1- 2010 عام الاعتذار وترقّب القرار (عام النكسات الاستقلالية)
2- جرأة استثنائية لحفظ التعددية
3- شكرًا أيها الانقلابيون!
4- احذر يا بشار عربة الخضار!
5- لماذا عمر كرامي؟!
6- مرشّح وفاق أم مرشّح نفاق! (مرشّح وفاق أم ماذا؟!)
7- خطة للاستيلاء على السلطة
8- ارفع رأسك أيها الاستقلالي
9- طروحات متقاربة لمشروع واحد
10- السلاح نصف المشكلة وخوفنا نصفها الآخر
11- مشروع صهيو-أميركي من تنفيذ إيراني
12- اشتقنا يا ساحة الحرية
13- ثورة ولدت من جديد
14- من أفغانستان والعراق البداية
15- فلسطين والخنجر الصهيو-إيراني
16- لبنان في قبضة قوى التقسيم
17- ربيع لبنان يمر في سوريا
18- تقسيم السودان نموذج يراد تعميمه
19- لبنان الشركة والمحبة
20- شرارة الفوضى الخلاقة.. الثورة التونسية
21- نهاية معزوفة الممانعة والمقاومة
22- الهجاء الغزلي والعطف الأوبامي!
23- مصر..بين مطرقة الإخوان الإيرانيين وسندان الجيش الأميركي
24- ...وفي 5 حزيران انتحر النظام
25- حكومة ربع الساعة الأخير
26- وللعدالة ربيعها أيضًا
27- وزير الداخلية و"الخصوصيات"!
28- مراسلة بين متطرف ومعتدل
29- هكذا ستنهار 8 آذار
30- رؤوس أقلام لوزير الإعلام
31- حزب المنبوذين ما لم يسلّم المطلوبين
32- لم يبدل ثوابته ولكنه أساء التقدير
33- أخطأ الراعيان وأصابت الرعية
34- تحليل رياضي للوضع السياسي
35- حكومة "سفاح القربى"!
36- بعدما انتحر الأسد، هل ينتحر نصر الله؟!
37- تحرير سوريا قبل تحرير فلسطين
38- نصر الله: العمالة مصلحة وطنية عليا!!
39- الأبطال لا يُقتلون إلا غدرًا
40- 2011..عام الحقيقة والربيع العربي
1- 2010 عام الاعتذار وترقّب القرار
في العام 2010، اعتقد معظم المحللين منذ بدايته انه سيشهد اعلان القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبعها من اغتيالات حصدت ثلة من خيرة قادة "ثورة الارز". ونظراً لوجود فريق متخوِّف من اعلان الحقيقة إلى حدِّ الذُعر، كان لمرحلة ترقُّب صدور القرار الاتهامي اثرها السلبي على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد طوال العام الماضي.
وقد حفل العام 2010 بعدد لا بأس به من الحوادث المهمة مقارنة مع العام 2009. وكان محور حوادث العام بلا منازع، حملة التهويل والتخويف والترهيب التي شنّها فريق 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه"، ضد قيادات وجمهور 14 آذار والرأي العام العالمي، جازما بأن القرار الاتهامي سيطاوله، ومنذرا بفتنة سنية - شيعية قد يشعلها صدوره إن لم يُسارعوا الى اعلان تخلّيهم عن المحكمة، ووقف تمويلها وسحب القضاة اللبنانيين منها، ورفض القرار الاتهامي مسبقا، بصرف النظر عن الأدلة التي سيستند إليها.
والى جانب هذا الحدث الرئيس، يمكن اختيار حدثين آخرين كان لهما وقع مؤثر على المشهد السياسي اللبناني.
الاول، كان المصالحة ما بين الرئيس السوري بشار الاسد والنائب وليد جنبلاط. فمنذ مؤتمر "البوريفاج" الشهير في 2 آب 2009، الذي أعلن فيه جنبلاط انقلابه على تاريخه الاستقلالي وسنوات النضال المشرّفة التي أمضاها مع 14آذار، واصل استدارته علّ "توبته" تلقى القبول. وقد "قبلت فعلا" في 31/3/2010، عندما استقبله الاسد في دمشق، وذلك بعدما تلا جنبلاط "فعل الندامة" عبر قناة "الجزيرة"في 13/3/2010، قائلا:"صدر مني في لحظة تخلٍّ، كلام غير لائق وغير منطقي في حقّ الرئيس بشار الاسد(...)، هل يُمكنُه تجاوز تلك اللحظة وفتح صفحة جديدة؟ لست ادري!". وتطرق إلى ذكرى استشهاد والده فقال: "اليوم ستختم هذه المرحلة. آنذاك قلت أسامح ولن انسى، اليوم اسامح وانسى!". انهت هذه الزيارة التاريخية، قطيعة دامت زهاء ست سنوات، في ما اعتبر تعزيزاً للمكاسب السياسية السورية في لبنان.
الحدث الثاني كان من نصيب الرئيس سعد الحريري. ففي مقابلة اجرتها معه صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، ونشرت في 6 ايلول 2010، اعتذر الحريري من سوريا عن اتهامه إياها سياسياً باغتيال والده، كما اعترف لقوى 8 آذار بوجود "شهود زور" في التحقيق الدولي قائلاً: "نحن في مكان ما ارتكبنا اخطاء. في مرحلة ما، اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى". "هناك اشخاص ضلَّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان (...). شهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة ما بين البلدَين وسيَّسوا الاغتيال، ونحن في لبنان نتعامل مع الامر قضائياً".
وكان لذلك التصريح انعكاس سلبي على القوى الاستقلالية، فقد عُدّ تنازلاً موصوفا من الدرجة الاولى معنوياً وسياسياً ومبدئياً، وهو لا شك مرفوض من القاعدة الشعبية الاستقلالية، ولا سيما اننا لا نزال في مرحلة التحقيق الدولي والمحكمة لم تلفظ قراراها الاتهامي بعد.
وقد اتخذَت حملة ملف ما يسمى "شهود الزور" منحى اشد زخما وعنفا، مستندة الى اعتراف الحريري بوجودهم، فأخذت القوى الانقلابية تطالب صراحة بإحالته على المجلس العدلي عبر مجلس الوزراء، وإقرار تفاهم سياسي داخلي لتنظيم عملية إبطال مسبق لأي قرار اتهامي مهما تكن الادلة التي سيستند اليها.
وكان من نتائج هذه الحملة أن وُضِعَت الحكومة أمام معادلة قديمة-جديدة فرضها التوازن السلبي والفريق المعطِّل، تتمثل في تحويلها رهينة لملف "شهود الزور"، مما يعني شلّها تحت وطأة الضغوط المتصاعدة لبت هذا الملف، ومنعها من معالجة أي جدول أعمال قبل حسم هذا الموضوع. وكذلك تم تعطيل جلسات هيئة الحوار العقيم، التي تبحث موضوع الاستراتيجية الدفاعية.
وفي هذا المناخ التعطيلي المتشنّج، مضى عام 2010 دون ان يشهد صدور القرار الظني خلافاً للتوقعات التي سادت خلاله، إلا أن تحاليل أهل الخبرة وإن خابت بالنسبة لتوقيت صدور القرار، فقد صدقت في ما يتعلّق بالشأن الحكومي والعلاقة مع سوريا.
إذ خلافاً لأجواء التفاؤل المضخّمة والمزيَّفة، وما وُصِفَ بـ"النيّات الحسنة"، التي طغت على الخطاب السياسي عقب الإعلان عن ولادة حكومة ما سمّي بـ "الوحدة الوطنية" أواخر عام 2009، فقد أثبتت الأخيرة عجزها وفشلها في تحقيق أي إنجاز يُذكَر، سواء على صعيد الملفات الشائكة كملفي التعيينات والموازنة وتمويل المحكمة الدولية، أوعلى صعيد أولويات وهموم الناس، كملفات الماء والكهرباء، التي اتخذت الحكومة منها عنواناً عريضاً في بيانها الوزاري. وبذلك كانت "حكومة الدوحة الثانية" إعلاناً صارخاً لفشل ما أطلقوا عليه تسمية "الديموقراطية التوافقية"، وحكومة "الوحدة الوطنية".
أما على صعيد العلاقة مع سوريا، فقد ترجمت حوادث العام وخصوصا مذكرات التوقيف السورية المتعلقة بقضية "شهود الزور" المرفوعة من اللواء جميل السيد لدى القضاء السوري، والتي طاولت فريق الحريري بشكل مباشر، امتعاضاً سورياً من سلوك الاخير الذي لم ينفّذ الاستدارة المأمولة منه بعد زيارة دمشق الأولى، إن لجهة انسحابه التدريجي من قوى 14 آذار بدءا بالتمايز عن طروحاتها، وصولا إلى إطلاقه رصاصة الرحمة على التيار الاستقلالي، بفرط تحالفه مع "القوات اللبنانية".
واننا اذا تأملنا هذا الواقع السياسي والحكومي الاليم، سوف ندرك أن لبنان ينزلق يوما بعد يوم نحو مرحلة ما قبل 2005، الامر الذي سيؤدي حكما الى عودة الوصاية. فقد تمكّن حلفاء سوريا وإيران من وضع اليد مجددا على الدولة اللبنانية، على الصعيدين الامني والحكومي على اقل تقدير.
والآن، لم يعد أمام الفريق الانقلابي المسلّح لكي يستعيد امساكه بالدولة بشكل كامل ونهائي، سوى معركة اسقاط المحكمة الدولية لبنانياً، والتي يعني فوزه فيها القضاء على آخر ما تبقى من مفاعيل "ثورة الارز" ومنجزاتها.
فهل سيبقى الفريق الاستقلالي صامدا في تمسّكه بالمحكمة مهما ينتج عن قرارها الظني المرتقب من تداعيات، أم سينجح الفريق الآخر في انقلابه؟ هذا ما ستجيب عنه السنة 2011.
عبدو شامي
إيلاف، نشر 31/12/2010، وموقع ليبانون ديبايت، ونهار الشباب بعنوان: 2010..عام النكسات الاستقلالية، نشر 6/1/2011
2- جرأة استثنائية لحفظ التعددية
الأصل عندما نبحث في قضايا الوطن، ان نتكلم لغة المواطنة، لكن هلا تساءلنا عن سبب التصنيف الطائفي الذي يسود خطابنا السياسي منذ مدّة؟
ان الدافع الأساسي وراء اعتماد ذلك التصنيف، انما يعود الى وجود حزب في لبنان احتكر تمثيل وقرار الطائفة التي ينتمي اليها، وجرّها الى مشروع عقائدي عابر لمساحة الوطن، ينطلق من طهران ولا ينتهي في بيروت وغزة، ولولا هذا المشروع المصبوغ طائفياً ومذهبياً، والمتناقض حتى العظم مع الصيغة اللبنانية المبنية على التنوع والتعددية واحترام الحريات والعيش المشترك، لما سمعنا بلغة التصنيف الطائفي التي تفرز ابناء الوطن الواحد وفق اعتقادهم الديني، وهنا بيت القصيد.
نقول هذا الكلام، لكي نتخذ منه مدخلاً واساساً لمناقشة مشروع القانون الذي تقدم به الوزير بطرس حرب (في 30/12/2010)، والذي "يمنع لمدة 15 سنة بيع العقارات المبنية وغير المبنية الكائنة في لبنان بين أبناء طوائف مختلفة غير منتمية إلى دين واحد".
أولاً: نشكر الوزير على الجرأة في طرحه مشروع هذا القانون الوطني بامتياز، وهي تنم بالتأكيد عن غيرته على الصيغة اللبنانية الاسلامية - المسيحية الفريدة، وحرصه على وحدة البلاد؛ فقد تجرّأ على البوح بصوت عال ومن المنابر الديموقراطية والمؤسساتية بما خجل او رفض كثيرون من نواب المناطق اللبنانية المعنية اثارته والتعرّض له!
ثانياً: ان مشروع القانون لم يأت من فراغ. فمنذ سنوات عديدة، واللبنانيون يشعرون بوجود مخططات تتوسّل السلاح "المقاوم" والمال "الطاهر" لتغيير وجه لبنان عبر تغيير تركيبته المرتكزة على التعايش ونسف معطياته الديموغرافية والاجتماعية، من خلال التسلل المنظم نحو مناطق محددة حيث تُستملك أراض وتقام عليها المشاريع والمجمعات السكنية ذات اللون الواحد، من قبل فريق له مشروعه السياسي "الالهي" العابر للحدود، والساعي وراء انتاج اشكال جديدة من الحضور المناطقي، تبدِّل التوازنات الوطنية التي يستند اليها لبنان تاريخيا.
ونتيجة لذلك الاستيطان المنظم والمدعوم بمئات ملايين الدولارات "النظيفة"، بدأنا نشعر بالغربة في وطننا، بفعل التغيّر الملحوظ الذي طرأ على معالم بعض المناطق اللبنانية، مع نشوء دويلات مناطقية تنذر تركيبها الأحادية المستجدة بخطر ديموغرافي لا ينتظر سوى "التكليف الشرعي" لاعلان التقسيم رسميا، والحاق لبنان بالنموذج السوداني، المنسجم مع المشروع الاسرائيلي!
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما يحصل في منطقة جرود جبيل، اذ يجري العمل على ربط البقاع الشيعي بمنطقة جبيل الشيعية، وهذا يعني اننا امام خط عسكري يربط سوريا بالبقاع بجرود جبيل وصولا الى الضاحية الجنوبية. وقد بدأ هذا الخط يلامس قرى كسروان ذات الوجود الشيعي الضئيل، مع محاولة الربط بينها وبين بعلبك. كما نذكر ما شهدته أخيراً بلدتا مرجعيون والبويضة جنوبا، من بيع آلاف الدونمات من الاراضي، في محاولة لصبغ المنطقة طائفيا بلون محيطها.
ثالثاً: ليست الديموغرافيا المسيحية وحدها التي تجب حمايتها، وان كانت الأكثر والاسرع تأثراً حتى الآن. فظاهرة بيع العقارات ليست حكراً على المسيحيين، بل تطال الدروز والسنة ايضا، وهاتان الطائفتان معنيتان بالخطر نفسه وتحتاجان الى الحماية نفسها، ما يتطلب توسيع نطاق مشروع القانون ليشمل بحظره بيع العقارات بين طوائف الدين الواحد، بهدف حماية كل الديموغرافيات اللبنانية - بما فيها الشيعية طبعا ً- من محاولات سلخها عن بيئتها التاريخية.
فبالنسبة للدروز والمسيحيين: تتعرض بلدات حاصبيا وراشيا ومدينة الشويفات وصحراؤها وساحل عاليه وسوق الغرب والشوف وبعض قرى المتن وجزين...لهجمة عقارية غير مسبوقة ادت الى تحول مساحات شاسعة من عقاراتها التابعة لدروز ومسيحيين الى مالكين "حزبيين" مموّهين ومكشوفين من الطائفة الشيعية ليسوا من اهل تلك المناطق الاصليين.
اما بالنسبة للسنة، فقد تحولّت مدينة صور من مدينة سنية الى مدينة شيعية في غضون 40 عاما تقريبا، وها هي الاوقاف السنية، من مساجد وسواها تتعرض للتبدل في صور وبعلبك والجية. ولن نذهب بعيدا، فها هي المناطق المعروفة على مر التاريخ بالاكثرية السنية في العاصمة بيروت، تتعرض لحملة اغراءات غير مسبوقة من قبل جهات محسوبة على "حزب ولاية الفقيه"، يتم على اثرها شراء اراض وعقارات وشقق يتغيّر مع استملاكها طابع المدينة واحيائها.
ومن هنا، كان من المستغرب أن ينتقد المشروع نائبا بيروت تمام سلام ونهاد المشنوق، فهل فاتهما وضع اهل السنة الحالي في المنطقة التي يمثلانها، ولن نسألهم عن الوجود المسيحي فيها الذي اختفى؟! ألم يعلما بعد حجم النزوح السكاني السني من بيروت الى خارجها وتحديدا باتجاه عرمون وبشامون والدبية وجدرا... ألم يخبرهما أحد عن مدى التغيّر الديموغرافي المهول الذي يطغى على البيوت والعقارات المملوكة اصلا من السنة في البسطة والنويري وبربور والمصيطبة والباشورة ورأس النبع وبرج ابي حيدر وحي اللجا ومار الياس وعائشة بكار وغيرها من المناطق البيروتية الاسلامية السنية "سابقا"؟ وماذا عن الاوقاف السنية المغصوبة في منطقة الاوزاعي؟ فهل يحق لهما الاعتراض على هذا المشروع إن كانا حقاً يمثلان بيروت والمقعد السني فيها؟!
نعلم ان البعض يفاخر بعلمانيته ويشعر بالحرج اذا تحدّث باسم طائفته، لكن هل تعني العلمنة السكوت عن تشييع بيروت، فضلا عن ضرب النسيج الاجتماعي اللبناني ونسف العيش المشترك؟!
رابعاً: ان مشروع الوزير حرب نابع في حقيقته من روح الدستور ومنسجم مع مبادئه، ولا يتعارض معه الا في الظاهر. فمما لا شك فيه ان المشرّع عندما نص على"أن أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين، فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان"، كان ينظر الى الاحوال العادية والطبيعية، اي عندما تكون البيوع العقارية تتم في شكل عفوي ومتقارب بين ابناء مختلف الطوائف، فهذا عامل صحة، اما ان تتم الغالبية العظمى من هذه البيوع باتجاه واحد وفي مناطق محددة ولطائفة واحدة ولحزب فيها له مشروعه المكشوف، فهنا الخطر بعينه. ومن هنا فإن التذرّع بذلك النص الوضعي لرفض مشروع الوزير حرب، وعدم المبادرة الى تعديله او صوغ استثناء له، من شأنه ان يقضي على الدستور والعيش المشترك معا باسم الدستور، ويجعل من النظام اللبناني الفريد يعدم نفسه بنفسه!
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 13/1/2011، وموقع القوات اللبنانية، وليبانون ديبايت
3- شكرًا أيها الانقلابيون!
في الثاني عشر من الشهر الجاري، وبعد تلقيهم الاوامر من المحور الايراني-السوري، اتخذ الفريق الانقلابي قراره الانتحاري، فقدم استقالة وزرائه الجماعية بمن فيهم الوزير المتستر والمتواري، فاسقط الحكومة بافقادها نصابها الدستوري.
شكراً ايها الانقلابيون، لانكم قدّمتم استقالتكم الجماعية من "حكومة الدوحة الثانية"، ففجرتم لغم الثلث المعطل القاتل، واسقطتم حكومة "المساكنة القهرية والتكاذب الوطني".
شكراً، لانكم اعدتم عقارب الساعة الى تاريخ اليوم المجيد في 7حزيران2009، وارجعتم للقوى الاستقلالية فوزها الثمين في الاستحقاق الانتخابي، بعدما نجحتم في اجهاض مفاعيله بفرض حكومة مصابة بفيروس الثلث القاتل، ولا تعكس نتائج الانتخابات النيابية.
شكراً، لانكم كشفتم عن حقيقتكم أمام الرأي العام العربي والاسلامي والدولي، فأسقطتم بالضربة القاضية قناع احترام التواقيع والوفاء بالالتزامات والعهود المهزوز اصلا، واعلنتم ان لا قيمة عندكم لبيان وزاري ولا لاتفاق دولي ولا لالتزام قدمتموه على طاولة حوار وطني.
شكراً، لانكم علّمتم القوى الاستقلالية اخيرا ان لا تثق مجددا بالتزاماتكم، الا اذا ترافقت مع ضمانات اكيدة ووساطات دولية.
شكراً، لانكم اطحتم باتفاق الدوحة، اتفاق "الغالب والمغلوب" غير المأسوف على وفاته، الذي حاولتم من خلاله الالتفاف على الدستور، وفرضه كبديل يزاحم اتفاق الطائف، تمهيدا لصياغة دستور جديد مفصل على مقاسكم للبلاد.
شكراً، لانكم نسفتم اكذوبة ما سمي بـ"حكومة الوحدة الوطنية"، واكدتم فشل بدعة "الديموقراطية التوافقية".
شكراً، لانكم اثبتم ان هموم الناس ومطالبهم المعيشية ليست من ضمن اولوياتكم، بل هي احدى وسائل استمراريتكم ودعايتكم الشعبوية.
شكراً، لانكم باستقالتكم وتصرفاتكم التهويلية والتعطيلية، جنّبتم اللبنانيين والرأي العام العربي والاسلامي الصدمة التي كانت ستصيبهم لحظة الاعلان عن الحقيقة المدوية.
شكراً، لانكم جعلتم الرئيس سعد الحريري اكثر صلابة بتحريره من اسر وضغوط منصب اضعفه وقيّده، لانه لم يرض الا ان يكون فيه رئيس حكومة كل لبنان وكل اللبنانيين.
وأخيراً، شكراً، لانكم ايقظتم المارد الاستقلالي من غفوته، واعدتم اشعال فتيل "ثورة الازر" التي لن تسمح لانقلابكم بالنجاح.
فلا تسوية على العدالة ولا الكرامة، ودفاتر الشروط نحن الاكثرية مَن يُمليها ولا تُملى علينا، ولا تسوية الا على اساس الطائف وبضمانات دولية، والا فلن نرضى بالحريري الا رئيسا لحكومة اكثرية، وفائض السلاح لن يصرف بعد "الدوحة" في السياسة الداخلية، فزمن الرضوخ للتهويل والتهديد والابتزاز مضى وانقضى، والمحكمة مستمرة وقرارها سيصدر وسيفضح المجرمين على رؤوس الخلائق في الدنيا قبل الآخرة.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 17/1/2011، ونهار الشباب
4- احذر يا بشار عربة الخضار!
ما أعظم الثورات عندما تندلع في وجه الطغاة، لنيل مطالب عادلة، ومن اجل قضايا محقة، ويا لشرف ثوارها.
فبعد "ثورة الأرز" في لبنان التي اندلعت على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 مطالبة بكشف الحقيقة واستعادة الحرية والسيادة والاستقلال، وبعد "الثورة الخضراء" في إيران التي أشعل فتيلها عام 2009 الانتخابات المزوّرة التي اعادت الديكتاتور احمدي نجاد الى سدّة الرئاسة بمباركة "الولي الفقيه"...ها نحن نشهد اليوم ثورة جديدة في تونس تدعى "انتفاضة الياسمين"، وهي ثورة كسابقتَيها ولدت من رحم الظلم والقمع والقهر والطغيان، وتجرأت على نزع يد طاغيتها التي لطالما كمّت الأفواه وأدمت الجباه، فرفعت الصوت عاليا ونزلت بانتفاضة شعبية لاسقاط الديكتاتورية من اجل الحرية وتحسين الاوضاع المعيشية، واضعة جلادها امام خيار واحد لا يقبل الجدال ولا الابدال: التنحي عن السلطة والانتقال الى مزبلة التاريخ.
كانت الشرارة الاولى في 17/12/2010، عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في ولاية "سيدي ابو زيد" يأساً من البطالة وقمع الشرطة التي صادرت منه عربة خضار كان يسترزق منها علّه يؤمّن خبزه كفاف يومه! ولم يكن في حسبان النظام الديكتاتوري ان ما اقدم عليه هذا الشاب سيتحول شرارة مواجهات عمت العاصمة ومعظم المدن التونسية الرئيسية، على خلفية تزايد أعداد العاطلين عن العمل واستشراء الفساد والمحسوبية داخل النظام وتقييد الحريات المدنية، لتتوج في 14/1/ 2011 بدفع طاغيتها زين العابدين بن علي اخيراً الى التخلي عن السلطة مرغماً، ومغادرة البلاد فرارا الى السعودية.
وحتى اللحظات الاخيرة التي سبقت رحيل بن علي الذي حطت طائرته في مطار جدّة حيث استضافته العائلة المالكة بعدما اغلق في وجهه اكثر من مطار، حاول الاخير عبثاً التشبث بالسلطة عبر سلسلة من الاجراءات، فأعلن حال الطوارىء في انحاء البلاد وأقال الحكومة ووعد بإجراء انتخابات نيابية في غضون ستة أشهر بعدما كان وعد في 12/1/2011 بألا يترشح للرئاسة سنة 4201، لكن ذلك لم يوقف موجة التظاهرات والصدامات التي ظلت مصممة على الخيار الوحيد، فاستمرت شهرا وأدت إلى سقوط 66 قتيلا على الاقل، وكانت الاكثر حشداً يوم الحسم والنصر المبين.
وبذلك أطاحت الاحتجاجات الشعبية على القمع والفقر في تونس، الرئيس زين العابدين بن علي (74 سنة) الذي لم يجد حيالها سبيلا سوى الفرار من البلاد بعدما حكمها بقبضة من حديد طوال 23 سنة، وكان يُعِدُّ نفسه للبقاء رئيساً مدى الحياة، من غير ان يدرك أن عربة خضار قد تفقده يوما ما القرار، وتدفعه مذلولاً الى الفرار، ليصبح اول رئيس عربي يسقط بانتفاضة شعبية، في حدث غير مسبوق عربياً بدأت تتردد أصداؤه حتماً في أكثر من دولة عربية، حيث تواجه أنظمة الحكم ضغوطاً مشابهة ونقمة متنامية، بسبب الديكتاتورية وقمع الحرية والمصاعب الاقتصادية، وسواها من الانتهاكات اليومية، ولنضرب مثالاً على ذلك سورية.
فالجمهورية العربية السورية منذ ما سمي بـ"الحركة التصحيحية" المشؤومة التي استولت على السلطة عام 1970، ترزح تحت جزمة "حزب البعث العربي الاشتراكي"، الذي عقد لواء الحكم لعائلة الاسد الى الابد، واخضع الشعب السوري ومن ثم اللبناني لنظام استخباراتي حديدي يعيش على القمع والقتل والاغتيال، ويقتات من الظلم والفساد والاستبداد.
فعلى الصعيد السياسي: الشعب السوري يشعر انه اسير معتقل في وطنه السجين، ويتوق اليوم الى الحرية والتعددية الحزبية والديموقراطية والقضاء المستقل العادل، والعمل السياسي في النقابات والجامعات، كما يتطلع الى اعلام مستقل غير ممسوك ولا موجّه، والى صحافة حرة، فلم تعد تستهويه مشاهدة نشرات الاستقبال والتوديع، ولا قراءة صحافة الابواق الاستخباراتية اليومية الحافلة بالشتم والتخوين....
لقد ضاق الشعب السوري ذرعا بالحزب الواحد الحاكم ابدا، وملّ الشعارات البالية المبرمجة على الصراخ والتصفيق، وترديد اناشيد المبايعة القهرية، واشمأز من المتاجرة بالقضية الفلسطينية والمحاضرة باسم العروبة، وهو يرفض بلا شك تصدير السلاح والعنف والتطرف والارهاب الى الدول المجاورة، والتدخل في شؤونها الداخلية، وقمع المعارضين بالحديد والنار، وامتهان فنون التعبير وتدنيس الكرامات الانسانية، فسجل النظام البعثي حافل بتقارير جمعيات حقوق الانسان العالمية حول عمليات القمع الدموية.
اما على الصعيد الاقتصادي: فالاوضاع المعيشية صعبة، ونسبة الفقر عالية وتستغلها ايران لتشييع الشعب السوري خصوصا في القرى، وبعض الوظائف محرمة الا على "الرفاق"، والعائلة الحاكمة وضعت يدها على مقدرات البلاد، واحتكرت الثروات، وفرضت نفسها شريكا مساهما ومضاربا الزاميا في الشركات والصفقات والتجارات.
ولا يختلف نمط تعامل النظام السوري مع لبنان عما هو الحال في سوريا: فبعدما إجتاح النظام العلوي لبنان واحتله، سرقه وحرقه ودمره ونهبه واغتال خيرة رجالاته، ودعم فئة وحرضها على فئات أخرى، قبل ان يتم دحره في 26/4/2005 بواسطة "ثورة الارز"... وها هو نظام الاسد يخطط مجددا للعودة رسميا الى لبنان ونيل تكليف دولي جديد يعيد تلزيم لبنان الى سوريا، وأعوان النظام السوري في لبنان يؤكدون يوميا تورطهم واياه في "جريمة العصر" وينفذون خيوط المؤامرة، ويحاولون تركيع وترويض وتطويع كل معارض للنهج السوري-الايراني، اي الفريق الاستقلالي وصخرة الممانعة المسيحية في 14 آذار.
واننا نغتنم مناسبة هبوب رياح الثورات الشعبية، وآخرها "انتفاضة الياسمين" التونسية، لكي نحث انظمة الظلم في سوريا وسواها من الانظمة الشمولية على الاعتبار وتتغيير سلوكها في تعاملها مع شعوبها، قبل ان يصل إعصار التغيير وتدق ساعة الحرية.
نعم، قد يكون النظام السوري مطمئنا على وضعه باعتبار ان بقاءه –كما قال أولمرت لشيراك في تموز2006- يمثل "جزءاً أساسياً من الأمن القومي والاستراتيجي لإسرائيل"، لكن في النهاية تبقى للشعوب الحرة كلمتها الفاصلة... فاحذر يا بشار من عربة خضار قد تفقدك القرار، ومطار جدة قد لا يكون بالانتظار.
عبدو شامي
إيلاف، نشر19/1/2011، وموقع 14 آذار، وموقع القوات اللبنانية، وجريدة جدار الالكترونية
5- لماذا عمر كرامي؟!
لم يعد هناك شيء مستور، فقد اعلنها عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب نواف الموسوي بوضوح في 22/1/2011، عندما اعتبر ان "المعركة في لبنان هي ذاتها في غزة وفي العراق وفي افغانستان وفي ايران". واننا اذا تأملنا واقع الدول التي ذكرها والتي سقطت منها سوريا سهواً، سنلاحظ انها تمثل في حقيقتها "الهلال الشيعي"، او ما يفضل احمدي نجاد تسميته بـ"الشرق الاوسط الإسلامي الجديد او الكبير".
اذن، "المعركة" ليست من اجل الغاء المحكمة دولية لبنانياً ومحاولة تعطيل العدالة وتشريع الجريمة السياسية، فهذا "تحصيل حاصل" اذا ما تحقق المراد الحقيقي الذي يختصر بالسلطة، السلطة، ولا شيء سوى السلطة.
هذه هي الحقيقة؛ فباستقالة قوى 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه" من الحكومة اللبنانية في 12/1/2011، واسقاطها اياها نتيجة لافقدها نصابها الدستوري، بدأت تلك القوى محاولتها الانقلابية، رامية الى اعادة وضع اليد بشكل كامل على الدولة البنانية، ووصلها بشكل رسمي بدول "الهلال النووي الايراني"، وذلك ظناً منها انها باتت تملك اكثرية نيابية كفيلة بإيصال رئيس حكومة من صفوفها. ولذلك، استعجلت تلك القوى تحديد رئيس الجمهورية مواعيد اجراء الاستشارات النيابية، الا انها ما لبثت ان ادركت عدم صوابية معادلاتها الحسابية، فضغطت على الرئيس مجددا ودون موافقة القوى الاستقلالية لارجاء الاستشارت اسبوعاً كاملا، تمكنت في خلاله بـ"طرقها الميليشيوية الخاصة" من تطويع النائب وليد جنبلاط ليعلن في 21/1/2011 "ثبات حزبه الى جانب سوريا وما يسمى "المقاومة"، بعدما كان سبق واقترح قبل 4ايام "ان نكرر في رئاسة الحكومة تجربة خيارات طوائف معينة لترشيح من يمثلها"، في اشارة لتأييده الحريري! ومع ان الاكثرية لا تزال غير محسومة للقوى الانقلابية، فقد اعلنت الاخيرة انها اصبحت مستعدة للاستشارات النيابية، ومرشحها الوحيد الرئيس السابق عمر كرامي.
لكن، مع وجود شخصيات سنية سواه تابعة للقوى الانقلابية، ما سر تمسكها بترشيح كرامي على الرغم من ان عمره بات يقارب الثمانين؟ قد يقال بكل بساطة لانه من فريق 8 آذار، وهذا صحيح، لكن حقيقة الامر ابعد من ذلك بكثير، وهي جزء لا يتجزأ من المخطط الانقلابي الذي تقوده قوى 8 آذار بدعم سوري وايراني:
1- يريدون عمر كرامي رئيساً للحكومة الجديدة، رداً على اخراجه منها بقوة "انتفاضة الاستقلال" في 28/2/2005، يوم اضطر كرامي الى تقديم استقالته على اثر كلمة مؤثرة القتها النائب بهية الحريري في الجلسة الأولى لمجلس النواب بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي واكبها هجوم عنيف تعرضت له حكومة الوصاية من نواب المعارضة الاستقلالية الذين طالبوها بالاستقالة، وآزرتهم حشود من المتظاهرين والمعتصمين في ساحة الحرية وخيمتها. لذا، يحرص الانقلابيون اليوم على افتتاح انقلابهم بعودة الرئيس كرامي الى السرايا كرد اعتبار له ولهم، لما لذلك الرجوع من رمزية تعبر عن عودة الوصاية السورية الى لبنان، لكن هذه المرة مطعّمة بالنفوذ الايراني.
2- يريدون عمر كرامي، كونه مستعداً لأن يقف مع 8 آذار ضد المحكمة الدولية وضد القرار الاتهامي، لانه من مشجعي "العدالة العضومية" وتستهويه "العدالة الممسوكة والموجهة امنيا"، على نحو تلك التي فبركت الملفات لمحاكمة الدكتور سمير جعجع في زمن الوصاية، ولا سيما في تهمتي اغتيال الرئيس رشيد كرامي، وتفجير كنيسة سيدة النجاة. وبهذا يكون كرامي في طليعة المستعدين لتنفيذ البنود الثلاثة الاستسلامية والانتحارية التي رفضها الحريري وقوى 14 آذار، الا وهي: سحب القضاة اللبنانيين من المحكمة، وقف اي تمويل لبناني للمحكمة، والغاء مذكرة التفاهم بين الحكومة اللبنانية والمحكمة الدولية.
3- يريدون عمر كرامي، لكي يشكل لهم "حكومة أحقاد وحاقدين"، مدفوعة بسياسة الانتقام والكيدية، بحيث تبدأ معها مرحلة تصفية الحسابات مع قوى 14 آذار ومعاقبتها على طريقة اخراج حكومة كرامي من السرايا، ومعها القوات السورية في لبنان، وذلك باسم تطهير الادارات العامة من الفاسدين واحالتهم على القضاء بملفات مفبركة واحكام تعسفية، على نحو ما حدث عقب اعتذار الرئيس رفيق الحريري عن عدم تشكيل الحكومة عامي 1998و 2004.
4- يريدون عمر كرامي، لكي يظهروا للعالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص، انهم ليسوا طائفيين ولا مذهبيين ولا فئويين، فقد سمّوا لترؤس حكومة "ولاية الفقيه في لبنان" شخصية سنية اسمها الأول "عمر" بما لذلك الاسم من ابعاد تاريخية ودلالات عقائدية معروفة... ومن جهة ثانية، اختاروا شخصية من الشمال اللبناني حيث الثقل السني، ومن مدينة طرابلس تحديدا "قلعة المسلمين" كما هو مدوّن على مدخلها، وذلك في محاولة يائسة وواهمة لقلب الحقائق والتغطية على حقيقة النوايا الانقلابية في القضاء على سعد الحريري سياسياً والسيطرة على الشارع السني عبر شخصية من اتباع دمشق لا تمثل طائفتها، بل تعد واجهة سنية لمشروع ولاية الفقيه، تماما كما استخدمت الجنرال عون لتأمين غطاء مسيحيي لمعارضتها مشروع الدولة، مشروع 14 آذار.
5- يريدون عمر كرامي، لانه لا يكاد يمثل شيئا على الصعيد الشعبي الوطني، فضلا عن محدودية تمثيله على صعيد الطائفة السنية مقارنة مع تمثيل الحريري المؤيد من اكثرية اللبنانيين ويحظى بشبه اجماع(95%) من ابناء طائفته. وبالتالي من شأن وصول كرامي الى الرئاسة الثالثة ان يشكل خطرا على وحدة الطائفة السنية يهدد وحدتها ويصبو الى شرمذتها واضعافها وكسر اصطفاها وراء المبادئ الاستقلالية، واغتيالها سياسيا ليسهل تطويعها والسيطرة عليها من المحور السوري-الايراني... وذلك تطبيقاً لمنطق "فرّق تسد" الذي كان يحكم على اساسه النظام السوري لبنان، وهو المنطق نفسه الذي اتبعوه لشق الصف المسيحي بواسطة حصان طروادة البرتقالي الذي قسموا به المسيحيين وشرذموهم، بعدما توحدوا في مواجهة الوصاية السورية وظلوا كذلك حتى اشهر قليلة تلت "انتفاضة الاستقلال" و"ثورة الارز".
6- يريدون عمر كرامي، لانه خلافا للحريري الذي يحمل لواء الوحدة الوطنية والعيش المشترك، على خلاف عميق مع اكثرية المسيحيين في لبنان، مسيحيي 14 آذار، وتحديدا "القوات اللبنانية" التي يتهمها بالوقوف وراء عملية اغتيال اخيه الرئيس رشيد كرامي؛ والمطلوب سورياً وايرانياً، فك الارتباط بين الجناحين الاستقلاليين الإسلامي والمسيحي في لبنان، بغية عزل الفريق الاستقلالي المسيحي واعادة تهميشه، والتنكيل به، ومحاولة تركيعه وتطويعه، كما كان عليه الحال زمن الوصاية.
7- وأخيراً وليس آخراً، يريدون عمر كرامي، لانه أبدى نقمته واستياءه غير مرّة من المفتي محمد رشيد قباني، مفتي الجمهورية اللبنانية، وصاحب المواقف الاستقلالية البارزة التي واكبت "ثورة الأرز"، وكانت سببا رئيساً في منع اسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، اي "حكومة الاستقلال الثاني"، ولا سيما منها تصريحه التاريخي بعد خطبة الجمعة في 8/12/2006، الذي اعتبر فيه "أن إسقاط رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة وحكومته في الشارع هو خط أحمر لن نسمح بتجاوزه أبداً".
فقد طالب كرامي مفتي الجمهورية بالاستقالة عدة مرات في السنوات الماضية، في محاولة مكشوفة من حلفاء "محور الشر" للاتيان بمفتي دمشقي الهوى وإيراني الولاء، يعيد هيكلة دار الفتوى ومؤسساتها وفقاً لعملية "تطهير" او بعبارة أشد صراحة عملية "تدنيس منظم"، تقلب الخطاب الديني والسياسي الوطني بامتياز للمرجعية العليا للمسلمين السنة في لبنان رأساً على عقب، سعياً وراء تغيير المزاج السني الذي تبنى خيار "لبنان أولاً" المحرّم سورياً، ومد يده بعد طول انتظار لالتقاط اليد المسيحية السيادية والاستقلالية الممدودة اليه منذ عشرات السنوات، معلناً تفجير انتفاضة استقلالية وثورة شعبية عابرة للطوائف، أسقطت النظام الامني اللبناني السوري المشترك، وحررت لبنان من الجيش السوري.
فليحذر "ثوار الأرز" من مشروع انقلابي كامل يهدف الى العودة بهم الى ما قبل 14 شباط 2005، وليقفوا سداً منيعاً دفاعاً عن المصير بالوسائل السلمية والديموقراطية كافة.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 23/1/2011، وجريدة جدار الالكترونية، وموقع 14آذار
6- مرشّح وفاق أم مرشّح نفاق!
لم يكن تصرف النائب والرئيس الاسبق نجيب ميقاتي، والمتمثل بترشّحه لرئاسة الحكومة اللبنانية يدل على نجابة وحسن فهم للخطر الداهم الذي يتعرّض له لبنان بوجهه ونظامه ودستوره وحرياته ووحدته الوطنية، من قبل فريق سقطت عن وجهه كافة الأقنعة المزوّرة، ولا سيّما منها قناع ما يسمى "المقاومة"، اللهم إلا إذا كان يعني بها مقاومة الدولة اللبنانية!
فقبل ساعات من بدء الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، أحرقت المعارضة ورقة مرشحها المزعوم عمر كرامي لتعلن عن تبنيها ترشيح نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة الجديدة. علماً أن ميقاتي معروف بعلاقته الشخصية الوطيدة جدا بالرئيس السوري بشار الأسد، إضافة لكون أخيه طه ميقاتي مستشاراً شخصياً للرئيس السوري.
وقد جاء ذلك التبديل المفاجئ في المرشحين، بعدما نعى الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" خيار تسمية كرامي، والذي اتى على خلفية تأكده من عدم حسم الاكثرية النيابية الى جانبه، حتى مع اعلان رئيس "الجبهة الوطنية" النائب وليد جنبلاط خياره النهائي الى جانب سوريا وما يسمى "المقاومة"...ليتبيّن فيما بعد ان نصرالله وسوريا اختارا الرئيس نجيب ميقاتي الذي أعلن ترشحه بعد تبليغه باختياره.
وقد نمّ هذا التكتيك الانقلابي عن تخطيط دقيق وعملية تمويه مدروسة بإحكام، بدليل أمرين:
الأول: ان الرباعي الطرابلسي الذي يضم النواب ميقاتي ومحمد الصفدي واحمد كرامي وقاسم عبد العزيز، كان منقسما حيال ترشيح عمر كرامي، مما لا يسمح للمعارضة بالرهان على اختراق قوي فيه يضيف الى النواب الخمسة او الستة من كتلة جنبلاط نائبا او نائبين ولو امتنع واحد أواثنان منهم عن تسمية اي مرشح. اما في حال ترشيح ميقاتي، فان المعارضة تراهن على حصد اصوات الرباعي بكامله، وبالتالي تأكيد فوزها.
والأمر الثاني: ان الابقاء على ترشيح عمر كرامي حتى اللحظات الاخيرة التي سبقت الاستشارات وسبقت الإعلان عن البديل، هدفت الى استخدام كرامي ككبش محرقة او درع يحمي المرشح البديل وربما الاسياسي نجيب ميقاتي، بحيث تتوجه إلى شخص كرامي جميع الانتقادات السياسية وردات الفعل والنقمات الشعبية من قبل الفريق الاستقلالي المؤيِّد للحريري، فيما يبقى البديل أو الأصيل في مأمن ريثما يحين وقت الكشف عن اسمه فيحدث ارباكاً سياسيا وشعبيا ويتم طرحه على انه مرشح توافقي، في حين ان الأصيل والبديل وجهان لعملة واحدة.
نعم، كرامي وميقاتي وجهان لعملة واحدة، لكون ترشيحهما جاء من جهة واحدة أعلنت بصراحة أنها أسقطت الحكومة على خلفية عجز الأخيرة عن اتخاذ موقف يلغي المحكمة الدولية ويحقق بما يسمى "شهود الزور"، وبالتالي فهي لن ترضى برئيس حكومة جديدة إلا اذا أتى وفقاً لبرنامج عملها ودفتر شروطها التي فرضت إلغاء المحكمة الدولية بنداً أولاً فيه.
كرامي وميقاتي وجهان لعملة واحدة، لأن ترشيحهما جاء من قبل الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه"، الذي سمح لنفسه بفرض اسم رئيس الحكومة السني في لبنان، بعدما فرض رئيس مجلس النواب الشيعي، بعدما نصّب نفسه "ولياً فقيهاً" على الدولة اللبنانية، مستقوياً بسلاحه وبالرعاع الميليشيوي الذي ينشره في الشارع متى دعت الحاجة، لترهيب الآمنين وانتزاع مكاسب سياسية.
الرجلان وجهان لعملة واحدة، لأنهما رضيا بأن يعلنا ترشيحهما ضاربَين عرض الحائط بالإرادة الشعبية والتأييد السني، اللذين عقدا لواء الزعامة السنية في هذه المرحلة للرئيس سعد الحريري، وبالتالي يكون الشخصان قد وافقا على ليِّ ذراع الرئاسة الثالثة، وكسر كلمة الطائفة التي تتبوّء منصبها، واغتيال الشخص الذي ارتضاه 95% من ابناء طائفته وفي مقدمتهم المرجعية الدينية المتمثلة بدار الفتوى والمجلس الشرعي ومجلس المفتين.
الرجلان وجهان لعملة واحدة، لأنهما رضيا أن يُستخدما كواجهة سنية لمشروع "ولاية الفقيه" الذي بسيطرته على الرئاسة الثالثة يكون قد وضع يده بشكل كامل على لبنان، وضمّه رسمياً الى سلسلة "الهلال الشيعي" الذي يجتاح المنطقة ويفتت دولها، أو يحولها الى دويلات طائفية أو عرقية أو مذهبية، بما يتوافق مع مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي انطلق من غزّة عام 2007 بتحريض إيراني واضح وليس من السودان عام 2011.
لقد ارتكب خطأ كبيراً، وغامر الرئيس نجيب ميقاتي بقبوله الترشح لمنصب الرئاسة الثالثة في مواجهة الحريري، والغريب أنه طرح نفسه مرشحاً وفاقياً كما وصفه مرشحوه في 8 آذار، فيما الحقيقة كما يتبيّن مما سبق خلاف ذلك تماماً؛ فالقاعدة الشعبية الاستقلالية على تنوّع انتماءاتها الطائفية ولا سيما منها السنية، لم ينطلي عليها ذلك الوفاق أو النفاق، فعبّرت عن غضبها بردات فعل احتجاجية سلمية وديموقراطية، عمّت الشوارع اللبنانية ومدينة طرابلس التي ينتمي اليها الرئيس نجيب ميقاتي.
ولا شك أن لسان حال هذه الجموع الحاشدة والغاضبة يقول: دولة الرئيس نجيب ميقاتي لقد كنت شخصية محبوبة ومحترمة في نفوس الاستقلاليين الذين يقدّرون لك حسن قيادتك للحكومة الانتقالية التي تشكلت على أثر سقوط حكومة الوصاية عام 2005، ووقوفك الى جانب المبادئ السيادية في انتخابات 2009 التي خضتها مع الرئيس الحريري ونلت ثقة الناخبين وأصواتهم على أساس وفائك لها، أما بعد قبولك بالترشح بتزكية من سوريا وتكليف من "ولاية الفقيه" صاحبة المشروع العقائدي والتوسعي المدمر للبنان والمنطقة، وبعد موافقتك على أن تُفرَض من قبلهما كرهاً على طائفتك وناخبيك لتبوّء منصب وطني لكن في الوقت عينه سني بامتياز، فقد أحرقت صورتك بنفسك وأعلنت انحيازك للفريق الإنقلابي.
ومن هنا، ندعوك الى اتخاذ الموقف النجيب، من خلال المسارعة لسحب ترشيحك حفاظاً على ما تبقى من ماء الوجه، وقبل ان تصبح صورتك الحسنة التي بدأت تحترق في أعين الناس رماداً.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 25/1/2011، وموقع القوات اللبنانية
7- خطة للاستيلاء على السلطة
قصد وصولي أحد الشياطين وسأله: هل لديك خطة تمكّنني من الاستيلاء على السلطة في بلادي، وفرض إرادتي على جميع الأحزاب المعارضة؟
الشيطان: ما هو نظام الحكم عندكم؟
الوصولي : ديموقراطي برلماني، وهذا ما يحول دون تمكني من الوصول الى السلطة والإمساك بها بشكل كامل، ذلك أنني لم أنجح في أي دورة انتخابية في إيصال غالبية نيابية الى البرلمان لكي تحقق لي مشروعي.
الشيطان بعد تفكير دقيق وصمت عميق: لا تقلق ما من مشكلة إلا ولها حل. أخبرني، هل لديك داعم يعينك على تنفيذ مشروعك؟
الوصولي: نعم، ثمة دولة اقليمية بعيدة نوعاً ما، أمثّل امتدادا لمشروعها التوسعي والعقائدي والشمولي، يمكن أن تمدني بما يمكن أن أحتاج إليه من سلاح ومال، فهي دولة تملك مخزونا من النفط والغاز، وتعمل على امتلاك السلاح النووي، فضلا عن كونها من أوائل الدول العاملة في تجارة وانتاج وتصدير المخدرات في العالم، ولدينا صفقات مشتركة، وقد دخلنا السوق الأوربية، كما ننشط في دول أميركا اللاتينية. وقد تحالفت هذه الدولة مع دولة عظمى تصفها الأولى بـ"الشيطان الأكبر"، من أجل إسقاط نظامي الحكم في دولتين مجاورتين لها، وبالتالي مدت نفوذها إليهما. وبدورها، تستخدم تلك الدولة العظمى الدولة الاقليمية كفزاعة للدول النفطية المجاورة لها، من أجل عقد الاتفاقيات العسكرية وصفقات الأسلحة مع تلك الدول الغنية ونهب أموالها.
وثمة دولة أخرى مجاورة لبلدي، تدعمني وأفضل نعتها بالشقيقة رغم مطامعها في حكم بلادي، وهي حليفة لتلك الدولة الإقليمية، وعلى تماس مع أحد البلدين اللذين مدت نفوذها إليهما بمساعدة من "الشيطان الأكبر"؛ وأظن أن الشقيقة ربما أقامت صفقة مع عدو احتل جزءا من أرضها، تقضي بإقفال الجبهة مقابل بقاء نظامها في الحكم.
الشيطان: عظيم جداً، تأمّن الداعم الإقليمي، وخط الإمداد، والمال الطاهر، والسلاح المعد للاستعمال الداخلي.
الوصولي: عذراً، لم أفهم مرادك.
الشيطان: لا تستبق الأمور، سوف تفهم، لكن بعد أن أحيط بكافة المعطيات المتعلقة بوضعك الجيو-سياسي. هل لبلدك حدود مع دولة أخرى محتلة أو عدوّة؟
الوصولي متعجباً من هذا السؤال: نعم، على حدود دولتي كيان غاصب هو نفسه الذي يحتل جزءا من الدولة الشقيقة، وهو لا يزال يحتل جزءا من بلدي، فضلا عن دولة أخرى يحتلها بكاملها!
الشيطان: ممتاز، لقد نطقت بنصف الوصفة التي سألتني عنها! فلو لم يكن فعلا وضع بلادك كما وصفت، لكنت طلبت منك أن تخترع وتوجد ذلك العدو بنفسك.
الوصولي وقد انتابه الذهول: لا أفهم عليك، ماذا تقصد!
الشيطان: ما طبيعة ذلك العدو وهل لديه مشروع خاص؟
الوصولي: عدو متغطرس، احتل بلدا مجاورأ وأنشأ فيه كياناً عنصرياً وطائفياً بامتياز، وهو يسعى الى تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية وعنصرية على شاكلة كيانه، لكي يصبح وجوده الشاذ مقبولا ومبررا في محيطه؛ مع العلم أن وطني يمثّل النموذج النقيض لكيان العدو، نظرأ للتعددية والتنوع في النسيج الطائفي والاجتماعي الذي يتشكل منه.
الشيطان: ممتاز، لقد وجدنا الأرضية المشتركة وتقاطع المصالح.
الوصولي مذهولا وقد تملكته الدهشة: بصراحة، ما زلت لا أفقه شيئاً مما تقول!
الشيطان: ببساطة، عليك أن تحمل لواء مقاومة هذا العدو وتعمل على احتكار تلك المقاومة وحصرها بحزبك وطائفتك دون غيرهما.
الوصولي مقاطعا: وبعد ان تصبح عندي ترسانة عسكرية وصاروخية فتاكة، أنقضُّ على العدو وأزيله من الخارطة.
الشيطان وقد انتابه الغضب: أمجنون أنت أم غبي؟! أتريد أن تموت وتميت معك مشروعك العقائدي التوسعي وهو لا يزال في مهده؟! هذا العدو يمثل رأسمالك في خطة الاستيلاء على السلطة، وبإعدامك اياه على فرض تمكينه إياك من ذلك، تكون قد جرّدت نفسك من سلاحين استراتيجيَين في معركتك على السلطة، سلاح التخوين وسلاح المقاومة. على العكس تماما، عليك ان تحافظ على هذا العدو وتعمل على استثمار تقاطع المصالح القائم بينكما، وبذلك تكون قد قطعت شوطاً طويلا في رحلة الوصول الى السلطة. أرجوك، لا تقاطعني ودعني أكمل لك بنود الوصفة.
الوصولي: اعذرني على لجاجتي، واكمل سرد الخطة من فضلك.
الشيطان: كنت اقول لك قبل ان تقاطني، ان عليك حمل لواء مقاومة هذا العدو والعمل على احتكارها وحصرها بحزبك وطائفتك، ثم توجِّه الى كل معارضيك في السياسة تهم التخوين والعمالة، وتجعل هذا العدو جزءا لا يتجزّأ من خطابك اليومي، فلا تدلي بتصريح ولا تتخذ موقفا ولا تنظم احتفالا، الا ويكون ذلك العدو محور خطابك، وبذلك تكتسب الشعبية من الداخل والخارج الذي يتطلّع الى يوم القضاء على ذلك العدو.
الوصولي مقاطعا للمرة الثانية: بدأت أفهم عليك، لكنني أعرف طبيعة بلادي حيث التعددية الطائفية، فضلا عن أن شعبها ذو ذكاء فطري وسياسي مميّز، فلن تنطلي عليه لعبة التخوين والعمالة، بل حتى لو وجدت حليفا من طائفة مختلفة وسخرته لاختراق صفوفها والتغطية عليّ والدعاية لمشروعي، لن يطول الزمن حتى يفتضح أمره، وبالتالي سيبقى تمثيلي في البرلمان ضئيلا ومقتصرا على حزبي وملحقاته المتواضعة شعبيا والتي أخترق بها الطوائف.
الشيطان متبسِّما: ربما لو لم تعجل في مقاطعتي لكان وصلك الجواب. توازياً مع خطابك الدعائي الذي ستستثمر فيه العدو وخطره الداهم الى أبعد الحدود، عليك أن تعمل على تكديس السلاح بذريعة المقاومة، وتنشره في جيع أنحاء البلاد بطولها وعرضها حيث يتواجد مؤيدوك طبعاً وحلفاؤك، ثم تعمل على توظيف هذا السلاح المقاوم في تطويع أخصامك في السياسة وارغامهم على تقديم تنازلات تصب في مصلحة مشروعك، فكلما رفض لك فريق الغالبية طلبا هددت بهز السلم الاهلي وبالفتنة التي هي من مصلحة العدو، وربما قمت باغتيالات وألصقتها بالعدو نفسه الذي يعد بسبب صيته الإجرامي الشمّاعة المثلى لتعليق تلك التهم، وربما ايضا افتعلت حوادث امنية لتأكيد تحذيراتك، وانتزاع المكاسب السياسية التي تصبو إليها، وكل ذلك بذريعة "حماية المقاومة".
وحبذا لو منعت الأكثرية التي تنتخب الرؤساء الثلاثة من انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها، وفرضت عليها رئيساً لمجلس النواب من فريقك، متحججا بأن طائفته مجمعة عليه ولوّح بسلاحك لتقوية موقفك، ولا تنسى أن تغلّف ذلك كله بشعار "الديموقراطية التوافقية" لا البرلمانية أوالعددية.
وخلال تلك المرحلة، لا بأس بالتوقيع على التزامات وقطع التعهدات تمريراً للمرحلة وتقطيعاً للوقت، فكل ذلك بإمكانك أن تنقلب عليه في اللحظة المناسبة.
الوصولي: هذا جيد، لكنه غير كاف لكي أضع يدي على السلطة بشكل كامل، لأن الغالبية النيابية ستبقى في يد خصومي، وبالتالي رئيس الحكومة المنتخب من قبل تلك الغالبية سيبقى منها ومعها، ومن الصعب عليّ فرض رئيس عليها نظرا لكونه من طائفة مختلفة عن طائفتي ولديه الأكثرية النيابية والشعبية، وذلك على الرغم من انتزاعي كما نصحتني بعض مطالبي السياسية بقوة السلاح المقاوم الموجه الى الداخل، كالثلث المعطل مثلا.
الشيطان متعجباً: ماذا تعني بالثلث المعطل؟!
الوصولي: في دستور بلادي ثمة مواضيع كبرى لا يمكن ان تتخذ الحكومة قراراً فيها إلا اذا حظي بتأييد ثلثي وزرائها، وبالتالي بإمكان الطرف المالك للثلث زائدا واحدا أن يعطل هذه القرارات، فضلا عن أن الحكومة تعتبر في حكم المستقيلة اذا فقدت نصابها الدستوري باستقالة ثلث وزرائها زائدا واحدا، مع العلم أن مطالبة الاقلية بالحصول على الثلث المعطل في الحكومة يتناقض مع الدستور.
الشيطان وقد زال تعجبه: باتت لدينا الوصفة كاملة! إنه الثلث القاتل وليس المعطل فحسب. عليك أن تحرص دائما على تملّك هذا الثلث وإن بشكل مموّه في كل حكومة تشكَّل، ومهما كلّفك الحصول عليه من خسائر قد تقلّص شعبيتك وتشوّه سمعتك في الداخل والخارج، أي حتى لو تتطلّب انتزاعك إياه حربا أهلية مصغّرة. لكن مع ذلك، أنصحك باتباع خطة قلب المفاهيم وتزوير الحقائق، فاعمد الى تسميته بالثلث "الضامن" بدل "المعطل"، وطالب به ملوّحا بسلاحك ورافعاً شعار "المشاركة" و"الشراكة الحقيقية".
الوصولي: وماذا أفعل بعد ذلك؟
الشيطان: بعد حصولك على الثلث القاتل، تبدأ محاولة تطويع واستمالة أحد اقطاب الغالبية ممن يملكون كتلة نيابية كفيلة اذا انضمّت الى كتلتك أن تقلب الموازين محوّلة الأكثرية الى اقلية والأقلية الى أكثرية. أما اختيار هذا القطب فمتروك إليك، فأنت أدرى بتركيبة بلادك وخصوصيات طوائفها وطبائع قياداتها، وأدوات التغيير كلها بحوزتك، السلاح المقاوم والمال الطاهر، وتهم العمالة والخيانة، وشمّاعة تعليق الجرائم اذا اقتضت الضرورة.
الوصولي وقد انفرجت أساريره: وبعد أن تتم عملية التطويع بنجاح، أستخدم الثلث القاتل فأستقيل وأسقط الحكومة، وأفرض بواسطة الغالبية الجديدة رئيس حكومة موال لي وإن لم يكن ذا شعبية في طائفته، فيشكِّل حكومتي الخاصة التي ليس من الضروري توزير محازبي فيها لكون قرارها في يدي بل أوزّع الحقائب الوزارية كهدايا على حلفائي، وبذلك أستولي على السلطة بشكل كامل متحصنا بالدستور ومحتكماً الى العملية الديموقراطية.
الشيطان: أحسنت، لكن دعني أسألك أنا الآن: ماذا لو طالبوك برئيس حكومة من صفوف الأقلية بذريعة أن طائفته مجمعة عليه، أو طالبوك بالثلث المعطل؟
الوصولي: سأنهرهم قائلاً: بدأتم تناقضون أنفسكم فما تطالبون به في شقه الأول لم ينص عليه الدستور، وفي شقه الثاني مخالف للدستور، وكما تعلمون الدستور مرجعنا وإليه نحتكم في تسيير أمورنا، ولنترك اللعبة الديموقراطية تأخذ مجراها بهدوء وحرية. لكن مع ذلك بإمكاني أن أجاريهم و أعطيهم الثلث المعطل وبذلك يصبح عرفا متفقا عليه وبمثابة تعديل للدستور؛ ولا بأس لو حاولوا استخدامه في عرقلة مشاريعي، فما علي حينئذ إلا أن أستقيل من الحكومة فأسقطها إن لم يستعملوا هم الثلث في إسقاطها، ثم أشكّل حكومة جديدة خالية من ذلك الثلث، فالأكثرية النيابية لا تزال معي. وهكذا أكون مع الديموقراطية العددية إذا كنت أكثرية، ومع التوافقية إذا كنت أقلية، فأختار لكل مرحلة النظام الذي يلائمها ويلائمني معها وأفرضه مستقويا بسلاحي.
الشيطان: أحسنت وفهمت الوصفة بشكل كامل.
الوصولي: لست أدري كيف أشكرك وأكافئك على هذه الخطة للاستيلاء على السلطة.
الشيطان: الأمر في غاية البساطة، ما عليك إلا تنفيذ بنود تلك الوصفة، فاذا ما نجحت في تطبيقها تكون قد قدّمت إلي أعظم هدية وصرت عضوا مميّزا في حزبي، لأنني أخذت عهدا على نفسي أن أفسد في الأرض ما استطعت. لكن للأمانة، يبقى أن تتذكر بعد ذلك كله، أن دولة الظلم والظلام ساعة، ودولة الحق والنور الى قيام الساعة!
عبدو شامي
إيلاف، نشر 28/1/2011، وموقع القوات اللبنانية، وموقع 14آذار، وجريدة جدار الالكترونية
8- ارفع رأسك أيها الاستقلالي
تخيّم علينا ذكرى الرابع عشر من شباط هذا العام، وقد أصيبت "ثورة الأرز" بانتكاسة كبرى، تمثلّت بنجاح الانقلاب الأسود الذي حوّل بأساليبه الميليشيوية الأكثرية أقلية، فأسقط الحكومة وأوصل مرشح سوريا وايران الى سدّة الرئاسة الثالثة.
وفيما تتحضر قوى 14 آذار جاهدة لتنظيم مهرجان يليق بالذكرى السادسة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه شهداء "ثورة الأرز"، يمكن ملاحظة ثلاثة توجهات فكرية لدى الجمهور الاستقلالي في شأن المشاركة في تلك الذكرى، واكمال المسيرة السيادية بشكل عام.
التوجّه الأول، يرفض المشاركة في تلك الذكرى، لا بل يذهب الى أبعد من ذلك فينعي الحركة الاستقلالية ويعلن وفاة الثورة!
يقول اصحاب هذا التوجه: ان القوى الاستقلالية اصابها الافلاس السياسي، بسبب التنازلات المخزية التي قدمتها مسقطة جميع انجازاتها، والتي لم يبق منها سوى المحكمة الدولية التي ستلغى لبنانيا في وقت قريب. ويصفون قوى 14 آذار بالمشتتة، وامانتها العامة بالمشرذمة، فقد فقدت احزاب وازنة مثل الكتائب والكتلة الوطنية والتجدد الديموقراطي، كما انها لم تأخذ بملاحظات الكتائب التنظيمية، ولم تعد تحسن تدبير امورها فاكتفت بالتعامل مع التطورات السياسية كعادتها بمنطق ردة الفعل. والآن احكم الفريق الظلامي قبضته على الحكم، ليعيد لبنان الى ما كان عليه زمن الوصاية.
التوجه الثاني، يؤيد المشاركة في الذكرى السادسة ومتابعة النضال، إلا أنه مفرط في نظرته التفاؤلية والشاعرية لفريقه السياسي، التي تجعله يرى الأمور كما يحبها أن تكون، لا كما هي حقيقة على أرض الواقع.
يقول أصحاب هذا التوجّه: ان القوى الاستقلالية بألف خير، فهي اليوم أقوى من اي وقت مضى، وشبيهة بالذهب الخالص! فكما ان الذهب لا يصبح خالصا ونقيا الا بعد ان يُفتَن، اي بعد ان يعرض على النار ليتخلص من الشوائب التي تخالطه، كذلك حال قوى 14 آذار التي عرضت على جميع انواع الفتن والنيران، من اغتيالات الى تفجيرات الى حروب اهلية مصغرة الى ابتزاز وتهديد وتهويل وحرب نفسية، فغدر منها من غدر، وانقلب من انقلب، حتى لم يبق منها الا الجوهر الصافي، المتمثل بالاحزاب التي تضم غالبية اللبنانيين على تنوع طوائفهم.
اما التوجه الثالث، فيؤيد المشاركة ويصر على متابعة النضال حتى النهاية، لكن من منطلق واقعي وشفاف، فقد نبذ من التوجه الأول روحه الانهزامية وتشاؤمه المفرط، وأخذ منه نقده البناء النابع من غيرة وحزن على تعثّر "ثورة الأرز"، كما استلّ من التوجه الثاني روحه التفاؤلية العالية، وترك مبالغته الشاعرية في تجميل واقع قوى 14 آذار.
فلأصحاب التوجه الاول نقول: ان المشاركة في ذكرى 14 شباط ليست تأييدا للأداء السياسي المحبِط لقوى 14 آذار، بل هي وقفة وفاء وتقدير للشهداء نكررها كل عام، وربما تكون هذه السنة وقفة اعتذار على عدم جدارتنا في اكمال ما بدأوا به وضحوا بحياتهم من اجله، ونظنهم لن يقبلوا اعتذارنا ما لم يكن مشفوعا بعهد على المثابرة ومتابعة المسيرة.
ثم إن القوى الاستقلالية لم تمت والثورة لم تنته كما تحاول ايهامكم قوى الظلام، بل كل ما حدث هو اننا خسرنا جولة قاسية من المعركة وليس المعركة برمتها، وكما حققنا انجازاتنا وربحنا عامي 2005 و2009 بشرف نعتز به، فإننا لا نخجل من الاعتراف بخسارة تلك الجولة لاننا خسرناها كذلك بشرف نعتز به.
ذلك ان خصمنا عمد الى اخراجنا من الحكم على خلفية رفضنا الغاء العدالة واغتيال الشهداء مرتين. وصحيح ان الآلية التي اعتمدها في تنفيذ انقلابه استخدمت الثلث المعطل الذي اعطاه اياه الفريق الاستقلالي بخطيئة لا تغتفر، الا انه مع ذلك استخدم في انقلابه أسلحة غير مشروعة اخلاقيا ولا دينيا نأباها على أنفسنا، مثل الغدر والنكث بالوعود ونقض التعهدات، فضلا عن الترهيب بالسلاح الاسود لقلب الموازين وتحويل الاقلية الى اكثرية...وهنا تكمن قمة الشرف بالنسبة الينا، لأن خصمنا عجز عن مجاراتنا وفقا للعبة الديموقراطية وقوة الحجة والالتزامات الاخلاقية، فلجأ الى استخدام الاسلحة الممنوعة منتهكا جميع الحرمات.
ليس صحيحا اننا فقدنا جميع منجزات ثورتنا، ولا ننكر اننا تعرضنا لاخفاقات كبرى وخسرنا انجازات عظمى، لكن بقي انجازان لا يقدران بثمن؛ اولهما: المحكمة الدولية التي وان استطاعوا الغاءها لبنانيا ستستمر دوليا وستكشف الحقيقة. وثانيهما: الوحدة الاسلامية-المسيحية التي كانت اساس الثورة ولبها وهي الأمل والشرط الاول لاعادة انتاجها وانعاش نبضها.
لا نريد ايها الرفاق ان نمكّن الفريق الظلامي من هزيمتنا نفسيا كما هزمنا بأساليبة الميليشيوية سياسيا، ففي اللحظة التي سيتملك فيها ذلك الشعور انفسنا ستكون الثورة قد ماتت فعلا، وهذه اغلى هدية نقدمها لخصومنا، واكبر اساءة نوجهها لشهدائنا وقضيتنا.
واما المفرطون في التفاؤل فنقول لهم: ان قوى 14 آذار ليست بألف خير، فهي وان تنقت من شوائب الغدر والخيانة، الا انها لا تزال تعاني من التشرذم على صعيد امانتها العامة، ولا تزال بحاجة الى مزيد من ثقافة الشجاعة والادارة بواقعية، والتنظيم والوحدة والرؤية الاستراتيجية، والقيادة الواعية والاهداف المحددة بدقة وموضوعية. وخير شاهد على ذلك، اكتفاؤها بالتحذير من انقلاب قادم دون خطة مواجهة، ما جعلها تبدو بعد اخراجها من السلطة مشتتة تحت وطأة الصدمة والضربة التي تلقتها، وها هي حائرة أتشارك في الحكومة الجديدة فتعطي مشروعية للانقلاب، ام تبقى منسجمة مع مبدئها في أن الأكثرية تحكم والأقلية تعارض.
ايها الاستقلاليون: نحن اليوم أمام خيارين، إما أن نواصل المسيرة التي بدأناها منذ العام 2005 محاولين تصحيح شوائبها، أو نقبل بالأمر الواقع ونعلن الاستسلام، فانظروا ماذا تختارون؟
من أجل كل ما تقدّم سننزل الى ساحة الحرية، سننزل رافعين رؤوسنا وحاملين بوصلتنا المتمثلة بقسم جبران. سننزل وفاء لشهدائنا، مقدمين لهم اعتذارنا، ومطالبين قوانا السياسية باعادة تنظيم صفوفها واستبدال سياسة النعجة بالأسود التي تهابها الذئاب. سننزل لنحاول اعادة انتاج ثورتنا بخطاب استنهاضي جديد، متبنين منطق استكمال المواجهة السلمية المشرّفة على كلفتها الامنية الباهظة وان انتهت بانهزام، بدلا من الرضوخ للحالة الميليشيوية بالتنازل المخزي مقابل العيش باستقرار ممزوج بذل واستسلام. هكذا علّمنا شهداؤنا، فارفع رأسك ايها الاستقلالي وتابع، لم يفت الأوان.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر10/2/2011
9-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [1/11]
طروحات متقاربة لمشروع واحد
في مطلع العام 2011، وبعد انقطاع دام خمس سنوات تقريبًا، عاد الحديث بقوة عن "مشروع الشرق الاوسط الكبير" أو "الجديد" كما تسميه السياسة الصهيو-أميركية، او "الشرق الاوسط الإسلامي" كما تسميه إيران الفارسية، وذلك على أثر رياح التغيير الجذري الهوجاء التي عصفت مؤخرًا ولا تزال في عدة بلدان عربية، مثل السودان وتونس ولبنان ومصر وليبيا واليمن والبحرين، آتية من نواحي افغانستان والعراق وفلسطين بعد أن اجتاحتها مخلفة فيها دمارًا سياسيًا وطائفيًا وفوضى كبيرة.
كُتبَت في هذا المشروع مقالات عدة، وكان توجُّه غالبية الكتاب والمحللين اننا نشهد تباعًا فصولا من تحقق مشروع "الشرق الاوسط الجديد" على أرض الواقع، الا انهم اختلفوا فيما اذا كان المشروع الشهير يطبق وفقًا لما اراده له الصهاينة والأميركيون، أم خلافا لتصورهم نظرًا لتصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة.
فما هي حقيقة هذا المشروع؟ ووفقا لأي أجندة يطبق؟ وما هي أدوات تنفيده؟ وما هي المراحل التي قطعها؟ وهل ثمة مشروعان "شرق أوسطيين جديدين" أحدهما صهيو-اميركي وآخر إيراني-شيعي يتصارعان في المنطقة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في سلسلة مقالات تنشر تباعًا، وهذا أولها.
أولا: حقيقة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ونشأته
بداية، المتتبع للإستراتيجية الغربية تجاه العالمين العربي والإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر، يلاحظ بوضوح انها تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيمهما إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيهما. فعالم عربي أو إسلامي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة، وبالكم الأكبر من الثروات النفطية والمعدنية(المكتشفة تباعًا) في العالم، وبمساحات زراعية خصبة، كل ذلك يعني أنه سيشكل ثقلا إستراتيجيًا واقتصاديًا وعسكريًا في المنطقة، وبالتالي عائقًا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية، ومن هنا أتت اتفاقية "سايكس-بيكو" عام 1916.
ومع غرس الكيان الصهيوني في قلب العالمين العربي والإسلامي عام 1948، بدت إسرائيل جسمًا غريبًا تلفظه المنطقة مما يعوق قيامها بدورها العنصري والعقائدي والماورائي الذي انشئت على اساسه، ومن ثم أدرك الصهاينة في العالم أكثر من أي وقت مضى أهمية إعادة تفتيت المنطقة، لكن هذه المرة إلى دويلات إثنية ودينية، بحيث تصبح اسرائيل دولة طبيعية منسجمة مع تركيبة محيطها ومحصنة أمنيًا، بصفتها دولة عبرية يهودية ذات قوة عسكرية ضاربة ومهيمنة في محيطها المؤلَّف من دويلات طائفية وإثنية ضعيفة.
ومن رحم هذه الهواجس والمعاناة الإسرائيلية، وسعي إسرائيل لأن تصبح دولة مقبولة في المنطقة، ولد "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
تعود فكرة "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الى المستشرق الصهيوني "برنارد لويس" المولود عام 1916، وهو دكتور ومؤرِّخ أميركي الجنسية من اصل بريطاني، ومن أتباع الديانة اليهودية.
في عام 1980، وعلى خلفية تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي "برجينسكي" حول نية الولايات المتحدة "تصحيح حدود سايكس-بيكو" بما يتوافق ومصالح أميركا وإسرائيل، بدأ المؤرخ الصهيوني "برنارد لويس" بتكليف من وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون"، بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا على حدة، ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي.. إلخ، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد أرفق بمشروعه المفصل الذي نشر بشكل دراسة في مجلة وزارة الدفاع الأميركية، مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت بوحي من مضمون تصريح "بريجنسكي" مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس "جيمي كارتر".
وفي الدراسة التي نشرها ذلك المستشرق الصهيوني، اقترح إعادة تفتيت منطقة الشرق الأوسط التي تضم العالم الإسلامي من باكستان إلى المغرب، وإنشاء أكثر من ثلاثين كيانًا سياسيًّا جديدًا، أي تحويل العالم الإسلامي إلى "فسيفساء ورقية" على حد تعبير "لويس"، تقوم فيها 88 دولة بدلاً من 56. وأعلن "لويس" صراحة الغاية من "مشروع الشرق الأوسط الجديد" قائلا: "إن هذا التفتيت للعالم الإسلامي هو الضمان الحقيقي لأمن إسرائيل، التي ستكون الأقوى وسط هذه الفسيفساء"!
وبالفعل، وافق "الكونجرس" الأميركي بالإجماع في جلسة سرية عام 1983، على مشروع الدكتور "برنارد لويس"، وبذلك تمَّ تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الإستراتيجية لسنوات مقبلة.
وبذلك أصبح صاحب أخطر مشروع في هذا القرن لتفتيت العالم العربي والإسلامي، مُنظّرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأميركية في المنطقة على مر الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولا سيما منها ادارة الرئيس جورج بوش الابن التي كان "لويس" أحد كبار مستشاريها، وقد وفّر لها الكثير من الذخيرة الإيديولوجية في قضايا الشرق الأوسط و"الحرب على الإرهاب"، لتحقيق خطة المحافظين الجدد في تحطيم أي أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أي معارضة للأجندة الإسرائيلية.
وقد طرحت إدارة "بوش" مشروعها عام 2004 بقوة، والذي سوّقته يومها على أنه يهدف إلى "إعادة تشكيل" منطقة الشرق الأوسط من خلال تشجيع و"دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية المنبثقة من داخل المنطقة" أي غير المفروضة من الخارج، و"نشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى"، ومتحدثة عن "الحكم الصالح"و"بناء مجتمع معرفي" و"تأمين الفرص الإقتصادية"، إلا أنها مع ذلك الغلاف الجميل من حيث المبدأ والظاهر، تحاشت التطرق الى نيتها التفتيتية، وتعمدت إغفال المشكلة الحقيقية في المنطقة والمتمثلة بالصراع العربي-الإسرائيلي، ما عكّر الأجواء بينها وبين الدول العربية، ولا سيما بعد عرضه على "قمة الثماني" في 7/6/2004؛ وكانت دول عربية منها: تونس(بن علي)، ومصر(مبارك)، والسعودية، ولبنان(ممثلا بالرئيس رفيق الحريري)، والبحرين، قد أعلنت رفضها الصريح لتلك المبادرة. أما قطر، فقد صرح وزير خارجيتها بتأييده لفكرة المبادرة وعدم رفضها، وكان تعليق الرئيس اليمني حولها يحمل الكثير من الدلالات حيث قال:"علينا أن نحلق رؤوسنا قبل أن يحلقوا لنا" .
وفي هذا السياق، صرّح "لويس" في مقابلة أجريت معه في 20/5/2005 بما نصه: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون(...)، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية(...)، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية(...)، ويجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أميركا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها".
وهذا ما فعلته الولايات المتحدة منذ عهد بوش الابن الى اليوم مع انتصاف عهد الرئيس باراك اوباما، فهي تحصر اهداف مشروعها الجديد بتشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ونشر الديمقراطية، دون التعرض للصراع العربي الإسرائيلي، الذي يعتبر إنهاؤه الى غير رجعة الهدف الأول والأخير لذلك المشروع.
ثانيًا: المشروع التقسيمي ليس حكرًا على "برنارد لويس"
بيد أن "برنارد لويس"، لم يكن المنظر الوحيد لكيفية إعمال المشرط الصهيو-أميركي في المنطقة. ففي عام 1980، أي العام نفسه الذي شرع فيه "لويس" بوضع مشروعه التفتيتي للمنطقة، ألقى وزير الدفاع الإسرائيلي (يومها)"أرييل شارون"، محاضرة في "مركز الدراسات العسكرية" حول رؤية اسرائيل للعالم العربي وكيفية التعامل معه في المستقبل، وقد نشرت وقائع تلك المحاضرة صحيفة "معاريف" بتاريخ 18/12/1981، ومما جاء فيها: "ان اسرائيل تصل بمجالها الحيوي الى اطراف الاتحاد السوفياتي شمالاً، والصين شرقًا وافريقيا الوسطى جنوبًا، والمغرب العربي غربًا. وهذا المجال هو عبارة عن مجموعات قومية وإثنية ومذهبية متناحرة". ثم ييتناول "شارون" كل بلد ذاكرًا صراعته الداخلية وانقساماته.
وفي عددها الصادر صيف 1981، نشرت مجلة "ايفونيم" الاسرائيلية الفصلية تفاصيل محددة حول البرنامج التفتيتي الذي تعمل اسرائيل على تنفيذه في العالم العربي في دراسة حول "استراتيجية اسرائيل في الثمانينات". تقول الدراسة: "في المدى البعيد لا يستطيع العالم العربي البقاء ببنيته الحالية في المناطق المحيطة بنا من دون تقلبات فعلية(...)، فقد قسم الى 19 دولة كلها مكونات من تجمعات من الاقليات والطوائف المختلفة التي يناصب بعضها البعض العداء، وهكذا فان كل دولة عربية -اسلامية تتعرض اليوم لخطر التفتت الاثني الاجتماعي في الداخل لدرجة ان بعضها تدور فيه الآن حروب اهلية". وبعد تعدادها عوامل التفتيت التي تواجه دول المنطقة وخصوصًا تلك المحيطة بالكيان الصهيوني، تخلص الدراسة الى استنتاجها القائل: "وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام في المنطقة بأسرها في المدى الطويل، وهذا الأمر في متناول يدنا منذ اليوم".
وفي عام 1993، نشر رئيس وزراء إسرائيل السابق ورئيسها الحالي "شيمعون بيريز"، كتابه الذي حمل عنوان"الشرق الأوسط الجديد"، وضمنه خطته التي كانت تطمح في الظاهر إلى جمع دول الشرق الأوسط في سوق مشتركة، بعد تحقيق السلام المزعوم، بحيث يعزز قيام هذه السوق المصالح الحيوية ويصون السلام على المدى البعيد، ولكنها تخفي أجندة أخرى هي في الحقيقة النتيجة الطبيعية لطرح "بيريز" إذا نفذ، ونهني بذلك دمج إسرائيل في المنطقة بعد إعادة صياغتها وتشكيلها لتصبح منطقة "الشرق الأوسط" لا "العالم العربي" أو "العالم الإسلامي"، وتصبح إسرائيل هي الدولة المهيمنة والمسيطرة على مقدرات المنطقة كونها رأس الجسر للمشروع الغربي الاستعماري منذ إقامتها في عام 1948.
وفي عام 2006، وضع الضابط المتقاعد في الاستخبارات العسكرية الأميركية،"رالف بيترز"، مخططاً لإعادة تقسيم الشرق الأوسط حاكى فيه مشروع سلفه "برنارد لويس"، وذلك من خلال مقال نشر بمجلة "القوات المسلحة الأميركية" في حزيران 2006، وحمل عنوان: "حدود الدم".
ينطلق "بيترز" في مشروعه، مما يسميه "الظلم الفادح الذي لحق بالأقليات حين تم تقسيم الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين"، مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول"، ويذكر أهمها:"الأكراد، والشيعة العرب". كما يشير إلى مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين.
ويرى "بيترز" أن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقًا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه. وما ذلك إلا لمشابهة نموذج الدولة الصهيونية القائمة على الدين والقومية وامتزاجهما.
بعد هذه الخلاصة، نستنتج أننا نتحدث عن مشروع واحد لكن متعدد الطروحات، يمكن أن يبدأ بعملية إعادة تشكيل المنطقة من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يتوافق مع الرؤية والمعايير الأميركية، على أن يكون الهدف إحداث تغيير متدرج وشامل يؤدي في نهاية المطاف الى تحقيق أمن إسرائيل وجعلها عنصرًا طبيعًا ومقبولاً في محيطه، ومنسجمًا مع تركيبته الجيو-سياسية، وصولاً الى تفتيت المنطقة سواء عبر تقسيم دولها الحالية الى دويلات مستقلة، أو فيدراليات أو كونفيدراليات، طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية، تنفيذاً لمخطط صهيو-أميركي مدروس بدقة.
عبدو شامي
إيلاف، نشر 1/3/2011
في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، نسلط الضوء الأدوات البشرية والإعلامية التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
10- السلاح نصف المشكلة وخوفنا نصفها الآخر
شهر وعشرة أيام، مروا على تكليف مرشح المحور السوري-الإيراني الرئيس نجيب ميقاتي تأليف حكومة "ولاية الفقيه" في لبنان، ولم تؤلف الحكومة بعد.
ليس هذا مفاجئًا، فسوريا لم تتدخل بعد لضبط عناد أولادها المشاغبين، وفض مشاكلهم، وكبح جماح المولعين منهم بالوصول الى السلطة، وتأديب الشرهين منهم والطامعين في التهام حصة الأسد من قالب الحلوى المسروقة.
ليس هذا التأخير موضع استغراب، فربما أرادت الأم اختبار قدرة أبنائها في الإعتماد على أنفسهم، ومعرفة ما إذا كانوا لا يستطيعون العيش بلا وصاية جبلوا عليها واستزلموا لها، حتى باتت جزءًا لا يتجزأ من نفوسهم.
بيد أن ما يلفت الانتباه ويثير التساؤلات، أن حادثًا أمنيًا أو إرهابيًا واحدًا لم يسجل الى اليوم في أي من الأحياء البيروتية، كحادثة "عائشة بكار" التي افتعلتها قوى 8آذار بواسطة ميليشيات "حركة امل" في 28/6/2009، وكانت أشبه بـ"7 أيار" مصغر، بعد ايام معدودات من تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009، وعشية بدئه مشاوراته مع الكتل النيابية لاستخلاص تصوّراتها حول شكل الحكومة العتيدة.
شهر وعشرة أيام على تكليف الميقاتي، ولم يتدخل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو محذرًا من ولادة "حكومة إيران في لبنان"، كما فعل في 10/8/2009 عندما كان مخاض حكومة الحريري لا يزال عسيرًا، فقد قال نتنياهو يومها في معرض تحذيره من دخول الحزب الى الحكومة: "ليكن واضحاً ان الحكومة اللبنانية ستتحمل مسؤولية اي هجوم يأتي من اراضيها، اذا صار "حزب الله" رسمياً جزءا منها..."؛ بل على العكس هذه المرة، فقد خرج علينا محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في 29/1/2011، ليقول: "بالنسبة لإسرائيل، فإنها يجب أن تكون سعيدة بالوضع الجديد الناشئ في لبنان، والذي تحول فيه نصر الله من زعيم جهادي إلى زعيم مسؤول عن الدولة، كما حدث مع حركة "حماس" في غزة"!
شهر وعشرة أيام على تكليف الميقاتي، ولم يسجل الجيش اللبناني ولا قوات "اليونيفيل" سقوط أي صاروخ "مجهول الهوية" على الأراضي الفلسطينية المحتلة من الجنوب اللبناني، على نحو ما حدث في اليوم التالي على اعتذار الحريري عن عدم تشكيل الحكومة نتيجة للشروط التعجيزية التي تفرضها المعارضة؛ فيومها في 11/9/2009، جرى إطلاق ثلاثة صواريخ "مجهولة الهوية" كالعادة، من سهل القليلة جنوبي مدينة صور باتجاه الشمال الفلسطيني، سقطت في منطقة نهاريا، وأعقبها سقوط قذائف اسرائيلية على المنطقة.
شهر وعشرة أيام مضوا، ولم تشهد البلاد حادثًا دمويًا كالذي افتعله شباب من "الشياح" في 6/10/2009، في "منطقة عين الرمانة"، حيث هاجموا شبانا من اهل المنطقة، فسقط قتيل واربعة جرحى.
شهر وعشرة أيام، ولم تسقط أي قذيفة "إينيرغا" على منطقة التبانة-جبل محسن، بعدما استخدمت في فترة تشكيل "حكومتي السنيورة والحريري" وصياغة بيانهما الوزاري كصندوق بريد لفرض اوامر المعارضة، كما حدث ليل 7/10/2009، عندما اصيب 8 أشخاص بجروح بينهم 4 بإصابة طفيفة، جرّاء قذيفة "إينيرغا" أُطلقت من باب التبانة على مقهى في محلة جبل محسن.
لن نضيع وقتنا ونهدر حبرنا في الجواب على هذه المفارقات، بل سنتركه لفطنة القارئ الكريم، مفضلين وضع يدنا على الجرح مباشرة، لأننا نفتخر أننا من مدرسة جبران تويني التي تقول للأبيض أبيض وللأسود أسود، ولا تعرف المواربة ولا المداهنة ولا الالتفاف.
نحن بحاجه الى الصراحة، وقول كل الحقيقة لا نصفها كما يفعل معظم زعماؤنا في هذه الأيام. صحيح ما يقولونه من ان السلاح سبب لما آل إليه حال قوى 14 آذار بعد ست سنوات من اندلاع "ثورة الأرز" المجيدة، لكن خضوعنا للسلاح سبب أيضا، وبعبارة أوضح، السلاح نصف المشكلة وخضوعنا له وخوفنا منه نصفها الآخر.
ان قيمة السلاح ومفعوله في رهبته، فإذا سقطت رهبته أصبح بلا مفعول. أليس هذا جزءًا مما حدث عندما أخرجنا الجيش السوري من لبنان ولم نهب سلاحه ولا أقبية استخباراته؟ ها هي شعوب المنطقة في تونس ومصر ولبييا انتصرت في ثوراتها لانها لم تهب سلاح الدولة القمعية، لقد سقطت رهبة السلاح من قلوبهم وكسروا حاجز الخوف منه في نفوسهم، فلم يعد للسلاح جدوى، لا بل سقط وذهب الى مزبلة التاريخ من تجرأ على توجيه السلاح الى صدور أبناء شعبه.
لا بد أن نعترف، نحن في 14 آذار خفنا من ذلك السلاح فخضعنا له، وترجمنا خضوعنا بتنازلات كبيرة وكثيرة انتزعت منا وقدمناها، ولما سلمنا جميع أسلحتنا أو أكثرها استراتيجية (الثلث المعطل)، استخدموها ضدنا وركلونا خارج السلطة.
خطاب حماسي جميل نسمعه اليوم من قيادات 14 آذار، خصوصًا الكلمة الأخيرة للرئيس سعد الحريري في 28/2/2011، والتي حمل فيها على "غلبة السلاح في الحياة السياسية والثقافية"، قائلاً لهواة حمله وجمعه واستخدامه في الداخل "لأ مش ماشي الحال".
أثناء استماعي للرئيس الحريري وتحميله كافة إخفاقات قوى 14 آذار منذ العام 2005 الى اليوم للسلاح الجاهز للاستخدام الداخلي، تبادر الى ذهني السؤال التالي: بماذا يمكن أن يجيب هواة حمل السلاح وتكديسه بغرض الاستعمال الداخلي، بعدما احكموا قبضتهم على السلطة، وتملكتهم عنجهية الاستقواء والاستكبار، وجنون العظمة؟ لم أجد لذلك السؤال أنسب من قول الشيطان للناس الذي خضعوا لوساوسه وأطاعوه في حياتهم بعدما فات الأوان وأيقنوا أنهم باتوا في خسران كما ورد في القرآن الكريم: (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) [ابراهيم:22]. هم لوّحوا بسلاهم ونحن استجبنا وأعلنا انصياعنا.
لقد خضنا انتخابات 2009 واعتبرناها كما اراد لها الفريق المسلح استفتاء على السلاح، فكان الجواب قول أكثرية الشعب "لا للسلاح غير الشرعي"، ثم ما لبثنا أن شرعنا هذا السلاح في البيان الوزاري ضاربين بإرادة الناخبين واتفاق الطائف عرض الحائط.
خضنا الانتخابات على أساس أكثرية تحكم وأقلية تعارض، ولا للثلث المعطل، ثم ما لبثنا أن شكلنا حكومة ما يسمى "وحدة وطنية" مانحين المسلحين الثلث المعطل، الذي استخدموه فيما بعد لإسقاط الحكومة وإخراجنا من السلطة، عندما تمكنوا بسلاحهم من تحويل الأكثرية أقلية. فما بالنا نلقي اللوم على السلاح فقط وننسى خضوعنا لرهبته وانصياعنا لأوامره؟!
نتحدث عن "النقزة" وعن "المعاطف السود" الذين ظهروا في الشوارع صبيحة 18/1/2011، لارهاب الناس وجس نبضهم وصرف مفاعيل فعلتهم المجرمة في الاستشارات النيابية، وما لبثوا ان انسحبوا من الشارع واختفوا في فترة وجيزة، دون أن تلتقط لهم صورة واحدة. لكن لماذا نغفل عن أننا نحن من "نقزنا" وسارعنا الى إقفال بعض المدارس وتعطيل بعض المشاغل، وبقينا وأبقينا أولادنا في المنازل. لو لم "ننقز" لما أسميناها ولما أسموا ارهابهم ذلك بـ"النقزة". لو أكملنا حياتنا اليومية بشكل طبيعي متغلبين على خوفنا، لمات "المنقّزون" بغظيهم، ولسقطت رهبتهم ومفاعيل سلاحهم في الشارع، ولأصيبوا بالأزمات القلبية والنوبات العصبية، كما حدث في الخليج عندما هبطت أسهم البورصة.
ليس المطلوب اليوم فقط أن نقول "لأ للسلاح"، بل المطلوب أيضًا أن نقول معاهدين أنفسنا وشهداءنا: "لن نخاف السلاح الميليشيوي بعد اليوم، ولن ندعه يرهبنا ويبدد منجزاتنا". وموعدنا في ساحة الحرية أيها الرفاق.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر5/3/2011
11-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [2/11]
مشروع صهيو-أميركي من تنفيذ إيراني
من الحلقة السابقة، نستخلص أن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد"، ينص على إعادة تقسيم البلدان الحالية في المنطقة إلى دوليات صغيرة، انطلاقاً من ديموغرافيتها القائمة على الأديان، والمذاهب، والقوميات، والأقليات، بغية تحقيق الهدف الذي قام عليه هذا المشروع، ألا وهو استيعاب إسرائيل في المنطقة، بصفتها دولة يهودية، وتأمين حمايتها عبر إضعاف الدول المحيطة بها، فضلاً عن قطع الطريق أمام أي صحوة إسلامية سنية أو عربية، قد تستعيد نفوذها ووحدتها في تلك البلاد، فتمحو إسرائيل من الخارطة.
فما هي الأدوات التي وقع عليها الخيار لتنفيذ المشروع الصهيو-أميركي؟
أولاً- الأدوات البشرية: إيران والأقليات الشيعية المرتبطة بـ"ولاية الفقيه":
كان طبيعيًا من خلال طروحات "بيرنارد لويس" و"رالف بيترز"، التي شددت على ضرورة أن يتم التقسيم على أساس طائفي او مذهبي اوعرقي، كان طبيعيًا أن يجري البحث عبر دراسات استشراقية دقيقة عن الطائفة أو المذهب أو العرق الأنسب للقيام بمهمة التفتيت المنشود صهيونيًا في المنطقة؛ وقد ذكر "رالف بيترز" صراحة(راجع المقال الأول) ما أسماها بأنها "الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول"، وعد أهمها:"الأكراد، والشيعة العرب".
واستطرادًا نقول: ربما ركز "بيترز" على هذين العنصرين دون سواهما من مكونات المنطقة، لكونهما موزعَين ديموغرافيًا على العديد من بلدان المنطقة المتقاربة جغرافيًا بالنسبة للأكراد، والأكثر اتساعًا وتباعدًا بالنسبة للشيعة، ولأنهما بحسب إشارته يشعران بالضيم والظلم ما سيشكل حافزًا ودافعًا معنويًا كبيرًا لقيامهما بتلك المهمة. ومن نافل القول انه جرى استبعاد المكوّن السني، لا لأنه يمثل السواد الأعظم من سكان المنطقة وحسب، بل كونه يمثل الخطر الأعظم الذي أُنتِج هذا المشروع وما سبقه من مشاريع من أجل انهاء آمال توحده واستعادته لقوته.
إزاء هذا الواقع، لم تجد الصهيونية العالمية أمامها سوى اتباع خطة دعم الأقليات المتواجدة في العالمين العربي والإسلامي، وعلى الأخَصِّ تلك التي تنسب نفسها الى الإسلام، وذلك ليَسهُل تأثُّر المسلمين بها وتعاطفهم معها، وبالتالي شق الصف الإسلامي، وعلى أن تكون قوميتُّها غير عربية، لشقِّ الصف العربي. وعلى أكتاف هذه الأقليات يُعاد تقسيم العالمين العربي والإسلامي إلى دويلات صغيرة تَسهُلُ السيطرة عليها، وبهذا يتحقق الحلم الصهيوني العالمي بالسيطرة على العالم أجمع، وتنعم إسرائيل بالأمن والسلام.
صحيح أن لكل بلد أقيلياته وطوائفه التي يمكن دعمها واستغلال تطلعاتها وأطماعها لتنفيذ ذلك المشروع؛ لكن بشكل عام، ومن مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط منذ العام 2000 تحديدًا، أي مع الانسحاب التكتيكي الإسرائيلي من الجنوب اللبناني الذي رفع في المنطقة أسهم إيران وحزبها في لبنان -لكي لا نعود الى العام 1979 حيث تمّ إعلاء شأن صاحب بدعة "ولاية الفقيه" ووليها الأول الخميني وثورته-، الظاهر أن الاختيار الصهيو-أميركي وقع على إيران صاحبة القومية الفارسية، والأقليات الشيعية المتحالفة معها والمنصاعة لـ"ولاية الفقيه"، نظراً لحقد غلاة الفرس وغلاة الشيعة التاريخي الديني والعرقي على غالبية سكان هذه المنطقة من العرب والسنة، واستعدادهم للثأر والانتقام من هذه الأكثرية عندما تتاح لهم الفرصة المناسبة، استعادة لأمجاد مندثرة وحقوق مزعومة...
ومن جهة ثانية، ثمة اعتقاد خطير لدى غلاة شيعة "ولاية الفقيه"، يحفز الرهان التقسيمي عليهم، مفاده أن تمكين نفوذهم في بعض المناطق، إضافة إلى مساهمتهم في إشاعة الفساد في الأرض وكذلك كثرة القتل والهرج والمرج والفوضى، كل ذلك يؤدي-في اعتقادهم- الى التعجيل في ظهور "المهدي" الذي ينتظرونه، وتهيئة الظروف لقدومه وتسلمه زمام الحكم. ولذلك نرى الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" يهلوس بين الحين والآخر بهذه المعتقدات. فيوم سقوط نظام "مبارك" في مصر (11/2/2011) والذي وافق الذكرى 32 لـ"لثورة الخمينية"، قال "نجاد": "ان ما يحدث من ثورات شعبية إنما هي ثورة الإمام المهدي، ونحن في منتصفها الآن"، ولم ينس السلاح الدعائي والتضليلي الذي يأكل به عقول البسطاء، فبشّر "بهزيمة أمريكا واسرائيل وانتصار الثورة التي يرى فيها يد الامام المهدي". وفي 3/3/2011، قال "نجاد": "ان التطورات الجارية حالياً والثورات الشعبية في بعض دول المنطقة، هي بمثابة تحرك في اتجاه النهج الإلهي والإنساني الأصيل، وبداية لحصول حدث مهم وعد به الانبياء"!
وفي مراجعة تاريخية سريعة، ندرك أن ثمة أحلامًا فارسية باستعادة أمجاد كسرى المجوسية ونفوذ الدولة الصفوية. كما هناك طموحات إيرانية-شيعية لاستعادة أمجاد العبيديين (من سلالة الشيعة الإسماعيلية الباطنية) الذين أطلقوا على أنفسهم إسمًا تسويقيًا دعائيًا وتضليليًا هو "الفاطميين"، راح دعاتهم يجوبون به البلدان لتثبيت دعوتهم، لاسيما في مواسم الحج في مكة والمدينة، وأيضاً في اليمن والعراق وبلدان مصر والمغرب، متخذين منه ستارًا لنشر فكرهم المنحرف والدخيل على المجتمع الإسلامي.
وقد استطاع هؤلاء هؤلاء المنحرفين، بناء دولة حكمت تونس ومصر والشام، وعلى فترات ليبيا والجزائر والمغرب، وأجزاء محدودة من غرب الجزيرة العربية وصقلية، وكان لها نفوذ قوي في شمال السودان. وذلك كله قبل أن تسقط دولة العبيديين على يد صلاح الدين الأيوبي ، الذي اتخذ هذا القرار الجريء قبل "معركة حطين"(583هـ1187م) بسبع عشرة سنة، فقد كان هذا القائد ذا نظرة جيو-سياسية ثاقبة، جعلته يدرك أنه لن ينتصر على الصليبيين ولن يتمكن من تحرير بيت المقدس، إلا بعد إسقاط تلك الدولة الخبيثة التي أذاقت السواد الأعظم من المسلمين ألوانًا شتى من العذاب.
وإذا تمعنا في خارطة نفوذ العبيديين، سنجد أنها مكونة اليوم من دول مستهدفة بمخطط التقسيم، وأنها مشمولة بموجة الثورات المعدية التي نشهدها اليوم، وأنها الدول نفسها التي تحاول إيران وملحقاتها مد نفوذها إليها، ومنها ما وقع بالفعل في القبضة الإيرانية، لكن هذه المرة تحت عنوان "تصدير الثورة الإسلامية"، وبأساليب دعائية مبتكرة تعتمد على شعارات "المقاومة" و"الممانعة" و محاربة "الشيطان الأكبر" و"تحرير فلسطين".
وبذلك يكون هذان العنصران (إيران وأتباع "ولاية الفقيه") الخنجر المسموم، الذي سيتم بواسطته تقطيع المنطقة وتفتيتها، وإعادة هيكلتها من جديد. هذا ما حصل فعلاً في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، وهو ما يحصل اليوم في البحرين واليمن والسعودية؛ وما "الهلال الشيعي" الذي امتد من أفغانستان الى لبنان بقيادة إيران، إلا بداية ودرع حماية للمصالح المشتركة مع السياسة الصهيو-أميركية، والتي تستغلها الأخيرة لتنفيذ حلقات مشروعها التفتيتي الشهير.
ثانيًا- العنصر الإعلامي والدعائي: قناة "الجزيرة" القطرية:
كان ذلك، بالنسبة للعنصر البشري الذي أوكلت اليه مهمة تنفيذ "مشروع الشرق الأوسط الجديد". وفي زمن الثورة المعلوماتية والإعلامية التي أثبتت عظم تأثيرها في تكوين مزاج الرأي العام والتحكم به، كان لا بد من الاستعانة بوسيلة إعلامية وإعلانية في آن واحد، يتم من خلالها الترويج والدعاية وأحيانًا التحريض والتوجيه والتنظير لكل ما من شأنه خدمة ذلك المشروع الصهيو-أميركي وأدوات تنفيذه البشرية (إيران وملحقاتها من شيعة "ولاية الفقيه" وسواهم)، وبالتالي الإسهام في تزخيم عجلة سيره، فكان أن أُنشِئت في دولة قطر قناة "الجزيرة" الفضائية المشبوهة، التي تمثّل حقيقة صوت الخارجية القطرية وصورتها الى العالم. كما جرى تكريس العديد من القنوات الفضائية ذات الواجهة العربية لخدمة الرؤية الأميركية عبر الغسيل الدماغي المنظم، لتهيئة الشعوب في المنطقة للتغيير المتدرج والشامل. وتوازيًا مع ذلك، تم تفعيل دور المنظمات الحقوقية والإنسانية ذات التوجهات الأميركية، وتم تسريب وثائق سرية من شأنها أن تخلق استعدادًا نفسيًا وتهيئة شعوبية للتغيير، لكن من سيّئ الى أسوأ.
انطلقت فكرة انشاء محطة "الجزيرة" من أطروحة الرئيس الأميركي الأسبق "جورج بوش الاب" بعد حرب الخليج الثانية : "الأرض مقابل السلام" والتي تعرقلت مسيرتها، فكان لابد من حلحلة الأوضاع بطريقة أو بأخرى، وأهم هذه الطرق تغيير الفكر والنظرة العربية نحو إسرائيل، وتقبل الواقع والتأقلم مع الوجود الصهيوني في المنطقة، وربطه بعلاقات سياسية واقتصادية وإعلامية، ومن هنا ظهرت فكرة قناة "الجزيرة" على السطح في البداية بعد قبول قطر لعب هذا الدور مغلفًا بشعار "الرأي والرأي الآخر". وهذا يظهر بوضوح من خلال المساحات الواسعة التي تمنحها "الجزيرة" لمسؤولين إسرائيليين لإسماع وجهات نظرهم بشأن الصراع في الشرق الأوسط، وتوازيًا مع ذلك تمار دورها كبوق دعائي للمنظمات الإرهابية وتلك التي تتاجر بما يسمى "مقاومة" و"ممانعة"، والتي تحتاجها إسرائيل للمضي في سياستها.
وهذا أمر لا يستدعي كثير بحث وتدقيق، ولا سيما ان الدولة التي جيّشت إعلام "الجزيرة" بأكمله ليحارب إسرائيل في العلن هي قطر، التي قدّمت نحو ثلث مساحة أراضيها للولايات المتحدة الأميركية التي بنت عليها اكبر قاعدتين عسكريتين أميركيتين كانت تدار منهما يوميًا عمليات الحرب في العراق، وتتدفق منهما "الصواريخ الذكية" ومختلف الذخائر لإسرائيل في أثناء مسرحية "حرب تموز" 2006، ومحرقة "غزة" 2008-2009.
علاوة عن ذلك، فإن قطر تقيم في العلن أيضًا مع العدو الإسرائيلي أمتن العلاقات على تنوع مجالاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتطبيعية، وتستقبل بشكل دوري وفي لقاءات حميمة بالغة الحفاوة، مسؤولين إسرائيليين مثل "بيريز" الذي شارك وحاضر في أحد المؤتمرات عام 2007، و"ليفني" التي استضيفت بدعوة شخصية من الشيخة "موزة"، ومؤخرًا زوجة "نتنياهو" التي حضرت مهرجان الأغنية في قطر، إلا أن شدة موضوعية وصدقية والتزام قناة "الجزيرة" -قناة الممانعة والمقاومة بامتياز- تمنعها من إبراز ذلك كله وسواه من خيانات العائلة القطرية الحاكمة في نشرات أخبارها، وكذلك موقف الشعب القطري من حكامه!
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عام 2007 في أحد اعدادها ، أن رجل الأعمال الإسرائيلي "حاييم سبان"، الذي يحمل الجنسية الأميركية أيضًا، أجرى مفاوضات مع أمير قطر لشراء 50% من أسهم قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية، الا ان تلك المفاوضات توقفت بعد أن قرر الأمير القطري استئجار خدمات شركة مدققي الحسابات الدولية "برايس-ووترهاوس"، من أجل تحديد سعر للقناة الفضائية.
وقد تزامن ظهور القناة القطرية ولمعان نجمها في العالم العربي، مع فورة الإسلاميين المتشددين والتكفيريين التي اجتاحت الدول العربية والعالم، وعملت إسرائيل وأميركا على استغلالها وتحويل هذه الجماعات وفي طليعتها "تنظيم القاعدة" الى زعزعة الداخل الإسلامي عبر تغذيتها سياسيًا وإعلاميًا. وبالفعل، كان لحكومة قطر وقناة "الجزيرة" الدور الأكبر في ذلك مع التغطية الشاملة والدقيقة والجذابة لأحداث 11 ايلول2001، وما تلاها من الحرب على أفغانستان، وتخصيصها دون سواها من قنوات العالم بعرض حصري لمقابلات وافلام "تنظيم القاعدة" وزعيمه اسامة بن لادن صنيعة الإستخبارات الأميركية "سي آي اي".
ولم تكتف الإدارة الأميركية والإسرائيلية بذلك، بل أحيت النزعة القومية العربية ممثلة في البعثيين والناصريين، وأصبح الجميع في صراع ايديولوجي وسياسي وسباق حميم نحو السلطة تحت مسميات مختلفة وتحالفات مشبوهة، وتكفلت قناة "الجزيرة" كالعادة في كل ما من شأنه التفرقة، بالدور الإعلامي، وتكفلت حكومة قطر بالدور السياسي.
ولا بد من القول، إن قطر ما كان لها أن تفرض نفسها على الساحة السياسية في المنطقة، ساحبة البساط من تحت أقدام دول عربية لها تاريخها الوازن في هذا المضمار، لولا الدور المشبوه التي تكفلت بلعبه في النطقة، ولولا السطوة الإعلامية التي اكتسبتها عن طريق قناة "الجزيرة". وقد كشفت بعض وثائق " ويكيليكس " الأخيرة هذه الحقيقة حينما أكدت أن دولة قطر تتخذ من " الجزيرة " و سيلة للضغط على الدول العربية...
وقد لعبت "الجزيرة" التي يشرف أمير قطر (البار بوالده) شخصيًا في بعض الأحيان على إعداد و"منتجة" بعض تحقيقاتها، لعبت دورًا بارزًا في رفع أسهم إيران وملحقاتها في المنطقة، وساهمت بشكل كبير في شق الصف العربي والإسلامي، فانحازت مثلا لحركة "حماس" ذات الولاء الإيراني على حساب"فتح"، ولفريق 8آذار المسيّر من قبل المحور السوري-الإيراني بقيادة "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، كما عزفت على أوتار الجماهير العربية في اجتماعات الجامعة العربية أو غيرها.
وكان لافتا أن يختار الإرهابيون محطة "الجزيرة" القطرية المشبوهة، مساء 14 شباط 2005، لعرض شريط مصوّر أعلنت فيه جماعة مجهولة تطلق على نفسها اسم "جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام"، مسؤوليتها عن اغتيال الحريري.
وكان لافتا أيضًا، تبني قناة "الجزيرة" بيانات واشرطة تنظيم "فتح الاسلام" الارهابي يوم اعتدى على الجيش اللبناني في ايار2007، وكأنها الجهاز الإعلامي الرسمي لهذا التنظيم! وقد استغل هؤلاء التكفيريون وجود طاقم "الجزيرة" الميداني كضيوف عندهم، وتعاملوا مع شاشتها كـ"صديق"، ليظهروا الجيش كـمعتدٍ وأنفسهم كـ"ضحايا ومقاتلين شرفاء" و"أصحاب قضية"، وليس مجموعة تكفيرية مدعومة من الإستخبارات السورية، تمتهن الذبح والقتل العشوائي وتفجير النفس، لزعزعة الأمن في لبنان ومحاربة "قوى 14 آذار". والأخطر من ذلك، أن تلك القناة المشبوهة اتخذت يوم اندلاع "حرب مخيم نهر البارد"، موقفًا يساهم في اثارة الفتنة بين اللبنانيين والفلسطينيين، حيث ادعت بعد مضي يومين على حصار المخيم من قبل الجيش اللبناني، أن الناس في المخيم "باتت تأكل الكلاب الميتة"، وذلك في محاولة للإيقاع بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية، وثني الأخيرة عن اتخاذ قرار حازم في اقتحام المخيم.
ولم تنفك تلك القناة المشبوهة عن مناكفة مواقف المملكة العربية السعودية الساعية لتدعيم الوحدة العربية وإجراء المصالحات لإنهاء النزاعات الداخلية في المنطقة، ما يعكس رغبة قطر في سرقة الدور السعودي ولعب دور "بيضة القبّان" في المنطقة، فتم التصويب على "اتفاق مكة" بين كل من "فتح" و"حماس" الذي أفشلته إيران، و"الحوار اللبناني-اللبناني" الذي انتهى بجريمة إرهابية هتك فيها منتحلو صفة "المقاومة" جميع الحرمات، وأفضت الى تسوية قهرية مناقضة لاتفاق الطائف فرضها "حزب ولاية الفقيه" وداعميه الإقليميين بجهود قطرية مشبوهة، فكان "اتفاق الدوحة" في أيار 2008، الذي رسّخ أقدام "الشيعية السياسية" في لبنان.
وكان لا بد لقطر وقناة "الجزيرة" أن تدليا بدلوهما في زرع الشقاق والإنقسام بين العرب والمسلمين، أثناء حرب "غزة" الأخيرة. ولذلك، دعت قطر لعقد قمة عربية طارئة في الدوحة بتاريخ 16/12/2009، ما أحدث بلبلة في الوسط العربي، نظرًا لموافقة ذلك اليوم موعد اجتماع وزراء الخارجية العرب في الكويت، تحضيرًا للقمة العربية المقرر عقدها منذ مدة في ذلك البلد، والتي لا يفصل بينها وبين موعد القمة القطرية أكثر من يومين اثنين، ما فضح النيات التآمرية لقطر، في محاولتها إنتاج المزيد من الإنقسامات والنكايات بين الدول العربية.
عقدت قمة قطر التآمرية بمن حضر، وخارج إطار الجامعة العربية، وبمشاركة الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد"، وحضور رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" وصاحب الولاء للمحور السوري-الإيراني "خالد مشعل"، إمعانًا في شق الصف الفلسطيني. واصدرت قطر قرارًا دعائيًا أثناء الإجتماع التآمري، نصت فيه على "تجميد" علاقتها مع إسرائيل، وأكد وزير خارجيتها أن "مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي" في قطر "سيعاد فتحه إذا تحسن الوضع"، إلا أنه تكتم مستغبيًا الشعب العربي والإسلامي، عن الإشارة الى استضافة بلاده أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، والتي شهدت حالة تأهب قصوى أثناء ذلك العدوان، وكانت تراقب الأجواء الإسرائيلية وتمد إسرائيل بالإحداثيات المطلوبة للأهداف في "غزة"، فضلا عن تدفق الأسلحة الفوسفورية والذكية من قاعدتي "باغرام" في أفغانستان و"العوديد" في قطر، تماما مثل ما حصل في حرب تموز 2006.
أما قناة "الجزيرة" القطرية، فكانت أثناء العدوان على غزة، تشن حملة دعائية تحريضية ضد الأنظمة العربية ولا سيما مصر، وتحاول توسيع الشرخ بين "فتح" وحماس"، لاعبة على الوتر العاطفي ومستغلة هول العدوان. وقد قامت وكالة "رامتان" التي كانت تستضيف كادر "الجزيرة" في مكاتبها وتوفر له وسائل البث علاوة على خدمة التصوير من مواقع الخطر في "غزة"، قامت بطرد كادر "الجزيرة" من مكاتبها وأوقفت التعامل معه، وقال مدير "رامتان": "ان القرار اتخذ بسبب انحياز الجزيرة ولا موضوعيتها وممارستها المتحيزة لطرف، وما تسبب به من تحريف للوقائع واجتزاء لمكوناتها وتفاصيلها".
وفي 24/1/2011، وفي خضم حملة شعواء تشنها إسرائيل منذ أشهر عدة على السلطة الفلسطينية، ربما لدفعها الى مزيد من الطواعية والتنازلات، إذ بقناة "الجزيرة" تتولى مهمة القضاء على حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بواسطة نشرها وثائق سرية للمفاوضات التي عقدتها السلطة مع الأطرااف الإسرائيلية، ما أدى إلى استقالة الحكومة في 14/2/2011، على وقع ترددات تلك الفضيحة، التي كشفت عن تنازلات مخزية بحق القضية الفلسطينية. لكن ما يدعو للتعجب ليس مضمون الوثائق، بقدر كيفية حصول "الجزيرة" عليها، وسبب اختيارها لنشرها. فمن خلال هذه التسريبات تعلن " الجزيرة " أنها ليست مجرد محطة إخبارية عادية لاستهلاك الخبر و تداوله، بل هي أداة تستخدم كفاعل أساسي في المعادلة السياسية على المستوى الإقليمي. و ليس من السهل أن تحصل وسيلة إعلامية على وثائق من هذا القبيل إلا إذا كان خلفها قرار سياسي نافذ، الذي يمثل الوجه الخفي في لعبة النفوذ القطري في المنطقة.
وليس سرا مثلا أن ما قدمته "الجزيرة" من بث متلاحق منذ أعوام أضاء على الأوضاع في مصر وتونس وليبيا، وهيّأ أو حرّض الناس على التحرك، ثم ما قدمته من مواكبة لهذه الانتفاضات، انما يتقدم على كل ما فعلته الاحزاب المعارضة والمعارضات في هذه البلدان الثلاثة، التي كانت المعارضة مقموعة فيها، وكان الناس في فقر وبؤس واضطهاد ومهانة. ويأتي ذلك في حين لا نكاد نجد اهتمامًا من القناة بالمعارضين السوريين، ولا تسليطًا للضوء على معاناة الشعب السوري من نظامه الديكتاتوري والبوليسي!
وكان دور قناة "الجزيرة" أشده شبهة وأكثره فظاظة في مصر، من خلال تخصيصها كامل ساعات البث (24ساعة) يوميًا وعلى مدى 18 يومًا، لتغطية الثورة المصرية وزيادة التحريض على الرئيس المصري، وذلك من خلال شاشة عملاقة نصبت لهم في "ميدان التحرير" خصيصًا لمتابعة "الجزيرة".
ولعل دور الجزيرة التحريضي وعدم تحليها بالموضوعية والصدقية مع مشاهديها، تجلى بوضوح من خلال تهميشها دور "الإخوان المسلمين" الرئيسي في الثورة المصرية، ومسارعتها الى بث ردود سياسية كأخبار عاجلة في أسفل الشاشة منسوبة الى المتظاهرين بعد بضعة ثوان على انتهاء أي خطاب للرئيس المصري أو نائبه، وهو بلا شك وقت غير كاف لاستطلاع آراء الجماهير ومعرفة ردود أفعالهم، فكانت تظهر على الشاشة فور انتهاء تلك الخطابات عبارات توجيهية تحريضية مثل: "مبارك يحاول الإلتفاف على مطالب المتظاهرين"، أو "المتظاهرون يعلنون رفضهم ما ورد في خطاب سليمان وتمسكهم بالتظاهر حتى التنحي"!
ويبدو أن "موضوعية" قناة "الجزيرة" و"مهنيتها العالية" التي نتحدّث عنها، وشدة حرصها على دعم ومساندة قضايا الشعوب المقموعة التائقة الى استعادة حريتها، هي التي تجعلها تغفل عن مشاهديها تمامًا احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث و"الأهواز العربية"، وهي أيضًا التي منعتها من التحمس للتظاهرات الإيرانية التي اندلعت في حزيران 2009عقب التزوير الذي شاب الإنتخابات الرئاسية الإيرانية التي أعادت الديكتاتور نجاد الى السلطة بمباركة من "الولي الفقيه"، وبملايين الأوراق الانتخابية المزورة التي ألقيت في الصناديق، فلم نجد "الجزيرة" يومها ولا اليوم عندما تجددت هذه التظاهرات في شباط 2011، لم نجدها تحمست لتغطية التظهرات الإيرانية التي عرفت بـ"الثورة الخضراء"، بقدر تحمسها لتغطية التظاهرات المصرية التي أدت إلى إسقاط نظام الرئيس "حسني مبارك"، أو التظاهرات التي تلتها، سواء الليبية التي تحوّلت الى حرب أهلية، أو اليمنية المدعومة من "الحوثيين" الإنثي عشريين، أو حتى البحرينية المنظمة من شيعة "ولاية الفقيه".
باختصار إنها "الجزيرة" القطرية، احدى أهم أدوات المشروع الـ"صهيو-أميركي" في المنطقة.
عبدو شامي
إيلاف، نشر 7/3/2011
في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة، سنبدأ بالتعرف الى المراحل التي قطعها مشروع الشرق الأوسط الجديد في المنطقة، مبتدئين بأفغانستان والعراق.
12- اشتقنا يا ساحة الحرية
اشتقنا يا ساحة الحرية. اشتقنا الى التجمعات الشعبية. اشتقنا الى ممارسة الوحدة الوطنية. اشتقنا الى تأكيد العيش المشترك واستذكار الشهداء.
اشتقنا الى مخالطة إخواننا في المواطنة. اشتقنا الى الساحة الحاضنة. اشتقنا الى الحماسة التي لا تعرف المهادنة. اشتقنا لاستعادة مشهد غيّر تاريخ البلاد.
اشتقنا الى الثورة الحضارية. اشتقنا الى متابعة القضية. اشتقنا الى نقلة نوعية. اشتقنا الى ارتياد الساحات. لا بل اشتاقت الينا الساحات.
اشتاقت الى حضورنا، الى وجودنا، الى هتافاتنا، الى نضالنا، الى قسمنا، الى شراكتنا الاسلامية – المسيحية، الى وحدتنا العابرة للطوائف والانتماءات.
كالطوفان العارم، كالسيل الجارف، كالمطر الهاطل، سننزل الى ساحة الحرية مرفوعي الهامات.
سنأتي بقيمنا الحضارية، بروحنا الإستقلالية، بنفوسنا السيادية، بمبادئنا الوطنية، بأجسادنا الحامية للتنوع والتعددية، ولوطن الحريات.
جمهور نخبوي فريد، يحترم قياداته ويعتز بها، لكنه لا يرفعها من بشريتها الى مرتبة العصمة والمقدسات.
جمهور رؤيوي مفكر ومنفتح، يسير امام زعمائه ويجعلهم يستوحون من توجهاته، فلا ينتظر عند كل استحقاق "تكليفاً شرعياً" ليتبناه دون اعمال فكر وتدقيق وكأنه من المسلّمات.
جمهور لا يعرف اليأس طريقا الى نفسه، ولا يستطيع الاحباط ثنيه عن مطلبه، ولا يفلح التهديد والوعيد في تغيير قناعاته. هو جمهور لا تزيده التحديات والانتكاسات الا صلابة وتصميما.
استطاع الفريق المسلح قلب الموازين في البلاد وتحويل الأكثرية اقلية، نعم، لكنه هل وصل الى غايته عبر الطرق الديموقراطية؟ كلا، اذن نحن على حق. أعبر تغيّر المزاج الشعبي؟ كلا، اذن نحن على حق. أعبر الالتزام بالعهود والوعود واحترام المواثيق؟ كلا، اذن نحن على حق.
الآن تيقنا ان ثوابتنا كانت ناقصة! نعم، مبادئ الحرية والسيادة والاستقلال، وحصر السلاح بيد الدولة، والتنوع والتعددية والمناصفة والطائف... كلها مبادئ ينقصها ثابتتان اساسيتان، هما: "لا لتقديم التنازلات" و"لا خضوع للسلاح". ثابتتان كان من شأنهما حماية جميع منجزات "ثورة الأرز"، التي فقدنا بعضا منها، فيما افرغ بعضها الآخر من مضمونه، بسبب التنازل والاذعان لرغبة السلاح.
ليس عيبا ان يتعلم الفرد من عدوه، فكيف اذا كان يتعلم درسا في المواجهة من شريكه في الوطن وان كان خصمه في السياسة؟! في 25/5/2010، قال الامين العام لـ "حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله متحدثًا عن العدو الاسرائيلي: "كان سلاحهم يخيف ولم يعد كذلك، لأن قلوبنا لا تخاف، فلنقلب المعادلة، لماذا نبقى في موقع دفاعي على المستوى النفسي؟ فلنجعل اسرائيل تخاف وتبحث عمن يطمئنها، أنا لا أريد ان اطمئنها، لأن اسرائيل عندما تطمئن تعتدي وعندما تخاف تنكفئ". وهكذا نريد ان نكون نحن "ثوار الارز" قيادات وجماهير.
عام 2005، عندما كانت ثورتنا المجيدة في عزها، لم يستطع حيالها الفريق المسلح ورموز الوصاية السورية سوى الانكفاء، فحققنا الكثير من الانجازات. غير اننا مع الوقت وعلى وقع التفجيرات واغتيال خيرة قادتنا ضعفنا، وبدأنا ننصاع لسطوة السلاح ولخطاب التهديد والترهيب والوعيد، فقدمنا التنازلات تلو التنازلات، حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه.
هذه المرة سنقول: كان السلاح الميليشيوي يخيفنا ولم يعد كذلك، لان قلوبنا قررت ان لا تخاف. سنقلب المعادلة. لن نبقى في موقع دفاعي على المستوى النفسي، وسنخرج من سياسة النعامة ومن ردة الفعل. فلنجعل من استقوى بالسلاح يخاف منا ويبحث عمن يطمئنه، وعند ذلك فقط سينكفئ، لاننا اسقطنا رهبة السلاح فسقط معها السلاح.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 10/3/2011، وموقع القوات اللبنانية في "الموقف اليوم"
13- ثورة ولدت من جديد
زلزال ضرب العالم هزّه رفيق لبنان الآن شهيد
شكرًا سوريا هتف أزلامها دعوا للوصاية بالعمر المديد
ردا على الظلم المتمادي مارد استيقظ بعد جهد جهيد
ثورة قلّ نظيرها جذورها ضاربة في ماض تليد
فجّرها شعب حرّ في دفاعه عن الحق عنيد
تعالى على خلافاته توحّد من أجل وطن وحيد
مميّز في ثقافاته في حضارته في تنوّعه فريد
دحر احتلالا أسودَ لعقود ثلاثة كبّله بالحديد
أعوام أربعة توالت وشهيد يسقط تلو الشهيد
وصاية جديدة ما لبثت أن زمجرت آتية من بعيد
من فارس حزب شمولي جاء أتى ليحكمنا كما يريد
بأصابع مرفوعة وصراخ يعلو كل يوم وتهديد
واستقواء بسلاح آثم وغادر كم غيّب من فقيد
وتخوين وافتراءات وتُرّهات تضر ولا تفيد
أميركا في لبنان عدو وفي العراق حِلْف وطيد
إسرائيل تغتال عملاءها وأعداؤها في عيش رغيد
المحكمة اسرائيلية مسيّسة ولم تلفظ بعد قرارها العتيد
"عنزة ولو طارت" منطقه مضمون خطابه الوحيد
خطف بيروت اجتاح الجبل أساء الى وطن وليد
سمى عدوانه مقاومة وأطلق عليه اليوم المجيد
السلطة شغفه غايته مراده ليس ما يدعيه أكيد
أسقط الحكومة رهّب النواب لتعيين رئيس جديد
انتهك الحرمات أهان الكرامات لم يراع أي تقليد
رهانك خاسر سل التاريخ فهو مليء بالعبر مفيد
للدولة سلّم سلاحك تلبنن قوّ الجيش خيارنا الوحيد
للوطن يمِّم ولاءك دع المحاور خطرها مدمِّر شديد
ويحك تمهّل تواضع لن تكون ولياً مرشداً لشعب رشيد
طفح الكيل لم يعد الوضع مقبولاً أن نعامل كالعبيد
ضاق الشعب ذرعاً تأفّف عن الحق قرر أن لا يحيد
وصل الأمر الى حدّه فانتفض المارد يكرّر ويعيد
لا لوصاية السلاح لا للاغتيال لا للقهر لا للتهديد
سلاح الغدر أُسقِط اليوم انتهى لم يعد يخيفنا لم يعد يفيد
الجبل الوفي كان موجوداً ويحك عُد الى قواعدك وليد
ساحة الحرية زغردي لبنان أبشر فاليوم يوم عيد
إنه تاريخ مجيد هي "ثورة الأرز" ولدت من جديد
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 17/3/2011
14-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [3/11]
من أفغانستان والعراق البداية
إن إعلان الولايات المتحدة عن "شرق أوسط جديد"، تزامن مع تصفية جسدية طالت ثلاثة من الحكام في المنطقة المعنية كمرحلة أولى (2003-2005)، كان من أبرز مزاياهم أنهم استطاعوا تشكيل صمام أمان يحول دون نشوب حروب أهلية وفتن طائفية في بلدانهم، وهم على التوالي: "صدام حسين" رئيس العراق حيث الديموغرافيا السنية-الشيعية، و"ياسر عرفات" رئيس فلسطين حيث الحساسية بين "فتح" و"حماس"، و"رفيق الحريري" رئيس الوزراء اللبناني حيث الوجود السني-الشيعي-المسيحي.
وفي مرحلة ثانية بدأت عام 2011، تمّ اغتيال حكام آخرين لكن سياسيًا هذه المرة، استطاعوا تشكيل الصمام نفسه، كالرئيس المصري "حسني مبارك" حيث التنوع القبطي-السني، وكذلك جرى عزل صاحب مبدأ الوحدة الوطنية والعيش المشترك الرئيس سعد الحريري ومعه قوى 14 آذار في لبنان، وأخرجوا من السلطة. كل ذلك كسرًا للحواجز المانعة من الفتن والخلافات التي يراد إيقاظها لتقسيم تلك البلاد.
ونحن في هذا المقام بصدد توصيف عملية تنصيب المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة، بصرف النظر عن صلاح أولئك الحكام أو فسادهم، ومع التأكيد على أن ظلم الحاكم وفساده واستبداده أمر مرفوض مطلقًا، ولا يمكن أن يرضى به حر على وجه الأرض. كما تجدر الإشارة، الى أن شدة المكر والدهاء الصهيو-أميركي، مكنتهم من تسخير القضايا المحقة التي لا ينبغي أن يختلف عليها العقلاء لصالح مشروعهم الخبيث، باعتبار ما سيترتب عليها من نتائج قد لا تظهر كلها في المدى القريب، ونعني بتلك القضايا المحقة، أولا: المطالبة بالعدالة والمحكمة الدولية في لبنان، والتي استخدمت كذريعة أدت الى إخراج القوى الإستقلالية من الحكم، وثورة الشعوب على ظلم وفساد حكامها وإسقاط انظمتها، على نحو ماحدث في السودان وتونس ومصر، وما يحضر لليبيا واليمن والبحرين...
شكلت التصفية الجسدية لأولئك الحكام الثلاثة (العراقي والفلسطيني واللبناني)، قوة دفع لإطلاق المشروع الأميركي في خطواته التنفيذية الأولى، واتخذت الجثث الثلاث جسر عبور دموي من شرق أوسط مقسم سايكس-بيكويًا إذا صح التعبير، الى شرق أوسط مقسم صهيو-أميركيًا بأداة إيرانية منفذة تارة، ومساعدة وداعمة ومحرضة تارة أخرى.
ومما يلفت الإنتباه أن جميع الحكام المطاح بهم سواء جسديًا أو سياسيًا، ربطتهم بأميركا بداية علاقة ودّ وتفاهم أو تنسيق او تحالف، ثم ما لبث أن نما هؤلاء الحكام سياسيًا وماليًا، كما تطورت شبكة علاقاتهم الإقليمية والدولية بحيث شعروا بكينونتهم الذاتية، وافترضوا لأنفسهم اسقلالية تسمح لهم باتخاذ خيارات غير منصاعة او منسجمة مع التطلعات والأوامر الأميركية، ومن ثم شكلت مواقف الحكام وعنادهم، وطموحاتهم وأساليب حكمهم...عائقا امام سير "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، كل واحد منهم لسبب خاص بوضعية بلاده، فمنهم لعناده ورفضه تنفيذ أوامر أميركية أو صهيونية معيّنة مثل الرئيس الفلسطيني، ومنهم لوقوفه حاجزًا أمام التوسع والمد الإيراني وعائقًا في وجه الفتن الطائفية في بلاده كالرئيس العراقي، ومنهم لأسباب مشتركة بين ما تقدم مثل الرئيسين اللبناني والمصري وقوى 14 آذار في لبنان.
حيال ذلك، بات هؤلاء الحكام في السياسة الصهيو-أميركية عنصرًا غير مرغوب به، فأنهت الاداراة الاميركية صلاحيتهم فغيّبتهم جميعًا، منهم جسديًا ومنهم سياسيًا، وتم ذلك غالبًا بتعاون مع المنفذ الإيراني النشيط.
وفيما يلي استعراض موجز للمراحل التي قطعها المشروع الصهيو-أميركي الجديد، ابتداء من أفغانستان والعراق.
أولاً- أفغانستان:
تتكوّن أفغانستان من عدة مجموعات عرقية وهي ذات موقع جيو-استراتيجي في المنطقة، وقد طالها "مشروع الشرق الأوسط الجديد" بتقسيماته الجديدة، وذلك سواء بطبعة "برنارد لويس" أو سواه ممن حاكوا طريقته في التقسيم. وقد اتفق المنظرون لذلك المشروع، على أن الأنسب في التقسيم الأفغاني أن يكون على أساس إثني-عرقي لا طائفي أو مذهبي، وما شجع على ذلك وجود إثنيات أفغانية متعددة وممتدة نحو البلاد المجاورة لأفغانستان، ما ناسب أن تكون أفغانستان البوابة المثلى لتقسيم جاراتها.
وبالنسبة لمقترحات "لويس"، فإنه يرى ضم الإقليم الشمالي الغربي من باكستان إلى مناطق "البشتونيين" في أفغانستان، وإقامة "دولة بشتونستان"، وضم إقليم "بلوشستان" الباكستاني إلى مناطق "البلوش" المجاورة لإيران، وإقامة"دولة بلوشستان".
بعد تحرير أفغانستان من الاحتلال "السوفياتي" الذي سيطر على البلاد عام 1979، بدأت تنشط "حركة طالبان" السنية، التي تمكنت حتى عام 2000 من السيطرة على نحو 90% من مساحة البلاد وفرضت حكمًا إسلاميًا على طريقتها، فنجحت في التخفيف الى درجة كبيرة من التصنيف والتفريق العرقي الذي حل محله الإسلام موحِّدًا البلاد بعد حرب أهلية مريرة وسنوات من الاحتلال.
لم يكن إنجاز "طالبان" -رغم تحفظنا على بعض مظاهره- بالتأكيد في مصلحة المشروع الصهيو-أميركي المرسوم لتفتيت المنطقة، وفضلا عن ذلك لم يكن هذا الوضع مريحًا للدولة الفارسية-الشيعية المجاورة إيران التي عمدت الى تمويل القتال الداخلي ضد حكومة "طالبان"؛ فقد كان مقلقًا بالنسبة للدولة الشيعية الأكبر في العالم ان تجاورها دولة ذات نظام اسلامي-سني. شكّل هذا الواقع تقاطع مصالح أميركيًا-صهيونيًا-إيرانيًا مشتركًا، وبات التخلص من حكم "طالبان" مصلحة استراتيجية لإشعال محرّك "الشرق الأوسط الجديد"، وتفعيل المد شيعة "ولاية الفقيه" والنفوذ الذي تتطمح إيران للعبه في المنطقة، طبعا بضوء أخضر أميركي داعم ومسهل.
وقد ترجم تقاطع المصالح هذا عام 2001، من خلال قيادة أميركا بالتعاون مع "الحرس الثوري الإيراني" (وباعترافه) حربًا على أفغانستان، وذلك على خلفية حوادث الحادي عشر من أيلول "الهليودية" الشهيرة، ومسارعة "تنظيم القاعدة" الذي يتخذ من أفغانستان مقرًا له في تبنيها، وهو أمر أثبتت التحقيقات الصحفية والبرامج الوثائقية فيما بعد عدم صحته، وأنه عمل إسرائيلي-أميركي مشترك، أعِد ليكون ذريعة في شن إدارة الرئيس "جورج بوش الإبن" ما أسماه بـ"الحرب على الإرهاب"، كفاتحة للتغيرات التي تنوي السياسة الصهيو-أميركية فرضها على منطقة الشرق الأوسط.
ومنذ ذلك الحين، وعلى أثر إسقاط نظام "طالبان"، وأفغانستان تعيش تحت وطأة احتلال أميركي، وفي ظل توترات أمنية وتفجيرات وحالة من الإضطراب والفوضى، قد تكون نهايتها المرجوة صهيو-أميركيًا، تقسيم البلاد سواء الى فدراليات أو كنتونات إثنية مستقلة.
وفي هذا الإطار، كان لافتًا تجديد الرئيس الأميركي "بوش الابن" في 28/2/2004، دعوته دول الشرق الأوسط لإجراء إصلاحات سياسية تماشيًا مع "مباردة الشرق الأوسط الكبير" التي طرها بجدية في ذلك العام، واعتبر "أن فترة ما بعد إسقاط طالبان في أفغانستان نموذجاً للتغيير السياسي"، وأعرب عن اعتقاده بـ"إمكانية تكرار التجربة في دول أخرى بإقامة مؤسسات ديمقراطية".
اليوم، بعد مرور عشر سنوات على أحداث أيلول 2001، لم تفلح الولايات المتحدة سوى في إثبات زيف ادعائها بتصدير الديموقراطية للشرق الأوسط والحريات، فقد حولت جهاز الدولة الأفغانية إلى أداة للاحتيال والتزوير والخديعة في انتخابات 2004و2009، أوصلت من خلالها مرشحها "حميد كرازاي" الى أعلى السلطة، وأسفرت نتائجها عن خلل تمثيلي في الـ"لويا جيرغا" أو "مجلس القبائل"، وأتى ذلك في وقت تنشط فيه عملية بناء القواعد العسكرية الأميركية على مشارف الصين وإيران وباكستان ومصادر الطاقة في آسيا الوسطى، التي تجري على قدم وساق.
أما بالنسبة للحليف الإيراني، فقد أشارت صحيفة "نيويرك تايمز" في 27/12/2006 الى أن إيران انفقت ما يزيد عن 200مليون دولار على شكل مساعدات لأفغانستان بهدف توسيع نفوذها الديني والسياسي في البلاد. وأوردت الصحيفة الأميركية أن طهران تبني في أفغانستان الأوتوسترادات وخطوط التوتر الكهربائي وكابلات الألياف البصرية، إضافة الى المدارس والمراكز الطبية. ونقلت الصحيفة عن أحد القادة الشيعة الأفغان أن "طهران تموِّل المدارس الشيعية الدينية المحافظة في البلاد والتي تبلغ نسبة سكانها من السنّة 80%".
ثانيًا- العراق:
أجمع كل من تصوروا الكيفية المثلى لتفتيت الشرق الأوسط، على أن التقسيم الأفضل بالنسبة للعراق يقوم على تفتيته الى ثلاث دويلات: دولة كردية في الشمال، ودولة سنية في الوسط (ستختار الانضمام الى سوريا مع مرور الزمن بعد إنهاء النظام العلوي)، ودولة شيعية في الجنوب، لاعبين على الأوتار الطائفية والمذهبية بالنسبة للسنة والشيعة، والعرقية بالنسبة للأكراد، وذلك لاستخدام الدولة الكردية كفاتحة لتقسيم البلدان المجاورة نظرًا لتواجد الأكراد في جنوب تركيا وفي أجزاء من سوريا وإيران. وقد ورد ذلك التقسيم في مشروع "لويس" و"بيترز" وسواهما ممن عملوا على هذا الملف.
وقد خلصت دراسة أعدتها وزارة الدفاع الاميركية "البينتاغون"، عن ملامح "الشرق الاوسط الجديد"، الى الاستنتاج الآتي: "ان نقطة الانطلاق في تنفيذ هذا المشروع والنقطة الفاصلة هي العراق، فاذا نجح المشروع الأميركي في العراق، يجري الانتقال الى دول اخرى. وإذا أخفق سقطت هذه الخرائط برمتها".
كانت العقبة الوحيدة أمام تنفيذ هذا المشروع في العراق تتمثل بالرئيس العراقي "صدام حسين"؛ وذلك نظرًا لخروج الأخير عن طوع الإدارة الأميركية بعدما جمعته بها علاقة تفاهم أوتحالف، ولكون بقاء العراق في ظل حكمه رغم انقساماته الطائفية والعرقية موحدًا في دولة مركزية ثابتة، وبحاكم قوي وإن ديكتاتوري فاسد وظالم، سيعيق بالتأكيد حركة المشروع الصهيو-اميركي في "الشرق الاوسط الجديد".
أضف الى ذلك، أن "صدام حسين" يقف حاجزًا في وجه التوسع والمد الإيراني في المنطقة المراد له المساهمة في تنفيذ ذلك المشروع الخبيث، فضلا عن أن سيطرة العراق الموحّد على منابع النفط الاستراتيجية تستفز أطماع أميركا...ومن هنا مهدت الطريق للتخلص من الرئيس العراقي بعدما تقاطعت مصالح المتضررين، فاتخذ القرار بتواطؤ صهيوني أميركي وإيراني مشترك.
ففي 20 آذار 2003، بدأت أميركا غزو العراق بالتعاون المشترك مع "الحرس الثوري الإيراني" كما حصل في أفغانستان عام 2001، واختارت أميركا هذه المرة فضلا عن شعارات "الحرب ضد الإرهاب"، و"إحلال الديموقراطية والحرية"، أكذوبة امتلاك العراق للسلاح النووي كذريعة لشن الحرب، فسقطت بغداد في 9 نيسان2003، وتمت الإطاحة بحكم الرئيس "صدام حسين"، فحُل الجيش وفُككت الدولة. وفي 13 /12/2003 ألقي القبض على "صدام"، وتم اغتياله صبيحة عيد الأضحى في 30/12/2006، على أيدي "جيش المهدي" وبحضور زعيمه الإرهابي "مقتدى الصدر"، وذلك بكسر الرقبة ولم يعدم شنقا!
هذا، وقد اعترفت إيران بدورها في جريمتي غزو العراق وأفغانستان مباشرة ورسميًا، وذلك على لسان كبار قادتها، وفي مقدمتهم "محمد خاتمي" حينما كان رئيس إيران، فقال في نهاية عام 2004: "لولا مساعدة إيران لما نجحت أميركا في احتلال العراق وافغانستان". وهذا الاعتراف قاله حرفيا قبله نائبه "محمد علي ابطحي"، في مطلع عام 2004 في ندوة دولية في دبي، وقاله بعدهما "هاشمي رفسنجاني" اثناء حملته الانتخابية في عام 2005.
وكانت الخطوة العسكرية الأولى التي قدمتها ايران خدمة للمشروع الصهيو-أميركي في العراق، هي إدخال "فيلق بدر" (الإيراني التدريب والتمويل والتسليح، والتابع رسميا للإستخبارات الإيرانية) من الاراضي الإيرانية الى جنوب العراق، للقتال ضد القوات العراقية والمجاهدين العرب حالما دخلت القوات الاميركية والبريطانية جنوب العراق، وبفضل هذا الدور سقط مئات الشهداء على يد عملاء ايران.
وتمثلت الخدمة الإيرانية الثانية، بأن أوعزت لعميلها في العراق والمرجع الأعلى في حوزة النجف "علي السيستاني"، ليصدر فتوى تحرم مقاتلة الاحتلال، وفتوى أخرى تدعوا العراقيين للهروب من الجيش والأمن والشرطة. وهكذا تضافر الدور القتالي لـ"فيلق بدر" وبقية التنظيمات التابعة لإيران مع فتاوى "السيستاني"، وأديا الى تعطيل مقاومة عدد كبير من العراقيين للغزو الأميركي، ما سهّل مهمة الجيش الأميركي الى حد كبير.
وتزامنًا مع ذلك، وتفاديا لحصول انشقاق داخل الصف الشيعي بين من يرفضون الاحتلال ومن ينصاعون لمباركته من مرجعيتهم، كُلف "جيش المهدي" بلعب دور المناهض للاحتلال، لأجل استقطاب الشيعة الوطنيين وعدم السماح بإفلاتهم من سيطرة الحوزة والاحزاب الموالية لإيران بسبب تاييدها للاحتلال وتعاونها معه، فنجح في استقطاب عدد منهم ولا سيما من أهل الجنوب، لكنه كشف فيما بعد عن هويته الحقيقية، وهي أنه الأداة الأكثر وحشية في عمليات التطهير العرقي والطائفي، والتي قامت وتقوم بها فرق موت إيرانية وأخرى تابعة لأميركا وإسرائيل متسترة بغلاف سني، من أجل إشعال الفتنة الطائفية تمهيدًا لتقسيم العراق.
اندلعت الحرب الطائفية، وبدأت عمليات التهجير القهري التي لم تطل فقط السنة، بل طالت الشيعة كذلك ومن قبل "فيلق بدر" و"جيش المهدي" أنفسهما لرسم الكنتونات بوضوح، وكانت أميركا قد استعدت للأمر فسارعت بعد سقوط العراق بواسطة حاكمها هناك "بول بريمر"، الى العمل والتحضير لإنشاء "دولة" طائفية وعرقية بواسطة "مجلس الحكم" ثم "الحكومة" و"الانتخابات"، التي فتّتت العراق على أسس طائفية ومذهبية وعرقية. كما جرى تهجير المسيحيين من العراق بواسطة اعتداءات منظمة على أحيائهم وكنائسهم.
في هذه الأثناء كانت العلاقات الأميركية-الإيرانية تظهر على حقيقتها كاشفة عن أحد وجوه التحالف بين هذين البلدين. فمع اقتراب موعد تَسَلُّم الرئيس الأميركي تقرير "بيكر – هاملتون" المقرر في 6/12/2006، والذي رشح عنه أنه سيوصي بانسحاب استراتيجي للقوات الأميركية من العراق، سارع زعيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" في العراق "عبد العزيز الحكيم"، صاحب الولاء الكامل لإيران والمُؤتَمِر بأوامر الولي الفقيه، سارع إلى زيارة واشنطن في 4/12/2006، حيث التقى الرئيس "بوش" و"كونداليزا رايس"، وطالب الاحتلال بالبقاء قائلاً: "لقد طلبنا من القوات الأميركية البقاء في العراق، مع تسليم مزيد من المسؤوليات إلى المسؤولين العراقيين والقوات العراقية، كي تتمكن من حل مشاكل الإرهاب"!! واللافت في هذه المطالبة أنها أتت بعد خمسة أيام على قول "الولي الفقيه" "علي خامنئي": "إن رحيل الأميركيين من العراق هو الخطوة الأولى الضرورية في اتجاه إحلال الأمن". وهذا مثال ناصع ساطع لعقيدة "التقية" التي يمارسها شيعة "ولاية الفقيه"، ولا سيما في خطابهم السياسي.
وفي 29 أيلول 2007، اتخذ "الكونجرس" الأميركي قرارًا بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: كردية في الشمال، وسنية في الغرب، وشيعية في الوسط والجنوب، وذلك بعد أن مهَّد الاحتلال لهذا التقسيم بسياسة المحاصصة الطائفية، وتفجير ألغام الصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة، لأول مرة في تاريخ العراق! وكانت الأحزاب الموالية لإيران و"ولاية الفقيه" هي أول من أيد الدستور الذي وضعته أميركا، وتنافست في ذلك مع أكراد شمال العراق الذين تلقوا الدعم الإسرائيلي على شتى الصعد الممكنة. وبذلك نجح المخطط الصهيو-أميركي في تقسيم العراق بمساعدة الإمبراطورية الممانعة الأولى في المنطقة إيران، والتي يمكن وصفها بالرابح الأكبر من غزو العراق، خصوصًا من الناحية السياسية من خلال رَجُلها رئيس الوزراء العراقي "نوري المالكي"، والجماعات المنصاعة لـ"ولاية الفقيه".
في أواخر عام 2010، طالب "مسعود برزاني" -رئيس إقليم كردستان- بتنظيم استفتاء لتقرير مصير "كردستان العراق"، واعتبار عاصمته محافظة "كركوك" الغنية بالنفط، وقد نال مباركة أميركية وعراقية لطلبه ودعمًا اسرائيليا كبيرا. ولم يذهب الزعيم الكردي الى الوعد بالسير على طريق انفصال "كردستان العراق" فحسب، ولكن ايضا وعَد الجماعات الأخرى التي ترغب في الاقتداء بالمثال الكردي بتقديم العون لها ومساندتها حتى يتاح لها أن تحقق أهدافها. والعمل جار على تهجير مسيحيي العراق الى خارجه، وكان آخرها تفجير كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد في 1/11/2010. كما ان التطهير والتهجير المذهبي قطع أشواطًا كبيرة في رسم حدود التقسيم السني-الشيعي، تمهيدا لتطبيق الدستور بشكل نهائي.
وهكذا اصبح العراق معروضًا للتقسيم وفقًا لبنود "مشروع الشرق الأوسط الجديد" بنص دستوري، وبقرار أمريكي-إسرائيلي، وبمعاونة وتنفيذ ايرانيَين-كرديَين.
أفغانستان والعراق، نموذجان حيّان ليس لـ"الشرق الأوسط الجديد" وحسب، وإنما لمدى صدقية إيران وملحقاتها من أتباع "ولاية الفقيه"، رمز "الممانعة" و"المقاومة" والعداوة لـ"الشيطان الأكبر" و"الإمبريالية" و"الاستكبار العالمي"، والدعوة الى "محو إسرائيل من الخارطة"!!
عبدو شامي
إيلاف، نشر 14/3/2011
"الشرق الأوسط الجديد" في فلسطين، موضوعنا في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة.
15-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [4/11]
فلسطين والخنجر الصهيو-إيراني
لم يتطرق "برنارد لويس" ولا "رالف بيترز" في تصورهما لخرائط "الشرق الأوسط الجديد" للدولة الفلسطينية، بل تحدث "لويس عن "إسرائيل الكبرى"، أما "بيترز" فيقول: إن "على إسرائيل من أجل أن تعيش في سلام مع جيرانها، أن تعود إلى حدود ما قبل 1967 مع تعديلات أساسية مشروعة لا بد منها من أجل أمن إسرائيل"، ولا يشير الى تلك التعديلات لا في "قطاع غزة" ولا في "الضفة الغربية"، ولكنه صنف الأخيرة في آخر قائمة الخاسرين من المشروع التقسيمي!
بيد أن ثمة أفكارًا صهيو-أميركية قديمة-جديدة عمرها حوالي 50 سنة، تتحدّث عن "خيار الدول الثلاث"، الذي يقوم على ضم قطاع غزة الى مصر، والجزء المتبقي من الضفة الغربية الى الأردن (الخيار الأردني)، فيما تتسيّد إسرائيل بمستوطناتها المجال الكلي في فلسطين.
ومؤخرًا، برز مشروع "جيورا آيلاند"، رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي سابقاً، والرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني المسؤول عن وضع الاستراتيجية الأمنية للدولة الصهيونية، فقد طرح خطته لإعادة تنظيم الشرق الأوسط (في حديث له مع آري شفيط من صحيفة هآرتس)، واقترح ضم 12% من الضفة الغربية (600 كلم2) إلى الدولة الصهيونية و600 كلم2 أخرى من مصر تُضم إلى قطاع غزة ويوطن فيها مليون نسمة (لإقامة ميناء بحري ومطار دولي)، على أن تُعطى مصر 150 كلم2 في النقب تعويضاً لها".
كما قام المستشرق والمؤرخ والكاتب الصهيوني "جاي بخور"، بتقديم خطته لإعادة صياغة "الشرق الأوسط"، في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 27/7/2006، فتطرق للوضع الفلسطيني قائلا: "على الأردن أن يتحمل المسؤولية عن الضفة الغربية، وبهذا ينشأ كيان فلسطيني واحد فينتشر الفلسطينيون إلى الشرق (بعيدًا عن إسرائيل بطبيعة الحال) لا إلى الغرب في اتجاه الدولة الصهيونية(...). أما مصر فستصبح مسؤولة عن قطاع غزة، وهو شيء -حسب تصوره- أصبح يحدث في الواقع أكثر فأكثر.(...) وسيفرح سكان الضفة الغربية أيضاً بإنشاء دولة فلسطينية كبيرة".
وفي مقال لـ"بخور" حمل عنوان "حماس مفيدة للخيار الأردني" نشر في صحيفة "يديعوت أحرنوت" بتاريخ 23/10/2008، اعتبر أن: "على إسرائيل أن تفتح الحدود بين الضفة الغربية والضفة الشرقية -أي الأردن- بالتنسيق مع الأردنيين، مثلما سيفتح معبر رفح بالتنسيق مع المصريين، الأمر الذي يعني عودة المصريين الى الشؤون الغزّاوية. هذا ما يجب أن يحدث مع الأردنيين في الضفة الغربية وهم يعرفون ذلك". ويتابع "بخور": "الأردن سيعرف أفضل من اسرائيل كيف يراقب الحدود ـ ماذا ومن يدخل للضفةـ النقطة التي ستبدأ في تشكيل علامة فارقة على طريق حل مشكلة الفلسطينيين: غزّة للمسؤولية المصرية، ويهودا والسامرة الفلسطينية للمسؤولية الأردنية. العودة بنوع من الخيار الأردني ستدفع إسرائيل للبدء بالتحرك نحو التسوية النهائية مع الفلسطينيين: الجدار الأمني سيفصلهم عنها، والمسؤولية المتزايدة لمصر في غزة وللأردن في المناطق العربية من يهودا والسامرة".
ولا شك أن هذا السيناريو الصهيو-أميركي الذي تناوله المنظرون الصهاينة وسواهم، من شأنه إذا تحقق أن ينهي القضية الفلسطينية الى أجل غير مسمى.
اصطدم "مشروع الشرق الأوسط الجديد" في فلسطين بعقبة تدعى "ياسر عرفات"؛ فبعد أعوام عديدة من التنازلات التي قدمتها "منظمة التحرير الفلسطينية" للعدو الصهيوني، وصل الزعيم الفلسطيني الى مرحلة لم يعد بإمكانه فيها تقديم المزيد لإسرائيل، وبات من الواضح للإسرائيليين أن لـ"عرفات" حدًا أدنى من التمسك بالحقوق الفلسطينية ولا سيما لجهة "حق العودة" والإصرار على "القدس عاصمة للدولة الفلسطينية". هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعتبر "ياسر عرفات" رمزًا وطنيًا بالنسبة لغالبية الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهو حائز على تأييد شعبه وقد عرف كيف يستوعب "حركة حماس" بشكل أو بآخر، فيما المطلوب إسرائليًا تقاتل الأطراف الفلسطينية لمزيد من الضعف والتشرذم والإنقسام في الصف الفلسطيني.
بناء على ما تقدّم، اتخذت الحكومة الاسرائيلية في كانون الاول 2001 قرارًا تصف فيه الرئيس الفلسطيني "ياسر عرفات" بـ"غير ضروري"، ثم في السنة التالية صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي "أريئيل شارون" من "البيت الأبيض" وبعد محادثات مع الرئيس الاميركي "جورج بوش" الابن، بأن عرفات "عقبة للسلام". وأفادت صحيفة "يدعوت أحرنوت" الصهيونية بعد ذلك الإجتماع انه: "وافق شارون وبوش على أن دور عرفات سيأتي مباشرة بعد إزاحة صدام حسين..."!
بدأ تنفيذ قرار الإعدام بحق "عرفات"، فجرى اغتياله تدريجيًا بالتسميم البطيء، وصولا بعد أسابيع في 11/10/2004 الى موته، بعد حصار واغتيال سياسي بدءًا من أيار 2002.
بعدما نجحت إسرائيل بالتخلص من "عقبة السلام" و"غير الضروري" "ياسر عرفات"، واستبدلته بمن هو أكثر مرونة منه البهائي محمود عباس، انتقلت الى البند الثاني من المخطط الموصل الى "الشرق الأوسط الجديد" فلسطينيًا، فأعلن "شارون" عن خطة مفاجئة تنص على عزمه القيام بانسحاب أحادي الجانب من "قطاع غزة". وبالفعل وافق "الكنيست" الإسرائيلي على هذه الخطوة، وصادق عليها في 26/10/2004، وأعلن مدير ديوان "شارون"، "دوف فايسغلاس" أن: "برنامج شارون الحقيقي لا يزال على حاله، ممثلاً في حكم ذاتي للفلسطينيين بمسمّى دولة على قطاع غزة و42% من الضفة الغربية من دون القدس، ولا عودة للاجئين، مع الإبقاء على هذا الحال لفترة ما بين 15 و20 سنة". ولا شك أن إعطاء قطاع غزة حكمًا ذاتيًا وكذلك "الضفة"، يعد خطوة متقدمة جدًا باتجاه ما نص علية "مشروع الشرق الأوسط الجديد" بالنسبة لفلسطين و"غزة" تحديدًا ذات الغالبية الشعبية المؤيدة لـ"حركة حماس"، لأنه سيمهد لانضمامها الى مصر يومًا ما، وكذلك بالنسبة الى "الضفة الغربية" ذات الأكثرية المؤيدة لـ"فتح" والمراد إلحاقها بالأردن.
وبالفعل، في 15/8/2005، تم الشروع بتطبيق خطة "شارون" بالإنسحاب من قطاع "غزة"، والتي أطلق عليها تسمية "خطة فك الارتباط" التي تشمل إخلاء 21 مستوطنة في القطاع، اضافة لأربع مستوطنات شمال "الضفة الغربية" ، فخرجت القوات الإسرائيلية من القطاع، وتم إخلاء المستوطنات، وانتهى الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في قطاع "غزة" في 12/9/2005، فأعلنت الحكومة الإسرائيلية إنهاء الحكم العسكري في القطاع. ويمكن تشبيه انسحاب "شارون" التكتيكي من قطاع "غزة"، بانسحاب "إيهود باراك" التكتيكي أيضًا من جنوب لبنان عام 2000، وذلك نظرًا لظروفه والغايات الإسرائيلية المتوخاة منه ونتائجه، وهو ما سيظهر في السطور التالية، ولدى حديثنا عن لبنان في الحلقة التالية.
وهنا، يجدر بنا الملاحظة أن اتفاق "أوسلو" المعقود في العام 1993، كان قد سمي في البداية بـ "غزة/أريحا أولاً"، وبالتأكيد ليس من قبيل المصادفة أن تكون خطة "شارون" معتمدة على خطة "غزة أولاً"؛ كما يجب أن لا يفوتنا سعي إسرائيل في ذلك الحين إلى وقف "الانتفاضة"، وتصديرأزمتها الداخلية إلى الساحة الفلسطينية، ويمكن اعتبار الإنسحاب التكتيكي من غزة عامل دفع لصالح امتلاك أفق بتحقيق ذلك، عبر الرهان على نشوب اقتتال فلسطيني-فلسطيني، أي نشوب حرب داخلية بين السلطة الفلسطينية و"حماس"، على خلفية ذلك الإنسحاب الجزئي وغير المنسّق مع الجانب الفلسطيني، ما سينهي القضية الفلسطينية، ويشتت قوى الشعب الفليسطيني في حروب داخلية بدل أن تكون أطرافه موحدة في مواجهة قوى الاحتلال.
بعد الانسحاب من "غزة"، لم تضيّع إسرائيل وقتها بوقوفها مكتوفة الأيدي تترقب النتائج المتوخاة منه في الشارع الفلسطيني، بل تابعت النفخ في نار مخططها "الشرق أوسطي الجديد" لتسعيره واستعجال نضجه، فعملت على إيقاع "حركة حماس" في فخ وقبضة المحور السوري-الإيراني، تمامًا مثل نظيرتها "حركة الجهاد الإسلامي" التي سبقتها في التبعية لذلك المحور بأشواط كبيرة منذ مدّة، وهو المحور الحليف لأميركا وإسرائيل في تنفيذ ذلك المشروع الخبيث التي يراد للمنطقة أن تفتت على أساسه. لكن ما السبيل لإيقاع "حماس" في شراك إيران ودفعها الى الإقتتال الداخلي مع "فتح" في ظل وجود قيادة واعية تدير شؤون الحركة؟
حيال ذلك، قامت إسرائيل بحملة تصفية طالت جميع القادة "الحمساويين" المهادنين لـ"منظمة فتح"، والممانعين لأن تصبح حركتهم الجهادية الشريفة تابعة لأي نظام حاكم في دول المنطقة، وكان آخر هؤلاء القادة "الاستقلايين" إذا جاز التعبير: الشيخ "احمد ياسين" والدكتور "عبد العزيز الرنتيسي"، اللذين تمّت تصفيتهما على يد العدو الاسرائيلي عام 2004، لتنتقل الزعامة من بعدهما الى الطامح في السيطرة على الحركة وصاحب الولاء السوري-الإيراني "خالد مشعل"، وتقع "حركة حماس" في قبضة هذين النظامين بشكل كامل، وهما النظامان اللذان استخدماها لشق الصفين العربي والإسلامي، وشجعاها بعد مدّها بالمال والسلاح على الاستقواء على "فتح" والاستقلال بـ"قطاع غزة". والأمر نفسه اعتمدته أميركا واسرائيل مع حركة "فتح"، فقدمتا لها الدعم اللازم، لينتهي الأمر بشعب منقسم على ذاته ومشتت فوق شتاته، قسم منعزل في "غزة" وآخر في "الضفة الغربية"، والعدو الصهيوني يتفرّج فَرِحًا مرتاحًا، ويتدخل باعتداءات إرهابية هنا وهناك، وإيران تزايد تقيّة وتغذي الإنقسام، وكذلك سوريا الممانعة خصوصًا في "الجولان" المحتل، فيزداد الوضع تشرذمًا.
وكان من أبرز نتائج وقوع"حماس في القبضة الإيرانية، الإعلان في 2/3/2006 عن تأسيس تنظيم شيعي جديد يحمل اسم "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في فلسطين"، وذلك من خلال بيان وزع على الصحفيين في "غزة" وحمل اسم "محمد غوانمة" رئيس "المجلس الشيعي الأعلى في فلسطين" جاء فيه: "اننا وباسم الإسلام العظيم ومن قلب فلسطين نعلن عن تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في فلسطين امتدادًا للإسلام العظيم"، ويعنون بذلك الوصف إسلام إيران و"ولاية الفقيه"، واعتبر التنظيم الجديد الجمهورية الاسلامية الايرانية "ركيزة المشروع الإسلامي العالمي على طريق إقامة خلافة إسلامية راشدة وعاصمتها القدس الشريف". ويعد هذا الإعلان غريبًا من نوعه في ضوء عدم وجود طائفة شيعية معروفة في الأراضي الفلسطينية.
ولكي ندرك أكثر مدى قوة العلاقة بين "حماس" وإيران، يكفينا أن نسمع تصريح إسماعيل هنية، القيادي في حركة حماس حينما كان رئيساً للوزراء في فلسطين، فقد قال في 8/12/2006 عقب أدائه صلاة الجمعة في طهران حيث تلقى وعدًا بدعم مالي مقداره 250 مليون دولار: "إن لنا عمقاً استراتيجياً هنا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي العالم العربي-الإسلامي كله. إن هذا البلد هو عمقنا القوي والحيوي والثابت".
ومن الأساليب التي اعتمدها العدو الصهيوني لاستدراج "حماس" الى الفك الإيراني القاتل، ما جرى من حصار وتضييق على الحكومة "الحمساوية" التي تشكّلت عقب فوز الحركة بغالبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، في انتخابات تمت بإشراف دولي شارك فيه "الاتحاد الأوربي" وشهد بنزاهتها. فكان لمعاقبة الفلسطينيين على خيارهم الديموقراطي الانتخابي، أن جرى تجويعهم، وتعطيل عمل حكومة "حماس" وصولا الى الإطاحة بها بعدما دفع الفلسطينون بتحريض إيراني-إسرائيلي مشترك نحو الاقتتال المسلح بين "فتح" و"حماس"، الذي حاولت السعودية إيقافه بعد استضافتها القادة الفلسطينيين الذين وقعوا على "اتفاق مكة" في 8/2/2007، إلا أن الفتنة ما لبثت أن استيقظت من جديد، واستمرت الى أن تم النجاح الصهيو-إيراني "الباهر" في حزيران 2007، يوم عبّر الإقتتال الداخلي الفلسطيني عن نفسه بأبشع صورة، حين عاث الاخوة الاعداء فسادًا في "غزة"، مع انقلاب "حماس" الدموي، وما رافقه من قتل متبادل، وإلقاء "للفتحاويين" من الشرفات، وإنزال "الحمساويين"العلم الفلسطيني ورفع علم حركتهم مكانه، وتمزيق ودوس صور "عرفات"، ما أسفر عن سقوط 116 قتيلا على الاقل و550 جريحًا خلال اسبوع واحد!!
وقد انتهى الإنقلاب بتحقيق القسم الأكبر من المشروع الصهيو-أميركي، فقد استقلت "حماس بـ"غزة"، و"فتح" بـ"الضفة الغربية"، فبتنا أمام دولتين لكل منها حكومتها الخاصة، وجيشها الخاص وداعميها الإقليميين أصحاب الأجندة الموحدة، أي إسرائيل، وإيران صاحبة الاطماع التوسعية والطامحة لتصدير ثورتها وفكرها السياسي والعقائدي الى دول المنطقة لتفتيتها على أساسه.
وفي كل مرّة، بعد أن كان يتفق الفريقان الفلسطينيان المتناحران على توقيع وثيقة الصلح بجهود مصرية مضنية، كانت تتدخل إيران فستخدم نفوذها على "حماس" و"الجهاد الإسلامي" لإفساد الأمر، ودفع الفصائل الفلسطينية التي تقدم إليها سوريا المأوى وإيران التمويل والتسليح لعدم التوقيع على أي اتفاق ينهي الإنقسام الفلسطيني.
ولعل اخطر فصول التدخل الايراني في "غزة" لصالح إتمام "مشروع الشرق الأوسط الجديد" القاضي بإلحاق قطاع "غزة" بمصر، كان في حرب "غزة" الأخيرة التي نشبت أواخر عام 2008 واستمرت 22 يومًا حتى أوائل الـ 2009، بسبب رفض حركة "حماس" تجديد اتفاق الهدنة مع اسرائيل، فما كان من "حماس" إلا أن استأنفت إطلاق صواريخها بتوريط وتحريض واضحين من النظام الايراني، الذي لجأ اثناء تفرّجة على تلك المحرقة (التي حصدت 1440 قتيلاً وأكثر من 5880 جريحاً)، الى أحط الوسائل وأقذرها في حربه ضد العرب والمسلمين، فاستغل دماء أهل غزة ومأساتهم وجراحهم وشهدائهم وأطفالهم لزرع الكراهية بين أبناء فلسطين وبين أبناء الأمة العربية والإسلامية، و لم يكتف فقط بالخطابات الدعائية والتحريضية أثناء تلك المجزرة، بل أصدر مرشده الأعلى "علي خامنئي" في 28/12/2008، فتوى تمنع الإيرانيين من التوجه الى "غزة" لمساندة الفلسطينيين والقتال الى جانبهم هناك!!
أما أخطر ما شهده ذلك العدوان على الإطلاق، فتمثل بمطالبة أمين عام "حزب ولاية الفقيه" "حسن نصر الله" مصر بفتح معبر "رفح" الحدودي أمام "الغزاويين"، وتزامن ذلك مع ضغوطات دولية باتجاه الغرض نفسه، ما يعني تفريغ "غزة" من شعبها الذي سيدخل الأراضي المصرية الى أجل غير مسمى ريثما يعاد إعمار القطاع؛ كما حرّض "نصر الله" الجيش المصري على إحداث انقلاب في مصر ردًا على موقف نظامه من العدوان.
إلا أن الرئيس المصري حسني مبارك كان واعيًا للمؤامرة الإيرانو-صهيونية، فأكد في 30/12/2008، ان بلاده ترفض "مخطط إسرائيل للفصل بين الضفة والقطاع، والتنصل من مسؤوليتها عن غزة وتحميل مصر بتبعاتها(...). إن هذا المخطط يستدعي إلى الذاكرة الترويج منذ الثمانينات لمقولة "غزة أولاً" بالنسبة للقطاع و"الخيار الأردني" فيما يتصل بالضفة الغربية(...). وتابع مبارك: "إن مصر لن تقع فى هذا الفخ الإسرائيلي، ولن تشارك في تكريس هذا الفصل (...) بفتح معبر رفح فى غياب السلطة ومراقبي الاتحاد الاوروبي". وربما دفع مبارك ثمن رفضه الخضوع لذلك المخطط الصهيو-أميركي في 11شباط 2011، يوم أطيح به وأجبر على التنحي عن سدة الرئاسة.
ومن المناسب هنا، الإشارة إلى أن قادة إسرائيل مدحوا في أكثر من مرة "حركة حماس" على جهودها الجبارة في الحفاظ على سلامة الحدود ومنع إطلاق الصواريخ علي البلدات الإسرائيلية المحيطة.
ففي 7/7/2009، أشاد تقرير للمخابرات الإسرائيلية بالهدوء الأمني على حدودها الشمالية والشرقية والجنوبية، خصوصا في الشهر الأخير (حزيران2009) حيث لم يصب أي مواطن أو جندي إسرائيلي. ولكن في الوقت نفسه أشار التقرير إلى أن "السيطرة الأمنية من طرف حزب الله في الشمال وحكومة حماس في الجنوب أفضل من الوضع الأمني تحت السلطة الوطنية الفلسطينية"! وجاء في التقرير إنه "في الوقت الذي وقعت فيه "580 حادثة إرهابية" في كانون الثاني من هذه السنة، فقد هبطت إلى 120 حادثة في شباط وآذارالماضيين وتغير طابعها. فبدلا من الصواريخ المتوسطة المدى أطلقت من قطاع غزة قذائف صاروخية قصيرة المدى، وبدلا من إطلاق النار في الضفة الغربية، لجأوا إلى قذف الحجارة والزجاجات الحارقة. وفقد ما يسمى بـ"المقاومة" مضمونه. وتوقفت الأعمال العدائية المسلحة تقريبا". وحذرت المخابرات الإسرائيلية من "الزهو في هذه المعطيات"، وقالت: "إن الفضل الأكبر لهذا الهدوء يعود إلى إنجازات الحربَين الأخيرتين"، أي مسرحية تموز2006 والعدوان الصهيو-إيراني على "غزة" 2008-2009.
وفي هذا السياق، أمرت الحكومة التي تسيطر عليها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في قطاع "غزة" أجهزتها الامنية في 13/1/2011، بـ"الحفاظ على التهدئة مع اسرائيل من طريق وقف اطلاق الصواريخ تجنبًا لهجوم اسرائيلي".وأكد مسؤول فصائلي توافق الفصائل على التزام "وقف إطلاق الصواريخ لتجنيب شعبنا حربًا وعدوانًا جديدًا، مع التأكيد أنه من حقنا الرد على العدوان وفق التوافق الوطني". ولسنا ندري أين كان هذا الحرص على الدم الفلسطيني في "حرب غزة" الأخيرة، وما إذا كان هذا السبب المذكور هو الحقيقة، أم إن أوامر "ولاية الفقيه" لم تصدر بعد لتكرار تلك المأساة واستثمار الدم الفلسطيني في "تصدير الثورة الخمينية" من خلال بث المزيد من الشرذمة في العالمين العربي والإسلامي؟!
إن الواقع الفلسطيني الحالي يمثل أوّل نتائج النجاح الإسرائيلي في تطبيق "مشروع الشرق الأوسط الجديد في "غزة" و"الضفة الغربية"، ولا شك أن لسان حال الصهاينة في حدودهم الشمالية والجنوبية يلهج يوميًا بمقولة: "شكرًا سوريا، شكرًا إيران".
عبدو شامي
إيلاف، نشر 21/3/2011
الشرق الأوسط الجديد في لبنان موضوع الحلقة الخامسة من هذه السلسلة.
16-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [5/11]
لبنان في قبضة قوى التقسيم
تقوم خطة "برنارد لويس" لتقسيم لبنان في "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، على تفتيت هذا البلد الى ثمانية كانتونات عرقية وطائفية ومذهبية. والدويلات موزعة على الشكل التالي: دويلة سنية في الشمال عاصمتها "طرابلس"، ودويلة مارونية شمالا عاصمتها "جونيه"، دويلة سهل البقاع العلوية، عاصمتها "بعلبك" (خاضعة للنفوذ السوري شرق لبنان)، بيروت الدولية "المدوّلة"، كانتون فلسطيني حول صيدا وحتى "نهر الليطاني"، تسيطر عليه "منظمة التحرير الفلسطينية"، كانتون كتائبي في الجنوب يشمل مسيحيين ونصف مليون من الشيعة، دويلة درزية في أجزاء من الأراضي اللبنانية والسورية والفلسطينية المحتلة، كانتون مسيحي تحت النفوذ الإسرائيلي.
أول ما يمكن ملاحظته من تصوّر "لويس" التقسيمي للبنان (وهو تقسيم شديد الشرذمة والتعقيد)، أن الأخير إنما كان يراهن على الأقليات المسيحية اللبنانية، لكي تكون الدافع والأداة لتنفيذ المشروع التفتيتي في لبنان، ويظهر ذلك من خلال إشارته الى "حزب الكتائب" الذي خصص له كانتونًا خاصًا في الجنوب يجمع ما بين المسيحيين والشيعة مع أن الشيعة هم أكثرية ساحقة في تلك المنطقة، وتخصيصه كذلك كانتونين آخرين مسيحيَين أحدهما مارونيًا شمالا عاصمته "جونيه"، وثانيهما (وهو الكانتون المسيحي الثالث) على تماس مع الحدود الفلسطينية ويخضع للنفوذ الإسرائيلي.
ومن تقسيم "لويس" يلاحظ أيضًا، أن الطائفة الشيعية محيّدة تمامًا عن هذا المشروع، إذ إن "لويس" لم يلحظ لها أي كانتون خاص بها مع أن ذلك ليس بالأمر الصعب جغرافيًا ولا ديموغرافيًا، لكون تلك الطائفة ذات ثقل كبير في الجنوب وكذلك في "البقاع" و"بعلبك"، إلا أن "لويس" أعطى "سهل البقاع" و"بعلبك" لدويلة علوية -وهم أقلية قليلة لا تقارن بالشيعة- خاضعة للنفوذ السوري، وأما الجنوب فقد أعطاه لـ"الكتائب"! فما السبب ياترى؟! وهل هذه الخارطة المشرذمة قابلة للتعديل؟
من خلال متابعة مجريات الأحداث في لبنان بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وخصوصًا في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، ندرك أن "لويس" في تصوّره التقسيمي للبنان كان يراهن على الحصان الصحيح، لكون "حزب الكتائب" كان متورطًا بعلاقة مع إسرائيل ومدعومًا منها؛ يومذاك، كان لبنان خاضعًا لـ"المارونية السياسية"، وكان مطلوبًا من "الكتائب" -وبقناعة منها كـ"مقاومة لبنانية" رافضة لأي تنظيم أجنبي مسلّح على الأراضي اللبنانية- القضاء على الوجود الفلسطيني المناهض لإسرائيل والذي يتخذ من لبنان منطلقًا لعملياته "الفدائية" في إسرائيل؛ وقد زادت النقمة على التنظيمات الفلسطينية بعدما أصبحت تتدخل في السياسة اللبنانية الداخلية، وتمارس نفوذًا عليها.
بيد أن التنظيمات المارونية المسلحة لم تنجح في القضاء على المنظمات الفلسطينية، ولم تعد تريد المضي بمخطط التقسيم الذي تريده إسرائيل، وذلك على أثر وصول قائد "القوات اللبنانية" "بشير الجميّل" إلى سدة الرئاسة الأولى عام 1982، وإعلانه في أول خطاباته عقب انتخابه وقبل تسلمه مقاليد الحكم، رفضه أي احتلال أجنبي للبنان، الذي لن يكون إلا سيدًا حرًا مستقلا موحدًا على كامل أراضيه البالغة مساحتها 10452 كلم مربع.
شكل هذا الإعلان وشعار "10452كلم2" الذي رفعه " بشير الجميّل"، صفعة موجعة لإسرائيل ومشروعها التفتيتي، لأنها كانت تراهن على "الجميّل" وطائفته المارونية وحزبه لتنفيذ مخططها التقسيمي في لبنان، وبالتالي تخلّت عن "الموارنة"، وجرى اغتيال الرئيس "بشير الجميل" ردًا على موقفه الوطني في 14/9/1982 قبل تسلمه مقاليد الحكم رسميًا بواسطة "الحزب السوري القومي الإجتماعي"، التابع للنظام السوري الموجود في لبنان منذ العام 1976، يوم اجتاح البلاد بالتنسيق مع أميركا وإسرائيل للمساهمة في القضاء على "المقاومة" الفلسطينية بعد تعثّر "الكتائب"... وبذلك، بدأت إسرائيل تبحث عن البديل المناسب لحفظ حدودها وتنفيذ مشروعها.
في لبنان لا توجد من بين اللبنانيين قوميات عرقية لها عدد يعتد به، وبالتالي كان لا بد من حصر البحث في الإطار الطائفي حيث المجال الأوسع. جرى استبعاد الخيار الدرزي لقلة عدد الدروز وتقوقعهم في مناطق محددة، وكذلك الأمر بالنسبة للعلويين؛ أما السنّة فجرى تحييدهم أيضًا لأنهم المستهدفون أصلا من تقسيم المنطقة وهم شديدوا العداوة للصهيونية ومؤيدون لـ "منظمة التحرير الفلسطينية"، وبالتالي لم يعد هناك سوى غلاة الشيعة المرتبطين "بولاية الفقيه" في إيران، وهم كثرة في لبنان، ولديهم أطماع وأحقاد تاريخية وعقائدية ومشروع خاص يقوم على "تصدير الثورة الخمينية"، وهو مشروع يتقاطع والمشروع الصهيو-أميركي في المنطقة.
جرى تسليم لبنان للنظام العلوي البعثي بعد التخلي عن "الكتائب" (الذين تمسكوا بالخيار الوطني)، على أن تكون مهمَّة السوريين تنظيف الساحة اللبنانية من أي سلاح لأي فئة أو طائفة قد تُشكِّل خطراً على إسرائيل، فانحصر السلاح بالقوات السورية و"حزب ولاية الفقيه" الذي أسسه "الخميني" بعد أعوام قليلة من نجاح -أو إنجاح- ثورته في إيران.
قبل أن يتم نقل دفة إدارة المشروع التفتيتي وتفنيذه الى "حزب ولاية الفقيه"، كانت مهمة تصفية المنظمات الفلسطينية في لبنان مناطة بـ"حركة أمل" ولم يكن ذلك الحزب الإيراني قد ولد بعد؛ وفي ذلك يقول "توفيق المديني" في كتابه "أمل وحزب الله": "إن البرنامج الضمني لحركة أمل هو القضاء على الوجود الفلسطيني المسلّح، باعتباره يشكّل تهديدًا رئيسًا لأمن المجتمع الشيعي". ولعل هذا ما يفسّر سبب استقبال المنتمين الى ذلك "البرنامج" الجيش الإسرائيلي عندما اجتاح الجنوب اللبناني عام 1982 للقضاء على الفصائل الفلسطينية بالورود والأرز!!
انتهى دور "حركة أمل" التى كانت أكبر الحركات الشيعية فى لبنان في ذاك الوقت، بعدما فشلت "طهران" في بسط سيطرتها عليها، حيث رفضت "الحركة" (التي لاقت دعمًا في وقت ما من إيران) تبني مبدأ "الولي الفقيه" أحد المبادئ الاساسية للجمهورية الايرانية، الذي جعله "الخميني" عقيدة دينية يتوقف عليها إيمان "الشيعي" أو كفره، وهي عقيدة تُلزم معتنقها بضرورة الولاء الديني والسياسي لنائب "المهدي" المسمى بـ"الولي الفقيه". وقد رفضت "الحركة" تبني تلك العقيدة، لأنها كانت تدين بالولاء لإمامها "موسى الصدر" وتعتقد أنه الأولى بواجب الطاعة، وذلك قبل تغييبه وبعده.
عقب هذا الفشل الايراني، قررت طهران إقامة منظمة شيعية جديدة تكون بديلا لـ"حركة أمل"، ويكون ولاؤها الكامل لإيران لكي تحقق تطلعاتها في لبنان، فأسّس "الخميني" "حزب ولاية الفقيه" في لبنان الذي أعلن عن ولادته رسميًا عام 1985، وإن كانت نشأته تعود حقيقة الى العام 1982؛ فيومها، استغلت إيران "الخمينية" الفراغ السلطوي الذى نشأ فى لبنان عقب الغزو الاسرائيلي، وأرسلت الى لبنان قوة تنفيذية من "الحرس الثوري الايراني" ضمت 1500مدرب ومقاتل، كانت مهمتها تدريب وتعليم المنضمين الأوائل لـ"حزب ولاية الفقيه" والمساهمة فى إقامة مؤسساتها الخاضعة لإدارة الحزب، والتى كانت نواتها الاولى فى مدينة "بعلبك".
منذ تأسيسه عمل "الحزب" على تحجيم "حركة أمل" عسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا وصولاً الى إخضاعها لوصايته بشكل كامل، كما عمل على احتكار ما يسميه "مقاومة"، فحصرها بحزبه وطائفته، وبدأ يكدس السلاح الإيراني بذريعة "المقاومة" ويقوي نفوذه وسيطرته على طائفته، وعلى الدولة اللبنانية بجيشها وجميع مكوناتها، مستخدما عناصر: السلاح والمال والتكليف الشرعي، ومستغلا ضعف الدولة الذي عمل ولا يزال على زيادته لصالح تقوية دويلته، مع العلم ان ضعف السلطة المركزية هو دليل على خطر احتمال التقسيم، أما قوة السلطة المركزية، فهي دليل على وحدة البلاد.
وفي هذا السياق، أثارت علامات استفهام كبيرة جدًا، دراسة نشرت في حزيران 2010 بمناسبة مرور عشر سنوات على الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان بعد احتلال دام ما يربو على العقدين من الزمان، فقد أكدت ورقة بحثية من إعداد الصهيوني "شيمعون شابيرا" تحمل عنوان "حزب الله وفشل الدولة اللبنانية" صادرة عن "المركز الأورشليمي للدراسات العامة والسياسية"، أكدت على "أن الغزو الاسرائيلي للبنان فى صيف 1982، أسهم بشكل كبير في تعظيم قوة حزب الله العسكرية، الى جانب ذلك أسهم الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني الذي استمر من عام 1982 وحتى عام 2000 في تعاظم تلك القوة، وأصبح حزب الله بمثابة الزيت الذى يوضع فى المحركات، واصبح يمتلك أيضاً قدرات عسكرية، سياسية واجتماعية". وقد أكد على ذلك أيضاً وزير الحرب الصهيوني "إيهود باراك" الذي قال في حديث مع التلفزيون الإسرائيلي بمناسبة مرور عشر سنوات على الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان: "حزب الله لم يكن موجودا بتاتًا عندما دخلنا لبنان، بل أُقيم بسبب وجودنا هناك، وإن تعاظم قوته ليست نابعة لانسحابنا من جنوب لبنان، بل بسبب وجودنا هناك".
وبعيدًا عن تلك الدراسات والتصريحات التي سنترك الحكم على مدى صحتها للتاريخ، فالملاحظ أنَّه منذ العام 2000، قرَّرت السياسة الصهيو-أميركية، رفع أسهم إيران وملحقاتها أتباع "ولاية الفقيه" في العالمين العربي والإسلامي، عبر إظهارهم بمظهر المقاتل لإسرائيل والمعادي لأميركا، تمهيدًا لكسب تعاطف الشعب العربي والإسلامي السُنِّي، وبالتالي شقّ الصفين العربي والإسلامي.
وعلى هذا الأساس، تمَّ عام 2000 الإنسحاب الإسرائيلي التكتيكي من جنوب لبنان، باستثناء مزارع شبعا لضمان احتفاظ "حزب ولاية الفقيه" بسلاحه وإبقاء ذريعة ما يسميه "المقاومة". وقد تعمّد العدو الإسرائيلي تنفيذ انسحابه التكتيكي، من دون تنسيق مسبق مع الدولة اللبنانية التي كان يفترض أن تتسلم قواها الأمنية تلك المناطق المخلاة إسرائيليًا لبسط أمنها وسلطة الشرعية اللبنانية عليها، إلا أن العدو الإسرائيلي فضّل تسليم تلك المناطق الجنوبية لـ"حزب ولاية الفقيه" مع "حبة مسك"، تمثلت بتركه ذخائر وأسلحة وأجهزة وآليات عسكرية إسرائيلية، متيحًا لـ"الحزب" الإفادة من بعضها وعرض بعضها الآخر في "معارض" دعائية.
أدى الإنسحاب التكتيكي غرضه، فنمت شعبية عارمة لـ"الحزب" متخطّية حدود لبنان والعالم العربي لتَعُمَّ المسلمين في كل مكان، واستولى الحزب بشكل كامل على الجنوب اللبناني الذي كان مقررًا في تقسيم "لويس" إعطاؤه لـ"الكتائب". ومنذ ذلك الحين سُمِحَ للحزب بالتسلُّح المُكثَّف والثقيل ليقوى على الدولة اللبنانية، ويُشكِّلَ دويلة له داخلها، لها جيشها الخاص واقتصادها الخاص الذي لا يتأثر بالاقتصاد اللبناني كونه مبنيًا على الدعم الإيراني بمليارات الدولارات، تُنفَق على أعضاء الحزب ومؤيِّديه ومؤسساته المُتَخَصِّصة بالمجالات كافة، وكل ذلك بحجة دعائية تمويهية تسمى "المقاومة". وتوازيًا مع ذلك بدأ الحزب يشكل خلايا له في الدول العربية المراد تصدير "الثورة الخمينية" إليها، وكان بعض عناصر تلك الخلايا يزورون لبنان لتلقي التدريبات والتوجيعهات اللازمة في معسكرات الحزب الإيراني، الموجودة في المناطق المحظورة على الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.
كما بدأ "الحزب" يشكل كانتونه الخاص، من خلال عملية ممنهجة ومدروسة لاستملاك وشراء أراضي وعقارات تابعة لطوائف مسيحية ودرزية وسنية بإغراءات مالية كبيرة، محاولا العبث بالديموغرافيا اللبنانية، وترسيم حدود كانتونية أكثر بساطة وأقل شرمذة من اقتراح "لويس"، لا تنتظر سوى"التكليف الشرعي" لإعلان التقسيم الرسمي للبلاد. مع العلم أن "الحزب" يفضل وضع اليد على الدولة اللبنانية بالكامل وإخضاعها لسيطرته، إلا أنه لن يستطيع الوقوف في وجه الإرادة الصهيو-أميركية عندما تقرر إتمام التقسيم، أي تقسيم "لويس" لكن معدّلاً، بدءًا من دويلية شيعية في الجنوب و"سهل البقاع" لا "كتائبية" و"علوية" كما كان مقرّرًا.
اصطدم الدور المراد للحزب أن يلعبه في لبنان، وكذلك "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، بعقبة كبرى تدعى "رفيق الحريري"، وذلك للأسباب التالية:
1- فقد تمكن "الحريري" منذ وصوله الى سدة رئاسة مجلس الوزراء في لبنان عام 1992 وحتى سنة 2005، من بناء زعامة عابرة للطوائف في هذا البلد نظرًا لفكره الوحدوي وقوميته العربية، وقناعاته الراسخة بالوحدة الوطنية والعيش المشترك، وهو فكر غير مرغوب به في بلد يراد له أن يبقى مكتويًا بنار الانقسامات الطائفية -التي يعد "حزب ولاية الفقيه" من أهم النافخين في نارها- ريثما يحين موعد تقسيم لبنان على أساسها.
2- وتوازيًا مع تلك المكانة التي استطاع الرئيس "رفيق الحريري" تبوؤها، كان موقعه كزعيم سني يقوى يومًا بعد يوم، بحيث أصبح قادرًا على الوقوف في وجه التمدد الشيعي-الإيراني في لبنان أو إعاقته على أقل تقدير، وهو أمر محرّم ليبقى العنصر الشيعي مسيطرًا بلا منازع أو منافس. أضف الى ذلك أنه في لبنان ممنوع على غير الشيعة إنشاء زعامات قوية يلتف مؤيدوها حولها، وتمكّن "الحريري" من التربع على عرش الزعامة السنية في لبنان أخلّ بالمعادلة السورية-الإسرائيلية في هذا البلد، القاضية بإضعاف السنة وتهميش المسيحيين وتقوية شيعة "ولاية الفقيه". وهذا ما أكده نائب الرئيس السوري السابق "عبد الحليم خدام" بقوله لقناة العربية في 30/12/2005: "وجرت حملة على الحريري لأنه يقوم بتجميع طائفته حوله، وهذا ضد سورية. وأنا اتصلت بالرئيس (الأسد) وسألته عن الموضوع، وسألته لماذا رفيق الحريري خطر على سورية إذا تجمَّعت طائفته حوله، وحسن نصر الله ونبيه بري ليسا خطرًا إذا تجمعت طائفتهما حولهما؟!".
لم يجب "خدام" ولا "بشار الأسد" عن هذا السؤال الإنكاري الجريء، لكن تقدير الإجابة المضمرة هي أن الخطير والمقلق في زعامة "الحريري" السنية، أنها بدأت تتخطى الحدود اللبنانية، الأمر الذي شكّل خطرًا على موقع الرئيس السوري العلوي في سوريا نظرًا لكون غالبية الشعب السوري (90%) من الطائفة السنية التي ينتمي إليها "الحريري"، وهي أغلبية مقموعة ومسحوقة من أقلية ضئيلة جدًا (4%) من العلويين الذين تنتمي إليهم العائلة الحاكمة وتسيطر على سوريا بنظام قمعي ديكتاتوري، والمراد إسرائيليًا في هذه المرحلة بقاء نظام "الأسد" في سدة الحكم، ولا سيما أنه رئيس "مقاوم" و"ممانع" من الطراز النادر والرفيع، فهو يحافظ على أمن "الجولان" المحتل سيرًا على خطى والده وعملاً بالمعادلة الإسرائيلية: "أمن الجولان مقابل بقاء النظام".
3- يضاف الى ما تقدّم، أن "رفيق الحريري" نما سياسيًا وماليًا ليصبح شخصية عربية وعالمية لها معارفها وصداقاتها على مستوى العالم، ما سمح له بالخروج أحيانًا عن إرادة الإدارة الأميركية التي جمعته بها علاقة ودّ أو تحالف، ولا سيما مع رفضه توطين الفلسطينيين في لبنان. كما برز "الحريري" أيضًا كشخصية "قومية عربية" معادية للتقسيم ومحاورة من الدرجة الأولى، تعمل جاهدة على حل المشاكل التي تنشب بين الدول العربية بين الحين والآخر. هذا مع العلم، أن الرئيس "رفيق الحريري" أعلن صراحة عام 2004، رفضه للمبادرة الأميركية المشبوهة والمسماة بـ"الشرق الأوسط الكبير" وأعرب عن مخاوفه من تطبيقها، وهي مبادرة طرحتها أميركا عام 2004 وسوقتها على أنها على تهدف إلى تشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ونشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى، دون أن تتعرض للب المشكلة في المنطقة والمتمثل بالصراع العربي-الإسرائيلي. اعتُبر موقف "الحريري" ذاك، موقفًا مهمًا ومزعجًا للإدارة الأميركية، لأنه جاء بعد لقاء جمع "الحريري" بالرئيس المصري "حسني مبارك"، مما أوحى بأن هذا الأخير يتّخذ موقفًا مماثلا ما لبث أن جهر به بعد لقائه الملك السعودي.
4- ومما زاد استياء النظام السوري من الرئيس "رفيق الحريري"، عَزْم الأخيرعلى خوض انتخابات العام 2005 بكل ثقله وترجيح المراقبين السياسيين فوزه بغالبية مقاعد البرلمان ما سيشكل ضربة قوية لميزان القوى في لبنان، خصوصًا بعد انضمامه إلى المعارضة الوطنية المتمثلة بـ"لقاء البريستول" رافضًا أن يحكم لبنان من الخارج، وتزعمه وتمويله تلك المعارضة؛ هذا فضلاً عن تبنّيه منذ العام ألفين الأسلوب الأوروبي الفرنسي البطيء، والسلمي التفاوضي، في تحقيق أهدافه، وانحيازه إلى نمط قضم المكتسبات الجزئية من أمام النظام البعثي، بدل إعلان الحرب عليه والقطيعة معه.
حيال ما تقدّم، بات "رفيق الحريري" عبئًا على المشروع الصهيو-أميركي في لبنان والمنطقة، وحجر عثرة في طريق التمدد الإيراني والنفوذ السوري، فجرى اغتياله في 14 شباط 2005 بعد عملية تخوين وتحريض وتضييق سياسي وأمني منظمة ومبرمجة شنها ضده حلفاء سوريا وإيران في لبنان، ففجر موكبه في بيروت في عملية إرهابية محكمة التخطيط والتطبيق، نفذت بتعاون إيراني-سوري مشترك، وبضوء أخضر أميركي-إسرائيلي.
فقد ورَّطت أميركا النظام البعثي بتلك العملية وكذلك إيران وحزبها في لبنان، على أن تُنشِئ محاكمة دولية نزيهة تطال بأدلة دامغة تلك الجهات ولا سيما النظام السوري، وعلى أن يبقى قرار الإدانة حبرًا على ورق إلى أن يحين موعد تغيير النظام السوري وتعديل وضعية حلفائه في لبنان، وفق ما ينص عليه "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، فيتمّ إخراجه إلى حيِّز التنفيذ.
وتَمَّ اغتيال الحريري ظنَّاً من المجرمين أنَّ ردَّة الفعل على عملية اغتياله لن تتجاوز تلك التي حصلت لدى اغتيال زعماء سُنِّيين لبنانيين من قبل. إلا أنَّهم تفاجأوا بانتفاضة جماهيريَّة ونيابية منظمة تُنادي باستقالة الحكومة الموالية لسوريا، مهَّدت لثورة شعبية عارمة في 14 آذار 2005 (ثورة الأرز)، جمعت أكثر من مليون ونصف المليون شخص يُطالبون بإنهاء حكم الوصاية، وخروج الجيش السوري من لبنان الذي سحبت منه أميركا التفويض أصلا عام 2004 مع صدور القرار 1559 الذي عارضته إسرائيل بشكل لافت، فلم يَجد المجتمع الدولي بدًا من الإذعان لإرادة تلك الثورة الشعبية، والتي لم تدعم أميركا قواها السياسية جديًا سوى في الأشهر الستة الأولى لانطلاقتها على أبعد تقدير وفي أمور محدّدة، أي الى حين انسحاب الجيش السوري من لبنان، ووضع المحكمة الدولية على المسار الموصل لإقرارها دوليًا.
هذا، ولا يمكن وضع "ثورة الأرز" في خانة ثورات "الفوضى الخلاقة" التي بدأت مطلع العام 2011، لأنها ثورة فاجأت العالم واتسمت بالعفوية، فلم تحرّض عليها قناة"الجزيرة" بتحقيقات وأفلام وثائقية ولا خصّصت لها معظم ساعات بثها، وأنما كانت الـ"جزيرة" دائمًا ولا زال في صف فريق 8 آذار الذي يتزعمه "حزب ولاية الفقيه"، كما أن "ثورة الأرز" لم تتم الدعوى إليها عبر صفحات الـ"فايسبوك" للحشد والتأييد. أضف الى ذلك أن تلك الثورة لم تسقط أو لم يسمح لها بإسقاط رأس النظام اللبناني المتمثل برئيس الجمهورية آنذاك "إيميل لحود" (حليف الحزب الإيراني) الذي بقي في منصبه حتى آخر لحظة من ولايته الممددة قسرًا، والذي رغم معاناته من شبه مقاطعة دولية وفرنسية خصوصًا، لم تجرؤ أميركا على دعوته الى الرحيل على نحو ما فعلته مع "بن علي" و"مبارك" و"القذافي"، لأن المطلوب بكل بساطة بعد الحذف الأميركي-الإسرائيلي-السوري-الإيراني المشترك للرئيس "رفيق الحريري" من المعادلة اللبنانية والعربية، نقل السلطة من قبضة الوصاية السورية الى قبضة "حزب ولاية الفقيه"، كما أن ثمة تخوّفًا صهيو-أميركيًا من انسحاب نموذج "ثورة الأرز" إذا كتب له النجاح الكامل والباهر الى دول مجاورة، كانت تلك السياسة لا تزال بحاجة إليها أو في صدد دراسة مستقبلها.
تسلمت الحكم -وإن بشكل منقوص- الأكثرية النيابية التي اكتسحت الإنتخابات عام 2005، والتي عرفت بقوى 14 آذار. إلا أن هذه القوى، شكلت عقبة كـ"رفيق الحريري" للمشروع الصهيو-أميركي، لكونها عابرة للطوائف، وصاحبة مبادئ الحرية والسيادة والاستقلال، وحصر السلاح بالجيش اللبناني، وداعية للوحدة الوطنية العيش المشترك؛ فجرى تسليمها السلطة التي انتزعتها بقوة النظام الديموقراطي والانتخابات النيابية، لكن مؤقتًا للتنفيس من غضب "ثُوَّار الأرز" وامتصاص غليانهم، وحفاظًا على صورة أميركا التي ترفع شعار دعم الديموقراطية في العالم، الأمر الذي انعكس سلباً على الوجود الشيعي الذي ضعف نفوذه وانكفأ. فكان أن دُبِّرت حرب تموز عام 2006 لتعيد الوضع إلى نصابه.
اندلعت "حرب" تموز في 12/7/2006 على خلفية قيام "حزب ولاية الفقيه" بانتهاك الخط الأزرق الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة وقيامه بخطف جنديين إسرائيليين وقتل آخرين.
كانت تلك "الحرب" مسرحية أتقنها بطلاها بامتياز. إذ قبل بداية المسرحية لم يكن هناك قصور استخباراتي لدى الجيش الاسرائيلي. كانت لدى الجيش الصهيوني معلومات جيدة ودقيقة عن تشكيلات "حزب ولاية الفقيه"، والأسلحة التي بحوزته، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدروع، والمخابئ والمخازن، وشبكة الخنادق المحصنة، ومسارات وقوافل نقل السلاح، وأماكن منصات اطلاق الصواريخ، وطرق القيادة، وأماكن القياديين... فكل ذلك كان يتم أصلا تحت إشراف وموافقة طائرات العدو الاستطلاعية التي لا تفارق الاجواء اللبنانية، وبالتعاون مع النظام السوري الذي تمر تلك الإمدادات عبر أراضيه، فضلا عن الأقمار الصناعية التجسسية التي تستطيع رصد أدق الاشياء والتضاريس والتفاصيل في الجنوب اللبناني.
ومع ذلك كله، لم يتم القضاء على قدرة الحزب القتالية أثناء ذلك العدوان المريع الذي استمرر 33 يومًا حاصدًا 1300 قتيل و4000 جريح، والذي طال الدولة اللبنانية وحدها: بشعبها وجسورها وطرقاتها ومطارها ومرفئها وبناها التحتية وسياحتها واقتصادها، وبقي الحزب يطلق صواريخه حتى ساعة وقف اطلاق النار لكن باتجاه الأحراج والتلال والوديان والقرى ذات الكثافة العربية وأحياء العرب في "حيفا"، فيما بقيت المستوطنات المتاخمة للحدود الشمالية شبه سالمة، وكأن الجيش الإسرائيلي و"الحزب" فقدا ذاكرتهما الدعائية أو أصيبا بالعمى!!
كما لفت أثناء عرض فصول تلك المسرحية، مناشدة الممثل "حسن نصر الله" عرب "حيفا" بإخلاء أحيائهم، بحجة أن بقاءهم فيها يُعوِّق قصفه تلك المدينة لصعوبة تفاديهم؛ لكن لِحُسن الحظ فقد تنبَّه أهل "حيفا" لهذه المكيدة الخبيثة، إذ لو خرجوا من أحيائهم لسيطر عليها الإسرائيليون اليهود، وَلَوَجَّهت إليهم الحكومة الإسرائيلية تهمة التواطؤ مع "العدو"، وإذًا لاستُبعدوا عن مدينتهم نهائياً. وهذا ما تسعى إليه إسرائيل، التي تجهد منذ العام 1948 لطرد عرب "الناصرة" و"عكا" و"حيفا" و"الجليل" من مدنهم، إلا أنهم أصروا على البقاء متحملين المتاعب والويلات منذ عشرات السنين، ورافضين التنازل عن أراضيهم للصهاينة المحتلين.
وفي خضم "حرب" تموز 2006 المدمرة، اصّرت وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" على زيارة لبنان، مصرحة لدى وصولها: "هذه آلام المخاض، نحن نشهد ولادة شرق أوسط جديد". وصدقت فيما تقول.
استدرجت "رايس" وزراء ونوابًا وشخصيات من قوى 14 آذار الى اجتماع في السفارة الأميركية في "عوكر"، بذريعة التباحث في كيفية ايجاد مخارج لوقف تلك "الحرب". وقد شكّل هذا الاجتماع (الذي كان ينبغي تفاديه أو على الأقل حصره برئيس مجلس الوزراء)، مادة دسمة للمعارضة التي وصفته بعد انتهاء الحرب بالإجتماع التآمري على ما يسمى "مقاومة"، بهدف إطالة أمد "الحرب" حتى التخلص منها نهائياً وتهجير الشيعة بالبواخر من لبنان(بحسب زعم "نصر الله")، مع العلم أن "نبيه بري كان قد وصف في 30/8/2006 الحكومة اللبنانية بـ"حكومة المقاومة الديبلوماسية والسياسية"، فانسحب وزراء "أمل والحزب" من الحكومة وطعنوا بشرعيتها، وخوّن "نصر الله" أكثر من نصف اللبنانيين، وبدأ ينفذ انقلابه المدعوم صهيو-أميركيًا للإستيلاء على السلطة، واستكمال بناء "الشرق الأوسط الجديد" لبنانيًا.
نجحت مسرحية "حرب تموز" في إضعاف الدولة اللبنانية، وفي جعل إيران و"نصر الله" في أعين البسطاء "أبطالا مقاومين"، كما نجحت في تحويل الأنظار عما دار في أثنائها من تطهير مذهبي في العراق، ونجحت أيضًا في توسيع الشرخ بين فئات الشعب اللبناني وزرع بذور الفتنة الطائفية والمذهبية ولا سيما بين شيعة "ولاية الفقيه" وبقية الطوائف، بعد افتراءات "نصر الله" وتخوينه أكثر من نصف اللبنانيين، ونجحت "الحرب" بجهود "نصر الله" في حقن وتحريض أتباع "الحزب" ضد الحكومة اللبنانية تمهيدًا لاستخدامهم في خطوات إسقاطها، كما أفضت "الحرب" الى صدور القرار 1701 عن الأمم المتحدة، الذي نص في أحد بنوده على تمركز 15ألف جندي من قوات حفظ السلام في الجنوب اللبناني، لإراحة "الحزب" من مهمته التقوقعية في حراسة الحدود الجنوبية، وتفريغه بكامل طاقته للتمدد شمالا وإنجاح انقلابه ورسم خارطة كانتونه.
بقيت "حكومة الإستقلال الثاني" برئاسة "فؤاد السنيورة" صامدة، ولم تنجح حرب تموز، ولا جهود "الحزب" التعطيلية، ولا عمليات اغتيال خيرة قادة "ثورة الأرز"، ولا حتى "حرب مخيم نهر البارد" (في إيار 2007)، في ثنيها عن متابعة مهامها الوطنية؛ كما فشل السلوك الأميركي-الإسرائيلي المشترك، الذي حاول من خلال إطلاقه تصاريح يومية داعمة للرئيس"السنيورة" و"14 آذار"، إيجاد شبهة قوية لدى البسطاء لاتهام هؤلاء الإستقلاليين، بلعب دور الخيانة والعمالة والتبعية لتلك الجهات، ذلك الدور المكذوب، الذي ما انفكّ "حزب ولاية الفقيه" يذكِّر به أتباعه في جميع خطاباته ولا سيما في اعتصام "ساحة رياض الصلح"، الذي أمته جوقة "الشتامين" طوال سنة ونصف السنة تقريبًا.
وصل "الحزب "الى الطريق المسدود، فنفذ عملا إرهابيًا بكل ما للكلمة من معنى، مستغلا حدثًا يحمل البصمات الأميركية، ألا وهو اتخاذ الحكومة بتاريخ 5/5/2008 قرارًا اعتبرت بموجبه شبكة اتصالات الحزب السلكية المكتشفة غير شرعية وغير قانونية، وتشكل اعتداء على سيادة الدولة، وملاحقة كل من يثبت تورطه بها، كما قررت إعادة قائد جهاز أمن المطار إلى ملاك قيادة الجيش، بعد الكشف عن كاميرة مراقبة نصبها الحزب لمراقبة أحد مدارج المطار. وجد "الحزب" في هذين القرارين ضالته، ليشن حملة إرهابية عسكرية من الواضح أنها كانت معدّة سلفًا وجاهزة، من أجل الإطاحة بحكم الاكثرية وبنتائج انتخابات 2005، واسقاط الحكومة بقوة السلاح.
اجتاح "حزب ولاية الفقيه" بيروت والجبل في 7و11 أيار 2008، منتهكًا جميع الحرمات وموقعًا أكثر من 83 قتيل بسلاحه المعد زورًا لـ"المقاومة" وحقيقة للاستعمال الداخلي، واستطاع جلب قادة 14 آذار الى الدولة المشبوهة "قطر"، حيث انتزع براعية قطرية كل مطاليبه، وعلى رأسها قانون انتخاب يلائمه وثلث معطل في حكومة جديدة، فضلاً عن انتخاب رئيس للجمهورية من خارج صفوف الأكثرية (قوى 14 آذار)، ونعني به قائد الجيش "ميشال سليمان" الذي كان "نبيه بري" أول من طرح اسمه كمرشح "توافقي" ورفضته قوى 14 آذار بداية مصرّة على حقها في انتخاب رئيس من صفوفها. وقد عرف ذلك الاتفاق بـ"اتفاق الدوحة" الذي أكّد دخول لبنان في حقبة "الشيعية السياسية".
وأتى ذلك كله وسط صمْت أميركي مريب، فَضَح الدعم الكلامي الأجوف الذي كان يتكرر بشكل يومي بلا كلل ولا ملل لأـ"حكومة الاستقلال الثاني"، وتأمُّل اسرائيلي عجيب، نمّ عن موافقة ضمنية على تنقُّل أرتال "المقاومة" بين بيروت والجبل مكشوفة كما تريد، وهو ما لاحظه زعيم الأكثرية "سعد الحريري" وعبّر عنه في 13/5/2008، قائلاً: "الهجوم على بيروت ما كان ليتم من دون غطاء إسرائيلي، نعم ما كان للهجوم أن يتم من دون تغطية إسرائيلية...".
في انتخابات 2009، جرت الرياح الإستقلالية بما لا تشتهي السفن الصهيو-أميركية، فاكتسح فريق 14 آذار المقاعد النيابية مجددًا، وعاد الأمر بالنسبة لـ"حزب ولاية الفقيه" الى نقطة البداية، الذي فرض برهبة سلاحه على الأكثرية انتخاب "نبيه بري" رئيسًا لمجلس النواب، إلا أنه لم يستطع الحؤول دون وصول "سعد الحريري" نجل الرئيس "رفيق الحريري" الى سدة الرئاسة الثالثة بقوة الأكثرية النيابية، فعاد "كابوس" "رفيق الحريري" الى أذهان المجرمين، الذين لا يريدون لهذا الشاب أن يكمل مسيرة والده.
أصر "الحزب" على التمديد لـ"اتفاق الدوحة" ومنع "الحريري" من تشكيل أي حكومة لا يحوز فيها "الحزب" على "الثلث المعطل"، الذي يستطيع بموجبه إسقاطها متى شاء، فكان له ما أراد بعدما لوّح مهددًا بسلاحه ابتداءًا من حادثة "عائشة بكار" التي نفذتها ميليشيا "حركة أمل" موقعة قتيلة وستة جرحى، وكانت أشبه بـ"7أيار مصغّر". وتوازيًا مع ذلك عمل "الحزب" على تطويع الزعيم الدرزي "وليد جنبلاط" لإخراجه من قوى 14 آذار ولا سيما أنه يملك كتلة نيابية قادرة إذا انتقلت الى الضفة الثانية، على تحويل الأقلية -اي قوى 8 آذار بقيادة الحزب-الى أكثرية.
تعرض "جنبلاط" للتهديد بإشعال فتنة في الجبل حيث الثقل الدرزي، وأعطي كنموذج على ذلك درس غزوة 11أيار 2008 الذي فهمه جيّدًا بدليل قوله في 28/8/2008: "الأميركيون خدعونا وتركونا، والآن يفاوضون الإيرانيين، وتيار المستقبل لم يصمد ساعتين في بيروت"، فانكفأ مفضلا البقاء مع الأقوى، وأعلن انسحابه رسميًا من قوى 14 آذار في 2 آب 2009، إلا أنه مع ذلك أكّد أنه لا يزال حليفًا لـ"سعد الحريري".
عام 2010، ومع اقتراب صدور القرار الاتهامي عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس "رفيق الحريري"، الذي تبيّن أنه سيستند الى أدلة قاطعة ودامغة تبيّن تورط "حزب ولاية الفقيه" ومَن وراءه في "جريمة العصر"، سارع "الحزب" الى اتهام المحكمة بأنها إسرائيلية أميركية، وبدأ يتذرع بوجود "شهود زور" حرفوا التحقيق الدولي عن المسار الصحيح، مطالبًا الحكومة بتحويل هذا الملف الموهوم والفارغ على القضاء العدلي، ما يعني التخلي عن المحكمة الدولية وإعادة القضية الى القضاء اللبناني. ووعُرض على "الحريري" البقاء في سدة الرئاسة الثالثة مدى الحياة إذا ما قبل بالتخلي عن المحكمة والمضي في سياسة "حزب ولاية الفقيه".
رفض الرئيس "سعد الحريري" وقوى 14 آذار الإنصياع لأمر "الحزب" الذي يعني اغتيال الشهداء مرتين والقضاء نهائيًا على لبنان، فاستقال "الحزب" من الحكومة بثلثه المعطّل وأسقطها بهذه الذريعة في 12/1/2011 أثناء لقاء "الحريري" الرئيس الأميركي "أوباما" في البيت الأبيض، وصرّح الإنقلابيون أن "الحريري لن يلتقي أوباما إلا رئيسًا لحكومة مستقيلة". أما عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب "نواف الموسوي"، فقد كشف المستور في 22/1/2011، عندما اعتبر ان "المعركة في لبنان هي ذاتها في غزة وفي العراق وفي أفغانستان وفي إيران". وإننا إذا تأملنا واقع الدول التي ذكرها، سنلاحظ أنها في الحقيقة الدول التي جرى تقسيمها بواسطة الخنجر الإيراني المسموم بما يتوافق و"مشروع الشرق الأوسط الجيد"، وإذا أضفنا إليها سوريا تصبح ممثلة لـ"الهلال الشيعي"، أو ما يفضل أحمدي نجاد و"علي خامنئي" تسميته بـ"الشرق الاوسط الإسلامي الجيد".
تبيّن للإنقلابيين أن الأكثرية النيابية ستعيد تسمية "سعد رفيق الحريري" لرئاسة الحكومة، فأمروا رئيس الجمهورية "ميشال سليمان" بتأجيل الاستشارات النيابية أسبوعًا كاملاً عن موعدها المقرر، وخلال ذلك الأسبوع المصيري ضغط "حزب ولاية الفقيه" مجدّدًا بطرقه الميليشيوية على " وليد جنبلاط" لكي لا يسمي "الحريري" في الإستشارات النيابية، فنفذ انتشارًا مسلحًا ليليًا في مناطق ذات تماس درزي-شيعي على محور "القماطية-عاليه"، فأعلن "جنبلاط" انصياعه التام للإرادة الإيرانية-السورية وكذلك ستة من نواب كتلته، وبالتالي أمّن "الحزب" أكثرية نيابية مسروقة ومنقلبة على تفويض ناخبيها، نجح بموجبها بتاريخ 25/1/2011 الموافق ليوم إحياء شيعة "ولاية الفقيه" مراسم "أربعين الحسين"، نجح في إحكام قبضته على لبنان برئاساته الثلاث، من خلال الإتيان برئيس حكومة سني (نجيب ميقاتي) لا يمثل إلا قلية قليلة من أبناء طائفته التي تؤيد بغالبيتها العظمى "سعد الحريري"، لا بل انقلب "ميقاتي" على ناخبيه بنقضه التحالف مع "الحريري" في انتخابات 2009 مقابل الوصول الى السلطة؛ وبذلك يكون "حسن نصر الله" قد نصّب نفسه "وليًا فقيهًا" على لبنان، بفرضه على الطائفة السنية رئيسًا لا تريده، مهمته تشكيل حكومة "ولاية الفقيه" في لبنان، وإلغاء بروتوكول التعاون مع المحكمة الدولية. ولا يمكن فصل هذا الإنقلاب عن مسلسل "الفوضى الخلاقة" التي كانت قد بدأت في تونس، فهو أحد فصولها بامتياز.
شهد يوم 25/1/2011 ثلاثة حوادث ذات دلالات بالغة الأهمية، ففي ذلك اليوم التاريخي بالنسبة لـمشروع "ولاية الفقيه" في لبنان والمنطقة، أعلن عن الإنطلاقة الرسمية للثورة المصرية في الدولة يشكل نظامها حاجزًا متينًا في وجه تمدد "ولاية الفقيه" في المنطقة، والذي ما لبث أن سقط بعد 18 يومًا من بدء الثورة ليوافق يوم الذكرى 32 لـ"لثورة الخمينية"!! كما سمّي بذلك التاريخ مرشّح سوريا وإيران في لبنان رسميًا رئيسًا مكلّفًا تأليف الحكومة الجديدة، وقد وافق ذلك اليوم أيضًا وأيضًا (وربما بفعل فاعل) ذكرى أربعين "الحسين"التي أحياها "نصر الله" في احتفال كبير نظمه حزبه في "بعلبك"، وحمل في ثناياه الكثير من الإيحاءات ذات الدلالات الطائفية التي تدل على أن مشروع الحزب عقائدي بامتياز ولا علاقة له بالسياسة، فقد جعل "نصر الله" محور كلمته استحضار موضوع "الظلم اليزيدي لآل البيت" وختم بعبارة أوحت وكأنه ينسب انتصاره بالاستيلاء على الرئاسات الثلاث في لبنان الى "الحسين" حيث قال مهنئًا شعبه: "الحسين عليه السلام سمع صوتكم خلال كل السنوات الماضية واليوم في ذكرى أربعين الحسين عليه السلام نريد أن نسمعه صوتنا ونقول له يا سيدنا وإمامنا نحن لن نغادر الساحات، لن نبخل بالدم ولن نبخل بالعطاء، سوف يبقى صوتك هادرًا فينا وصوتنا مجلجلا في التاريخ،لبيك يا حسين"!!
بإسقاطه الحكومة وتعيينه رئيسًا جديدًا بقوة السلاح، انكشف "حزب ولاية الفقه" أمام الشعب اللبناني وكل المسلمين والعالم أجمع، وافتضحت فرية سلاح "المقاومة" التي يتمترس خلفها ويتستر بها منذ تأسيسه، بعدما تحول هذا السلاح أداة للتخريب في الداخل اللبناني، ولفرض أمر واقع ضد إرادة اللبنانيين، وصولا الى السيطرة على القرار السياسي بانقلاب عسكري مغلف بمظهر ديموقراطي. ومنذ ذلك الحين تحرّر الرئيس "سعد الحريري" من القيود التي كان قد فرضها عليه منصبه، واستيقظ المارد الاستقلالي المتمثّل بـ"قوى 14 آذار" من خنوعه وإذعانه وغفوته واستضعافه لنفسه، وبدأ ينظم حملة متكاملة تستهدف سلاح الغدر والاغتيال والقهر والتهديد في لبنان، منتفضًا على وصاية السلاح.
ومع أن الفريق الانقلابي دأب بشكل مستمر في معرض خطابه الدعائي والتخويني على اتهام قوى 14 آذار بأنها تنفذ الأجندة الأميركية في لبنان وأن راعيها وداعمها الأساسي هو أميركا، لم نجد الأخيرة لدى الإطاحة بالحكومة اللبنانية التي يرأسها "سعد الحريري" ومحاولة اغتياله سياسيًا وعزل قوى 14 آذار، لم تجد أميركا ترسل قواتها إلى بيروت لترهيب "الحزب الإيراني" وبقية حلفائه. لم تُصدر بيانًا تهدد فيه سوريا بأن عليها منع تأليف حكومة لا تكون برئاسة "سعد الحريري". لم تصدر تحذيرًا فعالاً وتنفّذ خطوات عملية تمنع الفريق الانقلابي من القيام بما قام به. لم يتصل "أوباما" بالرئيس "نجيب ميقاتي" ويطلب منه سحب ترشحه وإلا سُحبت منه تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة أو قُطِع الاتصال به أو وُضِع اسمه على لائحة الإرهاب. لم تمارس "هيلاري كلينتون" ضغطًا على السعودية لكي تصدر موقفًا مسبقًا رافضًا لأي رئيس للحكومة غير "سعد الحريري"...كل ذلك لم يحدث، فَحُقَّ لقوى 14 آذار أن تسأل هي الفريق الانقلابي: ما هو السبب الفعلي الذي يجعل دولاً مثل السعودية ومصر والأردن والإمارات العربية المتحدة، غير قادرة على هزم سوريا في لبنان؟ وما هو السبب الذي يجعل دولة محاصرة ظاهريًا في العالم مثل إيران، توسِّع نفوذها في لبنان والمنطقة، وتحقِق توحّدًا شيعيًا غير مسبوق حول قيادة نصر الله وحلفائه، وتتسلّم لبنان بكافة مفاصله؟
سلّمت الولايات المتحدة بوصول "حزب ولاية الفقيه" الى السلطة، فصرّحت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في 26/1/2011 انه: " يعود الى اللبنانيين وليس الى سواهم ان يقرروا مصير بلادهم". وكذلك فعلت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة الوزيرة "سوزان رايس"، فرغم اتهامها "الحزب" وسوريا باستخدام "الترهيب والإكراه لإيصال الوضع الى ما هو عليه الآن في لبنان"، إلا أنها سارعت لإعلان تسليمها بما حدث، فحضت على "تأليف حكومة تلتزم انهاء الإفلات من العقاب"، داعية الى وقف "التدخل غير المناسب" في الشؤون الداخلية اللبنانية.
وقد قطع الشك باليقين في 2/3/2011، عندما قالت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، إنها "تدعم استمرار المساعدات الأميركية للجيش اللبناني على رغم تولي نجيب ميقاتي الذي يؤيده حزب الله منصب رئاسة الحكومة". مبدية تخوّفها "من تدهور قدرات الجيش اللبناني بسرعة في حال وقف المساعدات الأميركية، مما سيعرض أمن الحدود اللبنانية- الإسرائيلية للخطر".والى ذلك ذهب أيضًا رئيس أجهزة الاستخبارات الأميركية "جيمس كلابر"، الذي أعلن في 11/3/2011أنه يؤيد "الإبقاء على المساعدة الأميركية للجيش اللبناني حتى وإن سيطر حزب الله على الحكومة اللبنانية". علمًا أن الجيش المدعوم أميركيًا سيأتمر بأوامر حكومة "ولاية الفقيه" فيي لبنان.
أما الديبلوماسية الفرنسية، فكانت قبيل تسمية "ميقاتي" تواصل مشاوراتها مع الحلفاء لعقد اجتماع تشارك فيه، الى فرنسا، الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وقطر وتركيا لبحث الوضع في لبنان، إلا أن وزير الخارجية القطري "حمد بن جاسم" صرّح في 27/1/2011 بعد لقائه ساركوزي: "ان الاجتماع الذي تنوي باريس عقده لا يقدم أي شيء". ودعا الرئيس الفرنسي الى "إلغائه واستبداله باجتماع لدعم الاستقرار في لبنان والمنطقة". فألغي الاجتماع فعلا بجهود الدولة المشبوهة قطر!!
وفيما يتعلق بالموقف الإسرائيلي، رأت صحيفة الـ"جيروزاليم بوست" في 26/1/2011 أن:" في وصول حزب الله نافذة فرصة لإسرائيل ومن شأنها أن ترغم الحزب على أن يكون أكثر تقييدا". وحاولت في اليوم نفسه صحيفة "هآرتس" قلب الحقائق معتبرة أن: "رئيس الحكومة المكلف في لبنان نجيب ميقاتي ليس ممثلاً لحزب الله ولا لإيران بطبيعة الحال، ولكنه صديق شخصي حميم للرئيس السوري بشار الأسد"! الأمر الذي جعلنا نتساءل ما إذا كانت صداقة المقاوم والممانع الكبير "بشار الأسد" تشكل عامل اطمئنان وأمان لإسرائيل دولة وشعبًا!!
وفي 29/1/2011، إعتبر محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائيلية أنّه: "بالنسبة لإسرائيل، فإنها يجب أن تكون سعيدة بالوضع الجديد الناشئ في لبنان، والذي تحول فيه نصر الله من زعيم جهادي إلى زعيم مسؤول عن الدولة، كما حدث مع حركة "حماس" في غزة". مع أنه منذ انتهاء مسرحية تموز2006، لم يطلق "الحزب" رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل.
وهكذا، ما لبث ان تبيّن للملأ بعد أيام قليلة على وصول "نجيب ميقاتي" الى سدة رئاسة الحكومة، أن الأخير لم يأت الى السلطة بتكليف من سوريا وإيران وحسب، بل بتفهم وعلم وتوافق دولي وإقليمي. كما تبيّن أن "ميقاتي" ما كان ليقدم على خطوة القبول بالترشح لترؤس الحكومة لو لم يكن لديه معطياته الاقليمية والدولية الى جانب العوامل المحلية التي شجعته على ذلك، والتي أوحت إليه بأنها ستكون بمثابة المظلة لأي حكومة يشكلها، وقد أتى هذا التشجيع تحت حجة الرغبة بالحفاظ على استقرار لبنان والحؤول دون دخوله في الفراغ ومن ثم الفوضى، وهذا الامر بالتأكيد شكل عنصراً مساعداً ومشجعًا للرئيس "ميقاتي" وللخطوة الإنقلابية التي أوصلته الى السلطة.
بيد أنه رغم ذلك الواقع المأسوي الأليم، نجحت قوى 14 آذار في تتويج حملتها على السلاح غير الشرعي التي أطلقتها عقب الانقلاب الذي أطاح بحكومة "الحريري" بحشد مليوني في 13/3/2011 زحف من كافة أنحاء البلاد الى "ساحة الحرية" وسط العاصمة بيروت، في مشهد سيادي استقلالي حضاري معبّر، فاق حشد السنوات الخمس الماضية وقارب المشهد التاريخي الذي ارتسم في 14آذار 2005، ليعلن ولادة "ثورة الأرز" من جديد في الذكرى السادسة لاندلاعها لكن هذه المرة تحت شعار "لا لوصاية السلاح"، ما كسر رهبة سلاح الغدر في نفوس اللبنانيين، وأكد عدم شرعيته دستوريًا وشعبيًا، وعرّاه من أي ادعاء لوجود إجماع أو أكثرية مؤيدَين له، والأهم أنه أعاد لميزان القوى توازنه بين فريقي 14 و8 آذار.
بعد ذلك اليوم التاريخي المجيد انكفأ الحزب الإيراني بعض الشيء، وزاد إحراجه لعدم استطاعته حتى ذلك التاريخ تشكيل حكومة من فريقه السياسي، ولم يجد سبيلاً للرد على سقوط رهبة سلاحه من نفوس اللبنانيين الأحرار، سوى تنظيم حملة شتم وتخوين جديدة أوكلها الى محازبيه وحلفائه، الذين لم يستحِ أحدهم من القول: "إن إسرائيل لم يعد لها حليف في المنطقة سوى فريق 14 آذار"! كما كلّفت صحيفة "الأخبار" ذات التمويل المجهول والمؤيدة لـ8آذار، كلّفت بنشر مجموعة من وثائق "ويكيليكس" جرى تحريف ترجمة معظمها والتلاعب بموضونها لكي تظهر فريق 14 آذار وكبار رموزه بمظهر المتواطئ مع العدو الإسرائيلي أثناء مسرحية تموز 2006!
وبذلك، أطاحت السياسة الصهيو-أميركية في سياق مسلسل "الفوضى الخلاقة الذي بدأ في المنطقة بـ"سعد الحريري" وفريق 14 آذار، اللذين لطالما أحرجاها وشكلا عائقًا أمام مشروعها منذ العام 2005، فأخرجتهم من الحكم بواسطة "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، وأعادت "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الى مساره الصحيح، مع وقوع لبنان بشكل كامل في قبضة من يريدون تحويله الى دولة فئوية وطائفية ومذهبية خاضة لـ "ولاية الفقيه"، وذلك بفعل محاولتهم ترسيم حدود دويلتهم فعلا من جهة، ومن جهة ثانية بتهيئتهم (بفعل ممارساتهم المشينة في استعمال السلاح في الداخل وتخوين خصومهم) مناخًا نفسيًا تقسيميًا في البلاد، ما شكّل قناعة خطيرة ومميتة لدى بعض اللبنانيين بجدوى التقسيم للخلاص من قبضة ذلك الحزب وممارساته، سواء من خلال مشروع اتحادي فيديرالي أو غيره، يضمن للطوائف حقوقًا متساوية ويمنع الاصطدام لاحقًا!
وفي 21/3/2011، كشفت مصادر غربية في لموقع "ليبانون ديبايت" عن أن "حزب ولاية الفقيه" يسير بالتزامن مع المسار العام للأحداث في المنطقة وتفكك الدول المحيطة ( أي"الفوضى الخلاقة" المتمثلة بموجة الثورات المعدية التي ابتدأت في مطلع عام 2011)، "يسير "الحزب" باتجاه عملية فرز واضحة من خلال تقسيم مماثل تحت شعار إنشاء الأقاليم او الفدراليات ما يبرّر عملية شرائه لهذا الكمّ الهائل من الأراضي وخاصة على الخط الذي يربط عمقه الجنوبي بقاعدته البقاعية".(أي نقل القسم المسمى في تصوّر "لويس" بدويلة سهل البقاع العلوية-عاصمتها "بعلبك"، والمقرر سابقًا إخضاعه للنفوذ السوري شرق لبنان، من العلويين الى الشيعة بحيث يصبح خاضعًا لـ"ولاية الفقيه").
وأضافت المصادر أن "قيادة حزب الله كانت قد وضعت في الفترة الماضية بالاتفاق مع موفدين ايرانيين وبدعم من النظام السوري مسودة للمناطق اللبنانية التي يجب السيطرة عليها لإقامة حكم شيعي مستقل فيها، حيث تعتقد أن الوضع الهش في لبنان والمنطقة يمنحها الفرصة الفريدة لتحقيق انفصال الدويلة الشيعية من جنوب لبنان حتى شمال البقاع وتخوم عكار في حال حصل اتفاق لبناني داخلي بين الطوائف الاخرى المسيحية والسنية والدرزية حول تجريد الطائفة الشيعية من سلاحها أو إذا ما اقتضت الظروف مواجهة مع المجتمع الدولي عبر المحكمة".
كما لفتت المصادر الى ان "الحزب رسم حدود دويلته بدقة من حيث التقارب مع الحدود الاسرائلية في الجنوب بحيث تكون أقرب نقطة لا تتجاوز العشرة كيلومترات، انطلاقا من السفوح الغربية اللبنانية كجبل الشيخ وانتهاء بمصب الليطاني". وختم المصدر بأن مخطط الحزب "سوف يشكّل ضربة موجعة للطائفة الشيعية في لبنان على مستوى العيش المشترك".
إن الخوف اليوم جدي من تقسيم لبنان في ظل الاضطرابات العربية الحاصلة حاليًا في المنطقة، ويبدو أن إخراجًا محددًا يجري لكل دولة عربية بمفردها منذ مطلع العام 2011؛ فتحت عنوان الديموقراطية يجري تقسيم بلدان عربية أو تفتيتها أو اضعافها تباعًا، وإذا حصل التقسيم أو بدأ مشروعه، فعندها لا يوجد أي عائق لفرض التقسيم على لبنان بعد الجهود التقسيمية النفسية والعملية التي قام بها "حزب ولاية الفقيه" لتحويل الوطن الواحد الموحد الى مجموعة دويلات مذهبية وطائفية، بعدما كان يشكل بفعل تنوّع طوائفه المتعايشة في أجواء من السلام والاحترام المتبادل والوحدة الوطنية والعيش المشترك، النقيض الكلّي والمزعج للكيان الصهيوني العنصري الغاصب. وبالتأكيد لسان حال السياسة الصهيو-أميركية الراعية لـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد" في لبنان لا بد أن يقول: "شكرًا حزب ولاية الفقيه، شكرًا إيران"!
عبدو شامي
إيلاف، نشر 28/3/2011
"تقسيم السودان"، موضوع الحلقة السادسة من هذه السلسلة.
17-
ربيع لبنان يمر في سوريا
لا يمكن اي لبناني استقلالي وسيادي حر الا ان يؤيد الشعب السوري في انتفاضته من أجل الحرية والكرامة والديموقراطية في بلاده. نقول ذلك وإن فضّلت "قوى 14 آذار" وأمانتها العامة التزام الصمت او الحذر الشديد تجاه ما يحدث في سوريا، لئلا تتهم بالتحريض او الشماتة، ومع ذلك فقد اتهمت زورا بإرسال اسلحة وعناصر مقاتلة لاحداث فتنة في سوريا!
ان ما نعيشه ليس ناتجاً بالتأكيد عن شماتة، كتلك التي انتابت حلفاء المحور السوري - الإيراني لدى سقوط النظام المصري، بل هي مشاعر فرحة وابتهاج ممزوجة بشعور بالخلاص المنتظر والأمل بتحققه في وقت قريب. هذه كانت بصراحة مشاعر اللبنانيين الاستقلاليين لدى سماعهم بانطلاق ثورة الشعب السوري من اجل الحرية والكرامة ضد جرائم نظام استبدادي يتسلط على بلاده منذ أربعة عقود.
قد يتسرع البعض فيعتبر صدور هذا الكلام من مواطن لبناني تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية السورية، لكنه حقيقة، وعلى العكس تماما، "تدخل" مباشر في صميم الشؤون الداخلية اللبنانية وبامتياز!
فلبنان عانى سطوة النظام البعثي منذ استيلائه على الحكم في سوريا، وذلك من خلال تجربة مريرة وحقبة سوداء لم تخل من احتلال واغتيال وتسلط ونهب واستغلال واعتقال وخطف وتعذيب، وتحريض لفئات لبنانية على أخرى، وتقوية بعضها على حساب اضعاف وتهميش بعضها الآخر... حتى بعد اندلاع "ثورة الأرز" وتمكنها من دحر الاحتلال السوري عن لبنان وتفاؤلنا بـ "ربيع لبنان"، لم نشعر في وطننا بالراحة، فقد برزت ثورة مضادة موجهة من خارج الحدود لوأد "انتفاضة الاستقلال" واجهاض مفاعيل الاستقلال الثاني واغتيال خيرة رموزه وقادته، والسبب كما اختصره الصحافي الشهيد سمير قصير عائد الى "تلازم ديموقراطية سوريا مع استقلال لبنان".
تلك الفكرة التي دفع ثمنها الصحافي الحر حياته، باتت اليوم في عقول اللبنانيين الاستقلاليين اقتناعاً لا يتزعزع، ذلك ان التجربة أثبتت مجددا خلال السنوات الست الماضية التي تلت اندلاع "ثورة الأرز" في لبنان، ان النظام السوري لا يريد ان يتخلى عن اطماعه في لبنان ولا عن عقدة "الخطأ الجغرافي"، ويصر على اعتبار وصايته على هذا البلد، التواق الى الحرية، أبدية.
لقد قام الفريق الاستقلالي المتمثل بقوى 14 آذار بكل شيء في سبيل تحسين العلاقات مع سوريا وجعلها بحق من دولة الى دولة، وعض الرئيس سعد الحريري على جرحه فتعالى عن مشاعره وخالف توجهات قاعدته الشعبية، فزار سوريا والتقى الرئيس بشار الاسد وتم الاتفاق على فتح صفحة جديدة بين البلدين، وذلك ظنا من الفريق الاستقلالي ان سوريا ستبتعد بسياستها عن ايران وعن حزبها في لبنان، او ان الاسد سيغيّر تعامل نظامه مع لبنان، فيتخذ القرار الاساسي والنهائي بتقبّله دولة مستقلة ذات سيادة، متخليا نهائياً عن حلم استعادته واعادة ربطه بسوريا ولو سياسيا على الاقل... الا ان شيئا من تلك الظنون لم يتحقق!
صحيح ان العلاقات الديبلوماسية أنشئت بين البلدين، الا انها بقيت مفرغة من مضمونها، فـ"المجلس الأعلى اللبناني السوري" لا يزال قائما، ولا يزال النظام السوري ممتنعا عن احترام سيادة لبنان وسلطته الشرعية، فلم يتوقف عن ارسال الاسلحة الى "حزب الله" وتنظيمات فلسطينية متحالفة معه، ولم يعمد الى قفل المعسكرات الفلسطينية الموالية له على الاراضي اللبنانية، ولم يبادر الى ترسيم الحدود نهائياً وتكريس لبنانية مزارع شبعا، ولم يكشف مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، ولم يعمل على حصر العلاقات بين البلدين في اطار المؤسسات الدستورية بما يكفل عدم التدخّل في الشؤون الداخلية...
وبما اننا نميّز بين الشعب السوري وبين نظامه الذي عانينا ونعاني منه بقدر ما يعاني منه شعبه، وبعد اصرار فريق من اللبنانيين من اتباع الوصاية على اقحام سوريا في كل التفاصيل اللبنانية، اصبحنا على اقتناع تام ويقين بصدق نظرية سمير قصير، وهذا ما جعلنا نستبشر خيرا من هبوب رياح التغيير في سوريا.
لا ننكر، كما حاول البعض ان يزايد علينا، ان ضرب استقرار سوريا هو ضرب لاسقرار لبنان، لكن على هؤلاء المزايدين ان يدركوا ألا استقرار مع الظلم والقهر، ولا حل جذرياً لمشكلة العلاقات السورية-اللبنانية المزمنة إلا بتلازم التغيير الديموقراطي في البلدين. لا نقول ان ربيع دمشق يمر في بيروت، بل ان ربيع بيروت يمر في دمشق، فالربيع لن يزهر حقيقة في لبنان ما لم يتفتح في سوريا أولا.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 7/4/2011
18-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [6/11]
تقسيم السودان نموذج يراد تعميمه
يُعتبر السودان بلدًا ذا ثروات معدنية ونفطية هائلة، كما يتمتع بأرض خصبة ومساحات شاسعة، وموارد مائية، ما يجعل منه إن تمكن من استغلالها دولة قوية، قادرة على إطعام العالم العربي بأكمله، وقوة اقتصادية وربما عسكرية عملاقة في المنطقة. حيال ذلك، كان من الطبيعي أن تتوجه أنظار أميركا وإسرائيل إلى هذا البلد من أجل ثنيه عن استخدام قدراته والاستفادة منها، والمسارعة الى تقسيمه تطبيقًا "للشرق الأوسط الجديد" أولا، وسعيًا وراء وضع اليد على ما يحتوي عليه السودان من ثروات ثانيًا.
يقوم "مشروع الشرق الأوسط الجديد" في السودان وفقًا لتقسيم "برنارد لويس"، على تفتيت هذا البلد الى أربع دويلات موزعة على الشكل التالي: "دويلة النوبة" المتكاملة مع "دويلة النوبة" في الأراضي المصرية وعاصمتها "أسوان". و"دويلة الشمال السوداني الإسلامي"، و"دويلة الجنوب السوداني المسيحي"، و"دويلة دارفور" غربي السودان.
من الواضح أن تقسيم "لويس" الموضوع للسودان، إنما يرتكز على أسس طائفية كما في شمال السودان وجنوبه، وعلى أسس عرقية أو قبلية كما في "دارفور" و"النوبة"، ولا سبيل لإنجاز هذا المخطط سوى استغلال الخلافات أو الحساسيات أو الإنقسامات بين تلك المجموعات المنضوية تحت سلطة دولة واحدة رغبًا أو رهبًا، أو العمل على إيجاد تلك الخلافات إن كانت معدومة، وتغذيتها، سواء بحروب أهلية أو فتن أو نزاعات تنتهي بالتقسيم المنشود.
هذا ما حصل في السودان ليكون المحرّك الأول نحو المطالبة بالتقسيم. فقد اشتعلت حرب أهلية بين جنوب السودان ذي الغالبية المسيحية وشماله المسلم والذي تتمثل به السلطة الحاكمة، وقد قتل في تلك الحرب التي استمرت من عام 1983 حتى 2005، أكثر من مليوني شخص، واضطر أكثر من مليون مسلم إلى الهجرة من الجنوب إلى الشمال. وقد ساهمت كل من بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل، في تسليح وتدريب وتمويل الشباب المسيحي في جنوب السودان وقبائله، بغية تسعير الاقتتال والوصول الى الغاية المطلوبة.
وفي سياق حديثنا عن الأسباب التي استخدمت لتفتيت السودان، يجب أن لا نغفل دور سياسات أنظمة الحكم السودانية المتعاقبة حتى قبل وصول الرئيس الحالي "عمر البشير" الى سدة الرئاسة، في العمل عن قصد أو غير قصد في تأجيج تلك الحساسيات، فقد كانت تلك السياسات الخاطئة في التعامل مع الجماعات العرقية والقبلية في الجنوب ومع مسألة التعدد الديني، مسؤولة بشكل مباشر عن إنشاء بيئة مناسبة لتوليد الانقسامات والعصبيات، وإفساح المجال أمام التدخلات الإسرائيلية والغربية في جنوب السودان، وأمام أحداث العنف التي استتبعتها.
هذا بالنسبة للشمال والجنوب، أما فيما يتعلق بإقليم "دارفور" غربي السودان، فقد شب فيه نزاع مسلح نشب منذ عام 2003، على خلفيات عرقية وقبلية، لا طائفية كما في حالة حرب الجنوب، ما شكل نواة صراع عنصري عربي-افريقي(قبيلة "الفور" وسواها)، مع العلم أن جميع قبائل دارفور تدين بالإسلام. وقد نجم عن ذلك النزاع في تلك المنطقة عمليات قتل وإبادة، لا يمكن تجاهل مسؤولية "حكومة الخرطوم" ونظام الرئيس "عمر البشير" عن التورط فيها.
وتشير بعض التقارير إلى أن عمليات القتل طالت ما بين 200ألف إلى 400 ألف من سكان "دارفور" على يد ميليشيات "الجنجويد" القاطنين في الإقليم والمتعاونين مع الجيش السوداني لبسط سلطة الحكومة على الإقليم، وتشريد نحو 2،5 مليون آخرين، منذ بدء الصراع رسميًا في إقليم "دارفور" عام 2003، إلا أن الحكومة السودانية نفت ذلك وقالت إن أقل من عشرة آلاف شخص فقط هم من قتلوا في دارفور!
وضعت الحرب الأهلية في جنوب السودان أوزارها في 9/1/2005 أي بعد نحو 21 عامًا على اندلاعها، مع توقيع اتفاقية سلام شامل سميت بـ"اتفاقية نيفاشا"، وتم توقيعها في "كينيا" بين "الجيش الشعبي" في الجنوب أو "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ممثلة بـ"جون قرنق"، والحكومة السودانية، وكان من أهم وأخطر ما جاء في هذه الاتفاقية، بند ينص على تحديد فترة انتقالية مدتها ست سنوات تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاقية، يحق لأهالي جنوب السودان خلالها ادارة شؤون منطقتهم والاشتراك على حد سواء في الحكومة الوطنية، على أن يحق لجنوب السودان بعد انتهاء الفترة الإنتقالية أي في 9/1/2011، التصويت في استفتاء شعبي برقابة دولية لتحديد خيارهم في إبقاء السودان وطنًا موحدًا أو الانفصال وإعلان جنوب السودان دولة مستقلة. وجرى تثبيت هذا الاتفاق دوليًا في الأمم المتحدة.
وقد أعاد هذا السيناريو الى الأذهان، ما حدث في 20/5/1999، حين تم الإعلان رسميًا عن استقلال "تيمور الشرقية" وانضمامها تاليًا إلى الأمم المتحدة، بعد صراع طويل بين حركات التمرد في هذا الإقليم وبين الجيش الاندونيسي والحكومة، التي لم تستطع تحمل الضغوط الغربية والأميركية، فقبلت بفرض مبدأ الاستفتاء الذي قسم أندوسيا.
وضعت "الولايات المتحدة الأميركية" قضية جنوب السودان ضمن أولوياتها لأسباب عدة، منها أن نتائج الانفصال إن جرى تسهيله من الحكومة السودانية لحصوله في موعده، سيمكّن أميركا من السيطرة على منابع النفط المتدفق في الدولة الجديدة بشروط أفضل من تلك التي كانت ستحصل بها على ذات النفط لو أن الجنوب لم ينفصل. كما أن الدولة الوليدة ستكون مركزًا لقيادة القوات الأميركية في إفريقيا (أفريكوم) التي رفضت كثير من دول الجوار استضافتها. هذا فضلا على أن نجاح الاستفتاء وحصول الانفصال، إنما يعني فيما يعنيه، إقامة دولة مسيحية سوف يستخدمها الغرب لكي تكون مجرد بداية لتفتيت كامل السودان، حيث سيتلوه ارتفاع أصوات أقاليم أخرى مثل "دارفور" داعية إلى إعطاء حق الاستفتاء لأقاليمها. كما سيتم استخدامها ضد الدول العربية الأخرى، خاصة مصرالتي سيكشف ظهرها وأمنها المائي، وهي الدولة التي دخل مخطط تفتيتها دائرة التنفيذ.
والأهم والأخطر من ذلك كله، أن نجاح ذلك الاستفتاء بالنسبة للسياسة الصهيو-أميركية التقسيمية، سيمثل نموذجًا مبهرًا بالنسبة للأقليات المضطهدة أو التي تراودها أحلام تأسيس كيانات خاصة بها في المنطقة، وبارقة أمل ستدغدغ مشاعرها وتستفز عصبيتها للمطالبة باستفتاءات مماثلة في البلدان التي تنوي الانفصال عنها تحت شعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها".
هذا، ولم تكتف أميركا بتلك الاتفاقية (اتفاقية السلام الشامل) والمناخ الدموي الذي هيّأته لتوقيعها، بل سارعت الى استغلال البعد الإنساني للمآسي والآلام التي خلفتها المذابح والإبادات التي تخللت تلك الحروب والنزاعات في "دارفور" و سائر أنحاء السودان، بهدف إخضاع "الخرطوم" لمنطق تقسيم السودان من جهة أولى، وانتزاع امتيازات للشركات الأميركية في شطري السودان الشمالي والجنوبي من جهة ثانية.
وفي هذا السياق، شكّل الأمين العام للأمم المتحدة عام 2004 "لجنة تحقيق دولية" حول دارفور، وذلك على خلفية "انتهاك أطراف النزاع في "دارفور" للقانون الدولي الانساني و قانون حقوق الانسان"، كما ورد في نص القرار. وما لبثت "لجنة التحقيق الدولية" أن أشارت في توصية بأن القضاء السوداني غير راغب و غير قادر على محاكمة المتسببين في الجرائم التي وقعت في "دارفور"، فقرر مجلس الأمن إحالة الأوضاع في "دارفور" إلى "المحكمة الجنائية الدولية" تحت الفصل السابع وبموجب قراره رقم 1593 الصادر في 31/3/2005.
باشرت "لجنة التحقيق الدولية" عملها بدقة ومهنية ونزاهة، واستطاعت جمع أدلة دامغة تفيد وتثبت تورط نظام الرئيس السوداني "عمر البشير" بالجرائم التي شهدها إقليم "دارفور"، وأحالت معطياتها الى المحكمة الدولية.
وفي 4/3/2009، أصدر المدعي العام لدى "المحكمة الجنائية الدولية" "لويس مورينو أوكامبو" مذكرة توقيف بحق "البشير" في قضية "دارفور"، بعد أن وجهت له تهمة ارتكاب جرائم حرب في الإقليم وجرائم ضد الإنسانية، وطلب تقديمه للمحاكمة.
رفض "البشير" قرار المحكمة وتسليم نفسه للعدالة الدولية، وظلت "المحكمة الجنائية الدولية" تتابع عملها وتحقيقاتها، فأصدرت في 12/7/2010 مذكرة توقيف ثانية بحق الرئيس السوداني مضيفة إليه تهمة "الإبادة الجماعية"، حيث رأت أن "هنالك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأنه مسؤول جنائيًا عن ثلاث جرائم إبادة جماعية بحق الجماعات الاثنية للفور والمساليت والزغاوة"، الذين يقطنون في إقليم "دارفور". اعترض "البشير" على هذا القرار، واعتبره "جزءا من مؤامرة غربية".
عملت الولايات المتحدة على استثمار ثبوت تورط الرئيس السوداني بجرائم حرب، فاستغلت الحكم الذي صدر عن المحكمة الجنائية الدولية بأدلة دامغة، للضغط على "البشير" في اتجاه انجاح الاستفتاء المنتظر، بعدما لاحظت منه عدم الرغبة في التقسيم وبالتالي إمكان إقدامه على عرقلة الاستفتاء والحفاظ على وحدة السودان.
رضخ الرئيس السوداني لمشروع تقسيم السودان للمرة الثانية بعد اتفاقية السلام، واختار المشاركة فيه مفضلا التشبث بالمنصب وتقديم مصلحته الشخصية والفئوية على مصلحة بلاده ووحدتها، وربما اقترف ذلك الفعل عن طريق "المقايضة" أملاً منه بتجاهل أميركا أو مجلس الأمن الجرائم التي ارتكبها في الجنوب و"دارفور"، فأعلن موافقته على إجراء الاستفتاء وذلك في خطاب ألقاه من عاصمة إقليم الجنوب "جوبا" التي زارها في 5/1/2011، موضحا أنه "على الرغم من أنني على المستوى الشخصي سأكون حزينًا إذا اختار الجنوب الانفصال، لكنني سأكون سعيدًا لأننا حققنا السلام للسودان بطرفيه"!
لم يتأخر الجواب الأميركي، فقد جاء بلسان السيناتور الأميركي "جون كيري" الذي زار السودان في 6/1/2011 للإشراف على الاستفتاء، فقال: "إن تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير الأخيرة حول احترام حكومة الخرطوم النتائج أيًّا كانت، تصريحات إيجابية ومشجعة"، مشيرًا إلى أن "واشنطن قد ترفع اسم السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب في حال تم الاستفتاء كما هو مقرر له، مع ابقاء العقوبات المفروضة على البلاد بسبب أزمة دارفور".
في 9/1/2011، جرى الاستفتاء في جنوب السودان على الانفصال في موعده المحدد، وأعلنت نتيجته النهائية في 7/2/2011، مبينة أن 98.83 في المئة من الجنوبيين السودانيين، اختاروا أن تكون لهم دولة مستقلة تدخل فعلاً نادي الدول في تموز 2011.
وبُعَيد إعلان نتائج الاستفتاء، عمت موجات فرحة عارمة جنوب السودان، ورفعت أعلام جنوب السودان جنباً الى جنب مع الأعلام الاسرائيلية! أما الموقف الدولي الأول، فقد صدر عن الرئيس الأميركي "باراك أوباما" من خلال في بيان جاء فيه: "نيابة عن شعب الولايات المتحدة أبعث بتهاني الى شعب جنوب السودان بالاستفتاء الناجح الذي اختارت فيه غالبية كاسحة من الناخبين الاستقلال. ومن ثم يسعدني أن أعلن عزم الولايات المتحدة على أن تعترف رسمياً بجنوب السودان دولة مستقلة ذات سيادة في تموز 2011". وأضاف انه "إذا وفى السودان بالتزاماته"، فإن واشنطن مستعدة لمراجعة وضعه كدولة راعية للارهاب. كما ان اتفاق السلام في السودان يجب تنفيذه كاملاً، وان تتوقف الهجمات على المدنيين في إقليم دارفور". وصرح الناطق باسم البيت الأبيض "روبرت غيبس" بأن نتائج الاستفتاء "تشكل بداية يوم جديد في المنطقة".
لم تمض سوى سويعات قليلة على إعلان نتيجة الاستفتاء حتى بدأت تتوضّح معالم "اليوم الجديد في المنطقة" الذي قصده "روبرت غيبس" في تصريحه الأخير الذي يراد له أن يضاء بظلمة استفتاء جنوب السودان؛ فقد شجع فصل جنوب السودان برعاية صهيو-أميركية المسيحيين في نيجيريا ومصر إلى المطالبة بالاستقلال عن الدولة، ففي مصر دعا زعماء الأقباط إلى إقامة دولة مستقلة قبطية على نموذج "الفاتيكان"، وقد كان "عوديد ينون"، الصحفي الأميركي اليهودي، أول من أوحى لقادة الأقباط عام 1982 بهذا التطلع، ففي الورقة التي نشرها بعنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات من القرن" قال فيها: "مصر مقسمة وممزقة بين بؤر عديدة للسلطة، وإذا تقسمت مصر فإنّ دولا مثل ليبيا والسودان أو حتى الدول الأبعد لن تستمر في توحدها في شكلها الحالي، إنّ رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر إلى جانب عدد من الدول التي تعاني من ضعف السلطة وبدون حكومة مركزية كما هي عليه الآن هو مفتاح للتنمية التاريخية التي كان من المقرر العودة إليها بموجب اتفاق السلام، ويبدو أنّ ذلك لا مفر من ذلك على المدى البعيد ".
ومع عدم استخفافنا بخطورة تلك المطالب في مصر ونيجيريا، يبقى الخطر الأكبر متمثلا في مطالبة الأكراد بدولة خاصة بهم، وهو أمر لا يقتصر على تقسيم العراق الذي تم فعلا وان تحت غطاء الفيدرالية، بل يعني تقسيم سوريا وتركيا وربما جزء من إيران، لكون الأكراد ينتشرون في بقعة تتقاسمها بنسب متفاوتة تلك الدول.
ففي أواخر عام 2010 واستغلالا منه للتسويق الإعلامي والإعلاني لاستفتاء جنوب السودان، طالب "مسعود برزاني" -رئيس إقليم كردستان- بتنظيم استفتاء لتقرير مصير "كردستان العراق"، واعتبار عاصمته محافظة "كركوك" الغنية بالنفط، وقد نال مباركة أميركية وعراقية لطلبه ودعمًا اسرائيليا كبيرا. ولم يذهب الزعيم الكردي الى الوعد بالسير على طريق انفصال "كردستان العراق" فحسب، ولكن ايضا وعَد الجماعات الأخرى التي ترغب في الاقتداء بالمثال الكردي بتقديم العون لها ومساندتها حتى يتاح لها أن تحقق أهدافها.
وجريًا على المخطط نفسه، وصف الرئيس العراقي "جلال طالباني" الذي يشغل منصب رئيس "حزب الاتحاد الكردستاني" أيضًا، وصف في 6/3/2011 مدينة "كركوك" النفطية بـ"قدس كردستان" أي عاصمة الدولة الكردية المحتلة، كما هو حال القدس الشريف في فلسطين المغتصبة، وذلك في كلمة له بمناسبة إحياء ذكرى انتفاضة محافظة السليمانية ضد النظام السابق خلال عام 1991، حيث قال: "يجب أن لا ننسى أن هناك مناطق لم تعد الى الآن إلى أحضان الإقليم مثل كركوك، قدس كردستان، ونحن بحاجة إلى النضال المشترك". وتعتبر محافظة كركوك(250 كم شمال العاصمة بغداد)، والتي يقطنها خليط سكاني من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة، من أبرز المناطق المتنازع عليها، وفي الوقت الذي يدفع العرب والتركمان باتجاه المطالبة بإدارة مشتركة للمحافظة، يسعى الكرد ليس فقط إلى إلحاقها بإقليم كردستان العراق، بل الى جعلها عاصمة دولتهم بعد الانفصال التام عن العراق المقسم فيدراليًا! هذا مع الإشارة الى ان الدستور العراقي وتحديدا في المادة 140 منه، أكد على ضرورة اجراء استفتاء شعبي في "كركوك" برعاية أممية، "طالباني" بتصريحه ذاك حسم النتيجة لصالح الأكراد، ولا بل أوحى بدعوته الى النضال لاسترجاع "كركوك" وتشبيهه إياها بمدينة "القدس"، بأن سكان تلك المدينة الأصليون من العرب وسواهم هم مستوطنون دخلاء ومحتلون، والأكراد أصحاب النزعة الانفصالية هم أهل المنطقة الحقيقيون ومالكوها الأصليون!
وبالعودة الى السودان، لا شك أن "دولة جنوب السودان المسيحي" ستكون طفلا مدللا لدى أميركا وإسرائيل، وزعماء تلك الدولة الوليدة لم يخفوا استعدادهم للاعتراف بإسرائيل وتبادل السفراء وتطبيع العلاقات فيما بينهما، لكن ماذا عن "دولة شمال السودان المسلم"؟
"شمال السودان المسلم" برئاسة "عمر البشير" محسوب على دول ما يسمى بالممانعة التي تدور في فلك إيران، أي دول المتاجرة بالقضية الفلسطينة، وفي طليعتها بعد الدولة الفارسية إيران وحزبها في لبنان، سوريا الأسد، المقاومة الأولى في الجولان المحتل! أما ممانعة "البشير" فقد تجلت في موافقته على تفتيت بلاده برعاية صهيو-أميركية.
فقد حظي السودان باهتمام إيراني خاص، ليس فقط لأنه دولة عربية كبيرة هامة، ولكن أيضا لتعويض تعثر علاقات إيران مع مصر "مبارك" الذي كان واعيًا للأطماع والأحقاد الإيرانية وسدًا في وجه تمددها. وقد انضم السودان الى دول ما يسمى بالـ"ممانعة" بعدما استغلت إيران الحصار الغربي والأميركي خصوصًا الذي فرض على ذلك البلد لكي تتسلل إليه (كما تسللت الى "حركة حماس" عام 2006) وتوطد علاقاتها معه تحت شعار مساندته في وجه الاستكبار العالمي، ولذلك ظلت العلاقات الإيرانية ـ السودانية متطورة دومًا وأقامت إيران العديد من المشروعات هناك، وبدأ الانتقال من العلاقات السياسية والتجارية فقط إلى التعاون الثقافي الذي تمثل بفتح مراكز ثقافية إيرانية في السودان .
وقد ساعد علي هذا التغلغل الثقافي الإيراني المخادع والمسيّر بأخبث أساليب "التقية" التعاطف السوداني مع الثورة الخمينية عمومًا، ومساندة إيران لـ"حكومة الإنقاذ السودانية" التي تشكو من الحصار الغربي، وأدى تعميق العلاقات بين البلدين لنوع من بداية نشر المذهب الشيعي في السودان. وقد تزايد النفوذ الشيعي أكثر في السودان بسبب التعاطف الشعبي مع "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، الذي نشأ على خلفية مسرحية "حرب تموز 2006"، التي أراد فيها العدو الصهيوني إظاهر ذلك الحزب بدور البطل المقدام والمقاوم الهُمام على مدى 33 يومًا، علمًا أن القضاء على ترسانته العسكرية لا يحتاج بالنسبة لإسرائيل إلا ساعات قليلة! فانتشرت نتيجة لتلك "الحرب" الدعائية أعلام الحزب وصور زعيمه "حسن نصر الله" في السودان، ما أغرى الإيرانيين بالتوسع في مد نفوذهم الى ذلك البلد، فبدأت تتواتر الأنباء عن انتشار الوجود الشيعي بشكل واضح في حسينيات وزوايا شيعية في "الخرطوم" وفي مدينة "كردفان" .
ومع انكشاف نشاط "شيعة ولاية الفقيه" المنظم في السودان حيث لا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة الشيعة أو المتشيعين، عقد علماء الدين السودانيون عدة مؤتمرات يطالبون فيها بمواقف حكومية لحصار هذا التمدد الشيعي، وطالب عدد كبير منهم في 17/12/2006 السلطات السودانية بإغلاق "المركز الثقافي الإيراني" في "الخرطوم"، لما يقوم به من "أنشطة مثيرة للفتن" على حد وصفهم، ووقف ما قالوا انه "النشاطات الشيعية المشبوهة "، وحذروا من انتشار "الفكر الرافضي" في السودان، كما طالبوا بفتح تحقيق فوري حول الطريقة التي وصلت بها كتب الشيعة من دور نشر لبنانية تابعة لـ"حزب ولاية الفقيه" في لبنان، وأخرى صادرة عن دور إيرانية، إلى "معرض الخرطوم الدولي للكتاب"، "رغم مخالفتها للوائح المنظمة للمعارض وطعنها في عقيدة الأمة".
وبشكل عام، تعتبر إيران ذات نشاط واسع ومنظم في الدول الإفريقية لنشر التشيّع وتصدير "الثورة الخمينية" والإفادة من ثروات تلك البلدان، ولهذا الغرض أنشأت إيران "المجلس الأعلى لشؤون أفريقيا" من أجل مركزية التعامل مع هذه القارة ، كما أنشأت بنكًا للمعلومات يتبع هذا المجلس لتوفير المعلومات عن هذه القارة لكل المتعاملين الإيرانيين معها من الحكومة أو القطاع الخاص، مع عقد اجتماعات أسبوعية لمتابعة نشاط هؤلاء المتعاملين. وفي هذا السياق أيضًا، تصدر وزارة الخارجية الإيرانية مجلة فصلية تضم دراسات علمية عن أفريقيا، كما تعقد مؤتمرًا دوليًا كل عام لبحث العلاقات مع دول هذه القارة.
هذا، وتتعامل إيران مع كافة المنظمات الإقليمية في القارة الإفريقية، ولها أعضاء مراقبون في بعض هذه المنظمات، حتى بلغ عدد مكاتب إيران في ظل الثورة الإيرانية في أفريقيا (حتى عام 2007) 26 مكتبًا، مقارنة بـ 9 فقط في عهد الشاه السابق. وهو ما بفسّر أسباب توالي زيارات المسؤولين الإيرانيين والرؤساء للدول الأفريقية، مثل زيارة الرئيس السابق "خاتمي" إلى سبع دول أفريقية عام 2005، وزيارة سلفه "رفسنجاني" لعدة دول أخرى، واستمرار الرئيس الحالي "نجاد" في نفس النهج مع التركيز بالتعاون مع "حزب ولاية الفقيه" في لبنان على دول إفريقية مهمة مثل مصر، وأخرى تتواجد فيها جاليات شيعية كبيرة نسبياً ولبنانية تحديدًا، وخصوصًا دول: مالي ونيجيريا والسنغال وسيراليون وبينين وزيمبابواي وأوغندا .
بإعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، تحقق الجزء الأهم من "مشروع الشرق الأوسط الجديد" في ذلك البلد الكبير بمساحته وقدراته وثرواته، مع ولادة "دولة جنوب السودان المسيحية"، الدولة الأفريقية الـ54 والدولة الـ193 في الأمم المتحدة، التي لن تكون اكثر من مشروع دولة عنصرية جديدة في افريقيا، في سياق مشروع صهيو-أميركي تاريخي، وبالتأكيد ستكون منطلقًا للعمل على مزيد من التفتيت في دول القارة الإفريقية والدول المستهدفة في العالمين العربي والإسلامي، وفي ما تبقى من السودان نفسه، تحت شعار "حق تقرير المصير" الذي يستفتى فيه الفريق المطالب بالانفصال فقط، لا شعب الدولة بأكمله!
عبدو شامي
إيلاف، نشر 4/4/2011
"الثورة التونسية" موضوع الحلقة السابعة من هذه السلسلة.
19-
لبنان الشركة والمحبة
على نقيض مظاهر الشغف والتشبث بالسلطة مدى الحياة السائدة لدى بعض الشخصيات في لبنان والبلدان العربية، أطل علينا من "بكركي" نموذج فريد في الديموقراطية أعطى العالم درسا معبّرا في تداول السلطة.
فعندما شعر البطريرك صفير أن تقدمه في السن قد يؤثر على مهامه الرعوية، وأن وصول شخصية جديدة الى المقعد البطريركي سيعود بالخير والنفع على الكنيسة المارونية ودورها الوطني الرائد في لبنان، بادر الى تقديم استقالته التي تميّزت بطوعيتها وبتوقيتها، حيث اتخذ قراره من موقع قوة، وفي فترة عزه ومجده وحضوره القوي على الساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية، الأمر الذي أفرح بعض المستائين من مواقفه الوطنية، وأحزن المسيحيين واللبنانيين عموما الذين يكنون لهذا البطريرك كل محبة واحترام، كيف لا وهو بطريرك الاستقلالَين، الأول معاصرة والثاني صناعة.
بيد أن مشاعر الحزن ما لبثت أن انقلبت الى فرحة عارمة مع انتخاب المطران بشارة الراعي بطريركا لإنطاكية وسائر المشرق، فساد الارتياح نفوس الذين وجدوا في البطريرك الجديد خير خلف لخير سلف، نظرا الى تاريخه الحافل بالمواقف السيادية والوطنية والاستقلالية النابعة أصلا من ثوابت الكنيسة الوطنية والتاريخية. وأما الذين عرفوا بامتعاضهم من مواقف البطريرك صفير الوطنية، فقد ادركوا جيدا انهم سيترحمون على ايامه ومواقفه، خصوصًا بعدما استمعوا الى كلمة البطريرك بشارة الراعي في حفل توليته، وما تلاها من مواقف مفعمة بروحية الحرية والسيادة والاستقلال تشدد على سيادة الدولة ووحدتها ورفض احتكارها من حزب او طائفة.
ان شعار "الشركة والمحبة" الذي اختاره البطريرك الجديد لكي يسير بنوره طوال فترة ولايته، انما يعكس مدى وعيه وحنكته وبعد نظره الذي سيتأكد مع مرور الايام، ولعل اهمية هذا الشعار نابعة من ملاءمته للمرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان والمنطقة برمتها، حيث الخطر باشعال الفتن الطائفية والمذهبية سعيا للتهجير المنظم وتمهيدا للتقسيم يزداد يوما بعد يوم، وحيث الخطر الذي يتهدّد المسيحيين اليوم في المشرقِ العربي هو الخطر ذاته الذي يتهدد المسلمين فيه، ولا سبيل لمواجهة ذلك المشروع الفتنوي الخبيث والتصدي له وعدم الانجرار وراء النزاعات الطائفية وتحصينُ الوحدةِ الوطنية، سوى بتعميم وتطبيق مفهوم "الشركة والمحبة".
فعندما نقول "شركة ومحبة" نعني سياسيا ان نكون جميعا على تنوع طوائفنا وانتماءاتنا نسيجا وطنيا واحدا متماسكا متحابا وملتزما بشركة في الدولة وتحت كنفها لا بشركة على الدولة تعتدي عليها وتنازعها في مهامها الحصرية؛ ذلك ان اي جهة من حزب او طائفة تحاول مزاحمة الدولة في مسؤولياتها الدستورية والقانونية والادارية والامنية والوطنية، انما تقوم حقيقة باعتداء موصوف على الدولة وانتهاك سافر لمفهوم "الشركة والمحبة" فيها، لانها بكل بساطة نصّبت نفسها وصية على الدولة وعلى شركائها في الوطن، وبالتالي أوجدت منبتا خصبا للاحقاد التي ستفتح نافذة تطل بالخطر على لبنان في كل زمان ومكان.
عندما نقول "شركة ومحبة" يتبادر الى اذهاننا قسم الشهيد جبران تويني، فلا يمكن تصور ذلك المفهوم كما لا يمكن ترجمته ان لم نبق موحدين الى ابد الآبدين دفاعا عن لبنان العظيم.
عندما نقول "شركة ومحبة" نعني اجتماعيا ممارسة الوحدة الوطنية والعيش المشترك قولا وعملا، وذلك بالانفتاح على الشريك وتقبل الآخر ومحاورته، والخروج من التقوقع والانعزال الى رحاب الوطن والمواطنة الواسعة، فلا نجعل الخلاف العقائدي يؤثر على تعاملنا فيما بيننا، واذا كنا تختلف في العقيدة الدينية بنسبة 90بالمئة، فلا شك اننا نتفق في القيم الاخلاقية التي عليها مدار التعامل بنسبة 90بالمئة على الاقل.
"الشركة والمحبة" تعني ان نتنافس على جميل الصفات ومكارم الاخلاق بحيث يكون كل واحد منا الصورة الجميلةَ الحقيقيةَ لدينه وتعاليمه وسماحته في تعامله مع الآخر، وان يقَدم لشريكه افضل ما عنده من اخلاق وقيم وفي مقدمها: الصدق والامانة الوفاء والاحترام والالتزام بالعهد، فلا يقبل احدنا بأذية الآخر ولا يرضى بظلمه فلا يستقوي عليه ولا يهدده ولا يتوعده ولا يوجه سلاحه الى صدره، يأتمنه ولا يخوّنه ولا يغدر بِه، يصدقه ولا يكذب عليه، فبغير ذلك لا يمكننا العيش معا في وئام وامان واطمئنان.
"الشركة والمحبة" تعني الامان فيما بيننا في جميع امورنا، فلا يضار أحد منا ولا يدفعه الآخر الى الهجرة او النزوح، ولا تقاتل ولا اقتتال فيما بيننا، وعندئذ من يرفع علينا السلاح لا يمكن ان يكون منا.
"الشركة والمحبة" تعني الامان في العقيدة، فلكل طائفة الحرية في اعتقادها وديانتها وعبادتها، فلا يُضيّق عليها ولا تؤذى بسبب اختلاف الدين والعقيدة، ولا يعتدى على دور عبادتها، ولا تهان رموزها الدينية.
لا نرى خلاصا لهذا البلد الا اذا ربينا ابناءنا على مفهوم "الشركة والمحبة" وما يحمله من صفات عالية، وعملنا على اشاعته في مجتمعنا ليكون الضابط في تعاملنا وسلوكنا مع بعضنا ظاهرا وباطنا، شعبا واحدا لوطن واحد قادر على مواجهة جميع الاخطار والتحديات تحت عنوان واحد "لبنان الشركة والمحبة".
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، نشر 29/4/2011
20-
الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [7/11]
شرارة الفوضى الخلاقة.. الثورة التونسية
لا يستطيع حر في هذا الكون، يتمتع بحد أدنى من الكرامة والإنسانية والشرف، ويسعى إلى العيش الكريم، لا يستطيع الخضوع لتسلط حاكم ظالم أو فاسد أو مستبد، يصادر الحريات ويهين الكرامات، فيقمع شعبه بنظام بوليسي، وينهب خيرات بلاده، ويعمل على تأبيد مدة بقائه في منصبه، ويستخدم صلاحياته المطلقة للبقاء في السلطة أو في التحضير لتوريث الحكم من بعده الى ذريته.
هذه المعاناة وغيرها من العوامل المؤثرة التي سنتطرق اليها في السطور التالية، اجتمعت لتفجّر تظاهرات شعبية في دول عربية وإسلامية كدول شمال إفريقيا مطلع العام 2011، وما لبثت أن تحولّت الى ثورات شعبية مليونية معدية وزاحفة، نجحت في إسقاط بعض الأنظمة المستبدة فيما زعزعت أركان أنظمة أخرى لطالما اكتوت شعوبها بنارها، كاتبة بذلك تاريخًا جديدًا لبلدانها وشعوبها، وفاتحة مرحلة جديدة، كلها أمل أن تكون خيرًا من سابقتها.
في هذا المقال لا نناقش حق الشعوب في التخلص من نير الاستعباد السياسي ومن كبت الحريات، أو تخلصها من الفساد المالي والاستئثار بمقدرات الشعب والدولة، والحق في التنعم بالشفافية والديموقراطية، فهذه حقوق لا جدال فيها لأنها مقدّسة ولأننا نعلم ماهية المشاكل الداخلية للسياسات العربية تجاه مواطنيها والتمييز الذي يرافقها... لكن، بعيدًا عن هذه العناوين المحقة والبرّاقة في آن معًا، وعلى هامش تلك الأجواء الحماسية والاحتفالية التي تعيشها شعوب المنطقة وتحاول بعض وسائل الإعلام الترويج لها والتشجيع عليها من خلال إدراجها تلك الثورات تحت عنوان "الربيع العربي"، ثمة سؤال محيّر يطرح نفسه بقوة: هل اندلعت هذه الثورات ذات القضايا الإنسانية المحقة والعادلة، هكذا بشكل عفوي، مكتفية بمحرّك الشعور بالظلم والضيم والقهر، أم ثمة محرّك إضافي دفع وعمل على تحضير أرضية مواتية لنموّها، وتحكَّم بتاريخ انطلاقها، وبالتالي شارك في اندلاعها وواكبها حتى نجاحها؟ وإذا وجد ذلك المحرّك، هل يقف مراده عند إسقاط الطغاة وإحلال الديموقراطية وإطلاق الحريات كما تريد الشعوب المنتفضة، أم المطلوب أبعد من ذلك بكثير؟
أولا: ثورات عفوية أم مشروع مبرمج؟
بعض المحللين السياسيين يحاول تبسيط وتسطيح ما يشهده العالم العربي اليوم من ثورات تطالب بإسقاط أنظمة تهاوت ولا تزال تتهاوى الواحدة تلو الأخرى في فترة لا تتجاوز الشهرين أو الثلاثة أشهر من تاريخ اندلاع الثورة التونسية بما يشبه أحجار "الدومينو"، فيقولون: إن ما يحصل هو تطوّر طبيعي لا محرّك خارجيًا له، وإنما يقتصر على ثورات أوقدها شباب أرهقتهم البطالة وخنقتهم سياسة قمع الحريات، وبعد 20 أو 30 أو 40 سنة من تسلط أنظمتهم، اكتشف هؤلاء الشباب أنهم خريجون عاطلون عن العمل، وأن حركة الانتقال الى نظام السوق استفاد منها فقط آلاف أو مئات في بلادهم، أي فئة قليلة جدًا ممثلة بالعائلة الحاكمة وحاشيتها، التي أثريت ثراء فاحشًا ونهبت خيرات البلاد!
قد يكون هذا التحليل التبسيطي منطبقًا الى حد ما على بعض البلدان أو أحدها ممن شهد تلك الثورات كـ"تونس" على وجه الحصر والتحديد، ولكنه بالتأكيد ليس كافيًا أو لا ينطبق سوى جزئيًا على بلدان أخرى شهدت تظاهرات وثورات سواء في شمال إفريقيا أو غيرها، ولعل ثورة مصر (25 يناير) أوضح نموذج يمكن أن نمثّل به على أن ما يحصل ليس بتلك البساطة والعفوية؛ وإلا، فلماذا اليوم؟! وماذا يعني تخلي أميركا وإسرائيل عن أهم حليف لهما في المنطقة العربية بهذه البساطة، ومنذ الأيام الأولى لانطلاقة التحركات الشعبية؟! لا بل كيف يمكن لأميركا أن تخاطر بدعمها الثورة المصرية بضغوط دولية صريحة مارستها على النظام المستهدف، ولا سيما أننا نتحدث عن ثورة تجري في بلد مكون من 85 مليون نسمة، تربطه بإسرائيل معاهدة سلام واتفاقيات اقتصادية متعلقة بمصادر الطاقة، فضلا عن حدود طويلة شاسعة واسعة، كان من الممكن جدًا أن يهتز أمنها مستغلا الاضطراب والاستنفار الأمني الذي واكب الثورة، ومعرّضًا الأمن القومي الإسرائيلي للخطر؟! وهل يمكن لأميركا أن تضحي بمصالحها ومصالح إسرائيل لصالح إحلال الديموقراطية في مصر؟!
لا نريد ولا نسمح لأنفسنا، أن نطعن في قدرات ووطنية هذه الشعوب المنتفضة على نفسها وعلى حكامها، والتي استطاعت أن تثور وأن تسقط أنظمة لطالما عانت من تسلطها، بل نهنّئ هذه الشعوب على استعادتها حريتها، ولكننا دائمًا يجب أن ندرس الحدث من كافة جوانبه ونتعرف إلى خلفياته وأهدافه وأبعاده، لكي نستطيع أن نحكم عليه بموضوعية غير متأثرة بالعواطف الجياشة، ونتفادى الوقوع في النظرة السطحية والتبسيطية التي يعمد البعض الى تعميمها عن حسن أو سوء نية. كما يجب أن لا يفوت جميع الثوار، أن معيار نجاح الثورة ليس إسقاط الحاكم الظالم وحسب، وإنما يضاف إليها أيضًا طبيعة المرحلة الجديدة التي ستنتقل إليها البلاد، وهذا تحد كبير يُِؤمل من تلك الشعوب الحرة أن تتنبّه له وتنجح في تخطيه موصلة بلادها الى بر الأمان.
نستفيض في تلك المقدمات لا لتثبيط همم شعوب المنطقة الثائرة على ديكتاتورية حكامها، والتوّاقة الى الحرية والديموقراطية، بل لكي ندعو الثوار أن يتنبهوا الى خطر عظيم قد يحول دون نجاح ثورتهم، وهو أن طريق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" يمكن أن تمر من خلال "الفوضى الخلاقة" في بعض البلدان! أو بعبارة أدق، يمكن التوصل الى ذلك المشروع من خلال إسقاط أنظمة معيّنة مع عدم وجود البديل الجاهز للتطبيق، في حين تكون المصلحة الوطنية والعربية وحتى الإسلامية في ذلك البلد، هي في تغيير سلوك الأنظمة مع شعوبها لا بإسقاطها تمامًا، وذلك مؤقتًا ريثما يجهز البديل المناسب للعبور الآمن الى تطلعات الشعوب الحرة، وهو ما ينطبق على مصر وليبيا واليمن، وما سنتوسع في تبيانه لدى حديثنا لاحقًا عن تلك الثورات.
أما الثورتان البحرينية والسورية، فلا ينسحب عليهما الكلام المتقدم، ذلك أن الأولى لا تنطلق من ضائقة اقتصادية يعاني منها المتظاهرون المرفهون معيشيًا، بل هي ثورة تتخذ طابعًا طائفيًا مذهبيًا بامتياز لا شعبيًا ووطنيًا كسابقاتها، فهي تصبو الى تصدير "الثورة الخمينية" واستحداث محافظة إيرانية جديدة في الخليج تابعة لولاية الفقيه، ذلك المشروع المدعوم من السياسة الصهيو-أميركية. وقد ظهر الموقف الأميركي على حقيقته بعدما اتهامت دول الخليج إيران بالوقوف وراء تحركات شيعتها في البحرين وتدخل "درع الجزيرة" لإنقاذ البحرين من الوقوع في القبضة الإيرانية، فقد أبدت وزارة الخارجية الأميركية اعتقادها بأن الدور الإيراني في البحرين كان محدوداً للغاية، وأن الاحتجاجات كانت نتاج إحباط السكان الشيعة المطالبين بدور اقتصادي وسياسي أكبر، كما اعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" في 16/3/2011 أن دول الخليج سلكت "الطريق الخطأ" بتدخل قواتها في البحرين للمساعدة على احتواء حركة الاحتجاج.
وأما عدم خضوع الثورة السورية الى نظرية "تغيير السلوك لا الإسقاط" التي كنا نفضل اعتمادها مع في مصر وليبيا واليمن، فإنما يعود الى كونها ثورة تغرّد وتحلق خارج سرب بقية الثورات، لأنها تسير في عكس تيار السياسة الصهيو-أميركية، فهي تشق طريقها نحو الحرية والكرامة وحيدة بلا دعم خارجي وذلك في وجه نظام ينتمي الى محور الشر الإيراني، وهو لا يزال يحظى بالدعم الصهيوني، كما ثمة انقسام في الإدارة الأميركية حول خيار التمسك بالطاغية السوري العلوي "بشار الأسد" بين مؤيد لإسقاطه ومعارض.
ففي حين أوصى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيمين نتنياهو" في 26/4/2011 أعضاء حكومته بأن يلزموا الصمت حيال سوريا، كانت الصحافة الصهيونية تبدي تمسكها بـ"الأسد"، وتكشف مخاوف الكيان الغاصب من زعزعة استقرار النظام السوري أو إسقاطه، فقد نشرت صحيفة "معاريف" في 25/4/2011 مقالا بعنوان: "هل سقوط الأسد أمر جيد أو سيئ بالنسبة لنا؟" وجاء في خلاصته: "على رغم أن الأزمة التي يعانيها النظام السوري قد تخدم كلاً من واشنطن والقدس، لكن سقوط هذا النظام قد يلحق الضرر بهما. فالسيطرة الصارمة لحزب البعث على سوريا جعلت هذا النظام أكثر الأنظمة استقرارًا في الشرق الأوسط، والحدود بين سوريا وإسرائيل هي الأكثر هدوءًا، ويبقى الأسد شريكًا صعبًا للسلام، فمن يدري من سيأتي من بعده؟".
أما الولايات المتحدة التي ظهرت بطلة في الدفاع عن الديموقراطية في تونس ومصر وفي ليبيا في مرحلة أولى، فقد أبدت تحفظها عما يجري في سوريا الى درجة وصفت معها "كلينتون" "الأسد " بـ"الإصلاحي"! وذلك في 28/3/2011، يوم اعتبرت أن "السيناريو الليبي لن يتكرر في سوريا لأن الأسد إصلاحي"، قبل أن تتراجع وتسجل مواقف فيها شيء من التشدد تجاه النظام السوري بعدما تلقت سيلا من الانتقادات من أفرقاء داخل الإدارة الأميركية، ومع ذلك بقيت الإجراءات والإدانات الأميركية للقمع في سوريا بلا تأثير في النظام السوري، مخلفة إحساساً بعدم المساواة بين الشعب الليبي الذي قرّر المجتمع الدولي الدفاع عنه فورما شعر أن "القذافي" يتحضر لعملية إبادة في "بنغازي"، والشعب السوري الذي تمّ التخلي عنه رغم سقوط ما يزيد على 550 شهيدًا (حتى الساعة) بآلة القتل البعثية العلوية التي يديرها الإرهابيان "بشار وماهر الأسد"!
وفي هذا السياق، حض ثلاثة أعضاء متشددين في مجلس الشيوخ الأميركي الرئيس "باراك أوباما" في 28/4/2011 على مطالبة الأسد بالتنحي عن منصبه، كما طالب الزعيم الليبي العقيد "معمر القذافي" من قبل. ورأى "جون ماكين" و"ليندزي غراهام" الجمهوريان، و"جوزف ليبرمان" المستقل في بيان مشترك أن "القمع العنيف لتظاهرات الاحتجاج في سوريا والذي يشرف عليه الأسد قد وصل الى نقطة حاسمة (...)، ونحن نحض الرئيس أوباما على أن يقول بشكل لا لبس فيه -كما فعل في حال القذافي و(الرئيس المصري) مبارك- إن الوقت قد حان للأسد كي يرحل".
هذا مع عدم إغفال إمكانية أن تؤدي التطورات السورية إلى خيار التقسيم، وإنشاء دويلة طائفية علوية في "جبال النصيريين"، وأخرى كردية في شمال شرق البلاد تنضم الى دويلة شمال العراق وجنوب تركيا، مقابل قيام دولة سنية على ما تبقى من سوريا، وهو خطر حري بالثوار السوريين أن يحبطوه ويحولوا دون تحققه.
وبالعودة الى إيضاح كيف يمكن أن تكون الديكتاتورية المرفوضة من الأحرار في العالم العربي عائقًا أمام التقسيم، يمكن القول إن بعض الحكام رغم استبدادهم (وأحيانًا بسببه) كانوا حريصين على وحدة بلادهم (وهي ربما النقطة الإيجابية الوحيدة في سجلهم)، وقد تمكّنوا من السيطرة على كامل أطياف شعوبهم متغلبين على انقسامات واختلافات وحساسيات تلك الشعوب فيما بينها، وذلك في بلد مقموع نعم، لكن موحد أيضًا.
أما الديموقراطية التي تنشدها الشعوب ويراد الانتقال اليها بشكل فوري وربما فوضوي من خلال الإطاحة ببعض تلك الأنظمة لا بواسطة تغيير سلوكها، فقد تكون أو تُتخَذ في بعض البلدان سبيلاً الى التقسيم، ولا سيما إذا أعطيت الحرية لأحزاب وجمعيات (كانت محظورة أو مضيقًا عليها من قبل الأنظمة القمعية) تدعو الى التقسيم والانفصال وتتوسّل لتحقيق مرادها إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، وعُمِل على تغذيتها من قبل أصحاب ذلك المشروع التقسيمي الصهيو-أميركي، وفقًا لخطة "الفوضى الخلاقة" أو "البناءة" الرامية الى فرض الديموقراطية على الطريقة الأميركية، والتي ذكرَتها "كونداليزا رايس" مرارًا يوم كانت وزيرة للخارجية الأميركية.
ولذلك، ربما لجأ أصحاب المشروع التفتيتي بعد الإطاحة بالحاكم الضامن للوحدة والمستبد، ربما لجأوا الى النفخ في نار الفتنة من خلال افتعال أعمال إرهابية وتخريبية بين المجموعات المراد زرع الشقاق فيما بينها، بواسطة جماعات تسمي نفسها "إسلامية" كـ "تنظيم القاعدة" (وسواه من المجموعات المشبوهة والمأجورة أو المخدوعة، التي بات يُتفنن في اختيار تسمياتها)، تمهيدًا لخلق أجواء مواتية لمطالبة كل مجموعة منها أو إحداها بالانفصال والاستقلال عن أخواتها، وعندئذ تنظم بضغوط دولية استفتاءات شعبية تحت شعار "حق تقرير المصير"، قد تفي بالغرض التقسيمي المطلوب، ولا سيما إذا اقتصر إجراء تلك الاستفتاءات على المناطق أو بين المجموعات المطالبة بالانفصال دون إشراك بقية المكونات الشعبية للدولة المعنية بالأمر، وهو ما يمكن تسميته بـ"الاستفتاء على الطريقة الأميركية" الذي طبّق في السودان، تلك الدولة التي أصبحت دولتين، والتي سبق تفصيل وضعها في مقال سابق.
ومن هذا المنطلق، ثمة مؤشرات قوية تدل على أن ما يجرى على الساحة العربية الآن، هو فصل من خطة "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الذي أعلنت عنه أميركا عقب اجتياحها العراق وغلفته بشعارات "تحقيق الديموقراطية والعدل والحرية"، لكن هذه المرة باعتماد الثورات الجماهيرية الممنهجة والمدروسة بعناية (تخطيطًا وليس دائمًا تنفيذًا)، بدلا من التكلفة الباهظة عسكريًا وبشريًا وماليًا وحتى من حيث السمعة، التي كان سيتطلبها الوصول الى الغاية نفسها من خلال الدبابات والطائرات الحربية التي استعملت في أفغانستان والعراق لفرض ذلك المشروع التفتيتي نفسه. ففي مقارنة سريعة بين هذين النمطين في التغيير، يتبيّن لنا أن حصيلة ثورتي مصر وتونس لم يتجاوز ثمنها من الضحايا ألف شهيد، بينما وصل عدد ضحايا الغزو الأميركي للعراق إلى 665 ألف عراقي على أقل تقدير، فضلا عن نحو خمسة آلاف قتيل في الجيش الأميركي منذ بدء الحرب في آذار 2003.
وهذا مع العلم بأنه: "إذا كان استخدام الحرب في العراق هو وسيلة التغيير من أعلى، فإن مشروع "الإصلاح" الأميركي المطروح هو بمثابة وسيلة لتغيير النُظم من أسفل، وهي الطريقة نفسها التي اتّبعت لزلزلة النظام "السوفياتي" السابق، فعندما حاول "غورباتشوف" إصلاحه أدى ذلك الى انهياره وتفككه؛ فعملية الإصلاح إن لم يتم إدارتها بجدية، فقد تؤدي إلى حالة انهيار وفوضى"، كما أورد الأستاذ "نعيم الأشهب" في كتابه "مشروع الشرق أعلى مراحل التبعية".
وحتى بعدما تساقطت الأنظمة في أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية على وقع المطالبة بالحرية والديموقراطية، لم تظهر نتيجة تلك "الفوضى الخلاقة" هناك الى الآن بعد مرور 20 عاما! وحسبنا أن نتأمل في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دول مثل بولونيا وبلغاريا وسلوفاكيا وتشيكيا والمجر...لإدراك ذلك، كما تكفي معاينة حجم التزوير والفساد لإدراك حجم الخيبة عند الذين توهّموا في تلك الدول وفي ذلك الحين أن الانتقال من الديكتاتورية والقمع الى الديموقراطية والبحبوحة مجرد رحلة ممتعة. ومن هنا مصدر القلق ومكمن الخطورة فيما نشهده في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام منذ مطلع العام 2011.
فأنْ تشتعل ثورة شبابية في "تونس" ثم تلحقها أخرى في مصر، بالسيناريو نفسه تقريبًا وبالنتائج الأولية ذاتها، وأن تتلو ذلك ثورات لا تزال مندلعة في عدة بلدان مثل ليبيا واليمن... بعد تشجيع بقية الشعوب العربية ذات الأنظمة القمعية على الثورة الجماهيرية السلمية والفوضوية أحيانًا كثيرة في وجه الطغاة، ثم أن تخرج في أثناء تلك الأحداث والمواجهات -التي انحدرت أحيانًا الى الحرب الأهلية كما في ليبيا- تصريحات "البيت الابيض" "بضبط النفس" أولاً وعدم التعرض للمتظاهرين ثانيًا، فتستمر الاحتجاجات حاصدة قتلى وجرحى ودمارًا وخرابًا، لتنتهي الثورة وتصل الى خواتيمها عندما تنضج الأمور بالضربة القاضية، مع رمي أميركا يمين الطلاق بالثلاثة على الحاكم المستهدف والمغضوب عليه من خلال مخاطبته بكلمة "ارحل" من الرئيس "أوباما"... كل ذلك لا يمكن وصفه بالعمل العفوي والشعبي البحت.
صحيح أن هناك أسبابًا عدّة لاندلاع هذه الثورات المفاجئة، من بينها أسباب نضجت بفعل الإجحاف الاقتصادي، وتوسّعت كردّ فعل قوي على أساليب القمع ومصادرة الحريات، لتصل إلى ذروتها بفعل التمييز الطائفي أو القبلي أو الطبقي في كل دولة. ومعروف أنّ فساد السلطة وزبانيتها قد نهشا مصر وتونس لعقود طوال، رغم افتقار هذين البلدين الى ثروات نفطية، على غرار ليبيا ودول الخليج، كما أنّ الاقتصاد هو من دفع أبناء تونس ومصر الى الشارع لوقف مصادرة ثرواتهم ورغيف خبزهم من حيتان السلطة والمال والاستخبارات...إلا أن الدور الأساس في إشعال فتيل تلك الثورات كان لما عُرف بقضية وثائق "ويكيليكس"، وهو موقع إلكتروني على شبكة الانترنت سُرّبت إليه بطريقة مشبوهة نحو 250 ألف وثيقة من وثائق وزارة الخارجية الأميركية، عبارة عن رسائل وتقارير كان يبعث بها سفراء وموظفون كبار أميركيون الى بلادهم ويتحدثون فيها عن لقاءات واجتماعات جمعتهم الى مسؤولين سياسيين وأمنيين في البلدان التي يتواجدون فيها، وقد شكلت مضامين تلك الرسائل بعد نشرها تباعًا على الموقع الإلكتروني وفي الصحف إرهاصات الثورات الحالية في الوطن العربي.
فقد استفزّت الفضائح التي حوتها بعض تلك الوثائق حول آليات إدارة الحكم في أكثر من دولة، مشاعر الجماهير التي بات طموحها ليس أقل من اعتماد الشفافية في الأداء السياسي لإدارة الحكم، كما أسهم في كسر هيبة الأنظمة في نفوس شعوبها وشجعها على التحرك ما تضمنته تلك الوثائق حول استياء أميركا من بعض الحكام ممن كانت هي علة وجودهم وسبب استمراريتهم، وسعيها منذ سنوات لمحاولة تغيير سلوكهم والتفكير في استبدالهم، الأمر الذي اعتبرته الشعوب ضوءًا أخضر للانقضاض على أولئك المغضوب عليهم وإحداث التغيير.
ولعل الشكوك التي تراودنا حول مدى عفوية الثورات العربية وما إذا كانت بدأت بفعل شعبي بحت، أم أنها تندرج في خانة الثورات المبرمجة التي تكون مطية للدول الكبرى من أجل وضع أقدامها في الأماكن الخصبة والغنية بالثروات أو من أجل تحقيق مشاريع معينة... والتي تعتبر شكوكًا مبررة من وجهة نظرنا استنادًا الى ما سبق بيانه، تقارب مرحلة الظن القوي وربما اليقين، عندما نستمع الى ما صرّح به مؤسس موقع "ويكيليكس" على شبكة الانترنت "جوليان أسانج"، حيث رأى في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية في 7/4/2011 أن: "تسريب وثائق السفارات الأميركية في عواصم عدة كان بمثابة وقود أشعل الثورات العربية"، مشيرًا إلى أنه "في تونس ومصر كانت جميع العناصر لصنع الثورة موجودة". ويقول "أسانج": "بدل تمضية الوقت في حرب ندافع فيها عن سمعتنا الحسنة، قررنا إشعال ثورة في الشرق الأوسط. في دول مثل تونس ومصر، كانت جميع العناصر موجودة، ومساهمتنا كانت بتجفيف الأشجار تمهيدًا لإضرام النار في الموقدة". وأضاف: "لدينا ستة آلاف وثيقة سرية تتعلق بإسرائيل نعتزم نشرها قريبًا، بعضها يفضح التعاون الاستخباري بين إسرائيل ودول عربية".
وبشأن تأثير "ويكيليكس" على الثورات العربية قال "أسانج": "تحدثنا مع عدد كبير من الأشخاص الذين شاركوا في الثورات الأخيرة أو غطوها إعلاميًا، وبالإمكان القول إن محور الزمن سار كالتالي: في 29 تشرين الثاني/نوفمبر2010 بدأ ويكيليكس في نشر وثائق وزارة الخارجية الأميركية مع شركاء من وسائل الإعلام وبينهم الصحيفة اللبنانية "الأخبار" وصحيفة مصرية"، وأضاف أن: "الأخبار نشرت مواد وصلت من دول شمال أفريقيا شملت تونس والسعودية ولبنان، وفي رد فعل على ذلك تمت مهاجمة موقع الصحيفة الإلكتروني بوحشية، والحكومة التونسية منعت مشاهدته في تونس وكذلك منعت ويكيليكس(...)، إن رد الفعل على مهاجمة موقع "الأخبار" كان قيام قراصنة كمبيوتر مؤيدين لـ"ويكيليكس" بتوجيه كل من حاول دخول الموقع الإلكتروني للحكومة التونسية إلى موقع ويكيليكس".
تلك كانت محاولة متواضعة لاستكشاف الظروف المحيطة بالواقع الذي نعيشه اليوم في العالم العربي من المحيط الى الخليج، والذي يندرج بالتأكيد في خانة "الفوضى الخلاقة" التي تحدّثت عنها وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" طويلا في عهد الرئيس "جورج بوش" الابن. لا نقول إن هذه الثورات هي من صنع الخارج من ألفها الى يائها أو إنها عفوية وشعبية بامتياز، بل هي مزيج من الاثنين معًا، لأن أرضيتها كانت موجودة وإن كان التمهيد لها وتوفير عناصر إشعالها خارجيًا وأحاطت بها الرعاية والعناية الأميركية حتى تمكنها من اسقاط حاكمها بعد لفظ الرئيس "أوباما" كلمة الطلاق في وجهه "ارحل".
وحتى الآن ليس واضحًا ما ستخلقه هذه الفوضى، فالتقاء مصلحة الثوار والمصلحة الأميركية في إسقاط حاكم ما لا يعني بالضرورة أن المرحلة التالية ستسير وفقًا لأهداف السياسة الصهيو-أميركية أو وفقًا لتطلعات وطموحات الثوار، وهو أمر يمكن أن لا يتضح قبل مرور وقت طويل، لكن مع ذلك من حقنا محاولة استشراف المستقبل الذي ينتظر المنطقة استنادًا الى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" وسواه من التصورات المطروحة.
فهل سنشهد في الدول العربية تفتّح ربيع الحرية والديموقراطية فعلا مع العلم أن ذلك التطور كلّف شعوبًا أخرى أجيالا من الاجتهاد والتضحية وتنمية الثقافة الديموقراطية في المجتمعات؟ أم إننا سنشد التقسيم؟ وبعبارة أخرى: هل ستخلق دوامة "الفوضى الخلاقة" في النهاية ما يحقق الأحلام او ما يحمل الصدمة ويخيّب الآمال؟!
إن ما حصل من مفاجآت في الدول العربية يجعلنا نصدق أن كل شيء محتمل حدوثه، فالرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" الذي حكم تونس بقبضة من حديد سقط خلال 3 اسابيع بعد 23 سنة من الحكم. وكان ما حصل في تونس أفضل حركات التغيير في المنطقة، لكن آخر الطريق لم يظهر بعد، ربما لأن الذين هتفوا عن حق: "الشعب يريد إسقاط النظام" لم يحملوا معهم بديلا متفقا عليه، في غياب الأحزاب أو قوى المعارضة المنظمة، التي كان النظام البائد يسحقها.
أما في مصر، فالرئيس المصري "حسني مبارك" الذي حكم 31 سنة مصر بقبضة من حديد، بات اليوم وولديه جمال وعلاء في السجن على ذمة التحقيق في مصادر ثرواتهم وفيمن أصدر الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين أيام الثورة، فمن كان يصدق أنه قد يسمع خبرًا عن حبس الرئيس المصري وولديه ومصادرة أموالهم؟! ومن كان يتخيّل أن تعبر بارجتان حربيتان إيرانيتان "قناة السويس" بعد 32 عامًا من المنع ومن الخلافات المصرية-الإيرانية؟! ومن كان يظن أن المساعي بدأت تنشط لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران في أعقاب سقوط الرئيس المصري "حسني مبارك"، لأول مرة منذ 30 عاما؟!
لكن، مع ذلك، آخر الطريق في مصر لم يتضح بعد وإن برزت بعض معالمه مع موجة العنف الطائفي بين المسلمين والأقباط المنذرة بالتقسيم، ومع ذبول زهور الثورة بعدما تبيّن أن الحكم في مصر والثورة أيضًا سيجيّران لصالح "الإخوان المسلمين" وسيُخطفان من قبل حلفاء إيران الحميمين، إذ أثبتت مجريات الأحداث مع مرور الأيام أن "حركة الإخوان المسلمين" ستكون ركيزة أساسية للوضع السياسي المصري، فضلا عن ملاحظة نوع من التفاهم العميق -إن لم يكن التحالف- بين الحركة والمؤسسة العسكرية -المدعومة أميركيًا بقوة- في الضبط التدرجي لمرحلة ما بعد تنحي الرئيس "حسني مبارك".
وهذا استنتاج ظهر بوضوح بعد الاستفتاء على تعديل ثمان مواد من الدستور الذي دعى إليه "المجلس العسكري" في خطوة وصفها البعض بالمتسرعة نظرًا إلى خلو الساحة المصرية من أحزاب منظمة باستثناء "الإخوان المسلمين"، ما جعل نتيجة الاستفتاء تحول دون إدخال كثير من روح الديموقراطية الى النظام خصوصًا مع بقاء الرئيس حاكمًا مطلقًا، فقد أقفلت صناديق الاقتراع على نسبة 77% لصالح عدم التعديل، الأمر الذي عمل على تحقيقه "الإخوان الإيرانيون" بقوة، مستغلين أحيانًا وفي بعض قرى "الصعيد" خطاب التحريض الطائفي. وربما علينا الانتظار الى موعد إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية لكي نعرف مصير أحلام شباب "ميدان التحرير".
وننتقل الى ليبيا حيث 42 سنة من حكم العقيد "معمر القذافي" وأيضا بقبضة حديدية، فإذا بالثوار على مشارف قصره يحاصرونه وإذ به مهدد بالقتل بين لحظة وأخرى، ثم لا يلبث المشهد الليبي أن يتحول الى حرب أهلية تتدخل في مجرياتها قوات "حلف شمال الأطلسي" لمساندة الثوار، ومع ذلك ينقلب المشهد رأسًا على عقب فيتابع "القذافي" تقدمه العسكري متغلبًا على مقاومة الثوار وقوى حلف الـ"ناتو" بشكل مدهش ومثير للعجب، فيما ينكفئ ويتراجع أحيانًا أخرى على وقع ضربات الحلف نفسه! الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل هدف الضربات الجوية إيجاد نوع من توازن القوى يؤدي في نهاية المطاف الى رحيل "القذافي" وأبنائه؟ أم إن المطلوب استمرار النزاع بين شرق ليبيا بزعامة "بنغازي" وغربها بزعامة "طرابلس" وانخراط القبائل الليبية في هذا الصراع وتلك الحرب الأهلية؟! أم إن أميركا وحلفاءها يتريثون في القضاء على نظام "القذافي" عسكريًا في انتظار توصولهم الى نتائج "مرضية" في المفاوضات التي يجرونها مع الثوار حول مستقبل ليبيا سياسيًا ونفطيًا على وجه التحديد؟!
في مواجهة كل هذه الأسئلة يكبر خطر الغرق، ويبدو أن السيناريو المرجح هو تقسيم ليبيا الى دولتين كخطوة أولى، بحيث يكون الجزء الشرقي تحت سيطرة الثوار وتحت مظلة "حلف شمال الأطلسي"، والجزء الغربي خاضعًا لسيطرة "القذافي". وحتى بعد رحيل "القذافي" يبدو مستقبل ليبيا غامضًا تمامًا ومن غير الواضح ما ستكون عليه الدولة في تلك المرحلة بعد مرور أربعة عقود من الحكم الديكتاتوري الذي أضعف الحياة السياسية وقضى على الحريات داخل المجتمع المدني. أضف أن صمود "القذافي" مدة تزيد على الشهر في مواجهة ضربات "حلف شمال الأطلسي" يشير إلى أن القتال الدائر حالياً بين المطالبين بالديموقراطية والنظام الاستبدادي يخفي في طياته نزاعًا قبليًا شرسًا. ومع وجود هذا الكم من السلاح لدى الطرفين، سيكون الاقتتال القبلي أكثر عنفًا.
لذا ثمة أسباب كثيرة تدفعنا الى التخوف من تقسيم ليبيا الى عدة دويلات في الخطوة الثانية، إذ من المرجح أن تنشأ الخلافات على الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها القبائل الليبية في الحياة السياسية المستقبلية، ولا يكون المخرج منها إلا بطرح التقسيم.
وأما في سوريا فالتظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس "بشار الأسد" تجري في غير مصلحة وأهواء الكيان الصهيوني الغاصب، الأمر الذي يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات.
والسلسلة لا تتوقف هنا، ففي البحرين حيث الأطماع الإيرانية في تصدير "الثورة الخمينية" وابتلاع ذلك البلد الخليجي بواسطة تأجيج العصبيات والنعرات الطائفة السنية-الشيعية، استدعت خطورة الأوضاع تدخّل وحدات "درع الجزيرة" للحيلولة دون قيام "جمهورية ولاية الفقيه" في البحرين على النمط الايراني، الأمر الذي استفز غضب طهران فقابلته بشن حملة قوية ضد "المنامة" و"المملكة العربية السعودية" بمؤازرة من شيعة العراق ولبنان.
وفي اليمن، حيث سارع زعماء دول "مجلس التعاون الخليجي" الى الاتفاق على ضرورة دعم السعودية في جهودها الرامية الى إنهاء أزمة اليمن بطريقة تحصّنها ضد التوسع الإقليمي الذي تنشده طهران من وراء دعم أنصارها "الحوثيين" وتنظيم "القاعدة". ومكمن الخطر في الحوادث التي تشهدها اليمن فضلا عن احتمال تقسيمها الى دولتين أو ثلاث، هو أن الذي يسيطر على خطوط الملاحة في مضيق "باب المندب" يمكنه التحكم بأكثر من أربعين في المئة من النفط المنقول الى الدول الصناعية. أما في حال انشطار اليمن الى يمنين شمالي وجنوبي، فان نموذجًا آخر للسودان سيكمل تفكيك الدول العربية الذي ظهرت بوادره في العراق المثلث الضلع، وليبيا المرشحة لفصل "بنغازي" عن "طرابلس".
والبقية تأتي في الجزائر وسلطنة عمان والأردن والكويت وغيرها، كلها بلدان تشهد حوادث منها الخطرة ومنها الأقل خطورة، تصب في تعزيز المخاوف المتزايدة من الحروب الأهلية ومن رياح التقسيم التي قد تنحسر عنها عاصفة "الفوضى الخلاقة" التي تجتاح المنطقة محمّلة بالمشاريع الصهيو-أميركية المعدة سلفًا بآلياتها الإرهابية وأدواتها الإيرانية الفتنوية والتقسيمية الجاهزة للاستخدام، في ظل غياب بدائل واضحة ومتفاهمًا عليها لدى الشعوب التي أسقطت أو تريد إسقاط أنظمتها.
ثانيًا: تونس بلد نموذجي للبداية:
تنص خارطة "الشرق الأوسط الجديد" التي وضعها "برنارد لويس" بالنسبة لشمال إفريقيا، على تفكيك ليبيا والجزائر والمغرب بهدف إقامة ثلاثة أقسام تضم ستة دول، هي: "دولة البربر" أي "الأمازيغ" (المنتشرون في دول شمال إفريقيا)، والتي سوف تمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر على امتداد "دويلة النوبة" بمصر وأقصى شمال السودان. و"دويلة البوليساريو"، وهم أحد العرقيات الموجودة في المغرب، ولديهم "جبهة البوليساريو" التي تطالب اليوم بأن تكون لهم دولة باسم "الجمهورية الصحراوية"، وذلك بسبب اختلاف أعراقهم عن الأعراق العربية، وإحساسهم بإنهم مهمشون في كيان الدولة المغربية الحالية، ولا يشاركون في حكم المغرب... على أن تقام في الأراضي المتبقية بعد اقتطاع حصة "البربر" و"البوليساريو" دويلات: "المغرب" و"الجزائر" و"تونس" و"ليبيا"، وهي دول مرشحة أيضًا للتفتيت فضلا عن اقتطاع حصة "البربر" منها، لكن تقسيمها قد يكون على شكل فيدراليات أو كونفيدراليات أو ما شابه، نظرًا لتكونها -وخصوصًا "ليبيا"- من قبائل متعددة ذات حساسيات تاريخية، بحيث لا ترضى أي منها أن تحكم من الأخرى.
وبالعودة إلى تونس المشمولة بالتأكيد بالمشروع التفتيتي الصهيو-أميركي، لكن كما نلاحظ من خطة "لويس" هي أقل استهدافًا من سواها كـ"المغرب" مثلا، وذلك نظرًا لكونها بلدًا صغير المساحة، وقليل عدد السكان(عشرة ملايين نسمة)، ومن أكثر دول شمال إفريقيا تجانسًا، حيث إن 98% من سكان تونس مسلمون، وتغيب عنهم الحساسيات أو النزاعات العرقية لكون الغالبية العظمى من الشعب من أصل عربي.
بيد أن هذا الواقع الجغرافي والديموغرافي المنسجم وإن كان عائقًا أمام أي مشروع تقسيمي، إلا أنه في الوقت نفسه بيئة نموذجية لإشعال وإنجاح أي ثورة شعبية، خصوصًا إذا انضمت إليه محفزات سياسية واقتصادية.
فمن الناحية الاقتصادية، كان أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تنامي الاحتقان الشعبي والغليان المناطقي، حالة البطالة المرتفعة في الشارع التونسي والتي وصلت في الفترة الأخيرة الى حدود غير مسبوقة، هذا فضلاً عن احتكار المجالات الاقتصادية من قبل عائلتي الرئيس التونسي وزوجته.
أما من الناحية السياسية، فتونس ترزح تحت حكم ديكتاتوري دموي وبوليسي يديره "حزب التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم (سابقًا) بقيادة الرئيس التونسي (المخلوع) "زين العابدين بن علي"، وهو حزب نما واستحكم وتسلط على الشعب ونهب مقدراته تحت رعاية وأعين أميركا ودول الغرب، في حين لم يُحدِث في تونس أي نمو أو تطور اقتصادي أو سياسي يستحق أن يذكر منذ عام 1987، تاريخ تسلم الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" السلطة. أضف الى ذلك، أن هذه الدولة خالية من ثروات معدنية أو نفطية قد تؤثر على أميركا والعالم في حال تعرّضت لتوقف مفاجئ بسبب خضة ما... وهذه كلها ميزات كوّنت بيئة آمنة وملائمة ومناسبة ومطمئنة ومشجعة لكي تجعل من تونس بحق دولة نموذجية لإشعال فتيل "الفوضى الخلاقة" في المنطقة، بعدما وقع عليها الخيار الأميركي المدروس بدقة وعناية للدفع في اتجاه افتعال ثورة يراد لها أن تمتد إلى الدول المجاورة وبقية الدول المستهدفة من"مشروع الشرق الأوسط الجديد".
نقول ذلك بنبرة جازمة، لأننا نعتقد أن من الخطأ مقاربة موضوع الثورة التونسية دون النظر الى ما استتبعها من ثورات، وخصوصًا في مصر وليبيا واليمن والبحرين.
وبالانتقال الى كيفية اندلاع الثورة التونسية، فعلى الرغم من أن الأحداث التي وقعت في تونس غلب عليها الطابع الشعبي، إلا أنه لا بد من تسليط الضوء على دور الجيش التونسي ومن خلفه أميركا في تلك الأحداث لما لهما من أهمية قصوى في تحديد العوامل التي ساهمت في تفجير الثورة ورعتها حتى نهايتها.
ومن خلال محاولة فهم الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في إشعال فتيل تلك الثورة وضبط مجرياتها، يمكن ملاحظة النقاط التالية:
1- بداية يجب التسليم بأنّ النظام الحاكم في تونس منذ جلاء المستعمر الفرنسي عنها في العام 1956 وتسليم الحكم لـلرئيس " الحبيب بورقيبة"، هو نظام يتبع أوروبا وبالذات فرنسا وبريطانيا، ولا مكان للنفوذ الأميركي فيه سياسيًا. وكان حكم الرئيس التونسي المخلوع "زين العابدين بن علي" استكمالاً لحكم سلفه "بورقيبة"، فقد حرص على إبقاء الحكم في تونس مواليًا لأوربا، لكن سياسيًا، أما عسكريًا فقد عملت أميركا على تقوية وتوطيد علاقاتها بالجيش التونسي مستغلة سياسة الإضعاف والتهميش التى انتهجها "بن علي" تجاه الجيش لمصلحة تقوية بقية الأجهزة الأمنية، كما سنبينه في النقطة الثالثة، وقد حرصت أميركا على توطيد علاقتها بالجيش تعويضًا عن تفضيل النظام التونسي الولاء الأوربي على الأميركي، وتمهيدًا لقلب تلك المعادلة لمصلحتها عندما تسمح الفرصة. وقد كشفت وثائق "ويكليكس" عن قلق أميركي من "تدني" درجة التعاون العسكري بين الطرفين (التونسي والأميركي)، على الأقل في الفترة بين 2008 و 2010. و هو ما يعكس حدود "الرعاية" الأميركية للجيش التونسي.
2- منذ سنة 2006 على أقل تقدير، بدأت الولايات المتحدة تدرس جديًا مستقبل تونس بعد "بن علي" وما إذا كان الحكم سيبقى في قبضة "حزب التجمع" أم لا. ففي 18/4/2011 نشر موقع "ويكيليكس" برقية دبلوماسية من الخارجية الأميركية صادرة بتاريخ 9 كانون الثاني 2006، تعتبر فيها السفارة الأميركية في تونس أنه إذا "توفي بن علي خلال رئاسته، أو استقال لسبب ما، أو أصبح مريضًا بشكل يمنعه من ممارسة صلاحياته بشكل نهائي، فباستطاعة المجلس الدستوري أن يعلن فراغ المنصب الرئاسي، وتعود عندها السلطات الانتقالية إلى الرئيس الحالي للمجلس النيابي فؤاد المبزع" الذي ستكون مهمته الأساسية بنظر التجمع "المحافظة على إمساك الحزب بالسلطة". وتضيف البرقية أنه "من غير المرجح أن يجمع أي مرشح من المعارضة ما يكفي من القوة لتحدي مرشح حزب التجمع الحاكم بشكل جدي. ومن المتوقع أن يكون الرئيس المقبل من صفوف التجمع"، مضيفة أنه "نظرا للإطار التشــريعي للرئاسة، فمن المرجح ان يكون خلف بن علي من المكتب السياسي للحزب".
وفيما تعرض السفارة الأميركية بناء على مصادرها لائحة تضم أسماء مرشحين لخلافة "بن علي"، تعتبر أنه "من المرجح ألا يقوم أي من هؤلاء بتغيير حقيقي في سياسات الحكومة التونسية، داخليًا أو خارجيًا". وقد عززت هذه البرقية صدقية الشارع التونسي في رفضه تواصل إمساك حزب "التجمع" بزمام السلطة بعد فرار الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي".
والى ذلك، كشفت وثيقة أخرى نشرها موقع "ويكيليكس" حقيقة الرغبة الأميركية في تغيير النظام التونسي، فقد أشارت إلى توصية صدرت منذ نحو عامين من السفير الأميركي في تونس بأن "أي تغيير إصلاحي حقيقي لن يحدث طالما بقي الرئيس التونسي بن علي في السلطة... ونحن بانتظار رحيله". وورد في إحدى الوثائق السرية الأميركية المسربة الى موقع "ويكيليكس" وهي صادرة من السفارة الأميركية في تونس يوم 13/7/2009، والتي تحمل عنوان "تونس المضطربة .. ماذا ينبغي أن نفعل؟"، ورد فيها قول السفير الأميركي في تونس "روبرت جوديك": "التغيير الحقيقي في تونس سوف يحتاج إلى انتظار رحيل بن علي".
3- توازيًا مع ذلك، كانت أميركا قد وطدت علاقتها بالجيش التونسي بحيث يمكن الاعتماد عليه لإنجاح أي ثورة أو عملية انقلابية تستهدف حكم "بن علي"، وفي ذلك تتفق التجربة التونسية مع التجربة المصرية من حيث إن رهان الغرب للإطاحة بالحاكمَين وضبط مجريات الثورة كان على المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجيش.
ويبدو أن "بن علي" ذو الخلفية العسكرية والذي شغل مناصب عديدة بالجيش قبل توليه وزارة الداخلية والانقلاب على "بورقيبة"، لم يتمكن من أخذ ولاء الجيش في الظروف العصيبة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى حادثة مريبة وقعت في نيسان 2004، حيث قتل فيها 13 من كبار قادة الجيش التونسي بعد سقوط مروحية كانت تقلهم بمن فيهم قائد الأركان السابق الجنرال "عبد العزيز رشيد سكيك" ذو الصيت الذائع آنذاك. ومنذ ذلك الحين تم استبعاد الجيش وتهميشه وعدم إشراكه في أي نشاط سياسي، وهذا ما أدّى إلى إضعاف ولائه للرئيس وللنظام.
كان التركيز الأميركي في علاقته مع تونس يقوم منذ تولي الرئيس التونسي المخلوع، لا بل قبله بنحو 5 سنوات، على بعدَين: الأمني والسياسي؛ فبمبادرة من رئيس لجنة العلاقات الخارجية في "الكونغرس" سابقًا السيناتور "تشارلز بيرسي"، تم تشكيل اللجنة العسكرية التونسية-الأميركية عام 1981، وقد حافظت هذه اللجنة على انتظام دوريتها، وقد مسح التعاون الأمني التونسي الأميركي العديد من المجالات أهمها: إجراء مناورات مشتركة مرة في السنة وإرسال الضباط التونسيين لتلقي دورات تدريب في المعاهد العسكرية الأميركية ، فضلا عن منح تجهيزات ومعدات عسكرية للجيش التونسي.
فالولايات المتحدة تزوّد تونس بالجزء الأعظم من احتياجاتها التسليحية، وكانت آخر شحنات الأسلحة الأميركية الكبيرة التي حصلت عليها القوات التونسية قد تمت في أواسط التسعينيات، وقد اشتملت هذه المساعدات بشكل عام على دبابات ومدافع ميدان وطائرات نقل وطائرات هيليكوبتر وطائرات مقاتلة من طراز "أف 5 تايغر" ودبابات من طراز "أم 60"، وهي الأسلحة التي لا تزال تشكل حتى الآن عماد تجهيزات القوات الجوية والمدرعة التونسية. وكانت المساعدات لغايات تخدم استراتيجية أميركا وأهدافها الخاصة لا غير.
ولمحاولة التعمق أكثر في فهم طبيعة العلاقات العسكرية التونسية-الأميركية، يبدو واقع مؤسسة الجيش التونسي دائمًا مثيرًا للاهتمام، خاصة أن سمعته كانت دائمًا أقل سوءًا من بقية أجهزة سلطة "بن علي" التي تملك السلاح. وهو ما يتضح لنا من مقالين حديثين لكاتبَين أميركيَين مرموقََين من المفيد جدًا التوقف عندهما.
فقد نُشر في شهري كانون الثاني وشباط 2011، مقالان كُتبا بشكل مشترك من كاتبين أميركيَين تعرّضا بشكل خاص للجيش التونسي. المقال الأول مخصص بالكامل للجيش التونسي، وهو منشور في "الهافينغتون بوست" بتاريخ 26/1/2011 بقلم الكاتب "كليمينت هنري" الأستاذ الفخري في الحكم والدراسات الشرق أوسطية في جامعة "تكساس" بـ"أوستين" والمختص في شمال افريقيا ويمكن اعتباره من أكثر الأكاديميين الأميركيين اطلاعًا على الوضع في تونس. أما المقال الثاني، فيعرض معلومات مشابهة للمقال الأول حول الجيش، إلا أن اللافت فيه هدفه الرئيسي المتمثّل باستخلاص الدروس من المثال التونسي واقتراح نقله الى الوضع المصري، واعتبار كاتبه "روبرت سبرينغبورغ" أستاذ شؤون الأمن القومي في "مدرسة ما بعد التخرج البحرية" والمشرف على برنامج العلاقات المدنية-العسكرية فيها، أن الجيش التونسي "أكثر حرفية" و"مرونة" من الجيش المصري بما يجعله مساعدًا على ترسيخ الحكم المدني في البلاد. وقد نشر هذا المقال في عدد شهر شباط 2011 من مجلة "شؤون خارجية" التابعة لـ"المركز التقليدي لصناعة السياسة الخارجية الأميركية-مجلس العلاقات الخارجية"، ويمتاز كاتبه بتخصصه في الشأن المصري وأنه على احتكاك مع الأوساط العسكرية الأميركية بسبب المؤسسة التي يدرّس فيها، وخاصة البرنامج الذي يشرف عليه مركز العلاقات المدنية العسكرية الذي يمثل أحد أهم نقاط المقالين معًا.
أما أهم الأفكار والمعطيات الواردة في هذين المقالين فتتلخص في الآتي:
-حَرص "زين العابدين بن علي" على تفقير الجيش التونسي مقارنة بمختلف الأجهزة الأمنية (شرطة، حرس وطني، حرس رئاسي)، إذ كانت الأموال المخصصة له دائما أقل من سواه، هذا عدى عن قلة عديده الذي لا يتجاوز 35 ألفاً جندي ما يجعل من حجمه الأصغر بين مختلف هذه الأجهزة، وكانت الحصة الكبرى من الميزانية تذهب للحرس الرئاسي.
-لم يكتف "بن علي" بإضاعف الجيش فقط، بل حيّده أيضًا، وركّز على توظيفه في السياق المدني بأقل التكاليف، ودفع بالجيش بالتالي من حيث التجهيز والتدريب بشكل شبه كامل نحو الرعاية الأميركية. وهكذا ذهب عدد كبير من الضباط التونسيين الى الولايات المتحدة للتدرب في اتجاه دعم المؤسسات المدنية. وذلك على عكس الأجهزة الأمنية التي كانت من حيث التدريب خاصة تحت إشراف أكبر من فرنسا.
-وقد أثرت هذه الوضعية على تطور الأمور خلال هروب "بن علي" وما تلاها من أحداث، إذ في الوقت الذي بقيت فيه فرنسا مستعدة لتقديم دعم أمني حتى آخر لحظات "بن علي"، كان الجيش غير المورَّط في فساد السلطة والمدرب على دعم المؤسسات المدنية، قادرًا أولاً على التمرد على أوامر "بن علي"، وثانيًا على محاربة فلوله والدفاع عن استمرار الدولة. فقد رفض قائد أركان جيش البر "رشيد عمار" أوامر "بن علي" في إطلاق النار على المتظاهرين في محاولة من الأخير لفض التظاهرات ووأد الثورة، وبحسب الكاتبَين الأميركيَين فإن تصرّف الجنرال "رشيد عمار" ذلك والذي أدى الى عزله من قبل "بن علي"، لم يكن موقفًا فرديًا ومعزولا، بل تضامنت قيادة الجيش معه، و تبنت الموقف نفسه من خلال "تجاهلها" أمر "بن علي" في عزل الجنرال "عمار".
-وبسبب التدريب الأمريكي المتواصل في السنين الماضية، يقول الكاتبَين، خاصة في مجال العلاقات المدنية-العسكرية، وبسبب تواضع حجم الجيش التونسي، كان قرار قيادته واضحًا في اتجاه دعم المؤسسات المدنية. وقد أمّنت حرفية الجيش وتنظيمه وعدم انقسامه عوامل أتاحت له التغلب على الحرس الرئاسي الذي رغم حيازته أسلحة مماثلة وأحيانًا أكثر تطوّرًا، لم يستطع مجاراة الجيش وتمت السيطرة عليه في ظرف أيام.
وبهذا تم إعداد الجيس التونسي أميركيًا بحيث يكون له الدور الحاسم في أي عمل تغييري يواجهه نظام "بن علي"، وهو ما حصل فعلا في حوادث تونس الأخيرة التي أدّت إلى الإطاحة بالديكتاتور التونسي، فقد كان للجيش موقفًا حاسمًا في إنجاح التحرك الجماهيري الكبير والذي أدّى إلى إسقاط "بن علي" بسهولة لافتة، وهو ما سنوضحه فيما بعد بشيء من التفصيل.
4- بعيدًا عن دور تأهيل الجيش التونسي لحماية وإنجاح التغيير المطلوب، كان للعامل الاقتصادي المتردي في تونس دورًا أساسيًا في دفع الشعب نحو الثورة، فضلا عن فضائح الفساد التي بدأت تتكشف وتظهر الى العلن.
ففي عام 2009، صدر كتاب في فرنسا بعنوان "حاكمة قرطاج..يد مبسوطة على تونس"، تناول مؤلفاه وهما الصحفيان "نيكولا بو" و"كاترين كراسيه" ما سمياه "هيمنة زوجة الرئيس التونسي على مقاليد السلطة في البلاد"، وتحدثا عن سيطرة عائلة "ليلى الطرابلسي" زوجة الرئيس "بن علي" وعائلة صهره "الماطري" على زمام الأمور في كثير من مناحي الحياة بعد أن توعكت صحة الرئيس.
مُنِع الكتاب من دخول تونس وأقامت "ليلى" دعوى قضائية ضد نشر الكتاب ولكن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى. دخل الكتاب سرًا الى تونس وقرأه مئات الألوف وهو مكتوب بالفرنسية، فأخذت الروائح النتنة للفساد الإداري والمالي للعائلة المالكة وتسلط "حاكمة قرطاج" تفوح في البلاد رغم التعتيم الإعلامي وسياسة كمّ الأفواه التي لم تستطع حجب التفاصيل المروعة المذكورة في ذلك الكتاب عن أعين الشعب الذي بات يعي الحقيقة، وبالتالي بدأت النفوس بالغليان وأصبح وضع الشارع التونسي كالجمر تحت الرماد.
5- وجدت أميركا الفرصة سانحة لتطيير الرماد وكشف الجمر الراقد تحته، وصب "البنزين" على النار، فعملت على استغلال غضب الشعب التونسي، والنفخ في نيران غضبه بغية استثارته وزيادة نقمته على النظام الظالم والفاسد الذي يحكمه تمهيدًا لدفعه نحو الثورة.
فبعد سنوات طويلة من تعمّد غض الطرف عن فساد نظام "بن علي" واضطهاد الشعب التونسي ومعاناته مع ديكتاتوره، وتصوير تونس على أنها واحة للعلمانية، خرجت أميركا عن صمتها فعملت في الربع الأخير من عام 2010 على إثارة موضوع فساد النظام واستغلال تحكّم العائلة الحاكمة في اقتصاد البلاد وثرواته الذي تم على مرأى ومسمع الإدارة الأمريكية والدول الأوربية، وذلك من خلال نشر وثائق سرية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية قيل في رواية يصعب تصديقها إن أحد الجنود الأميركيين سربّها دون علم الإدارة الأميركية الى موقع "ويكيليكس" الإلكتروني، وهي عبارة عن رسائل وتقارير أعدها سفراء الولايات المتحدة في الدول التي عيّنوا فيها، وتم اختيار تونس بعناية ودقة لتكون محور معظم الوثائق المسربة في المرحلة الأولى.
وهنا نترك الكلام لمؤسس موقع "ويكيليكس" على شبكة الانترنت "جوليان أسانج"، لكي يشرح لنا مدى تأثير "ويكيليكس" على الثورات العربية، حيث يقول في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية بتاريخ 7/4/2011: "إن تسريب وثائق السفارات الأميركية في عواصم عدة كان بمثابة وقود أشعل الثورات العربية"، مشيرًا إلى أنه "في تونس ومصر كانت جميع العناصر لصنع الثورة موجودة، ومساهمتنا كانت بتجفيف الأشجار تمهيدًا لإضرام النار في الموقدة". ويتابع "أسانج" مبينًا السير الزمني للأحداث فيقول: "إن محور الزمن سار كالتالي: في 29 تشرين الثاني/نوفمبر2010، بدأ ويكيليكس في نشر وثائق وزارة الخارجية الأميركية مع شركاء من وسائل الإعلام وبينهم الصحيفة اللبنانية "الأخبار" وصحيفة مصرية"، وأضاف أن: "الأخبار نشرت مواد وصلت من دول شمال أفريقيا شملت تونس والسعودية ولبنان، وفي رد فعل على ذلك تمت مهاجمة موقع الصحيفة الإلكتروني بوحشية، والحكومة التونسية منعت مشاهدته في تونس وكذلك منعت ويكيليكس(...)، إن رد الفعل على مهاجمة موقع "الأخبار" كان قيام قراصنة كمبيوتر مؤيدين لـ"ويكيليكس" بتوجيه كل من حاول دخول الموقع الإلكتروني للحكومة التونسية إلى موقع ويكيليكس".
وتابع أسانج موضحًا أن: "بعض البرقيات التي نشرناها بحثت مطولاً في الاستخدام السيئ للقوة من جانب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته، وتم نشر هذه المواد بين المواطنين التونسيين وسببواعاصفة، لكن الأهم من ذلك هو أن البرقيات المسربة أظهرت أنه في حال نشوب نزاع مسلح بين الجيش وعائلة بن علي فإن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب الجيش، وهذا لفت بالتأكيد انتباه الجيش والدولة كلها".
هكذا، وعلى أثر اطلاع الشعب التونسي على ذلك الكتاب الفرنسي الشهير والذي أضيف إليه مضمون وثائق "ويكيليكس" "السرية" الذي يسلط الضوء على فساد نظام "بن علي" ويظهر الرغبة الأميركية في تغييره، نظمت حملات شبابية تحريضية تدعو الى الثورة والإطاحة بالطاغية "بن علي"، وذلك على موقعي "فايسبوك" و "تويتر" الإلكترونيَين، فكان لهذه الحملة ولتلك الوثائق دورًا مباشرًا في تعبئة التوانسة وتأمين أرضية مناسبة لكسر حاجز الخوف من نظام دموي لا يرى سوى نفسه، ولا يفهم سوى لغة القوة ومنطق العنف، وبالتالي تأمين أجواء مؤاتية لاندلاع ثورة لم تعد تحتاج إلا الى شرارة لتنفجر، فكانت شرارة بائع الخضار "محمد البوعزيزي" صاعقة تفجير بركان "الفوضى الخلاقة" في تونس والعالم العربي الذي أطاح بعروش الاستبداد.
ففي 17/12/2010، أقدم الشاب "محمد البوعزيزي" (26 عامًا) على إحراق نفسه في ولاية "سيدي بو زيد" (265 كيلومترا جنوب العاصمة تونس) احتجاجًا على تعرضه للصفع والبصق على الوجه من قبل شرطية (امرأة) تشاجر معها بعد أن صادرت عربة خضار كان يسترزق منها لينفق على والدته وأشقائه السبعة، ومنعته من بيع الخضار والفاكهة دون ترخيص من البلدية، واستنكارًا منه لرفض المحافظة قبول تقديمه شكوى ضد تلك الشرطية؛ وكانت تلك الشرارة المنتظرة لتفجير "ثورة الياسمين" في تونس وامتدادها الى بقية دول العالم العربي.
فغداة إقدام البائع المتجول صاحب عربة الخضار "محمد البوعزيزي" على الانتحار يأسًا من البطالة واحتجاجًا على تعرضه للإهانة والإذلال على أيدي الشرطة، انطلقت شرارة الاحتجاجات في تونس في 18/12/2010 من مدينة "سيدي بو زيد"، تعاطفًا مع هذا الشاب -الذي بقي أكثر من أسبوعين بين الحياة و الموت قبل أن يتوفى- وعلى خلفية تزايد أعداد العاطلين عن العمل واستشراء الفساد والمحسوبية داخل النظام وتقييد الحريات المدنية، لتتخذ الأحداث شيئًا فشيئًا منحى تصاعديًا حيث انتشرت موجه غضب عملاقة غذاها موقع "الفايسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، فامتدت معها التظاهرات إلى عدد من المدن التونسية مطالبة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، وأدت إلى صدام مع قوات الأمن الموالية للنظام والتي اعتقلت عددًا من المتظاهرين.
خلال الأيام التالية توسعت الرقعة الجغرافية للتظاهرات بالتزامن مع إرتفاع سقف المطالب السياسية، إذ غدا تنحي الرئيس "زين العابدين بن علي" مطلبًا رئيسًا لا تنازل عنه مع ترديد المتظاهرين عبارتهم الشهيرة "الشعب يريد إسقاط النظام"، فيما وصفت تلك التحركات بأنها الأكثر جدية منذ تولي الرئيس التونسي السلطة عام 1987، أي قبل 23 عامًا.
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات وبدأت تزداد تنظيمًا وعددًا ومساحة لتعم المدن التونسية الرئيسية، وبمواكبة إعلامية حثيثة ودقيقة ولا سيما من قناة "الجزيرة" القطرية المشبوهة، ما أجبر الطاغية التونسي "بن علي" على الإعلان عن عدم ترشحه لدورة رئاسية جديدة، وإقالة عدد من الوزراء، وتقديم وعود بمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؛ غير أن هذه الوعود لم تهدئ الثوار الذين تابعوا احتاجاجاتهم متصدين بصدورهم العارية لاستعامل الشرطة العنف في ردعهم ومحاولة إخماد ثورتهم؛ فقد عُلم أن "بن علي" أمر الجيش بالتدخل لقمع المتظاهرين ودحر "الثورة الشعبية" في مدن "القصرين" و"تالة" و"سيدي بوزيد"، إلا أن الفريق أول "رشيد عمار" رئيس أركان الجيش التونسي كانت له الشجاعة الكافية (بِحَثّ ومعاونة أميركية) لمعارضة ورفض أوامر "بن علي"، فشكل هذا الموقف من رئيس الأركان التونسي -الذي أقيل بسببه- الضربة القاضية في إسقاط الرئيس التونسي. وفي هذا السياق، أفادت تقارير قبل يومين من تنحي "بن علي" عن السلطة أنه أقال رئيس هيئة أركان الجيش، بسبب تحفظ الأخير على "القبضة الحديدية" التي يعالج بها الرئيس الأزمة الاجتماعية المتفجرة في البلاد منذ أسابيع، ورفض إصدار الأوامر للجيش التونسي باستعمال القوة ضد المتظاهرين.
وحتى اللحظات الاخيرة التي سبقت رحيله، عبثاً حاول الرئيس التونسي التشبث بالسلطة عبر سلسلة من الاجراءات الجديدة، فأعلن حال الطوارئ في أنحاء البلاد وأقال الحكومة ووعد بإجراء انتخابات نيابية في غضون ستة أشهر بعدما كان وعد في 12/1/2011 بألا يترشح للرئاسة سنة 2014، لكن ذلك لم يوقف موجة التظاهرات والصدامات التي ظلت مصممة على خيارها الوحيد المنادي بإسقاطه وتنحيه عن الحكم، فاستمرت الثورة شهرًا كاملاً برعاية من الجيش التونسي المتعاطف والمؤيد لمطالب شعبه، وأدت إلى سقوط 66 قتيلا على الأقل، لتتوج في 14/1/ 2011 بدفع الطاغية "زين العابدين بن علي" أخيراً الى التخلي عن السلطة والنتحي مرغماً، ومغادرة البلاد فرارًا الى مطار جدة في السعودية، بعدما رفضت دول أروربية حليفة استقباله.
وفي اللحظات الأخيرة التي سبقت مغادرة "بن علي" البلاد، أكد مسؤول في مطار تونس لوكالة "رويترز" أن وحدات من الجيش التونسي طوقت المطار الدولي بالكامل على مشارف العاصمة التونسية. وأوردت الحكومة نقلا عن مصادر مطلعة، أن "زين العابدين بن علي" الرئيس التونسي غادر البلاد إلى جهة غير معلومة وأن رئيس البرلمان تسلم المسؤولية، وأن الجيش تولى زمام الأمور في تونس.
وبالتزامن مع الإعلان عن رحيل "بن علي"، أطل رئيس الحكومة "محمود الغنوشي" ليعلن تسلّمه رئاسة الدولة بصفة مؤقتة مع تعذر قيام الرئيس "زين العابدين بن علي" بمهامه، وإعلان السلطات حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد. فانتشرت قوات الجيش مدعومة بالدبابات في شوارع العاصمة التونسية والمدن لوقف أعمال النهب والتخريب من جانب ما يقول شهود إنها عصابات تابعة للحزب الحاكم "التجمع الدستوري الديموقراطي"، الغاضبين من فرار الرئيس السابق "زين العابدين بن علي"، بهدف زعزعة استقرار البلاد.
لكن عملية انتقال السلطة على هذا الشكل أثارت اعتراضات من تونسيين رأوا أنها غير دستورية، كما رأوا في "الغنوشي" امتدادًا لنظام حكم الطاغية المخلوع، فتابعوا تحركاتهم الاحتجاجية مطالبين باستقالته حتى كان لهم ما أرادوا، فاستقال وتولى منصبه "الباجي قائد السبسي".
وفي غمرة كل ذلك، استرعى الانتباه أن الرئيس الفرنسي رغم تأخره المشين في دعم الثورة التونسية رفض استقبال الرئيس التونسي المخلوع، فيما قالت واشنطن انه يحق "للشعب التونسي اختيار زعمائه"، ودعت الى "إجراء انتخابات حرة ونزيهة قريبًا". وقد جاءت تلك التصريحات في لحظة يتساءل فيها الجميع عن دور الجيش، وعما اذا كان هو الذي رتب هذا المخرج مع دول أجنبية، وخصوصًا فرنسا والولايات المتحدة، وذلك مع بروز بعض المقالات الصحفية التي تفيد أن "قائد أركان جيش البر رشيد عمار هو من يمسك فعلياً بزمام السلطة حاليًا، بينما كان الرجل قبل أسابيع قليلة شخصية غير معروفة إطلاقًا في الشارع التونسي".
الإجابة على التساؤلات المتعلقة بدور الجيش التونسي في إسقاط "بن علي" وإدارة البلاد من بعده لم تنأخر كثيرًا، فقد بدأت تظهر تباعًا وعلى لسان شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة معنية بالشأن التونسي ومطلعة على تفاصيله.
ففي 16/1/2011، كشف "أحمد الخضراوي" وهو ضابط فى الحرس الوطني التونسي، في تصريحات لفضائية "الجزيرة"، أن "الفريق أول رشيد عمار رئيس أركان الجيش التونسي الذي أقاله الرئيس المتنحي زين العابدين بن علي عشيه تخليه عن السلطة ومغادرته إلى خارج البلاد، تلقى تعليمات من السفارة الأميركية بتونس بأخذ زمام الأمور في البلاد وفرض سيطرة الجيش على الوضع إذا خرجت الأمور عن السيطرة".
وأكد "الخضراوي" أنه يستند في ذلك "على وثائق بين يديه"، وقال إنه "يتحمل مسؤولية هذه المعلومات ويجزم بها". كما شدّد على "تمتع الجيش التونسي بسمعة طيبة لدى المواطنين حتى ولو كان على حساب وزارة الداخلية كي يلجأوا إلى حل عسكري في البلاد إن سنحت الأمور أو اضطروا إلى ذلك".
وردًا على سؤال حول ما الذى يمنع "رشيد عمار" إذا كان تلقى هذه التعليمات من أن يسيطر على البلاد بشكل كامل ويعلن الحكم عسكريًا دون اللجوء إلى هذا الغطاء السياسي، قال "الخضراوي":"إن النهضة الشعبية المفاجئة التى اصطدمت بها المؤسسة السياسية والعسكرية في تونس كانت مفاجأة عظمى لبن علي ولأركان حكمه".
وفي 21/1/2011، نقلت صحيفة "لوكانار أونشيني" الفرنسية الساخرة عن وزيرة الخارجية الفرنسية "ميشال آليو ماري" (قبل أن تستقيل أو تتم إقالتها على أثر فضيحة تمضيتها فترة استجمام في منتجع سياحي تونسي خلال أيام الثورة) قولها إن "الأميركيين قرروا الأخذ بزمام الأمور عبر اتصال ضباط أميركيين بنظرائهم التونسيين يحثونهم على ضرورة أن يغادر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي التراب التونسي في أقرب وقت ممكن".
وكشفت الصحيفة الفرنسية بأن "آليو ماري" أطلقت هذا التصريح لتبرير غياب باريس عن الموقف في تونس، وتأخرها في رد الفعل، وتفاجؤها من هروب "زين العابدين بن علي". وفي الاتجاه نفسه توضح الوزيرة الفرنسية: "لم نر أي شيء قادم، أما الأميركيون فقد أخذوا بزمام المبادرة وكانوا مقتنعين بأن حماية النظام التونسي بالقوة يساهم على المدى المتوسط في تقوية الإسلاميين".
وأضافت وزيرة الخارجية الفرنسية، حسب الصحيفة نفسها، أن "العسكريين الأميركيين تحدثوا مع نظرائهم التونسيين حول ضرورة أن يغادر بن علي تونس بسرعة، لكنهم لم يبادروا إلى إخبارنا بهذا الموضوع".
وتذكر صحيفة "لوكانار أونشيني" بـأن "الأميركيين كانوا حذرين من تردي الأوضاع في تونس منذ شهور طويلة"، الأمر الذي جاءت وثائق ويكيليكس أخيرًا لتؤكده. كما تؤكده تقارير سفير الولايات المتحدة الأميركية في تونس، الذي حث واشنطن على الاهتمام أكثر بالجيش التونسي، وهو ما يفسر العلاقات الجيدة التي جمعت بين السفير ووزير الدفاع السابق".
هذا، وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية ذكرت خلال حديثها أمام لجنة العلاقات الخارجية بالـ"جمعية الوطنية الفرنسية" إن "فرنسا رصدت إحباط الشباب التونسي إزاء البطالة رغم ارتفاع مستوى تعليمهم وإزاء سيطرة عائلة الرئيس التونسي السابق زين العابدين على الاقتصاد، إلا أنها لم تتوقع سرعة اندلاع الثورة التونسية بهذا الشكل"، ما يشير الى أن سرعة سقوط "بن علي" لم تفاجئ عامة الناس وحسب، بل فاجأت أيضًا الأوروبيين، وهو ما يعني أنهم لم يكونوا طرفًا في الحدث، وإنما كان الطرف الأميركي العنصر المؤثر والفاعل فيه.
بعد شهر تمامًا على تصريح الوزيرة الفرنسية، أي في 21/2/2011، أعلن السيناتور الأميركي والعضو في "لجنة القوات المسلحة" في مجلس الشيوخ الأميركي "جون ماكين" لوكالة "رويترز"، عقب لقائه مسؤولين في الحكومة التونسية، إن "الثورة في تونس كانت ناجحة للغاية وصارت نموذجًا للمنطقة". وأضاف "ماكين": "نقف على أهبة الاستعداد لتوفير التدريب من أجل مساعدة الجيش التونسي على توفير الأمن".
هكذا، أطاحت الاحتجاجات الشعبية على القمع والفقر في تونس، الرئيس "زين العابدين بن علي" (74 سنة)، الذي لم يجد حيالها سبيلا سوى الفرار من البلاد بعدما حكمها بقبضة من حديد طوال 23 سنة، وكان يُعِدُّ نفسه للبقاء رئيسًا مدى الحياة. وهكذا لعب الجيش التونسي المعروف بضعف إمكانياته والذي لا يتجاوز عدد جنوده 35 ألفًا دورًا حاسمًا في الإطاحة بالديكتاتور التونسي، ولولاه لما نجحت الجماهير في إسقاط طاغيتها أو لطال أمد تشبثه بالحكم وتعثّرت ثورتها، فهذا الجيش الذي لم يطلق أي رصاصة على المتظاهرين استطاع أن يُفشل عمل الأجهزة الأمنية المدججة في قمع الإحتجاجات بالرغم من وجود أكثر من 120 ألف عنصر تعمل في تلك الأجهزة.
فر الرئيس التونسي من البلاد، ليصبح أول رئيس عربي يسقط بانتفاضة شعبية، في حدث غير مسبوق عربيًا أريدَ له كما تبيّن التمدد الى دول المنطقة، حيث تواجه أنظمة الحكم ضغوطًا مشابهة ونقمة متنامية، بسبب الديكتاتورية وقمع الحريات والمصاعب الاقتصادية، ونهب العائلات الحاكمة ثروات البلاد، وسواها من الأسباب.
فما إن صرخ الثوار في تونس: "الشعب يريد إسقاط النظام"، حتى انفجرت حناجر الشباب في دول عربية كثيرة مرددة هذه العبارة الساحرة، التي لم يكن المواطن العربي يجرؤ على الهمس بها في سره، وفي طليعة تلك البلدان التي سرت إليها العدوى التونسية عمود الأمة العربية وقوتها وبعدها الإستراتيجي مصر، ليبدأ فيها تطبيق السيناريو نفسه وبشكل واضح.
في 3/3/2011، أعلن الرئيس التونسي المؤقت "فؤاد المبزّع" في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي دخول البلاد في "مرحلة جديدة أساسها ممارسة الشعب لسيادته كاملة في إطار نظام سياسي جديد يقطع نهائيًا وبلا رجعة الصلة مع النظام البائد"، وأن "المجلس التأسيسي المكلف وضع دستور جديد سينتخب في 24 تموز المقبل". وأكّد "المبزّع" التزامه بمواصلة مهمته كرئيس جمهورية مؤقت بعد أجل 15 آذار 2011 وذلك لحين إجراء الانتخابات. وكشف في كلمته عن خطة مفصلة لما ينتظر البلاد من مواعيد سياسية سوف تقرر مستقبل تونس القريب، وهي خطة وصف غايتها بـ"قصد تحقيق الانتقال الديموقراطي السليم والهادئ".
الى ذلك، كشف "المبزّع" عن اعتماد تنظيم وقتي للسلطات العمومية، متكوّن من رئيس الجمهورية المؤقت وحكومة انتقالية برئاسة "الباجي قائد السبسي"، وهو "تنظيم ينتهي العمل به يوم مباشرة المجلس الوطني التأسيسي مهامه إثر انتخابه انتخابًا شعبيًا حرًا تعدديًا شفافًا ونزيهًا يوم 24 تموز المقبل".
لقد كان ما حصل في تونس بحق أفضل حركات التغيير في المنطقة. وحسنًا فعل شباب الثورة التونسية برفضهم بعد دحر طاغيتهم بقاء أي رمز من رموز نظامه البائد وأعوانه على رأس السلطة وفي مؤسساتها الدستورية، لكن فليحذر "حماة الثورة" من المشروع التفتيتي، ومن "الفوضى الخلاقة"، ومن تسليم دفة الحكم وزمام الأمور الى أناس يسيرون بالأجندة الأميركية الراعية للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، ولا يزال الوقت مبكرًا للحكم على نجاة تونس من هذه الأخطار ولا سيما بعد سلسلة حوادث مقلقة بدأت مع اغتيال كاهن بولوني، واستمرت مع التعرض لغير المحجبات في الشارع، الأمر الذي أعاد الى ذاكرة التونسيين أعمال عنف شهدتها بلادهم بين عامي 1989 و1992 على خلفية صدام بين إسلاميين متشددين والنظام.
تبقى الإشارة الى أن إيران كانت من مؤيدي "الثورة التونسية" ربما لرهانها على اكتساب حرية أكبر في تصدير ثورتها التخريبية الى ذلك البلد بعد سقوط النظام العلماني المتشدد الذي رعاه "بن علي"، مع العلم أن الغالبية الساحقة من الشعب التونسي من أهل السنة والجماعة ومن أتباع المذهب المالكي، ولا تتوافر أرقام رسمية حول عدد الشيعة في تونس. غير أن الدكتور "محمد التيجاني السماوي" و هو أحد رموز التشيع ومن أخطر غلاة الشيعة، يقدر عدد الشيعة في تونس بـ"مئات الآلاف"، و يقول إنهم منتشرون في أغلب محافظات البلاد، و يمارسون شعائرهم و طقوسهم بحرية و دون أن يتعرضوا إلى أي نوع من المضايقات.
وعلى الرغم من الشكوك الكبيرة حول مدى دقة العدد الذي ذكره "التيجاني"، لا يمكن تجاهل المساعي الإيرانية الحثيثة بهدف إيقاع أهل تونس في المشاريع الهدامة لـ"ولاية الفقيه"، ولا سيما مع تأسيس "جمعية آل البيت" الشيعية في تونس (في عهد بن علي)، والتي فتحت خطوط الاتصال بين رموز التشيع في تونس وبين طهران.
وفي هذا السياق، وعلى الرغم من اعتقاده أن إيران وحزبها في لبنان هما من أعداء أميركا وإسرائيل، كشف في 19/9/2008 الأمين العام وزعيم "حركة النهضة التونسية" وعضو "مكتب الإرشاد العالمي لجماعة الإخوان المسلمين" الشيخ "راشد الغنوشي" (الذي عاد إلى تونس على أثر سقوط "بن علي" بعد 20 عامًا من المنفى)، كشف لـ"لقدس برس" عن أن "المد الشيعي في دول المغرب العربي السنية ومنها تونس ظاهرة ملفتة للانتباه ومثيرة للانزعاج في منطقة تمتعت منذ ألف سنة بوحدة مذهبية كفتها شرور النزاعات والفتن". وأكد أن "الظاهرة من شأنها إذا تطورت أن تزرع لمستقبل من النزاع لا ضرورة له". كما أعرب عن شكه "في طبيعة الجهات التي تقف وراءها، هل لها علاقة رسمية أو شبه رسمية بالدولة الإيرانية، لا سيما وأن الطريقة التي تناولت بها وكالة "مهر" شبه الرسمية تصريحات الشيخ القرضاوي مدافعة بحرارة عن هذا المد، تبعث على هذا الظن".
وخلال حديثه، أكد "الغنوشي" أن "الاختراق الشيعي للمناطق السنية الذي تحدث عنه الشيخ القرضاوي أمر واقع مهما كان حجمه"، وأشار تحديدًا إلى دول المغرب العربي ومنها تونس، وقال: "هناك منذ سنوات بدايات لانتشار ظاهرة التشيع في مناطق المغرب العربي ومنها تونس، وكان ذلك في ظل الحماس الذي أبدته الحركة الإسلامية للثورة الإسلامية في إيران، مُزيحة كثيرًا من الحواجز النفسية في وجه التشيع، إذ لم تعرف هذه المناطق منذ ألف سنة شيعيًا واحدًا منذ جلاء الفاطميين عنها، ونحن لم نكن مسرورين بهذه الظاهرة بل كنا منزعجين على الرغم من أنها نسبيًا محدودة، لأنها تزرع لمستقبل من النزاع لا ضرورة له". وأضاف: "المجتمعات كالأفراد تملك حاسة الدفاع عن مقومات وجودها مهما بدت وكأنها ميتة. وما ظهور المد السلفي المتشدد (يتابع "الغنوشي") في بيئات مثل تونس تعرضت لكل ضروب الاختراق بعد التغييب بالقوة للتيار الوسطي الذي كان قد أعاد الاعتبار لمقومات الهوية مقابل دعم كل التيارات الاخرى، إلا رد فعل معادل في القوة ومعاكس في الاتجاه، سيستمر على تشدده حتى يستوي المجتمع على وضع طبيعي".
وأشار "الغنوشي" إلى أنه طرح مسألة الاختراق الشيعي للساحة الإسلامية التونسية في العديد من اللقاءات مع المراجع الشيعية، وقال: "كلما واتتنا فرصة للحديث مع إخواننا الشيعة إلا ونبهنا إلى خطر هذه الظاهرة، وكان الرسميون الإيرانيون ينكرون أن تكون الدولة وراء هذا المشروع، ويؤكدون أنها أعمال تقوم بها بعض المراجع وبالذات مراجع عربية مثل جماعة الشيرازي، ويقولون بأنهم ليسوا أصحاب مصلحة في استبدال ولاء شعوب بكاملها لهم بمجموعات صغيرة مهما كبرت(...).
ويضيف "الغنوشي": "الواقع الذي يؤسف له أن الدعوة للتشيع قد أفادت من الصراعات التي قامت في عدة مناطق سنية بين الدول والحركات الاسلامية. وبدل أن تقف إيران الدولة مع الحركات الاسلامية في محنتها عمدت الى توثيق علاقاتها مع تلك الدول، بما قدم غطاء لدعاة التشيع لاختراق الساحة السنية في كثير من المناطق ومنها مصر وتونس والجزائر"، وتابع: "لا شك أن محنة الحركة الإسلامية في مصر وفي تونس وفي الجزائر استفادت منها جماعات شيعية، وثقت علاقاتها بالدول القائمة، بل توثقت علاقة إيران الدولة مع هذه الأنظمة ومنها النظام التونسي. ومع أننا لسنا دعاة قطيعة بين إيران الدولة وتونس الدولة، ولكننا نرى أن العلاقة انتقلت إلى مستوى من التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي عميق. وفي الوقت الذي تحظر فيه الحركة الإسلامية وتواجه بخطة تجفيف ينابيع واستئصال وتحظر كتابات التيار الاسلامي الوسطي مثل كتابات القرضاوي والغزالي وسيد سابق وأمثالها وحتى الكتابات التراثية، انفتحت معارض الكتاب في تونس في وجه الكتابات الشيعية. وبينما تنطلق المطاردة الشعواء ضد الحركة الاسلامية تقوم في البلاد لأول مرة منذ الف سنة "جمعية آل البيت" وينفسح المجال أمام الدعوة الشيعية وتنفتح خطوط الاتصال بين رموز التشيع في تونس وبين طهران، في الوقت الذي يمنع فيه رئيس حركة النهضة من زيارة طهران".
ويردف "الغنوشي" قائلاً: "كما فشا الحديث في أجواء التواصل المتنامية في أجواء الحرب على الإسلام وعلى التيار الاسلامي عن أعداد متزايدة من الطلبة التونسيين يستقطبون الى جامعات دينية شيعية في إيران، ونحن لا نملك أعدادًا محددة لهم، وهم يحظون برعاية من جهات هنالك. وهي ظاهرة ليس من شأنها -مهما كان حجمها في مناخات الحرب على التيار الاسلامي- إلا أن تبعث حراس مقومات الشخصية الوطنية للبلاد على القلق، إذ لا يرونها ظاهرة طبيعية وإنما تقف وراءها جهات ومراجع، ولا نرى أنها تتماشى مع ما يعلنه الجميع من حرص على الوحدة الإسلامية"، كما قال.
ولفت "الغنوشي" الانتباه إلى أن: "مذهب التشيع يختلف عن المذاهب السنية في قضايا كثيرة معظمها يعود إلى التاريخ، هذا التاريخ الذي أريد له أن يكون حيًا وصانعًا للواقع، وأن تفرض على المسلمين رؤية له إقصائية أسست وتؤسس للتشظي الاسلامي، رؤية تمزق صف الأمة، إذ تقصي من الإسلام أغلب بناته رجالا ونساء وتحولهم إلى خونة، وتجعل لعنهم ولعن من لا يلعنهم عبادة وقربة، فيتحول معظم المقربين الى صاحب الدعوة عليه وآله الصلاة والسلام رجالا ونساء إلى خونة وتصبح هذه عقيدة يتعبد بها ويتقرب بها إلى الله. مقابل الرؤية الجامعة لتاريخ الصدر الأول من الإسلام التي تبنّتها المذاهب السنية، فتترضّى عن كل الاصحاب من أصاب ومن أخطأ اجتهادا".
وحذر "الغنوشي" من أن هنالك توجها شيعيًا يعمل على نشر هذا التصور الذي وصفه بـ "الانقسامي" مستغلا ما أسماه بـ"حالة الانتصار الشيعي في عدد من معارك الأمة" (ربما يقصد الانسحاب التكتيكي الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، ومسرحية حرب تموز2006)! وإذ اعتبر أن "الاستمرار في استحضار الخلاف التاريخي والنفخ فيه جزء من مؤامرة لخدمة أعداء الأمة"، حذر "الغنوشي" من أن "الخشية قائمة من أن يكون رهان أعداء الاسلام على ضرب الإسلام بالإسلام فليتنبه الجميع".(القدس برس).
ما نستطيع قوله الآن، إن علينا متابعة مسار الأحداث في تونس، وخصوصًا موقف الجيش وجماعة "الشيخ الغنوشي" وتحركات جمعية "آل البيت" ومختلف الجماعات التونسية الإسلامية وسواها، فـمستقبل تونس بعد "بن علي" لم يتضح بعد، و"ثورة الياسمين" لا تزال مستمرة…
عبدو شامي
إيلاف، نشر 1/5/2011، وموقع المراقب، وموقع مصرس
الثورة المصرية، موضوع الحلقة الثامنة من هذه السلسلة.
التعليقات (0)