك في الرسالة التي وجهتها إلي.
وبالانتقال الى الرد على سؤالك الوجيه الذي تستفسر فيه عن خارطة البرامج التي تدعو الى الله والتي تستحق ان تنفق المال عليها، أقول لك صديقي "متطرف":
ان تلفزيون القوات اللبنانية ليس قناة دينية دعوية بل قناة سياسية واخبارية، وديننا كما تعلم لم يحرّم تقديم المال الى من لا ينتمي إليه -طبعا اذا كان يريد الافادة منه فيما لا يغضب الله وفيما لا يضر بنا-، ثم إن البرامج التي تدعو الى الله ليست وحدها التي تستحق الدعم، فما يستحق الدعم أيضا هو كل برنامج هادف توعوي مفيد، حتى ولو كان ترفيهيا طبعا ضمن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وتلفزيون القوات اللبنانية وكذلك موقعهم الإلكتروني يعرض برامج سياسية وتحقيات إخبارية هي في نظري تستحق الدعم، ولا سيما تلك المتعلقة بكشف مخططات "حزب ولاية الفقيه" في لبنان والأساليب التي يعتمدها في وضع يده على الدولة وقضم سيادتها وحريتها واستقلالها بشكل متدرج وممنهج، وهم يخصصون برامج خاصة لرصد تلك الأعمال والممارسات والإضاءة عليها بشكل صريح ودقيق وجريء لم أجده عند أي من بقية المحطات اللبنانية بما فيها تلك المحسوبة علينا، هذا فضلا عن كون خطاب القوات السياسي لا يسيء الى اتباع الديانات الأخرى، لا بل يحرص على فتح وتوطيد أحسن العلاقات معهم التزاما بالعهود ومواثيق الشراكة الوطنية...
هذا على الأقل في الظاهر، لأنني صراحة لا أتمتع بموهبتك صديقي"متطرف" في قراءة النوايا وما يحاك في الصدور، ولكن هذا لا يمنعني من دراسة جيمع التعامل بحكمة ودراية مع الآخرين، بل ذلك أمر مطلوب بلا شك...وتذكر دائما أننا إذا كنا تختلف في العقيدة الدينية مع شركائنا في الوطن بنسبة 90بالمئة، فلا شك اننا نتفق بالنسبة ذاتها فيما عليه مدار التعامل ألا وهو القيم الأخلاقية، فما الذي يمنعنا من ان نتنافس على جميل الصفات ومكارم الأخلاق بحيث يكون كل واحد منا الصورة الجميلةَ الحقيقيةَ لدينه وتعاليمه وسماحته في تعامله مع الآخر، فلا يقبل بأذيته، ولا يرضى بظلمه، فلا يستقوي عليه ولا يهدده ولا يتوعده ولا يوجه سلاحه الى صدره، ولا يستولي على أراضيه وممتلكاته، ولا يخوّنه ولا يغدر بِه...
عزيزي "متطرف"، يخطئ من يتعامل مع "القوات اللبنانية" اليوم بمنطق الماضي، والقاعدة دوماً: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر، وخير الخطائين التوابون. لقد أخطأ الجميع في أيام الحرب الطويلة، ومع ذلك خرجوا منها بعد اتفاق الطائف بسجلات بيضاء ناصعة مكتوب عليها "لا حكم عليه"، باستثناء قائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الذي رفض الخضوع للهيمنة السورية التي فوضت أميركيًا بتطبيق الطائف على مزاجها، فكان الوحيد الذي حوكم وسُجن تحت الارض في وزارة الدفاع مدة 11 سنة، في ملفات سياسية مليئة بالتلفيقات، فيما كان شركاؤه في الحرب يتنعمون بخيرات وامتيازات سلطة ما بعد الطائف. ثم بعد خروجه من المعتقل، كان الحكيم القائد الوحيد الذي امتلك الجرأة على الاعتراف بأخطاء ارتُكبت في الحرب، وقدّم اعتذارا عميقا عن كل جرح او أذِيّة صدرت من جانبه، طالبا السماح والتعالي والمحبة...
في اعتقادي أخي "متطرف" أن علينا أن نكون صادقين في تعاملنا مع الآخرين من شركائنا في الوطن وأن لا نعتمد معهم أسلوب التكاذب المتبادل أو سياسة الوجهين، لا بل أن نريهم ديننا وأخلاقنا على حقيقتهما الناصعة تبديدا للمعلومات المشوهة التي قد تكون عالقة ومدسوسة في أذهانهم، وبالتالي فإما ان نكون طوينا صفحة الحرب وقبلنا بالاتفاق الذي أوقفها بما يترتب عليه من التزامات متبادلة تجاه بعضنا البعض، وأما أن نكون من رافضيه ومن أسرى الحقد الدفين والكراهية العمياء الذين ما عليهم إلا رفع السلاح مجددا واستكمال جولات الحرب العبثية.
ذلك هو رأيي الذي إن شاطرتني إياه فبها ونعمت، أما إن اختلفت معي في نظرتي الى الامور فهو حقك الذي احترمه، لكن ما أتمناه على كل من خالفني في هذا الموضوع ان لا يكون خطابه في المجتمع عامل فرقة وافساد للإنجاز التاريخي الذي تحقق في 14 آذار 2005، يوم وضع المسلمون أيديهم بأيدي المسيحيين وأنشدوا قسمهم الشهير بعد سنوات عجاف طوال، سادتها أجواء التخويف والترهيب والتحريض التي كان يبثها النظام السوري لمنع الوحدة بين أبناء الطائفتين والوطن الواحد، والتي عندما تحققت صنعت الأعاجيب ودحرت ذلك الاحتلال الأسود من لبنان.
صديقك "معتدل الانفتاحي").
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 3/8/2011
29- هكذا ستنهار 8 آذار
بات من نافلة القول ان الشرق الأوسط بعد عاصفة الثورات الشعبية التي اجتاحته ولا تزال تعصف في بعض أنحائه وربما تتحضر للهبوب على مناطق أخرى منه، مقبل على خارطة توازنات وتحالفات سياسية جديدة (وربما جغرافية) سواء على الصعيد الدولي الإقليمي أو الداخلي الخاص بكل دولة "طار" حاكمها وسقط نظامه، أو لا يزال يترنح محاولا عبثًا الصمود في وجه العاصفة الجماهيرية التي تأبى أن تهدأ حتى تقتلعه عن بكرة أبيه.
ثمة مؤشرات قوية على تحضير تركيا لقيادة المنطقة من خلال نقل "نموذجها الديموقراطي" الى الدول العربية الباحثة عن ربيعها... لن نتوسع في هذا الموضوع الذي يستحق أن نفرد له مقالا خاصًا، فما يهمنا الإضاءة عليه في هذه السطور هو كيفية انعكاس الربيع السوري على الوضع اللبناني الداخلي.
فبعدما كان (فعل ماض ناقص) النظام السوري يمثل في آن واحد ركيزة أساسية في المشروع الإيراني الفتنوي التوسعي، وجزءا استراتيجيًا من الأمن القومي الإسرائيلي، ها هو اليوم يهوي ويعيش لحظاته الأخيرة بعدما انتفض عليه الشعب السوري من أجل استرجاع حريته وكرامته متحديًا آلة القتل الأكثر بربرية ووحشية في العالم، فإذا بهذا الشعب البطل يحرج العالم ويجبر السياسة الصهيو-أميركية على التخلي عن حليفها "بشار الأسد" بعد شهرين وعشرين يومًا من التظاهرات التي انطلقت في 15/3/2011، وذلك تحديدًا بعدما فقد "الأسد" أعصابه على وقع التصعيد الجماهيري فحرك "جبهة" الجولان المحتل في 5 حزيران 2011 برشقات من الحجارة رافقها قطع للشريط الحدودي الشائك في خطوة انتحارية لتذكير اسرائيل أنه حامي حدودها الوفي، ما كان كفيلا بتخلي حليفه الإسرائيلي عنه وتصاعد حدة اللهجة الأميركية حياله بانتظار نضوج الأجواء لعبارة "ارحل" "الأوبامية" الشهيرة، والتي لا تقال إلا مرة واحدة.
في هذه الأثناء، بدأت أنظار وأفكار اللبنانيين على تنوع انتماءاتهم وثقافاتهم تتجه نحو استشراف انعكاسات التغيير القادم في سوريا على الساحة اللبنانية السياسية والأمنية الداخلية، خصوصًا بعدما بات من المؤكد أن النظام قد أفضى الى "حركة مذبوح" وأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وليس أدل على ذلك من التبدل الذي طرأ على الموقف الروسي، الحليف العنيد لنظام "الأسد".
فغداة تأييد "موسكو" بيان مجلس الأمن الذي ندد بالحملة التي تشنها "دمشق" على المحتجين في 3/8/2011، برز في اليوم التالي موقف لافت جديد للرئيس الروسي "دميتري ميدفيديف" حذر فيه الرئيس السوري "بشار الاسد" من"مصير حزين ينتظره" اذا لم يطبق اصلاحات، بينما رأى البيت الأبيض أن الرئيس السوري "في طريقه الى خارج السلطة".
وفي تحليل أو قراءة خاصة لكاتب هذا المقال حول انعكاسات سقوط "الأسد" على الوضع اللبناني، يمكن تسجيل الاستنتاجات والنقاط التالية:
أولا- على الصعيد الأمني: يمكن القول انه بعد تشكيل "حكومة رعاية الإرهاب" الميقاتية، لم تعد حسابات حقل نظام "الأسد" البائد تتطابق مع حسابات بيدر "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، بمعنى أن الحزب المسيطر على تلك الحكومة البائسة لن يستجيب هذه المرة الى رغبة النظام السوري إذا ما أراد استخدام الساحة اللبنانية أمنيًا كورقة أخيرة في ضغطه المضاد على المجتمع الدولي، ذلك أن الحزب الإيراني الذي دأب في السنوات الست الماضية على توتير وزعزعة الأمن الداخلي في لبنان إنما كان يقوم بذلك بشكل منظم ومدروس في وجه الحكومات المحسوبة على قوى 14 آذار، أما اليوم فمن الحماقة بمكان أن يقوم بتوتير الساحة الداخلية في وجه حكومته، خصوصًا وأن الشارع اللبناني في حالة احتقان نتيجة لعملية السطو على السلطة التي قام بها الحزب فضلا عن تورط عناصر منه في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبالتالي فإنه يدرك جيدا أن أي توتير أمني قد يفتعله بطلب سوري يعلم جيدا أين وكيف يبتدئ، لكنه لا يعلم بالتأكيد كيف وأين سينتهي.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن "حزب ولاية الفقيه" بات متأكدًا من زوال نظام حليفه "بشار الأسد" وإن اعتمد أسلوب المكابرة في خطابه، ولعل التقارير التي تتحدث عن نقل الحزب ترسانته العسكرية المخزنة في الأراضي السورية الى مخازنه في لبنان، مؤشر واضح على مانقول.
ثانيا- على الصعيد السياسي: يمكن التحدث عن ضربة قاسمة ستصيب قوى 8 آذار بسقوط النظام السوري، وهي ضربة ستفضي بالتأكيد الى سقوط مماثل لـ "حكومة رعاية الإرهاب" أو "حكومة ربع الساعة الأخير" التي شكلها في لبنان.
ففي لبنان فريقان سياسيان أساسيان هما 14 و8 آذار، الأول ربط نفسه ووجوده بلبنان الدولة رافعًا شعار "لبنان أولا" فهو باق ببقاء الدولة، أما الثاني فقد ربط نفسه عضويًا ووجوديًا منذ لحظة تأسيسه بالنظام السوري، وذلك عندما رفع شعار "شكرا سوريا" في تظاهرة 8 آذار 2005، ما يعني أنه زائل بزوال ذلك النظام.
أضف أن قوى 8 آذار مؤلّفة من مكونات متنافرة ومتناقضة في المشروع السياسي والعقائدي والقومي، لا يمكن جمعها في بوتقة واحدة إلا بواسطة الـ"كاتاليزور" أي المادة المحفزة كيميائيًا والمتمثلة بالنظام السوري، لكونه القاسم الوحيد المشترك فيما بينها؛ فهو من أنشأ بعضها وساعد على "تفريخ" بعضها الآخر، وهو من رعاها وخبر تركيبتها وكيفية توزيع حصص الجبنة عليها بما يرضي نهمها وشغفها وشهوتها...
فهذا لديه شبق بالسلطة وبالرئاسة الأولى وبتزعم طائفته، فيعده السوري بالرئاسة ويغدق عليه المناصب الوزارية وينصبه بطريركا على مسيحيي المشرق انطلاقا من "براد". وذاك يطمح الى "مجد سياسي" وعينه على الرئاسة الثالثة التي ينافق ويخادع منتظرًا شاغلها على "الكوع"، فيعيّنه السوري في ذلك المنصب بعد الاطاحة بصاحب الحق فيه. وآخر يشفي غليله ويحفظ ماء وجهه تطويب وتأبيد منصب الرئاسة الثانية باسمه وحركته بعدما تعرض لمصادرة شعبيته وقوته العسكرية ونفوذه السياسي من قبل حزب إقليمي احتكر تمثيل طائفته على جميع الصعد. والأخير الذي يقتات وينام ويعيش على السلاح، يهمه بدوره توسيع نفوذه وقبضته على الدولة اللبنانية بكافة مفاصلها لإخضاعها الى مشروعه العقائدي الذي لا أمل بتحققه إلا عن طريق غلبة السلاح، وبالتالي يمكن كسب وده سوريًا عن طريق تخصيص الأراضي السورية لنقل وتخزين سلاحه الأسود الذي ينتحل صفة "المقاومة" فيما وجهته الحقيقية الداخل اللبناني وصدور اللبنانيين.
وإذا كان الوضع بين هذه المكونات على هذا التعقيد والتنافر (راجع طعنهم في بعضهم بعضا في وثائق ويكيليكس)، فمن المرجح أن يترتب على زوال المادة "البعثية" المحفزة كيميائيًا النتائج التالية:
1- "حزب ولاية الفقيه": سقوط النظام السوري سيحرمه من امتداده الإقليمي وعمقه الاستراتيجي المتمثل بإيران، ولا سيما من ناحية المال الطاهر والسلاح الغادر، ما سينعكس تضعضعًا في قدرته على الإمساك بالساحة اللبنانية وبالطائفة التي يحتكر تمثيلها. ومن شأن هذا التضعضع أن يُخرج الى العلن صراع الأجنحة الداخلي المكتوم داخل الحزب نفسه، والذي يشكل امتدادا طبيعيا للصراع الحاصل في بلد المنشأ إيران بين "الولي الفقيه" وفريق "أحمدي نجاد"، هذا فضلا عن اعتراضات داخلية على أداء القيادة الحزبية في عدد من المواضيع، وفي طليعتها قضية الفساد الداخلي وعلى أعلى المستويات الحزبية... وإذا كان هذا الصراع مضبوطا حتى الآن بفضل تدخلات سورية إيرانية وبسبب شخصية "حسن نصر الله" القوية القادرة على احتواء الخلاف، فمن الصعوبة بمكان بعد السقوط المدوي المرتقب أن يبقى الجمر مختبئًا تحت الرماد. ونتيجة لذلك كله، سيرفع "الفيتو" الإحتكاري تلقائيا، ما سيتيح حرية ولادة أحزاب جديدة من رحم الطائفة الشيعية (وربما الحزب نفسه) تزاحِم الثنائي الشيعي.
2- "حركة أمل": بعد سقوط النظام السوري سيحاول الرئيس "نبيه بري" الخروج من عباءة أمين عام "حزب ولاية الفقيه" "حسن نصر الله" بعدما أجبر سوريًا على التعايش معها والانضواء تحتها، فخضع سياسيًا وأمنيا لسطوة الحزب الذي قضم شيئا فشيئا شعبية "أمل" وسيطر بالمال الطاهر والمؤسسات الاجتماعية و"الخيرية" والتعليمية على معظم الساحة الشيعية.
تحرُّر "بري" قد يبدأ بالتمايز في الخطاب السياسي عن الحزب "المتضعضع"، كأن يقترب مثلا من توجهات قوى 14 آذار ربما طمعًا في ولاية جديدة بعد انتخابات 2013 تبقيه في سدة الرئاسة الثانية، لكن من المؤكد أن دافعه الأول هو الرغبة في التخلص من أسر "الحزب" واستعادة حجمه وحجم حركته التي ابتلعها الحزب بدعم من سوريا وإيران وصادر قرارها وأنقص شعبيتها. ومع ذلك، ثمة احتمال لا يمكن تجاهله، وهو أن تفضي محاولة التحرر تلك الى حساسيات بين الثنائي الشيعي قد تجد ترجمتها في نزاع أمني مسلح بينهما، فالماضي الدموي بين الطرفين كما الاشتباكات التي تندلع بينهما بين الحين والآخر والتي زادت وتيرتها وحدتها مؤخرًا في "عديسة" و"المصيطبة-حي اللجا"، أمر لا يبشر بالخير.
3- "الحزب التقدمي الاشتركي": إن المتتبع لمواقف النائب "وليد جنبلاط" خصوصأ في الشهرين الأخيرين يستنتج أن الزعيم الدرزي قطع أشواطا متقدمة في مراجعة حساباته السياسية والشعبية لناحية تموضعه السياسي بعد سقوط النظام السوري وضعف "حزب ولاية الفقيه"، وكأنه يمهد الطريق لانعطافة جديدة نحو استقلالية تامة أو عودة الى صفوف 14 آذار لاعتبارات كثيرة أهمها انتخابات 2013 التي لا بد لنجاحه فيها من التحالف مع "تيار المستقبل" ومسيحيي 14آذار.
ولعل خير شاهد على ذلك مواقفه بعد زيارته الأخيرة الى "موسكو" ووصفه من هناك ما يحدث في سوريا بـ"الثورة الحقيقية"، ومن ثم إلغاء موقفه الأسبوعي لجريدة الأنباء في (1/8/2011) "لأنّ الزمن"، كما أوضحت مفوضية الإعلام في "الحزب الاشتراكي"، هو "زمنُ التضامن ولَو المَعنوي مع الشعوب المقهورة". أضف الى ذلك التقارب الحاصل بين "جنبلاط" والرئيس "أمين الجميل" والزيارات المتبادلة بينهما، وما سبقها من اتصال هاتفي بالرئيس سعد الحريري وصفه جنبلاط بـ"العاطفي جدًا"... ولا شك أنها لقاءات واتصالات وتحركات تصب في كَسر التباعُد الذي وقع بين الزعيم الدرزي ومكونات 14 آذار، خصوصًا بعد مساهمته في إسقاط الحكومة وترجيح كفة 8 على 14 آذار وتأمين الأصوات اللازمة لتكليف الرئيس "نجيب ميقاتي".
ومع ذلك كله تبقى الجملة الأكثر تعبيرًا عما يدور في نفس "جنبلاط" قوله في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 11/7/2011:"أجلس على ضفة النهر وأنتظر، ولا بد أن يوما ما تمر جثة عدوي من أمامي"، فهي تعبر في الواقع عن قناعاته الحقيقية في مجريات الساحة اللبنانية في السابق وما يتمنى أن يحصل في المستقبل.
4- "التيار الوطني الحر": إن ما يجمع بين الجنرال "ميشال عون" و"حزب ولاية الفقيه" ليس بالتأكيد "ورقة تفاهم"، بل "ورقة مصالح وإشباع رغبات"؛ فالجنرال صاحب شبق سلطوي رئاسي وهو يخوض منذ الثمانينات معركة "كسر عظم" مع مختلف الأحزاب المسيحية وخصوصا "القوات اللبنانية" طمعًا في فرض نفسه زعيمًا أوحدًا على الطائفة. كما أن القاعدة الشعبية للجنرال في تناقص مستمر بشهادة صناديق الاقتراع، خصوصا أنها لا تجد أي جامع عقائدي ولا وطني ولا حتى على صعيد المشروع السياسي يجعلها تتحالف مع الحزب الإيراني، إلا أن الجنرال ضحى بذلك كله مقابل وعد كاذب بالرئاسة وحفنة من المناصب الوزارية والنيابية و"كنفشات" و"نفخات" سياسية قدمها له النظام السوري والحزب الإيراني مقابل رعايته المصالح السورية في شق فريق 14 آذار وإعطائه غطاء مسيحيًا يلطف صبغة الحزب الطائفية والفئوية الفاقعة في مشروعه للسيطرة على لبنان وتغيير وجهه.
وإذا كانت المعادلة على هذا النحو، فإن سقوط النظام السوري وضعف "حزب ولاية الفقيه" وما سيستتبعه من تغيير في الخارطة السياسية في لبنان، سيطال بالتأكيد "التيار الوطني الحر"، على الأقل حفاظا على ما تبقى من شعبية الجنرال بعدما انكشفت فرية "استرجاع حقوق المسيحيين" التي رفع لواءها منذ عودته من المنفى.
5- فيما يتعلق بمختلف الشخصيات والأحزاب والجمعيات الكثيرة الدائرة في الفلك السوري والإيراني، لا شك أنها بعد سقوط نظام "بشار الأسد" ستصاب باليتم والتشرد السياسي، وفي مقدمها: "حزب البعث العربي الإشتراكي" متعدد الأجنحة والانقسامات، و"الحزب السوري القومي الاجتماعي". كما أن الخلافات الحادة بين الأطراف السياسية الدرزية ستفقد ضابط إيقاعها، وبالتالي يمكن أن يحتدم الخلاف بين النائب "طلال إرسلان" رئيس "الحزب الديموقراطي" والنائب السابق "وئام وهاب" وكذلك النائب "وليد جنبلاط" الذي سيكون الرابح الأكبر من هذا التشرذم. ويشار أيضا الى احتمال انفراط عقد التاحلف بين "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية" و"حزب ولاية الفقيه"، والكل يذكر كيف تم استدعاء قياديي الطرفين الى سوريا عقب "حرب برج أبي حيدر" التي دارت بينهما في آب 2010، لابرام المصالحة بينهما برعاية سورية وتأكيد "الأحباش" على دعم خط ما يسمى "المقاومة".
باختصار، قد تكون الفترة الأولى التي ستعقب سقوط النظام السوري صعبة على الداخل اللبناني، لكن من المؤكد أن فريق 8 آذار مقبل على انهيار دراماتيكي سيزعزع أركانه ويجعل بنيته السياسية أثرا بعد عين. ويبقى الامتحان في بقاء فريق 14 آذار موحدًا بعد تفكك وتشرذم خصمه السياسي، تأكيدًا على مبدأ "لبنان أولا" واستكمالا لمسيرة الحرية والسيادة والاستقلال التي ستمضي بخطى سريعة نحو تحقيق مرادها بعد سقوط النظام السوري وتفرق حلفائه من أصحاب مشروع الدويلة. ذلك، على أمل أن تثبت انتخابات 2013 أن المستقبل للبنان الحر والسيد والمستقل، والوحدة الوطنية والعيش المشترك، فالربيع لن يزهر في لبنان قبل أن يزهر أولا في سوريا، والمال الحرام لا يدوم، ولا بد للحق أن يعود لأصحابه مهما طال الزمن.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 7/8/2011، وموقع ليبانون ديبايت
30- رؤوس أقلام لوزير الإعلام
يومًا بعد يوم وحدثًا بعد حدث، تؤكد لنا حكومة 8 آذار الميقاتية أنها جديرة بتسمية "حكومة رعاية الارهاب" في لبنان وسوريا.
فمن تغطيتها السلاح الميليشيوي في بيانها الوزاري تحت شعار ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، الى تسترها عن إعلان هوية خاطفي الأستونيين السعبة وتخليها عن ملاحقة ومتابعة ملفهم أمنيًا تاركة تلك المهام للاستخبارات الأوربية، الى تقاعسها عن تعقب المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتسليمهم الى العدالة، مرورًا بما أتحفنا به "وزير الداخلية والخصوصيات" من ضرورة "مراعاة خصوصيات بعض المناطق تفاديًا لحصول إشكالات أمنية"، وبفضحية "النأي بالنفس" في جلسة مجلس الأمن حيث خرجت الحكومة عن الإجماع الدولي في إدانة الجرائم المنظمة التي يقوم بها النظام السوري ضد شعبه بأطفاله ونسائه وشبابه وشيوخه...، ثم تعمدها إخفاء الحقائق عن الرأي العام اللبناني من خلال تسخيف الوقائع وتحويرها كما حصل في انفجار "الرويس" في الضاحية الجنوبية بكلام على انفجار قاروة غاز، وأخيرًا وليس آخرًا عزوها في 11/8/2011 انفجار العبوة المحشوة بالكرات الحديدية بواضعيها الإرهابيين في "أنطلياس" الى خلاف فردي على خلفية مالية.
هذه المواقف والأفعال تدعو بلا شك ولا ريب الى شجب وإدانة من الشعب اللبناني، إلا أنها بالتأكيد لا تدعو الى التعجب والاستغراب؛ فـ"حكومة رعاية الإرهاب" الميقاتية إنما تبنت في كل مواقفها وأفعالها المشينة آنفة الذكر، تبنت تعليمات وروايات قائدها الحقيقي "حزب ولاية الفقيه"، ولا ينتظر ممن "مجّد" سفك دماء الأبرياء وروّع الأطفال وقتل بعضهم وأطلق النار على الجنائز في حوادث 7 و11 أيار الإرهابية عام 2008... لا ينتظر ولا يعقل منه أن يوافق على إدانة جرائم "نظام الأسد" في سوريا. كما لا يمكن لهذا الحزب أن يقبل بالكشف عن حقيقة تفجير قام به عناصر محسوبة عليه، ولا بدخول الأجهزة الأمنية الى عقر دار دويلته للتحقيق في حادث أمني وقع فيها، حتى ولو كانت تلك الأجهزة خاضعة لوصاية وزير عيّنه الحزب نفسه، فمنطق الدولة بالنسبة لأنصار الدويلة مرفوض مرفوض مرفوض.
تلك كانت مقدمة لا بد منها لهذا المقال، فهي "أضعف الإيمان" حيال ممارسات تلك الحكومة الفاشلة بشتى المعايير، فلا شيء فيها يراعي اللياقات ويحترم الأصول! ففضلا عن كونها حكومة انقلاب عسكري تجلبب برداء الديموقراطية، تفوح منها روائح الشغف بالوصول الى السلطة سواء لناحية توزير عدد لا بأس به من الراسبين في الإنتخابات النيابية، أو لجهة توزير الأصهار والأقرباء، كل ذلك تعويضًا عن عجزهم في كسب ثقة الناس عبر صناديق الاقتراع، فكان أن فرضوا على الشعب في منصب الوزارة من سبق أن رفضه في منصب النيابة!!
وبعد فضيحة "وزير الداخلية والخصوصيات" على خلفية موقفه من الاعتداء الذي تعرض له إعلاميون في "لاسا" على يد بعض الأفراد المتحصنين في الدويلة، من المفيد التطرق الى فضيحة أخرى تسيء الى صورة لبنان الدولة في محيطه العربي، لبنان الأدباء والشعراء، لبنان جبران خليل جبران، وهي تتعلق هذه المرة بوزير الإعلام "وليد الداعوق".
يا لها فعلاً من حكومة فاشلة على كافة الصعد، فهي لم تجد وزيرًا تنيط به مهمة تلاوة مقررات جلساتها على الرأي العام اللبناني والعربي والعالمي سوى وزير لا يفقه من قواعد اللغة العربية "لغة الأم" شيئًا، فتسمعه ينصب الفاعل ويرفع المفعول به ويجرهما أحيانًا، ولا يعرف قواعد النعت والمنعوت ولا المعطوف عليه ولا الحال ولا التمييز بتاتًا! وذلك الى درجة لا يحتمل معها إنسان ذو أذن نحوية سليمة الصمود لأكثر من نصف دقيقة في الاستماع الى بيان ذلك الوزير، قبل أن يسارع "مخنوقًا" الى إطفاء التلفاز أو المذياع أو الانتقال الى محطة أخرى.
قد نلمتس مبررًا لتلك "المهزلة اللغوية" التي تطالعنا بها "حكومة ربع الساعة الأخير" معتبرين أنها تفقه وتجيد الفارسية أكثر من العربية نظرًا لارتباط وولاء قائدها، لكننا لا نبحث عن "سيبويه" في وزارة الإعلام ولا عن استاذ لغة عربية محنك، ومتحدث أو خطيب مفوّه، إنما نبحث عمن يراعي الحد الأدنى من قواعد اللغة العربية التي يعرفها تلميذ المرحلة الابتدائية، ولا نقول المتوسطة أو الثانوية، ولذلك ننصح وزير الإعلام اللبناني بتلقي بعض الدروس الخصوصية النحوية لدى السفيرة البريطانية "فرانسيس غاي"، أو حتى لدى السفير الإيراني "غضنفر ركن أبادي"، وربما يكون الأخير أنسب انسجامًا مع سياسة وتوجهات الحكومة.
وريثما يلتحق الوزير المعني بتلك الدروس، فقد جمعت له بعض القواعد التي يتلقاها التلاميذ في صف الرابع ابتدائي بشكل موجز، بحيث يتمكن الوزير الكريم من تدوينها على قصاصة من الورق كـ"رؤوس أقلام" وادخالها معه الى جلسة مجلس الوزراء بغية تعميمها على زملائه الوزراء ورئيسهم، وتطبيق قواعدها أثناء صياغته بيان جلسة مجلس الوزراء:
1- الفاعل لا بد أن ينال عقابه على أي جرم تقترفه يداه، مهما حاول الإفلات من العقاب أو ظن أنه قادر على طمس معالم الجريمة وتعطيل مسار التحقيق والهروب من قفص الاتهام في قاعة المحكمة.
2- المفعول به سينتصر ولو بعد حين، وسيعود له حقه حيًا أو ميتًا، وذلك بمعرفة حقيقة الفاعل ونيله العقاب العادل والرادع في الدنيا قبل الآخرة.
3- الجار والمجرور، والتابع والمتبوع، شركاء في الجريمة وفي الحكم، سواء ساهموا في التستر على المجرم أو تغطيته، أو في التحريض على الجريمة أو تسخيفها أو تحويرها أو التقليل من خطورتها أمام الرأي العام.
4- الحال الى تحسن مستمر، والأنظمة الاستبدادية الى زوال، وربيع لبنان ينتظر تفتحه المرتقب في سوريا أولا.
5- التمييز بين الحق والباطل، وبين الصادق والكاذب، وبين القديس والمجرم، وبين المقاوم والمتاجر، وبين قارورة الغاز والعبوة المتفجرة، وبين الحادث الفردي والعمل الإرهابي، كل ذلك بات أمرًا بديهيًا لدى أكثرية الشعب اللبناني.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، 15/8/2011
31- حزب المنبوذين ما لم يسلّم المطلوبين
ثمة من "لا يريد الاعتراف أن لبنان متعدد الطوائف والقوى وأن لبنان للجميع(...). الميليشيا ماذا ينقصها؟ الميليشيا هي التي تحمل السلاح وتخرج الى الشوارع، (...) الميليشيا هي التي تخرب عندما لا تكون قرارات الدولة أو مساراتها على خاطرهم (...). الميليشيا هي التي تشوش فترفض الحكومة رئيسًا وأعضاء قبل بيانها الوزاري ومن دون أن تعرف سياساتها لأنها لا تريد أحدًا أن يحكم غيرها، وإنما تريد أن تستخدم قوّتها لتفرض سيطرتها وأن تكون هي الحكومة غصبًا عن الجميع ومخالفة للقوانين".
إن "ما يجري في لبنان هو ضرب وتخريب النسيج الاجتماعي، وتهيئة المناخات والأرضية لفتن طائفية وحروب أهلية متنقلة(...). إن لبنان بلد الطوائف، (...) هناك تركيز على تخريب العلاقة بين الشيعة والسنة والشيعة والمسيحيين والشيعة والدروز(..)"، و"هناك جهد منذ آب 2006 بدأ لتخريب العلاقة بين الشيعة والسنة".
قد يظن البعض للوهلة الأولى أنه في "ساحة الحرية" يسمع خطابًا لأحد أقطاب 14 آذار مثل الدكتور سمير جعجع أو الرئيس سعد الحريري أو الرئيس أمين الجميّل، نظرًا لمنطق الدولة الذي تستند إليه تلك الكلمات التي يفوح منها أريج الحرية والسيادة والإسقلال، ونسيم الوحدة الوطنية والعيش المشترك، وعطر "لبنان أولاً"... إلا أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا!
نحن حقيقة نستمع الى كلمتين في إفطارين أقامهما ممثل مشروع الدويلة في لبنان "حزب ولاية الفقيه"، أحدهما في "بعلبك" والأخر في "الضاحية الجنوبية". فالمقطع الأول صادر عن نائب أمين عام الحزب الشيخ "نعيم قاسم" في 15/8/2011 متهمًا "تيار المستقبل" بالميليشيا، أما الثاني فهو صادر عن أمين عام الحزب شخصيًا "حسن نصر الله" في 17/8/2011.
بعد سنوات من المجاهرة بالفجور جاءت أيام المحاضرة في العفة! جميل اللجوء الى تغيير التكتيك في الخطاب بين الحين والآخر، والتنوع في الأسلوب وانتقاء التعابير والكلمات... لكن من البشاعة والقبح بمكان "سرقة" خطاب الآخرين واستخدام أدبياتهم ونسبتها الى ما يسمى "مقاومة"، ومحاولة إسقاط المنطق السيادي والاستقلالي على منهج وتوجهات ومبادئ حزب يمثل النقيض على الإطلاق، وهو من دأب في خطاباته السابقة على التكبر على اللبنانيين وتخوينهم مخاطبتهم باستعلاء وازدراء وفوقية.
بصراحة، لم تعد سياسة قلب الحقائق وتغيير المسمَّيات تفيد صاحبها، لا في لبنان ولا في سواه من البلدان، فقد أضحت "اللعبة" اليوم مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، وخصوصًا بعد الكشف عن الجزء الأكبر من القرار الاتهامي في "جريمة العصر".
لن نعلق على الخطاب الأول، فلا رد يعلو على ذاك الذي أطلقه النائب "عمار حوري" مدويًا من "دار الفتوى" في اليوم التالي على كلام الشيخ "نعيم قاسم"، معتبرًا أن "خطأ وحيدًا ارتكبه الشيخ نعيم في كلامه هذا، هو أنَّ كل هذه الصفات ملتصقة بـ"حزب السلاح" وحلفائه حصراً"، ومذكرًا إياه بـ"مآثر" السلاح "المقاوم"، وذلك من خلال جردة حساب مفصلة ودقيقة، ابتدأت من اعتدائه على الأملاك العامة والخاصة في حزيران 2006 بسبب برنامج سياسي فكاهي، وصولا الى حلّ مشكلاته المالية في "أنطلياس" بالعبوات الناسفة، ومشاركته اليوم في قتل الشعب السوري الشقيق من خلال تحالفه مع الشبيحة والبلطجية، وإخفائه المتهمين بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
أما خطاب أمين عام الحزب "حسن نصر الله" المتخم المغالطات التي تلامس حدود الكذب كما درجت العادة، ولا سيما فيما يتعلق بالنسيج الاجتماعي اللبناني وشعبية ما يسمى "مقاومة" وبالفتنة السنية-الشيعية، فمن المفيد التعليق عليه بالتالي:
لا أحد يجادل في أن للعدو الصهيوني مصلحة في تدبير المكائد للدولة اللبنانية، لكن ما أشار إليه وحذر منه "نصر الله" من "ضرب وتخريب النسيج الاجتماعي، وتهيئة المناخات والأرضية لفتن طائفية وحروب أهلية متنقلة لبنان"، إنما ينطبق على الأفعال والسياسات والممارسات التي ينتهجها حزبه بشكل خاص، فغزوات 7 و11 أيار2008 وما سبقها وتلاها من حروب صغيرة متنقلة ما هو إلا الطريق الأقصر والسبيل الأنجح في تهيئة المناخات والأرضية للفتن الطائفية ولا سيما بين السنة والشيعة.
وهنا يبدو أن "سيد السلاح" أخطأ في التاريخ عندما اعتبر أن "هناك جهدًا منذ آب 2006 بدأ لتخريب العلاقة بين الشيعة والسنة"، فذلك "الجهد" موجود بلا شك، إلا أنه بدأ حقيقة في 14 شباط 2005، وهو يعرف جيدًا ماذا حدث في هذا التاريخ، وما تبعه من محاولات لعرقلة مسار التحقيق وإقرار المحكمة الدولية، وما توّج بتنصبه نفسه "وليًا فقيهًا" على لبنان، وفرضه على اللبنانيين رئيس وزراء مرفوض من الغالبية الساحقة لأبناء الطائفة السنية.
أما ما يمثل حقيقة تمزيقًا موصوفًا ونسفًا جذريًا للنسيج الوطني اللبناني، فهو محاولة السيطرة على لبنان وتحويله الى دويلة طائفية خاضعة لولاية الفقيه في ايران، وذلك عبر مخططات تغيير التركيبة اللبنانية المرتكزة على التعايش، ونسف معطياته الديموغرافية والاجتماعية بواسطة التسلل المنظم نحو مناطق محددة واغتصاب أراضيها، وشراء أراض فيها ذات مواقع استراتيجية خدمة للمشروع السياسي "الإلهي" وسعيًا وراء انتاج اشكال جديدة من الحضور المناطقي، وإقامة التجمعات السكنية ومخازن السلاح والصواريخ، بهدف إلغاء التنوّع وربما تفتيت لبنان وتقسيمه، وإقامة دويلة ولاية الفقيه على الساحل الشرقي للمتوسط بقرار ايراني.
لقد زعم "سيد السلاح" في خطابه الأخير أن "كل استطلاعات الرأي حتى اليوم تؤكد أن المقاومة لا تزال تحظى باحترام كبير في أوساط الأمة"!! غريب عجيب هذا الادعاء، فشعبية ما يسمى "مقاومة" باتت اليوم مهزوزة حتى في شوارع "طهران" و"الضاحية الجنوبية". أما في سوريا، فعلم الحزب يحرق كل يوم وهتافات المتظاهرين تعرّيه من قناعه وتُعْلِمه يوميًا أن خطابه الدعائي لم ينطل عليها يومًا. وفي مصر انهارت أسهم الحزب بعدما استباح الأراضي المصرية في نيسان2009 بواسطة خلية تعمل على تهريب أسلحة ومتفجرات، وتجنيد واستقطاب عناصر تأتمر بها بغرض تنفيذ مخطط تخريبي يمس الأمن القومي المصري، تحت ذريعة: "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة". وكذلك الأمر في الإمارت والكويت والبحرين، حيث اكتشفت خلايا تآمرية مماثلة، ورحّل من رحّل من اللبنانيين من أبناء الطائفة الشيعية الأبرياء بجريرة تهوّر واستكبار الحزب الإيراني. وأما من بقي في العالمين العربي والإسلامي مخدوعًا بشعار "المقاومة"، فقد غيّر موقفه وحسم تردده في أيار 2008.
إن الخناق يضيق على "حزب ولاية الفقيه" يومًا بعد يوم، في لبنان وسوريا والعالم، ولعل تلك الادعاءات الكاذبة تؤكد فعلا أنه أمسى محشورًا في زاوية القرار الاتهامي. وإذا ما أصر على الاستمرار في أسلوب المكابرة والتخوين واعتبار المتهمين مقاومين شرفاء وقديسين ومظلومين ومفترى عليهم، وتابع عملية حمايتهم وإخفائهم لعرقلة سير العدالة، فإنه سيصبح معزولا أكثر فأكثر لا بل منبوذًا ليس من جمهور 14 آذار وقياداته فحسب، بل من أبناء الطائفة التي احتكر قرارها ووضع يده عليها. فلا شك أن العقلاء والموضوعيين من أبناء الطائفة الشيعية قد اكتشفوا وسيكتشفون تباعًا مع ظهور الأدلة القوية والمقنعة والدامغة التي ستصدر عن المحكمة، أن الحزب خدعهم بإلصاقه التهمة بإسرائيل، وجرّهم الى الصدام ولو الكلامي مع شركائهم في الوطن المؤيديين للمحكمة والمؤمنين بنزاهتها.
والى أن يعيد الحزب نظره في متغيرات العالم العربي وفي السياسة التي يتبعها في لبنان، سبيقى "حزب المنبوذين" ما لم يسلم المطلوبين ويذعن الى منطق الدولة.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 19/8/2011
32- لم يبدل ثوابته ولكنه أساء التقدير
بالنسبة لأي صحافي حر يؤيّد اتجاهًا سياسيًا معينًا، ليس "التحدي" في كتابة مقال ينتقد من خلاله خصمه في السياسة، ولا في إعداد تحقيق يكشف بالأدلة والوقائع ضحالة المنطق والحجة لدى الفريق الآخر، إنما الامتحان الحقيقي الذي يجعل مهنية الكاتب وموضوعيته على المحك هو عندما يقع الكاتب شخصيًا أو أحد ممثلي خطه السياسي في سقطة ما، فهل يعتصم بحبل الصمت والهروب من النقاش والمسؤولية، أم يتحلى بالجرأة الكافية والموضوعية اللازمة للقيام بالنقد الذاتي وتصويب الأمور؟
بالتأكيد سيكون الاحتمال الثاني خيار أي طالب ينتمي الى مدرسة مميَّزة في الصحافة كمدرسة الشهيد "جبران تويني" التي لا تؤمن بالاستدارة والخنوع والمسايرة والمداهنة والمجاز والإيحاء، بل تُصرُ على وضع الإصبع على الجرح قائلة للأبيض أبيض وللأسود أسود، بأسلوب مفعم بالحرية والعنفوان والشجاعة من دون مواربة، بعيدًا عن الأسلوب الهابط المتخم بالتجريح والقدح والذم والنيل من الكرامات.
لست من الذين "يحرمون" على علماء ورجال الدين التحدث في السياسة، فهم مواطنون كغيرهم من أبناء البلد، لهم آراؤهم الخاصة ونظرتهم الى الأمور، ويتمتعون بحرية الرأي والتعبير، لكنني مع انتقادهم إذا اخطأوا أو أساؤوا تقدير الأمور، مع العلم أنه في النهاية لكل فن أهله ولكل علم متخصصون فيه.
أواخر عام 2009 فُتِح الملف المالي لمفتي الجمهورية اللبنانية على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام، وبقي الموضوع يتفاعل بقوة على الساحة اللبنانية محدثًا ضجة سياسية واجتماعية ودينية كبيرة لمدة زادت على الخمسة أشهر. يومها كان لي مقال مطول نشر في7/2/2010 على مدونتي الخاصة بعنوان "لماذا مفتي الجمهورية اللبنانية؟ ولماذا اليوم؟!"، تناولت فيه الجوانب السياسية للموضوع من خلال تحليل توقيت فتح الملف والملابسات المحيطة به بعيدًا عن مدى صحة المعلومات المثارة فيه أو بطلانها والتي فضلت ترك أمر البت فيها الى اللجنة المختصة التي شكلت للتحقق من ذلك الأمر.
في تلك الفترة أقدمت مجلة "الوطن العربي" التي تصدر من باريس في 3/3/2010 على "استعارة" ذلك المقال على طريقتها الخاصة حاذفة اسم الكاتب ومغيرة العنوان والصياغة بحيث أصبح المقال عبارة عن مقابلة مع "سياسي لبناني بارز" على حد تعبير المجلة، وتحت عنوان "خلفيات الحملة ضد المفتي قباني..هل يصبح مفتي سوريا مفتي لبنان أيضًا؟".
اليوم، في شهري آب وأيلول 2011، ها هي المناسبة تتكرر، لكن هذه المرة بشكل معاكس، فبعد التحليل الموضوعي الذي صب في خانة الدفاع السياسي بالنسبة للمقال الأول، جاء وقت التحليل الموضوعي الذي يصب في خانة النقد السياسي الذي لا يجوز إلا أن يكون بناء في هذا المقال، وذلك تحديدًا في موضوع الحملة التصاعدية التي تستهدف مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني من كتلة "المستقبل" والتي وصلت الى حد تغيّب النواب السنة عن تهنئة المفتي بعيد الفطر، وكذلك عن حضور صلاة العيد معه صبيحة ذلك اليوم، واتهامه بتبديل مواقفه وحياده عن الثوابت الإسلامية الوطنية التي أعلنت من دار الفتوى في شباط الماضي.
وإن من يتابع مجريات الأمور يلاحظ أن منشأ تلك الحملة سببه أمران أساسيان هما: استقبال السفير السوري "علي عبد الكريم علي" في دار الفتوى أثناء "مجزرة حماه"، واستقبال وفد من "حزب ولاية الفقيه" يوم الكشف عن الجزء الأكبر من القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد "رفيق الحريري"، والذي أماط اللثام عن أدلة قوية تثبت تورط عناصر قيادية من الحزب في تلك الجريمة.
ولعل خير مدخل لمناقشة تلك النقطتين، ما ورد في مقال للأستاذ "سمير منصور" نُشِر في جريدة النهار بتاريخ 7/9/2011 وحمل عنوان "المفتي لـ"النهار": هل أعرض جدول مواعيدي؟"، فقد نقل الكاتب عن بعض "المطلعين على أجواء مفتي الجمهورية" تبريرهم استقبال السفير السوري في دار الفتوى الذي استغله البعض لاتهام المفتي بأنه في ذلك اللقاء إنما "يغطي مجزرة ارتكبها النظام السوري في حماه"! حيث سأل "المطلعون": "ما علاقة هذه بتلك؟ ان مفتي الجمهورية يستقبل كل السفراء العرب والأجانب الذين يقدمون أوراق اعتمادهم إلى رئيس الجمهورية، فهل يعقل أن يرفض استقبال سفير سوريا؟ ثم إن السفير السوري زار في اليوم التالي البطريرك الماروني ولم نسمع الزعماء الموارنة ينتقدون البطريرك بسبب استقباله؟".
بصراحة أشك شخصيًا في مدى اقتناع هؤلاء "المطلعين" بما صدر عنهم من حجج ومبررات واهية الى درجة أنها تدحض نفسها بنفسها!
بداية، وبغض النظر عن هوية السفير أو الشخصية التي طلبت موعدًا من المفتي، لا بد للمرجعيات الدينية من دراسة التوقيت السياسي الذي طلب خلاله الموعد أو أعطي فيه، ذلك أن لدار الفتوى كما للصرح البطريركي في "بكركي" رمزيتمها الوطنية والدينية التي من غير المسموح لأي جهة سياسية أيا كانت أن تستغلهما أو تتلطى خلف عباءتهما تحقيقًا وخدمة لمآربها الشخصية، خصوصًا أن الرأي العام يطلع عادة على تصريح الزائر من على منبر تلك المرجعيات فيحكم عليه، ولا يدري بما قيل أثناء اللقاء حيث تعبّر المرجعيتان بلا شك عن الثوابت الوطنية السيادية والاستقلالية بصراحة.
ومن هنا، كان ينبغي رفض استقبال السفير السوري مطلقًا ولا سيما أثناء "مجزرة حماه"، وإذا كان لا بد من قبول الزيارة، فمن السهولة بمكان طلب تأجيلها ولو قبل نصف ساعة من موعدها احترامًا للدماء البريئة المسالة في سوريا على أيدي النظام الأكثر وحشية وإجرامًا في المنطقة، ومنعًا لاستغلال الزيارة لمصلحة مآرب الزائر الخبيثة، وذلك بدلا من أن تجرى في موعدها المحدد -كما حصل- ويتخذ سفير النظام المجرم من منبر دار الفتوى بما يرمز ويمثل منصة للدفاع عن حرب الإبادة التي يمارسها على شعبه، وبوقًا لبث الأضاليل والأكاذيب محاكاة لمهزلة إعلام نظامه البائد.
ثم إنه من المفيد السؤال: هل تقصير الزعماء الموارنة في عدم انتقادهم البطريرك على استقباله السفير السوري، يستوجب تقصيرًا مماثلا من الجانب السني؟! وهل تصميم حكومة المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية "حسن نصر الله" على تكريم السفير السوري وعدم طرده من لبنان، يمنعنا من مقاطعته أو طرده من مؤسساتنا؟!
هذا بالنسبة للشق الأول من المشكلة، أما فيما يتعلق بالشق الثاني المتمثل باستقبال المفتي وفدًا من قيادة "حزب ولاية الفقيه" والذي تزامن مع الكشف عن حيثيات القرار الاتهامي في جريمة العصر، فيعلل هؤلاء "المطلعون" الأمر بأن "الموعد كان محددًا قبل اسبوع على الاقل"(...)، ويتساءلون "هل يعني ذلك تخلي مفتي الجمهورية عن مواقفه الداعمة للمحكمة الدولية؟". وينقل هؤلاء عن المفتي قوله: "ان دار الفتوى مفتوحة أمام الجميع، وعنوان سياستها الانفتاح والحوار، (...)هل يريدونني أن استقبل سمير جعجع وارفض استقبال "حزب الله"؟ نحن نستقبل الجميع ومن كان مدانًا تحاكمه الدولة".
لسنا نوافق على اتهام المفتي بالحياد عن الثوابت ولا سيما ما يتعلق منها بالمحكمة الدولية، إلا أن مدار انتقاد استقباله "الحزب" يعيدنا الى حيثية التوقيت السياسي للزيارة مجددًا، فالحزب أثبت أنه مخترق لأوساط لجنة التحقيق الدولية وهيئة المحكمة، وبالتالي فهو فضلا عن الكلام الصحفي حول موعد الكشف عن مضمون القرار الاتهامي، كان يدرك أن الموعد الذي طلبه سيوافق ذلك اليوم أو سيعقبه أو يسبقه بيوم أو يومين على أبعد تقدير، وبالتالي كان يجدر بدار الفتوى تأجيل الموعد ولو قبل حصوله بدقائق معدودات إذا كان رفضه متعذرًا لدواع طائفية بحتة لها انعكاسها على الشارع السني-الشيعي، لا أن يُسمَح للحزب باستغلال التوقيت وقطف ثمرته سياسيًا (على نحو ما حدث عقب جريمة الاغتيال من مسارعة "نصر الله" لزيارة المفتي)، ثم الاتخاذ من منبر دار الفتوى منصة للتصويب على المحكمة لناحية تخوينها وأسرلتها والطعن في نزاهتها.
ثم إن مقارنة استقبال وفد "حزب ولاية الفقيه" باستقبال الدكتور "سمير جعجع" باطلة شكلاً ومضمونًا، لأنها من قبيل القياس مع الفارق، ففرق كبير بين استقبال من لا يزال الى اليوم يمجد عدوانه الإرهابي في أيار 2008-الذي طال المفتي نفسه- ويهدد ويتوعد موجهًا سلاحه الى صدور اللبنانيين ومخيرًا إياهم بين العدالة والاستقرار، وبين "الحكيم" الذي قبل بالطائف وسلّم سلاحه الى الدولة وكان القائد الوحيد الذي امتلك الجرأة على الاعتراف بأخطاء ارتُكبت في الحرب، مقدّمًا اعتذارًا عميقًا عن كل جرح او أذِيّة صدرت من جانبه، طالبا السماح والتعالي والمحبة...
باختصار، لا بد من القول إنصافًا لمفتي الجمهورية انه ومن موقعه الديني والوطني والإنساني لا يمكن أن يرضى لنفسه تغطية إبادة الشعب السوري، وهو لا يزال على ثوابته الوطنية والإسلامية ولم يحد عنها قيد أنملة وخطبة عيد الفطر تشهد على ذلك، كما لا خلاف من جهته بينه وبين "تيار المستقبل" و"قوى 14 آذار" وهو ما أكد عليه مرارًا، وبالتالي ما حصل يستوجب الانتقاد لكنه لا يجب أن يصل الى ذلك الحد من المقاطعة ومن الحدة في المواقف من قبل نواب "المستقبل"، فمن الموضوعية الاعتراف بأن المفتي ارتكب خطأ بإساءته تنظيم جدول مواعيده، الذي بالتأكيد من غير المقبول ولا المسموح لأي جهة سياسية أو غير سياسية أن تطلع عليه أو أن تعدل في برنامجه، وهو خطأ بالتأكيد كان من الممكن تفاديه بسهولة لو طبقت المشورة وجرى الاستئناس برأي أهل السياسة والمخضرمين في زواريبها وخفاياها.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 8/9/2011
33- أخطأ الراعيان وأصابت الرعية
بعد حملة كتلة "نواب المستقبل" ضد مفتي الجمهورية اللبنانية على خلفية استقباله السفير السوري ووفد من "حزب ولاية الفقيه"، ها هي المرجعية المارونية تتعرض لحملة مماثلة من النواب الموارنة وسواهم على خلفية دفاع البطريرك "بشارة الراعي" من باريس عن "بشار الأسد" وتبنيه النظريات التضليلية التي يبثها النظام السوري وإعلامه حول ما ينتظر الأقليات في سوريا حال سقوطه، وكذلك تكراره الحجج الواهية التي يتذرع بها "حزب ولاية الفقيه" للاحتفاظ بسلاحه الميليشيوي المكدّس لوضع اليد على الدولة وتطويع كل من خالفه في السياسة.
ثمة مفارقة غريبة تستحق أن نتوقف عندها بالنسبة لموقفي "بكركي" و"دار الفتوى" من النظام السوري، وهي تعيدنا الى ما قبل العام 2005 لكن مع قلب في الأدوار.
فقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان المسيحيون سبَّاقين في المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان وإنهاء نظام الوصاية، وقد تجلى ذلك بوضوح مع نداء المطارنة الموارنة التاريخي في 20/9/2000 الذي طالب بذلك بشكل واضح وصريح، وما استتبعه من قيادة الكنيسة ورعايتها تشكيل معارضة مسيحية وطنية للاحتلال السوري عبر لقاء "قرنة شهوان".
في تلك المرحلة كانت "دار الفتوى" غائبة ومتقاعسة عن مسايرة نهج "بكركي" في توجهاتها السياسية والوطنية، حيث كانت لازمة "الشقيقة سوريا" ومعزوفة "وحدة المسار والمصير" -سيّئة الذكر- جزءًا لا يتجزّأ من البيانات والتصاريح والمواقف الصادرة عن المرجعية الإسلامية السنية، بما فيها خطبة الجمعة التي لم تكن تصح بدون ذكرها!
وظل لبنان يتخبط في ظلمة الاحتلال السوري الأسود الى أن انضم إلى المعارضة المسيحية بعد التمديد القسري للرئيس "إيميل لحود" الرئيس رفيق الحريري والنائب "وليد جنبلاط" على قاعدة مشروع وطني تعدّدي، هزّ أركان النفوذ السوري ودعائمه، وكان كافيًا لإشعال فتيل "ثورة الأرز" عقب اغتيال الرئيس "رفيق الحريري"، حين لاقت اليد الإسلامية بعد طول تمنّع وانتظار اليد المسيحية الممدودة إليها منذ أكثر من 30 سنة على قاعدة "لبنان اولاً"، وعندها تحققت الأعاجيب ودُحِر الاحتلال السوري عن لبنان.
وإذا كان من درس يستفاد مما تقدّم، فهو أن النظام السوري كان يعلم جيدًا نقطة ضعفه وموضع مقتله في لبنان (وكذلك في سوريا)، ألا وهو الوحدة الإسلامية-المسيحية التي عمل طوال وجوده على الحؤول دون تحققها، سواء عبر تخويف الجانبَين من بعضهما بعضًا، وزرع بذور التفرقة فيما بينهما، وبث النظريات التضليلة والترهيبية التي تزعم أن وجوده العسكري في لبنان وحده يحول دون انقضاض إحدى الطائفتين على الأخرى (وهي الإشاعة نفسها التي يبثها اليوم في سوريا)... ولذلك كان ذلك النظام البائد يحرص على إضعاف المسيحيين وتهميشهم وتشتيت قادتهم بين نفي واعتقال واغتيال، تلازمًا مع تصفيته أي شخصية إسلامية مؤثرة ومنفتحة ومعتدلة تدعو الى الوحدة الإسلامية-المسيحية، مثل مفتي الجمهورية الشيخ "حسن خالد"، ثم رجل الوحدة الوطنية والعيش المشترك الرئيس "رفيق الحريري".
المفارقة اليوم أن الآية انعكست، ففي حين تؤيد "دار الفتوى" بقوة ثورة الشعب السوري الساعي لاستعادة حريته وكرامته من خلال إسقاط نظامه المجرم، وهو التأيد الظاهر بوضوح عبر خطب الجمعة وأدعية الخطباء والأئمة في المساجد خصوصًا في شهر رمضان الفائت، حيث كان "الأسد" ولا يزال يُلعَن في الصلوات وعلى المنابر تلميحًا وتصريحًا...ها هو البطريرك الماروني "بشارة الراعي" يصدم الجميع معلنًا تخوفه من سقوط نطام المجرم "بشار الأسد" قاتل الأطفال الخُدّج رغم كل ما فعله بالمسيحيين من قتل واعتقال واغتيال وتنكيل هو ووالده في لبنان قبل جرائمه ضد شعبه في سوريا، ومبديًا قلقه على المسيحيين من السنّة إذا ما سقط نظام "الأسد"، فيصرّح من باريس عقب جولته الفرنسية في 8/9/2011 قائلاً: "كنت آمل لو يعطى الأسد المزيد من الفرص لتنفيذ الإصلاحات السياسية التي بدأها"، مضيفًا: "في سوريا، الرئيس ليس شخصًا يمكنه أن يقرر الأمور لوحده، فلديه حزب كبير حاكم هو حزب البعث، والأسد كشخص هو انسان منفتح تابع دراسته في أوروبا وتربى على المفاهيم الغربية، لكن لا يمكنه القيام بمعجزات لوحده"!!
حقًًا، يا لها من مفارقة عجيبة، وهي لم تقف عند هذا الحد، فقد استتبع موقف البطريرك سيلاً من الردود العنيفة والصريحة في الأوساط المسيحية والتي لم تقتصر على القادة والنواب والسياسيين فحسب، بل انسحبت على الرعية وخصوصًا الشباب الذين اختاروا التعبير عن استيائهم من موقف "الراعي" من خلال رفع صور البطريرك السابق "مار نصر الله بطرس صفير" على صفحاتهم في "الفايسبوك"، مذكرين من يهمه الأمر أن مجد لبنان أعطي له وحده، ومستذكرين مواقفه الوطنية الثابتة التي لم تخرج يومًا عن ثوابت الكنيسة الوطنية والتاريخية، لا بل شكلت أحد أهم أعمدتها. وهو ما يذكرنا بحال قِسْم لا بأس به من الشارع السني قبل العام 2005، عندما كان المسلمون -ولا يزال بعضهم الى الآن- يفضلون رفع صور المفتي الشهيد "حسن خالد" ويترحمون على مواقفه الصلبة بعدما خضعت "دار الفتوى" بشكل أو بآخر الى الهيمنة السورية.
وعلى الرغم من الصدمة العنيفة التي أصيب بها الوسطان الإسلامي والمسيحي والمشهد السوداوي اللذين سببتهما مواقف البطريرك "الراعي" واللقاءات غير المدروسة التي عقدها المفتي "قباني" وإن بقي متمسكًا بثوابته، ثمة كُوَّة مضيئة متلألئة بالأنوار الساطعة لم يلاحظها كثير من الناس، ألا وهي نوعية الوعي السياسي النادرة والمميّزة التي يتمتع بها جمهور "ثورة الأرز".
نقولها بكل ثقة، لا خوف على لبنان ولا على "ثورة الأرز" ما داما يُحرسان من جمهور نوعيّ طليعيّ، ليس مجرد أعداد وأرقام وجحافل سيّارة تحرّك بالـ"ريمونت كونترول" عن بعد وتسيّر بالتكليف الشرعي. المعيار عنده هو الحق، الحق، ولا شيء سوى الحق، ففي قاموسه السياسي لا تكليف شرعيًا إسلاميًا ولا مسيحيًا عندما تعبّر مرجعياته الدينية عن آرائها السياسية فتحيد عن الحق وإن عن سوء تقدير وغير قصد.
فلا يمكن لهذا الشعب أن يصدق أن المجرم ابن المجرم قاتل الاطفال الخدّج والرؤساء والقادة الأحرار بات انفتاحيًا وإصلاحيًا ويستحق فرصة جديدة لتحقيق وعوده، ولو كان قائل هذا الكلام بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، كما لا يمكن أن يغير نظرته الى سفير الإجرام أو لمن يأوون ويحمون متهمين في جريمة العصر لمجرد أنه وجدهم يُستقبَلون في إحدى ساعات الغفلة في "دار الفتوى"... فجمهور نخبوي كهذا يستحق كل احترام وتهنئة وتقدير.
لهذا كله نقول من صميم قلبنا للراعيان: هنيئًا لكما بهذه الرعية التي تراقب ما يصدر عن راعيها فتنصحه إذا اخطأ وتنتقده إذا أصر على خطئه، ولا تعمد كغيرها عندما يخطئ راعيها الى التصفيق له والهتاف بحياته وتصديق أقواله وتبني مواقفه وتبريرها والدفاع عنها رغم وضوح زيفها، آخذه بيده وبيدها معه نحو الهاوية. اشْكُرَا الله على هذه النعمة وحافظا عليها.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 11/9/2011
34- تحليل رياضي للوضع السياسي
أشهر سبعة مضت على اندلاع الثورة السورية، كانت كافية لجعل النظام الأكثر وحشية ونفاقًا في المنطقة يترنّح إيذانًا بالسقوط المدوّي.
بيد أن تأخُّر السقوط المنتظر، فضلا عن التماسك الظاهري لفريق 8آذار في لبنان، وما تبعه من متغيرات صادمة في مواقف ولقاءات المرجعيات الروحية تصب بشكل مباشر في مصلحة أصحاب السلاح الميليشيوي والنظام الدموي البائد، كل ذلك شكّل"خيبة أمل" لدى قسم من الجمهور السيادي، ما استتبع التباسًا وضبابية وسوداوية في قراءته المشهد السياسي.
وفي هذا السياق، سألني أحد الأصدقاء من أبناء "ثورة الأرز" المجيدة وممن هم مولعون ومدمنون على متابعة مباريات كرة القدم المحلية والعالمية، عن الوضع السياسي في لبنان، قائلاً بعفوية وبنبرة مؤثرة نابعة من "حرقة قلب":
"ما بال حالنا مُتَرَدٍّ الى هذا الحد؟! في مطلع هذا العام أسقطوا الحكومة، أطاحوا بالحريري، شكلوا حكومتهم الخاصة، الشيخ سعد اليوم في المنفى، والقادة الروحيون أضاعوا البوصلة، وميقاتي خرج من العزلة الدولية وبات يجتمع مع أبرز قادة العالم. 8 آذار لا تزال متماسكة رغم كل ما يحدث في العالم العربي من متغيرات وخصوصًا في سوريا ، الحكومة بيدها، والسيطرة على الأرض لسلاحها، كما أن وثائق "ويكيليكس" التي فضحت المستور ومكنونات الصدور فيما بين مكوّنات الفريق الحاكم لم تنجح في قسم ظهره... أجبْني يا صديقي، هل يُعقل أن يتفتّح الربيع ويُزهر في الدول العربية، وينقلب خريفًا حزينًا في لبنان؟! وهل مقبول ان ننكفئ عن الشرق في اللحظة عينها التي بدأ فيها الشرق يشبهنا"؟!
لا أنكر أنني احترْتُ في بادئ الأمر كيف ومن أين أبدأ بالإجابة، فالإحباط والضياع كانا واضحَين في حديث الشاب. حاولتُ في البداية رفع معنوياته قائلاً:
"صديقي العزيز، الصورة عندي مختلفة تمامًا عمّا هي بالنسبة إليك، أرى "الرئيس سعد الحريري" في مأمن الآن من أن تطاله يد الغدر المجرمة التي اغتالت أباه، وأظنه عائدًا في وقت قريب على فرس أبيض الى القصر الحكومي مؤكدًا زعامته الوطنية وخياراته الصائبة. أما الحكومة فهي تعيش لحظاتها ألأخيرة مع دخول النظام السوري مرحلة "اللاعودة"، والمشاكل على أشدّها في 8 آذار، وثائق "ويكيليكس" لم تفضح المستور بين "بري" و"الحزب" بل أكّدت المؤكَّد بالنسبة لهذين الطرفين نفسَيهما، والنتائج لا تظهر إلا عند الاستحقاقات المفصلية والكبيرة، ولعل إبعاد الوزير "محمد جواد خليفة" عن الحكومة الحالية عقابًا له على ما تفوّه به في إحدى الوثائق منتقدًا "حزب ولاية الفقيه" خير نموذج على ما أقول. باختصار: "ثورة الأرز" اليوم أقرب من أي وقت مضى لتحقيق أهدافها الوطنية والسيادية والاستقلالية، ولكن قليل من الصبر والصمود يا صديقي، فما قولك؟".
أجابني الشاب الاستقلالي ولا تزال علامات الضياع على وجهه: "لست أدري لماذا أشعر أنك تتحدث عن أحلام وأوهام وتمنيات، وإذا استنتجت من سؤالي أنني مفْرِط في التشاؤم فكلامك أظهر لي أنك مُفرِط في التفاؤل، وبصراحة لم يقنعني جوابك".
فكّرت هُنَيْهَة بالطريقة المثلى لإقناع هذا الصديق بوجهة نظري على نحو يوضح له الصورة الحقيقية للواقع السياسي الذي يعيشه وينزع عن عينيه النظارات القاتمة التي جعلته يقرأ المشهد بضبابية وسوداية محبطة، فلم أجد خيرًا من منطق ولغة كرة القدم التي يتابعها هذا الشاب باهتمام بالغ، وقلت:
"حسنًا، سأحدّثك بمنطق كرة القدم الذي تفهمه جيدًا. نحن نتابع اليوم بطولة كأس "الربيع العربي" التي تجمع بين فِرَق الشعوب المنتفضة لحريتها وكرامتها وفِرَق الأنظمة الاستبدادية الجائرة و"شبِّيحتها"، ونحن كلبنانيين معنيّون بمباراتين أساسيّتين تدور أحداثهما في وقت واحد، فالأولى تخاض على الملعب السوري بين فريق شعب الحرية والكرامة وفريق النظام الدموي الظالم، والثانية تخاض على الملعب اللبناني بين فريقي 8 و14 آذار، وهما مباراتان مفصليّتان وإن لم تكونا بالضرورة نهائيتَين.
المباراة السورية دخلت في شوطها الثاني والأخير، وهي الآن في الوقت المحتسب بدلا عن ضائع، وكذلك الحال بالنسبة للمباراة اللبنانية التي كان يفترض بها أن تكون مستقلة في توقيتها ومدّتها عن تلك السورية، إلا أنها أُلحِقت بالمباراة الأولى نظرًا لكون أحد طرفَيها على ارتباط عضوي واستراتيجي وثيق بمصير فريق النظام الدموي السوري الذي لا تنفك تهتز شباكه متلقية أهداف الحرية والكرامة الواحد تلو الآخر.
فريق 8 آذار يسيطر على الملعب ويضغط بقوة ويستحوذ على الكرة بنسبة عالية الى درجة تجعل أحداث المباراة تكاد تنحصر في المربع المقابل لمرمى 14 آذار.
فريق لجنة حكاّم المباراة بكافة وظائفه الأمنية والروحية والسياسية والقضائية والذي يفترض به أن يكون حياديًا وعادلا ومؤتمنًا على قواعد اللعبة بات منحازًا الى فريق 8 آذار، يتبنى وجهة نظره، ويغض النظر عن أخطاء كثيرة وكبيرة يرتكبها في حق الفريق الأخر، وإذا أطلق صفّارته محتسبًا أحد الأخطاء لمصلحة فريق 14 آذار رفع البطاقة الصفراء في وجه مَن يستحق الحمراء (العميل فايز كرم نموذجًا)!
مَثَلُكَ يا صديقي العزيز -وربما لضعف ذاكرتك السياسية- كمثل من بدأ في متابعة المباراة من هذه اللحظات دون الاطلاع على النتيجة، فلا شك أنه سيجزم أن المنتصر هو فريق 8 آذار الضاغط والمجاهم، ولا سيّما إذا ما عاين نسبة السيطرة على الملعب، ونسبة استحواذ الكرة، وعدد الركلات الركنية والتسديدات المباشرة على المرمى، التي تصب في معظمها لمصلحته، لكن النتيجة الحقيقية على عكس هذه المعطيات تمامًا، فالمنتصر حتى الآن وإن انتقل من الهجوم الى الدفاع لا يزال فريق 14 آذار وبفارق كبير من الأهداف راكمها منذ العام 2005، أهمها صوابية الخيارات الوطنية، والرأي العام الاستقلالي الذي يشكل أكثرية الشعب اللبناني، الوعي السياسي الذي يتمتع به، والمحكمة الدولية، ودحر الاحتلال السوري عن لبنان، والجرأة على رفع الصوت في وجه غلبة السلاح الميليشيوي الذي يُعَد المسبب الأول للمشاكل في لبنان ومحاولة التصدي له بكافة الوسائل السلمية والديموقراطية المتاحة.
يجب أن لا يفوتك أن الوقت يمر، والحَكَم محكوم بعقارب الساعة مهما غض الطرف وحاول دعم الفريق الخاسر رَغَبًا و رَهَبًا، فصفارة الختام ستطلق عاجلاً أم آجلا، والمباراة ستنتهي وستعلن النتيجة.
هذه الثواني القليلة والأخيرة من عُمر المباراة قد يكون طولها بالنسبة للفريق الرابح والمتعرِّض للضغط المتواصل يعادل مدة المباراة بكاملها، والعكس صحيح بالنسبة للفريق الخاسر والضاغط الذي يمر الوقت عليه بسرعة هائلة دون أن يتمكن من معادلة النتيجة.
هذا هو واقعنا السياسي اليوم يا صديقي، فلا تجعل دخول المباراة في مرحلة حرق الأعصاب وحبس الأنفاس ينعكس على نفسيتك احباطًا وتملمُلاً وانكفاءً، فعلى الرغم من الإرهاق والإصابات البالغة المادية والمعنوية في صفوف لاعبي فريق 14 آذار وجمهوره، يبقى متوسط أعمار اللاعبين ومستوى لياقتهم على مختلف الصعد البدنية والنفسية عاملا مهمًا يلعب لمصلحتنا، وها نحن بدفاعنا الشرس عن مرمى منطق الدولة تمكنّا من إحباط خطط الفريق المنافس وكان آخرها خطة مشروع الكهرباء التي لم ينجح في إقرارها إلا باعتماد ملاحظاتنا التي فوّتت عليه فرصة جعلها "مغارة علي بابا".
صديقي العزيز أبشِر، قديمًا قيل "إنما النصر صبر ساعة"، فكيف إذا كنا في نهاية رُبعها الأخير"؟!
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 3/10/2011
35- حكومة "سفاح القربى"!
لقد بات لبنان رهينة في أيدي حكومة أقل ما يقال فيها إنها تشكل خطرًا جديًا على أمنه "الأسري" و"الأخلاقي"، وهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالرحيل الفوري رأفة ورحمة بما تبقى من آداب وأخلاق ترعى العلاقات الاجتماعية والأسرية في المجتمع اللبناني.
فمنذ الإعلان عن تشكيلها، انهالت الأوصاف والتسميات التي نعتت بها تلك الحكومة سيِّئة الذكر، وكنتُ ممن اختاروا لها تسميات عدة كـ"حكومة ربع الساعة الأخير"، و"حكومة رعاية الإرهاب"، لكن آخر ما كنا نتوقعه أن تستحق يومًا ما وبجدارة تسمية "حكومة سفاح القربى"!
نعم، لقد تجاوزت "حكومة ربع الساعة الأخير" جميع الخطوط الحمر في "شذوذها"، ولم تنتظر طويلا للكشف عن أمراضها النفسية الخطيرة، التي تتمحور بمجملها حول النزعة "الساديّة" التي نتج عنها رعايتها أبشع أنواع وممارسات "العنف الأسري"، وصولا إلى بلوغها أقذر أشكال الشذوذ المتمثل بـ"سفاح القربى".
ويمكن تقسيم مراحل تطور مرض الحكومة وظهور عوارضه على النحو التالي:
المرحلة الأولى: بدأت النزعة "السادية" في الظهور على حقيقتها في الفترة الممتدة ما بين عامي 2005 وبداية 2011، عندما دفع "شبق" التسلط و"السلطوية" صاحبه الى اعتماد أبشع الوسائل عنفًا ودموية لتحقيق غايته تنفيذا لمشاريع فئوية وخارجية هدامة، وكانت ترجمة تلك النزعة تزداد خطورة كلما أيقن المصاب بها أن جميع الطرق السلمية والديموقراطية والدستورية مقطوعة أمام تحقيق مشروعه نظرًا للإرادة الشعبية السيادية والاستقلالية المتمسكة بمشروع الدولة...فكانت الحروب والغزوات والاغتيالات والتفجيرات، وصولا الى الانقلاب الميليشيوي المسلح الذي أوصل هذا الطرف الى سدّة الحكم بالقوّة.
المرحلة الثانية: بعد تحقق الغاية المطلوبة، لم تستطع "حكومة ربع الساعة الأخير" إخفاء أمراضها النفسية، لا بل عبّرت عن دوافعها ونزعاتها "الساديّة" بأوضح العبارات والأفعال من خلال "رعاية الإرهاب" في بيانها الوزاري، حيث دعمت و"شرّعت" السلاح الميليشيوي المسمى زورًا وبهتانا "سلاح المقاومة"، وبدأت تسعى لـ"تمجيد"و"تقديس" لغة الدم والإجرام بمعارضتها استصدار أي قرار دولي أو عربي يدين ويعاقب النظام السوري على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها ضد شعبه، مصمِّمة على المشاركة في قتل الشعب السوري الشقيق من خلال التحالف مع نظام الشبيحة والبلطجية. كما دفعتها "فوبيا" معرفة الحقيقة الى التقاعس المتعمّد عن تعقب المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس "رفيق الحريري وتسليمهم" الى العدالة، ثم محاولة اغتيال العدالة نفسها بالتوجّه لقطع علاقة لبنان بالمحكمة الدولية بالتمنّع عن دفع حصته في تمويلها.
المرحلة الثالثة: ازداد الوضع النفسي للحكومة تدهورًا لتتخذ "ساديّته" شكل رعاية "العنف الأسري"، وتجميله والتلذّذ به، وذلك تحت شعار "مراعاة خصوصيات المناطق"، تلك النظرية التي أطلقها "وزير الداخلية والخصوصيات" "مروان شربل" بتاريخ 20/7/2011 في معرض تعليقه على ما تعرّض له فريق محطة "أم تي في" من اعتداءات في "لاسا" و"طريق المطار" على يد مناصري "حزب ولاية الفقيه"، مبيحًا أحد أشكال "العنف الأسري" بين أبناء الوطن الواحد، ومكرّسًا سلطة الكنتونات المنتهكة لسيادة الدولة، لتكرّ بعد ذلك سبحة الاعتداءات الجسدية والانتهاكات العقارية في قرى جرود جبيل دون حسيب ولا رقيب "مراعاة واحترامًا للخصوصيات"، لنصبح أمام مواطن من الدرجة الممتازة بحيث يحق له ما لا يحق لشريكه في المواطنة لمجرد كونه يمتلك السلاح.
المرحلة الرابعة: بالغت الحكومة في ممارستها ورعايتها لـ"العنف الأسري"، فكان أن بلغت أوج شذوذها وأشده قذارة مع فضيحة تقبُّلها بلامبالاة ورضاها الآثم بـ"سفاح القربى"، الذي مارسته جهارًا نهارًا بثلاثة طرق:
أولا: سكوتها المعيب والمريب عن التصريحات التي يطلقها السفير السوري "علي عبد الكريم علي"، والتي هاجم فيها مرجعيات أمنية وسياسية لبنانية، وتغاضيها عن ممارساته الميليشيوية والمافياوية لناحية تحويل السفارة السورية في بيروت الى وكر استخباراتي وغرفة لعمليات خطف وقمع إجرامية تستهدف معارضي النظام "الأسدي" المتواجدين على الأراضي اللبنانية، وكذلك المتظاهرين أمام حرم السفارة المطالبين "برحيل الأسد"، وهي عمليات حظيت أحيانًا وللأسف بمواكبة وعلم بعض الأجهزة الأمنية.
ثانيًا: سكوتها عن تورّط أحزاب لبنانية حليفة للنظام السوري في قمع الشعب الثائر في سوريا، بعد رصد مواكب عديدة تنقل عناصر تابعة لتلك الأحزاب وهي متوجهة إلى سوريا، وبعض هذه المواكب كانت مرئية للعيان بوضوح، وبعضها أوقفتها القوى الأمنية، ثم تركتها!
ثالثًا: اتخذ "سفاح القربى" أوضح مظاهره، مع توغّل الجيش السوري المتكرر داخل الأراضي اللبنانية، وما رافقه من قتل ونهب وتخريب وتدمير، وسط موافقة ضمنية من الحكومة اللبنانية التي انعدم مستوى الحياء لديها الى درجة تقليل رئيس الحكومة "نجيب ميقاتي" من خطورة انتهاك السيادة اللبنانية قائلا في 6/10/2011: "ان مثل هذه الحوادث، أي دخول دبابة مسافة كيلومترين داخل الأراضي اللبنانية في منطقة الحدود فيها متداخلة ثم خروجها ليس بالأمر الجديد. انها حوادث تحصل باستمرار"!!
وما أروع وأدق توصيف النائب الواعد الشيخ "سامي الجميّل" للوضع الراهن، حيث قال في 18/10/2011: "إذا أردنا أن نجري مقارنة بين ما تفعله سوريا وما يفعله الجيش الإسرائيلي في لبنان، نقول: إن الجيش الإسرائيلي عدو ينتهك لنا سيادتنا، وينتهك لنا أرضنا، فنأخذ موقفًا منه على هذا الأساس، أما ما يفعله الجيش السوري فبماذا سنصفه؟ أنا صنّفته بالـ"inceste" [سفاح القربى]، لأنه جيش شقيق يتعاطى بهذا الشكل مع شقيقه".
وهنا رُبّ سائل يقول: عرفنا المرض وعوارضه، فما هو العلاج؟ الجواب أنه في علاج الأمراض النفسية المعقدة كهذه لا بد من العودة الى الجذور لمعرفة المسبب الأساسي ومعالجته بدلا من تضييع الوقت في محاولة التخلص من العوارض، وقد باشر الشعب السوري البطل فعلا في إجراءات العلاج الذي بات في مراحله الأخيرة.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 24/10/2011
36- بعدما انتحر الأسد، هل ينتحر نصر الله؟!
"رجل من الماضي"، لعلها العبارة الأدق الذي يمكن أن نختصر بها الخطاب الأخير الذي طالعنا به الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله.
فالرجل لا يزال يؤمن بفعالية استخدام "القضية الفلسطينية" و"الاحتلال الإسرائيلي" و"الاستكبار الأميركي" وما يلحق بها من تعابير "المقاومة" والممانعة" و"التخوين" و"العمالة"، كسلعة تجارية ووسيلة دعائية لرفع أسهمه وصقل شعبية محوره المتهالك وكأن الزمن قد توقف عنده في 25أيار 2000، مع العلم أنه منذ ذلك التاريخ توالت الأحداث والاعترافات والمواقف التي أكدت لمن يهمه الأمر أن تلك التعابير لم تكن أكثر من "كليشيهات" يستخدمها ذلك المحور الممتد من إيران الى لبنان لدغدغة المشاعر الإسلامية والعربية والإنسانية، والتسلل عبرها الى نفوس وعقول الشعوب المقهورة تحقيقًا لمشروع فئوي عقائدي غريب، يحلم ويطمع بالسيطرة على المنطقة.
ففي "ممانعة" إيران، قال "محمد علي أبطحي" نائب الرئيس الإيراني في 13/1/2004 إن بلاده "قدمت الكثير من العون للأمريكيين فى حربَيهم ضد أفغانستان والعراق"، مؤكدًا أنه " لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة". وقد ذهب النائب الأول للرئيس الإيراني وحمو ابنته " اسفنديار رحيم مشائي" الى أبعد من ذلك، حيث أعلن في 20/7/2008 على هامش مؤتمر عن السياحة: "إيران اليوم هي صديقة الشعب الأميركي والشعب الإسرائيلي. ما من أمة في العالم هي عدوتنا وهذا فخر لنا". وفي 23/7/2009 أكد "مشائي" أن تصريحاته السابقة حول صداقة الشعب الإسرائيلي عبّرت عن موقف حكومة الرئيس "محمود أحمدي نجاد".
وفي "ممانعة" العراق، زار "واشنطن" زعيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" في العراق "عبد العزيز الحكيم"، صاحب الولاء الكامل لإيران والمُؤتَمِر بأوامر الولي الفقيه، حيث التقى الرئيس "جورج بوش" و"كونداليزا رايس" في 4/12/2006، وطالب الاحتلال بالبقاء قائلاً: "لقد طلبنا من القوات الأميركية البقاء في العراق، مع تسليم مزيد من المسؤوليات إلى المسؤولين العراقيين والقوات العراقية، كي تتمكن من حل مشاكل الإرهاب".
وفي ممانعة "سوريا"، أكّد "رامي مخلوف" الرجل القوي في النظام الحاكم وابن خال الرئيس السوري "بشار الأسد" في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية بتاريخ 10/5/2011، أن النظام البعثي يعمل على حفظ أمن إسرائيل من خلال تحذيره أنه:"إذا لم يكن هناك استقرار هنا (في سوريا) فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا يوجد طريقة ولا يوجد أحد ليضمن ما الذي سيحصل بعد، إذا لا سمح الله حصل أي شيء لهذا النظام".
ومنذ أيام قليلة، ومع ظهور بوادر جدية لضرب إيران على خلفية برنامجها النووي العسكري، كرّرت الأخيرة موقف "مخلوف" نفسه، فصرّحت أنها تستطيع محو إسرائيل عن الخارطة وإراحة العالم من شرها إلا أنها تمتنع عن ذلك! فقد توعد مساعد رئيس أركان القوات الإيرانية الجنرال "مسعود جزايري" في 9/11/2011 بـ"تدمير اسرائيل"، مشيراً إلى أن "محطة ديمونا (النووية) هي أسهل موقع قد نستهدفه، ولا يزال لدينا المزيد من القدرات، وإذا حصل ادنى تحرك للكيان الاسرائيلي (ضد ايران)، فإننا سنشهد تدميره".
وقد أعاد بدوره الوكيل الشرعي للإمام "الخميني"، والمرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية تأكيد ذلك المعنى "الفضائحي" عينه بقوله في 11/11/2011: "الحرب على ايران وعلى سوريا لن تبقى في ايران وسوريا، وانما ستتدحرج الى كل المنطقة، وهذه حسابات واقعية وهذا هو واقع الحال"، محذرًا العدو الصهيوني من أن شن حرب على لبنان "ستكون المغامرة الاخيرة في حياة إسرائيل".
هذا هو باختصار وبشهادة أهله المحور الذي ينتحل صفة "المقاومة والممانعة"، فهو يقر تارة بتعاونه العسكري مع الأميركيين لاحتلال أفغانستان والعراق وبصداقته للشعبين الأميركي والإسرائيلي، ويؤكد طورًا قدرته على إزالة إسرائيل من الوجود وإنهاء احتلالها الأراضي العربية، إلا أنه يمتنع ولا يجرؤ على ذلك معتمدًا خيار "الممانعة" الحقيقية هذه المرة لأنه يدرك جيدًا قوانين اللعبة التي ارتضى لنفسه المشاركة فيها.
لقد خالف "بشار الأسد" قوانين اللعبة، فمع اشتداد الضغوط الشعبية والدولية على النظام السوري اتخذ قرارا بالانتحار من خلال تحريك جبهة "الجولان المحتل" التي حافظ نظامه على أمنها وهدوئها لأكثر من أربعة عقود مقابل بقائه في السلطة، فقام ببعض "المشاغبات" بالحجارة في 5 حزيران 2011 مستغلا ذكرى يوم "النكسة"، كانت نتيجتها بدء إسرائيل بحملة دولية لإسقاط الشرعية عن نظام "الأسد" ومباشرتها ببناء جدار فاصل على الحدود بدلا من "جدار الأسد"، جدار "الممانعة والمقاومة والعروبة"، وذلك بعد ثلاثة أشهر من الدعم الأميركي والإسرائيلي المفضوح للنظام ضد شعبه.
الأنظار تتجه اليوم الى "سيد السلاح"، الذي يدرك جيدا أن القضاء على ترسانة حزبه العسكرية لن يستغرق أكثر ساعات معدودة في حال اندلاع أي حرب جدية، فهو يعلم أن لدى الجيش الصهيوني معلومات وافية ودقيقة عن كافة تشكيلات "حزبه" وأماكن تخزين ونصب صواريخه، وطرق القيادة، وأماكن القياديين... فكل ذللك يتم أصلا تحت إشراف الأقمار الصناعية وطائرات العدو الاستطلاعية التي لا تفارق الأجواء اللبنانية، ولذلك لم يقتنع كثيرون بما سمي "حرب تموز 2006" التي بقي الحزب فيها يطلق صواريخه (التي لم تصب سوى التلال والوديان وأحياء العرب في حيفا) حتى ساعة وقف إطلاق النار، خصوصًا بعدما تبيّن أن "تصفية منصات صواريخ الحزب لم تتقرّر كهدف مركزي للقتال في لبنان"، كما ورد في شهادات جنود إسرائيليين أدلوا بها أمام لجنة الخارجية والأمن في "الكنيست"، ونشرتها صحيفة "معاريف" الاسرائيلية في30/10/2006.
فهل سيُقدم "سيد السلاح" على الانتحار من خلال فتح جبهة الجنوب اللبناني على إسرائيل في حال استُعمل الخيار العسكري ضد سوريا أو إيران؟ أم أنه سيعتبر من "خطأ" حليفه "بشار الأسد"؟
لا شك أن "حزب ولاية الفقيه" يعيش اليوم أسوأ أيامه، فالمكابرة لم تعد تفيده، وخطابه عفا عليه الزمن، وهو خاسر في كلا الحالتين ما لم يتصالح مع شعبه ويذعن لمنطق الدولة وينخرط في جو الربيع العربي.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 13/11/2011
37- تحرير سوريا قبل تحرير فلسطين
إن العدو الإسرائيلي بعدوانيته، وإرهابه، ومكائده، واحتلاله فلسطين وأجزاء من لبنان وسوريا، يبقى أساس المشكلة في هذه المنطقة التي لن ترتاح إلا بعودة الحق إلى أصحابه. لكن ماذا عن النظام السوري؟
لا جدال في أن تحرير فلسطين وسواها من الأراضي المحتلة قضية مقدسة في نفوس الشعوب العربية والإسلامية، كما في عقول المنصفين من العالم أجمع، بيد أنه في هذه الأيام العصيبة التي يعيشها الشعب السوري المصمِّم على انتزاع كرامته وحريته من فم الأسد، بات تحرير سوريا مقدَّمًا على تحرير فلسطين للأسباب التالية:
أولا: النظام الأسدي قتل من السوريين أكثر مما قتلته إسرائيل: أكّد النظام الحاكم في سوريا منذ أربعة عقود ونيّف أنه أشد وحشية وإجرمًا من العدو الصهيوني، وقد برز ذلك في عدّة محطات دامية أثبتت أن ارتكاب المجازر هو عادة متبعة في عائلة "الأسد" يتوارثها الأبناء عن الآباء.
وذلك بدءًا من مما اعترف النظام بفعله في "حماه" سنة 1982، يوم هدم ثلثي المدينة بمساجدها وبيوتها وحواريها، وقتل 39ألف شخص، باعتراف "رفعت ألأسد" قائد حملة الإبادة.
في هذه الأيام، وبعد ثلاثين عامًا على مذبحة "حافظ الأسد" وشقيقه "رفعت"، أثبت "بشار الأسد" وشقيقه "ماهر" أنهما نِعْمَ الوريثَين لوالدهما وأن "هذا الشبل من ذاك الأسد"، بعد إقدامهما على قمع انتفاضة الحرية والكرامة بحملة وحشية بربرية جعلت أهل "حماه" يرفعون لافتات كتبوا عليها "حافظ قتل جدي سنة 1982، وبشار قتل والدي سنة 2011". وقد حصدت آلة القتل "الأسدية" إلى الآن باعتراف المنظمات الدولية ما يزيد على 4آلاف شهيد، مع العلم أن العدد الحقيقي يفوق ذلك بأضعاف مضاعفة، خصوصًا مع منع المراقبين ووسائل الإعلام من دخول الأراضي السورية، ومع المقابر الجماعية التي تكتشف بين الحين والآخر، فضلا عن ما يزيد على عشرة آلاف معتقل ومفقود لا يزال مصير كثيرين منهم مجهولا.
ثانيا: النظام الأسدي قتل من الفلسطينيين أكثر مما قتلته إسرائيل: ففي عام 1976 اجتاحت سوريا لبنان للقضاء على "منظمة التحرير الفلسطينية"، فكان من قُتِلَ من الفلسطينيين على أيدي النظام السوري أكثر بكثير من الذين قتلتهم إسرائيل نفسها. وفي عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان بالاتفاق مع النظام السوري، فما كان من جيش "الأسد" إلا أن انسحب فورًا من مناطق المخيَّمات الفلسطينية إفساحًا في المجال أمام الجيش الإسرائيلي لاقتحامها وإبادة الفلسطينيين والقضاء عليهم. كما لذلك النظام الدموي باستغلاله "حركة حماس"، دور مهم في "محرقة غزة" التي اشتعلت أواخر عام 2008 حاصدة 1440 قتيلاً وأكثر من 5880 جريحًا، فضلا عن1300 قتيل لبناني وأربعة آلاف جريح آخرين حصدهم عدوان مريع طال الدولة اللبنانية وحدها في تموز 2006، فيما بدا طرفيَها المزعومَين وكأنهما أصيبا بالعمى!
ثالثا: النظام الأسدي يقتل من أبناء شعبه يوميًا أكثر مما تقتله إسرائيل من الشعب الفلسطيني: إن العدو الإسرائيلي يأبى أن يوجه آلة القتل التي يمتلكها إلى صدور "شعبه" الذي يعتبر أشلاءه من المقدسات، بخلاف النظام "الأسدي" الذي يقتل من السورين منذ نحو تسعة أشهر ما لا يقل عن 35 شخصًا يوميًا، علمًا أنه في فلسطين المحتلة ذاتها يمر الأسبوع والأسبوعان وربما أكثر دون أن يزهق الإجرام الإسرائيلية روح فلسطيني واحد!
رابعا: النظام الأسدي فاق العدو الإسرائيلي في فنون الإجرام والتعذيب: ومن ذلك ما تتناقله وسائل الإعلام من أفلام رعب وفظاعات تظهر "تفنُّن" زبانية النظام في قلع الأظفار والعيون، واستئصال الحناجر، وكسر الأصابع، وتقطيع الأوصال والأعضاء التناسلية، وحالات تعذيب الأولاد وتشويههم، وقتل الأطفال الخدّج، وسواها من ممارسات يترفّع العدو الصهيوني عن استخدام بعضها. هذا فضلا عن اغتصاب النساء والفتيات أمام أعين ذويهن وأزواجهن، وعمليات الإعدام العشوائية والاعتباطية، وإحراق البيوت ونهب الممتلكات.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن النظام السوري ظل طوال فترة حكمه يمانع دخول بعثات من "الصليب الأحمر" لمراقبة الأوضاع الإنسانية في سجونه، ولم يسمح إلا لبعثة يتيمة من هذه المنظمة بالاطلاع على أوضاع سجن واحد من فئة "الخمس نجوم" في دمشق قبل نحو شهرين، في حين تدخل هذه المنظمة السجون الإسرائيلية بانتظام.
خامسا: زوال النظام الأسدي مدخل لتقدُّم القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين واستقرار لبنان والمنطقة: تعتبر الصدقية في إعلان العداوة لإسرائيل مفقودة مع النظام "الأسدي"، الذي بنى خطابه وسياسته على الكذب والخداع والنفاق من خلال شعارات "المقاومة والممانعة والعروبة"، وهو ما ظهر بشكل جلي مع شهادة "رامي مخلوف" الذي اعتبر أن بقاء إسرائيل من بقاء النظام في سوريا، وهو ما تأكَّد على لسان كبار الساسة الإسرائيليين، وتعليمات "نتنياهو" لحكومته قبل (5 حزيران) بعدم التدخل في الشأن السوري، فضلا عن سَيل التحاليل والمقالات الفضائحية في الصحافة الإسرائيلية التي تشيد بـ"الأسد" ونظامه. وبناء على ما تقدّم، لم يعد أحد يثق بـ"اﻷسد" أو يصدّق أن لديه أدنى رغبة في تحرير اﻷرض المحتلة، خصوصًا بعدما استباح زبانيته اﻷراضي السورية والعباد بأبشع مما تفعل جيوش الاحتلال.
هذا بالنسبة للجولان المحتل، أما بالنسبة للقضية المركزية فلسطين، فدور سوريا و"محور الشر" الذي تنتمي إليه بقيادة إيران، يرتكز على عرقلة القضية الفلسطينية، واستغلالها، والمتاجرة بها لجذب الشعبية، كما يعمد إلى تغذية الإنقسام بين الفلسطينيين، ومن ثم التسلل عبر ذلك كله إلى بلدان المنطقة للسيطرة عليها.
ولعل خير دليل على ذلك، أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من تحقيق المصالحة فيما بين حركتي "فتح" و"حماس"، إلا بعدما بدأت الثورة السورية التي زلزلت أركان النظام وأضعفته، فأفلتت "حماس" من قبضته وأحسنت قراءة متغيرات "الربيع العربي"، فكان أن تم التوصل الى اتفاق مصالحة تاريخية برعاية مصرية جرى توقيعه في 3/5/2011 في القاهرة. وبذلك خسر نظام "بشار الأسد" في عز المواجهة مع أحرار شعبه ورقته الفلسطينية التي أمسك بها بالتعاون مع النظام الإيراني من خلال إسقاط "إتفاق مكة" للمصالحة الفلسطينية الذي أنجزه ورعاه الملك "عبدالله بن عبد العزيز" في شباط 2007، ثم من خلال تشجيع "حماس" على تنفيد الإنقلاب والسيطرة على قطاع "غزة" في حزيران منه، ومساندة دولة "حماس" بمختلف الوسائل لتكريس الانقسام وهي أفضل خدمة يمكن أن تقدَّم لإسرائيل.
أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين لم يحققوا تقدمًا ملموسًا وحقيقيًا في خدمة قضيتهم إلا بعدما تزلزل "محور الشر" ودخلت تركيا على مسار تثبيت واستكمال "مصالحة القاهرة"، فكان أن نالت فلسطين في 31/10/2011 العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "الاونيسكو"، في خطوة تشكل انتصارًا ديبلوماسيًا رمزيًا، وذا دلالات على طريق الاعتراف بها دولة في الهيئة العامة للأمم المتحدة.
أما بالنسبة إلى لبنان، فسوريا الجديدة بعد "الأسد"، ستبتعد بسياستها عن إيران وعن حزبها في لبنان، وستتخذ القرار الأساسي والنهائي بالاعتراف بلبنان دولة مستقلة ذات سيادة.
إن النظرة الجيو-سياسية للقائد "صلاح الدين الأيوبي" جعلته يقتنع أنه لن يستطيع تحرير "بيت المقدس" إلا بعد إسقاط دولة "العبيديين"، وقد أثبتَ صحة نظريته وتمّ له ما أراد، وها هي نظريته تثبت صحتها من جديد لكن مع "محور الشر" هذه المرة، لذلك نحن بدورنا نكررونقول: لا جدال في أن استعادة الحقوق المغتصبة من أهم الواجبات، غير أنّ تحرير سوريا قبل تحرير فلسطين.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 27/11/2011
38- نصر الله: العمالة مصلحة وطنية عليا!!
قاومت العين المخرز، وأكلت النعجة الذئب، وفر الأسد من الغزال...نعم، كل ذلك ممكن وقد حدث في لبنان سنة 2011، وتحديدًا في آخر يوم من تشرين الثاني.
بعد الضغوط الدولية الجادة والمنذرة بعقوبات مؤلمة ستطال لبنان إن لم يدفع الحصة المتوجبة عليه للمحكمة الدولية، وبعد الزلزال الكبير الذي لا يزال يزعزع أركان النظام "الأسدي" المتهاوي في سوريا، لم يجد فريق 8 آذار مفرًا من سداد حصة لبنان من تمويل المحكمة حتى آخر "سَنْتٍ" منها، لكن بعد مماطلة طويلة لم تخلُ من عراضات وعنجهيات وهوبرات تولى أمرها الجنرال ميشال عون. إلا أن بطل المسرحية الكبرى بلا منازع، كان رئيس حكومة "ربع الساعة الأخير" "نجيب ميقاتي"، وقد تم توزيع الأدوار على الشكل التالي:
حملة مركّزة من جنرال "الرابية" ترفض تمويل المحكمة رفضًا قاطعًا وتطعن في قانونيتها وشرعيتها، قابلها تهديد دعائي بالاستقالة من الرئيس "ميقاتي" في حال لم يتم تمويل المحكمة، رافقه موقف صادق داعم للتمويل من وزراء "جبهة النضال الوطني" التي تخطو بقيادة النائب "وليد جنبلاط" بانتباه وتأنٍ نحو قوى 14 آذار. واكب ذلك دعوة إلى إيجاد الحلول المناسبة وعدم التضحية بالحكومة من رئيس مجلس النواب "نبيه بري". كل ذلك، وسط صمت "مدوٍ" من "حزب ولاية الفقيه"، قائد الأوركسترا الحقيقي، وموزّع الأدوار الوحيد، وكاتب السيناريو والمخرج، في آن معًا.
وفي أول تعليق له على عملية التمويل، ظهرالأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" وكأنه يعلِن إفلاسه الفكري والسياسي والمنطقي، استعدادًا للحظة التي سيعلن فيها إفلاسه الشعبي عندما سيضطر إلى رفع يده عن "حركة أمل" وعن الطائفة الشيعية التي ستستعيد حرية قرارها مع سقوط النظام السوري، وسيتاح لها حرية العمل السياسي.
عندما نرى "حزب ولاية الفقيه" ممثلا برئيس وزراء حكومته -الذي اعترف شخصيًا أنه هو من قام بتعيينه- يموِّل محكمة تدينه بأدلة قوية، ولطالما وصفها "بالأميركية والإسرائيلية والظالمة" وأنها "ستذهب أدراج الرياح"، ندرك يقينًا أن هذا الحزب يعيش اليوم ومنذ 15 آذار2011 أسوأ أيامه وربما آخرها، وأكثرها إحراجًا بلا شك؛ فهو يرى من زاوية أولى محور "الشر" الذي ينتحل صفة "المقاومة" و"الممانعة" قد افتضح أمره وهو آخذ في الانهيار، ومن زاوية ثانية يرى قوى 14 آذار تستعيد تألقها وقوّتها وتماسكها، فلم يعد السلاح الميليشيوي يخيفها ولا الإصبع المرفوع يرهبها.
لم يلجأ "نصر الله" في مرافعته إلى منطق "عنزة ولو طارت" فقط والذي دأب على استخدامه في خطبه متذاكيًا ومستغبيًا سامعيه، بل طعمّه هذه المرة بمنطق "اللا منطق"، ليخلص في النهاية إلى التملّص من مسؤوليته الكاملة عن قرارتمويل المحكمة الدولية، وهو ما دفعنا الى التساؤل ما إذا كنا في 1كانون الأول أم في 1 نيسان؟!
فقبل يوم واحد من كلامه كنا نقول: إذا سلّمنا جدلا أن التمويل تم بخطوة فردية من الرئيس "ميقاتي"، فهذا اعتراف ضمني من "نصر الله" بالقبول به، وبالتالي بشرعية المحكمة ذاتها، وهو ما يعني أيضًا أن المحكمة نزيهة، وأن "سيد السلاح" خدع جمهوره وحاول خداع كافة اللبنانين بزعمه أن المحكمة إسرائيلية أميركية، وإلا -كما قال حطيم "ثورة الأرز" الدكتور "سمير جعجع"-"فلو كانت المحكمة كما تدّعون أميركية-إسرائيلية ومسيّسة، ألم يكن من المفترض أن تستقيل أكثريتكم فيُصبح الرئيس ميقاتي مستقيلاً وبالتالي لا يعد بإمكانه تمويلها، إلا اذا كان موقفكم من المحكمة تجاري ووفقاً لمصالحكم؟".
وأما بعد كلام "السيد" الأخير، فقد بات عليه أن يسلّم نفسه إلى محاكم حزبه أو محاكم الدولة اللبنانية إذا كان يعترف بها، لكي يحاكم بتهمة العمالة، أو على الأقل بتهمة تغطية العملاء، إن سلّمنا بأن "ميقاتي" أقدم على التمويل بغير علم الحزب. فبعدما زعم "نصر الله" أن ميقاتي "أخذ القرار (قرار التمويل) على مسؤوليته"، وأكّد أن "موقفنا من المحكمة هو أنها غير دستورية وغير شرعية، وهي محكمة أميركية إسرائيلية ومسيّسة وظالمة"، طمأن "أننا لن نوجد مشكلة في البلد وسنقدّم المصلحة الوطنية العليا"! فهل أصبح في قاموس "الحزب" القبول بالعمالة لإسرائيل وأميركا وتغطية العملاء الذين يموِّلون مصالح العدو، كلاهما مصلحة وطنية عليا؟!
وكأني بعد هذا الكلام بـ"خريف السلاح" يعاتب "سيِّده" قائلا: "ليتك لم تموِّل ولم تتكلّم، فالأول كان مصيبة، أما في الثاني فالمصيبة أعظم".
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 3/12/2011
39- الأبطال لا يُقتلون إلا غدرًا
إن الأسود لا يقتلون إلا في الظلام، وأصحاب الفكر النيَّر لا يستفزون إلا أهل الظُلمة، والأحرار لا يعاديهم إلا دعاة الاستعباد وعبيدهم...
تلك هي المأساة الكبيرة التي عانى منها لبنان على مر السنين، من عهد استقلاله الأول في 22 تشرين الثاني 1943 الى عهد استقلاله الثاني في 14 آذار2005 المستمرة مفاعيله وجهود اتمامه كاملا الى يومنا هذا؛ فكلما ظهر في هذا البلد بطل أو قائد أو سياسي أو عالم، ممن رفضوا الخضوع لقوى الظلام، ونجحوا في تخطي أسوار التقوقع الطائفي فدعوا الى الوحدة ونبذ الفرقة وحاولوا العبور بالرأي العام الى رحاب الوطن الواسعة، سارع أعداء لبنان الى العمل على إزاحة تلك الشخصية الفذة بشتى الوسائل، إما بالإغراء والاستقطاب، أو بالتهديد والابتزاز، أو بالسجن والنفي، أو بالقتل والغدر.
ولعل ميزة بطلنا المقدام الذي تحل علينا ذكرى استشهاده السادسة في 12كانون الأول من هذا العام، الأستاذ العزيز جبران تويني، الذي ما عرف في مسيرته ونضاله الصحافي والسياسي الاستدارة يومًا، ولا الخضوع ولا الخنوع ولا المداهنة ولا المسايرة، لعل ميزته أن أعداء الحرية حاولوا احتواء قلمه الصاعق وصوته الخارق ومنطقه الحارق بكل تلك الوسائل، فلما يئسوا من إمكانية تطويعه وإسكاته، قرروا اللجوء إلى سلاح القتل غدرًا، ذلك الأسلوب الدموي الدنيء الذي لا تتقنه إلا الأيادي القذرة التي تخشى النور ولا تعمل إلا في الظلام.
في هذه الأيام لا نستطيع تذكّر الأستاذ جبران تويني دون أن نذكر الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة التي تشكل امتدادًا للربيع العربي الذي استشرفه جبران في كتاباته وحرّض عليه وزرع بذوره، سواء في افتتاحياته الشهيرة، أو في الكتاب المفتوح الذي وجهه الى الرئيس السوري "بشار الأسد"، والى الشعب السوري.
أيها الأستاذ العزيز، إن بذور الحرية والسيادة والاستقلال التي نثرتها أنت وأحرار العالم حيثما حلَلْتم، وزرَعتَها أنت في محبيك وقرائك وتلامذتك وزملائك وسامعيك، قد حملتها رياح التغيير الى أرجاء لبنان والعالم العربي، فنبتت ونمت، وها هي تتفتح اليوم أزهارًا فوّاحة في الربيع العربي، معلنة طي صفحة خريف الأنظمة الديكتاتورية البائدة ونهاية شتائها الأسود.
واسمح لي في ختام هذه السطور أن أوجّه تحية من خلالك إلى أبطال سوريا، مستعينًا بجملة معبّرة اقتطعتُها من رسالتك المفتوحة التي أرسلتها عبر "النهار" الى الشعب السوري في 22/9/2005 حيث خاطبتَهم قائلا: "ثق يا أخي في سوريا بأننا الحلفاء الحقيقيون لك، وأن المافيويين هم أعداؤك، وأن معركتنا واحدة". أما أنت يا أستاذ فلا يسعني إلا أن أقول لك: إن الأبطال لا يُقتلون إلا غدرًا.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 11/12/2011
40- 2011..عام الحقيقة والربيع العربي
في كل عام يحاول البعض اختيار أفضل رسالة إلكترونية (email) وصلت إليهم في خلاله؛ لم أجد في نفسي دافعًا للمشاركة في هذه "الهواية" سوى هذا العام (2011)، وتحديدًا في الأسبوع الأخير من آخر شهر في السنة، حيث تلقيت بريدًا إلكترونيًا عبر مجموعة (yahoo) عبارة عن عرض مصّور مدّعم بشرح باللغة الإنكليزية، حمل عنوان "كيف يُصنَع النموذج"، وفيما يلي تفاصيله.
قام فريق من العلماء بتجربة على خمسة قرود، حيث وضعوا القرود في غرفة نصبوا في وسطها سُلَّمًا يعلوه قرط موز، وكلما حاول أحد القرود صعود السُلَّم للحصول على الموز كان العلماء يقتحون خرطوم الماء البارد على بقيّة القرود. بعد حين، كلما حاول أحد القرود صعود السلّم للحصول على الموز، كان الأربعة الباقون ينهالون عليه بالضرب لمنعه من ارتكاب الفعل الذي يتسبب برشّهم بالماء البارد، وهكذا مرة بعد مرة لم يعد أيُّ من القردة يصعد السُلَّم.
أراد الباحثون الذهاب الى أبعد من ذلك في تجربتهم، فقرروا التوقّف عن استعمال الماء، واستبدلوا أحد القرود بقرد جديد لم يشارك في التجربة الماضية وأبقوا على الأربعة الباقين، وعندما حاول الجديد صعود السلّم انهال عليه زملاؤه بالضرب، وبعد فترة لم يعد يصعد السلّم كرفاقه دون أن يدري لماذا.
استبدلوا القرد الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فتكرر الأمر نفسه (الضرب عند محاولة القرد الجديد صعود السلّم)، حتى بتنا أمام خمسة قرود لم تتعرض ولا تعلم بارتباط "عقاب" حمام الماء البارد بصعود السلّم، إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار هذه القردة بضرب أي قرد جديد يضاف إلى مجموعتها إذا حاول صعود السلّم للحصول على الموز.
بعد مشاهدتي العرض الممتع لهذه الرسالة، لم أستطع حبسه في إطار البحث النفسي الذي أراده له مصمّمه غير العربي، ولم اجد في نفسي مفرًّا من إسقاطه على الواقع السياسي الذي تعيشه المنطقة منذ مطلع العام 2011؛ فـ"قرط الموز" هو الحرية والكرامة، و"السلّم الموصل إليه" هو الاعتراض على الأمر الواقع والثورة على الاستبداد والظلم، أما "حمام الماء البارد" فهي ألوان الاضطهاد التي يتعرّض لها الأحرار دفاعًا عن كرامتهم وحرية، وأنهار الدماء الزكية التي يسفكها الحكام المجرمون لقمع أي انتفاضة شعبية تهدد عروشهم. أما "القرود" (في آخر العرض) فهم الذين استسلموا لآلة الإجرام التي تعرّض لها آباؤهم وأجدادهم، ورضوا بتدجين طاغيتهم لهم على مذى عقود طويلة، وسمحوا له باستباحة عقولهم وأفكارهم بشعارات دعائية فارغة، فتخلوا عن حريتهم وكرامتهم وأصبحوا يمجدون العبودية والتبعية والخنوع والذل وتأليه الزعيم.
في رأيي المتواضع، هذا هو "إيميل" العام 2011، عام الربيع العربي الذي انتفضت فيه بعض الشعوب على طغاتها فاتنزع بعضها حريّته وكرامته بعد عقود من الذل والطغيان كما في تونس ومصر وليبيا وإلى حد ما اليمن، ولا يزال بعضها يخوض درب الجلجلة وهو قاب قوسين أو أدنى من عيد الحرية والكرامة كالشعب السوري البطل الذي سيحرر معه شقيقه الشعب اللبناني الأسير.
نعم، لبنان مهد الثورات العربية وموطن أمّها "ثورة الأرز"، ومن غير المقبول أن يعود الى خريفه في حين تحقق الشعوب المقهورة ربيعها، لكن هذا البلد خضع في مطلع العام 2011 لانقلاب أسود نفذه أصحاب القمصان السود، فأسقطوا حكومة الرئيس سعد الحريري أو ما سمّي بحكومة "الوحدة الوطنية" بإفقادها نصابها الدستوري بعد استقالة وزراء 8 آذار بمن فيهم الوزير الوديعة أو "الخديعة" المحسوب زورًا على رئيس الجمهورية، وبعد بضعة أيام نصّب المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية حسن نصر الله الرئيس نجيب ميقاتي رئيسًا لحكومة "ربع الساعة الأخير".
كانت الضارة نافعة، فانتفض ثوّار الأرز وأفاقوا من غفوتهم، أدركوا أنه في وجه وصاية السلاح الساحة أقوى سلاح، فقالوها مدوية مليونية في ساحة الحرية في 14 آذار 2011: "الشعب يريد إسقاط السلاح".
سقطت هيبة السلاح الميليشيوي في نفوس الأحرار وامتدت عدوى الحرية الى سوريا، فانتفض الشعب السوري البطل وأعلن بداية ثورته في 15 آذار 2011 لإسقاط نظام من نصّب نفسه بالحديد والنار أسدًا على شعبه حَمَلاً وديعًا مسالمًا مستسلمًا مع عدوّه.
شُكَّلت حكومة الإنقلابيين في لبنان في 13/6/2011، وعلى الفور تلقت عدة كرات من اللهب، أبرزها اقتراب صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، واستحقاق تمويل المحكمة الدولية، فضلا عن معارضة شرسة تقف بالمرصاد وإن كان ينقصها مزيد من الفاعلية.
صدر القرار الاتهامي في 30/6/2011 مبيِّنًا تورط عناصر من "حزب ولاية الفقيه" بأدلة قوية بارتكاب "جريمة العصر"، فتكشفت خيوط الحقيقة ودخل لبنان في ربيع العدالة بعد نحو ثلاثة عقود من الجرائم والاغتيالات السياسية دون حسيب أو رقيب، وتهرّبت الحكومة بطرق مكشوفة من إلقاء القبض على من صدرت بحقهم مذكرات التوقيف، ولا عجب فالمجرم لا يقبض على نفسه، ولا يسلّم نفسه إلا عندما يستيقظ فيه الضمير.
جاء أوان استحقاق تسديد لبنان حصته من تمويل المحكمة الدولية؛ لبنان مهدد بعقوبات دولية قاسية إن لم يسدد، والنظام السوري المتهالك غارق في ورطة الثورة ومنغمس في دماء أحرار شعبه، و"حزب ولاية الفقيه" لا يريد فرط عقد حكومته بعدما تبيّن أن النائب وليد جنبلاط بدأ استدارة جديدة نحو 14 آذار وأن وزراءه يؤيّدون التمويل وإلا فربما الاستقالة.
موّل الحزب المحكمة في 30/11/2011 بتمثيلية كان بطلها الرئيس نجيب ميقاتي، إلا أنها كانت ضعيفة الإخراج فلم تنطلِ إلا على البسطاء، وبذلك يكون "حزب السلاح" قد اعترف بنزاهة المحكمة وشرعيتها، وبرّأها من تهم العمالة والخيانة والتسييس التي لطالما كالها إليها لأغراض تحريضية شعبوية تجارية دعائية، لإبعاد التهمة عن نفسه وتضليل شعبه.
ها هو العام 2011 قد أسدل ستاره على منطقة يتبدل مناخها السياسي من الخريف الى الربيع، ففي لبنان خريف السلاح ربيع الاستقلال والعدالة، وفي سوريا خريف النظام البائد ربيع الحرية والكرامة الذي سيزهر في البلدين الشقيقين مع بزوغ فجر اليوم المنتظر الذي سنشهد فيه انهيار النظام الأسدي عما قريب في العام 2012 بإذنه تعالى.
عبدو شامي
موقع سياسة دوت كوم، نشر 2/1/2012
التعليقات (0)