مواضيع اليوم

مجموعة مقالات عبدو شامي لعام 2010

عبدو شامي

2011-01-01 04:21:12

0

مجموعة مقالات عبدو شامي لعام 2010

 

عام الاعتذار من سوريا وترقُّب القرار الاتهامي


2011
http://abdoshami.elaphblog.com

 

الفهرس

1- 2009 عام الانتصار الشعبي والانكسار السياسي
2- الجدار الفولاذي ليس حاجة بل ضرورة
3- الإحباط الشعبي لا يبرِّر الإحجام عن المشاركة
4- لماذا مفتي الجمهورية اللبنانية؟ ولماذا اليوم؟!
5- جنرال الرابية وحوثي اليمن..وحدة مسار لشرِّ مصير!
6- هل يصبح مفتي سورية مفتي لبنان أيضاً؟
7- كفى متاجرة بالشباب اللبناني
8- الهجمة على سليمان... حملة ستر أم حملة تشهير؟!
9- الى الرئيس الحريري لمناسبة عيد البشارة
10- في ذكرى 13 نيسان: كلنا فريق واحد
11- هل تكون الحرب طلقة الحزب الأخيرة للهروب من المحكمة؟!
12- يوم كشف الإرهاب عن وجهه
13- معادلة الثالوث الأخبث
14- الحزب يعلن القرار الإتهامي متهماً نفسه ويخيّر الحريري بين التخلي عن المحكمة والعبث باستقرار لبنان
15- الانفتاح على سوريا لا يعني "السورنة"
16- وكأنه يقول: "أنا قتلت"!
17- العدالة... لكي لا نغتالهم مرّة ثانية
18- اسباب وخلفيات الحملة على القوات
19- تمخّض الجبل فولد فأراً يا سيّد!
20- من وحي المحكمة الدولية
21- خلاصات برج أبي حيدر
22- ضريبة كان يجب تفاديها
23- احقاقاً للعدالة ورفضاً للظلم
24- الفرق بين الحق والزور استقالة
25- شبعنا تضليلاً.. جميل السيّد
26- لقاء عين التينة -2
27- نداء من أجل لبنان
28- من كيسينجر إلى نصر الله
29- أرعبهم قلمه فكسروه
30- 2010 عام الاعتذار وترقّب القرار

# # #

 

1- 2009 عام الانتصار الشعبي والانكسار السياسي

شهد لبنان خلال 2009 حوادث كثيرة، تنوّعت توصيفاتها ما بين استحقاقات تاريخية وحوادث مفصلية وانقلابات سياسية، تمحورت بمعظمها حول الانتخابات النيابية، التي كادت ان تكون حدث العام، مع ما تبعها من ازمة تأليف الحكومة وصياغة بيانها الوزاري، لولا زيارة الرئيس سعد الحريري لسوريا التي احتلت الصدارة لتكون حدث 2009 بلا منازع.
فمع مطلع العام المنصرم حديثاً، بدأ فريق 14 آذار استعداداته لخوض الامتحان الانتخابي المصيري والمفصلي في 7 حزيران، وكان أول الاستحقاقات التي واجهته، الاعداد والتعبئة الجماهيرية لتوفير اوسع مشاركة شعبية في احياء الذكرى الرابعة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، في 14 شباط كما في كل عام. وبالفعل، كان ذلك اليوم الوطني يوما مليونيا آخر، اذ غمرت الجماهير الوفيّة قلب بيروت، لتعلن ثباتها على المبادئ الاستقلالية والسيادية لثورتها، وان التخويف والترهيب لن يثنياها عن متابعة مسيرتها.
الاحد الاول من آذار، كان يوما تاريخيا في المسيرة الاستقلالية، فقد اعلن انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي، بعد 4 سنوات على زلزال 14 شباط 2005. بَيْد ان المفاجأة، او الصدمة الكبرى، وقعت في 29 نيسان، اي في عز التحضيرات للاستحقاق الانتخابي، مع افراج المحكمة الدولية عن الضباط الاربعة المشتبه بتورّطهم في "جريمة العصر"، لتنطلق مع تخليتهم عاصفة كبيرة من التداعيات السياسية والحملات الهجومية التي شنّتها المعارضة على القوى الاستقلالية.
الا ان قوى 14 آذار، استطاعت التغلّب على هذا الحدث الذي خدم بتوقيته الواقع على مشارف الانتخابات قوى 8 آذار، معتبرة ان قرار التخلية جاء ليؤكّد منطق التيار الاستقلالي في عدم تسييس المحكمة، مع العلم ان قرار اخلاء سبيل الضباط ليس صك براءة نهائياً اعطي لهم، لأن ذلك لن يعرف الا بانتهاء المحاكمة واكتمال التحقيقات، وهو ما اكّده القاضي دانيال بلمار يوم تخليتهم، اذ لفت الى امكان استدعائهم في حال ظهور ادلة تستدعي اتهامهم في وقت لاحق.
وفي 7 حزيران 2009، خضع جمهور "ثورة الارز" للامتحان المصيري، الذي لم تُقدِم المعارضة على تعطيله كما توقّع بعض المحلّلين، لأنها، على ما بدا كانت واثقة فعلاً من فوزها فيه، غير ان "ثوار الأرز" نجحوا في امتحانهم نجاحاً تاريخيا باهراً، أثمر فوزاً كاسحاً لقوى 14 آذار، حيث نالت 71 مقعداً مقابل 57 للمعارضة، مجدّدة بذلك أكثريتها النيابية، ومنتصرة لمنطق الدولة على الدويلة، وللحرية والسيادة على التبعية والإرتهان.
وبناء على تلك النتيجة المشرّفة، ظن بعض الجمهور الاستقلالي المتفائل، انه بإنجازه العظيم هذا، تكون القوى الإستقلالية قد طوَت تسوية الدوحة الظالمة وثلثها القاتل المدمّر لمدّة اربع سنوات مستقبلية على الاقل، فيما بالغ آخرون باعتبارهم ان هذا الفوز جاء بمثابة اعلان فشل وانهيار المشروع الايراني في لبنان والعالم العربي!
غير ان مجريات الاحداث بعد الانتخابات ما لبثت ان اثبتت عكس ما ظنه المتفائلون وما شطح اليه المبالغون، مع صدمة الانقلاب الجنبلاطي على القوى الاستقلالية في الثاني من آب، وبروز معادلة خطيرة بسبب الوضع الشاذ الذي تواجهه البلاد للمرة الاولى في تاريخها، وهو قيام تحالف مذهبي مسلّح واحادي القرار، يضع الاكثرية والمذاهب الاخرى بين خيارين: اما عودة التوترات الامنية، وتعطيل عمل المؤسسات مع إحداث فراغ فيها، اذا اصرّت القوى الاستقلالية على تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، وإما ان تسلّم الاكثرية بما تريده الاقلية المسلحة في هذا التحالف، اذا كانت تهمها "مصلحة الوطن" وحمايته من السقوط في الفوضى وفي المجهول...
وبناء على هذه المعادلة، تمادت القوى التعطيلية في فرض شروطها على قوى الاستقلال، لانها تعلم ان الخطر عندما يصل الى حد تهديد الكيان والهوية والنظام والسلم الاهلي...فإن الاكثرية سوف تتراجع عن مواقفها وتتنازل، والدليل على ذلك ما حصل منذ العام 2005 الى اليوم.
ففي 9 تشرين الثاني، وبعد اكثر من 4 اشهر من المفاوضات، خضعت الاكثرية لتلك المعادلة الخطيرة مجددا، التي نجحت قوى الامر الواقع بواسطتها في فرض اعادة إنتاج اتفاق الدوحة معدلاً، والتمديد لمفاعيله، بعد وضع مسحة من "الماكياج" التمويهي عليه، بفرض حكومة تحتوي على ثلث قاتل مضمر، اضافة الى بيان وزاري شرّع سلاح ما يسمى "المقاومة"، مكرّسة اعرافا جديدة تتعارض ودستور الطائف، ومؤكدة بصوت صارخ ابتداء زمن "الشيعية السياسية" الذي افتُتِح رسميا باتفاق الدوحة في 21 ايار 2008.
ومن اجل الالتفاف على قضية السلاح خارج اطار الدولة، كان لافتا عند بروز موقف مسيحيي 14آذار السيادي المعترض على البند السادس من البيان الوزاري الذي يعطي شرعية واستقلالية لسلاح ما يسمى "مقاومة"، اقدام "حزب ولاية الفقيه" على طرح موضوع ضرورة تشكيل "الهيئة الوطنية العليا لالغاء الطائفية السياسية"، واضعا في الواجهة رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومحاكيا بذلك التكتيكات التي كان يلجأ إليها السوريون كلّما ارتفع صوت مطالباً بانسحاب الجيش السوري من لبنان، اذ كانوا يطرحون مقايضة إلغاء الطائفية السياسية في مقابل المطالبة باستعادة سيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر.
ولا يخفى ما ينطوي عليه مطلب الغاء الطائفية السياسية من ابتزاز سياسي، خصوصا ان المسيحيين اصبحوا أقليات، لا سيّما ان الهدف من ذلك المطلب بالتوقيت والظروف التي يطرح فيها ليس وقف التعداد الطائفي، وانما الهدف منه اقصاء الطوائف الأقل عددا عن الساحة السياسية، مما يؤكّد الخشية من ان يكون الغاء الطائفية السياسية، مدخلا لمزيد من الطائفية، اي استئثار الطائفة الشيعية بحكم البلاد.
وقد خلّف هذا الواقع وموضوع السلاح غير الشرعي تحديدا، انقساما حادا داخل فريق 14آذار؛ ففي حين اعترض مسيحيو هذا الفريق على البند الذي يعطي الشرعية والاستقلالية لذلك السلاح في البيان الوزاري، ايّد مسلمو الفريق الاستقلالي ما ورد في هذا البند الخطير من دون تحفّظ، فعاد بنا هذا المشهد المخزي والانقسام الاليم، الى الاصطفافات السياسية زمن الوصاية السورية، حين اسّس المسيحيون الاستقلاليون العام 2001، "لقاء قرنة شهوان"، الذي طالب بتحقيق السيادة وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، في مواجهة من كانوا يعتبرون وجود القوات السورية في لبنان " شرعياً وضرورياً وموقّتاً".
كما اعاد الى الذاكرة موضوع شرعنة سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى "المقاومة"، الاتفاق الذي تم بين سلاح المنظمات الفلسطينية في لبنان والدولة اللبنانية، وعُرِف بـ"اتفاق القاهرة"، وكيف ان التنظيمات الفلسطينية لم تحترم أحكام الاتفاق، فاعتدت على سلطة الدولة وسيادتها، مما استتبع اشعال حرب لبنانية-فلسطينية دامت سنتين، ثم ولّدت حروباً دامت 15 سنة وصفت بحروب الآخرين على ارض لبنان، ولم تتوقف الا بعد دخول القوات السورية اليه واقرار اتفاق الطائف.
يوم السبت في 19/12/2009، من دون دعوة رسمية ولا جدول اعمال صادر عن مجلس الوزراء، وصل الى مطار دمشق الدولي على متن طائرته الخاصة، رئيس وزراء لبنان سعد رفيق الحريري، في زيارة فرض عليه منصبه القيام بها قبل جلاء نتائج التحقيقات في قضايا الاغتيالات، وعُدّت بمثابة مصالحة تاريخية بين الحريري الابن والقيادة السورية، التي اتهمها الحريري يوما باغتيال والده.
وعلى رغم اعتبار تلك الزيارة المفصلية بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، الا ان الطريقة التي تمّت بها وحصولها بعد انتصار كبير(وربما نهائي) لحلفاء المحور السوري-الايراني في لبنان، تمثّل بتشكيل حكومة شرّعت سلاحهم ومنحتهم الثلث القاتل، يجعلنا نتساءل: هل ستكون المرحلة المقبلة من العلاقات اللبنانية - السورية، مرحلة تصحيح شوائب الماضي، ام عودة النفوذ السوري الى لبنان؟ الجواب متروك لسنة 2010.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 7/1/2010

2- الجدار الفولاذي ليس حاجة بل ضرورة


شهد الوسط العربي والاسلامي في الاسبوع الماضي، حرب فتاوى لم تخلُ من التسييس، على خلفية شروع الجمهورية المصرية في بناء جدار فولاذي في عمق الارض على طول حدودها مع قطاع غزة، لحماية حدودها من الانفاق التي تخترقها. وحول مشروعية بناء "الجدار الفولاذي"، انقسمت آراء المفتين على النحو التالي:
1- فريق من العلماء يتقدمهم الشيخ يوسف القرضاوي، ذهب الى ان قيام مصر ببناء الجدار الفولاذي على حدود غزة "محرم شرعا"؛ ووصل الامر ببعض المحرِّمين الى حد وصف عملية بناء الجدار بأنها "الكفر بعينه" لثلاثة اسباب رئيسية، اوّلها: أنه "يحمي أمن العدوالصهيوني"، وثانيها: ان هذا الجدار يكرّس الاستعمار والخطوط الوهمية التي وضعها"، وثالث هذه الاسباب: "أن هذا الصنيع حصار للمستضعفين والمجاهدين مما يؤدي إلي قتلهم صبراً بسبب دينهم وجهادهم، مما يجعل الدفاع عنهم فريضة مفروضة منكرها كافر".
2- وذهب فريق ثان من العلماء، يتزعمه شيخ الجامع الازهر محمد سيد طنطاوي، الى مشروعية بناء "الجدار الفولاذي"، معتبرين ان فتوى "المحرِّمين" هي "فتوى خاطئة"، غاب عنها العدل والموضوعية والتوازن؛ بل ذهب بعض المجوّزين الى اعتبار بناء ذلك الجدار "واجب شرعا لمنع الفتن"، و"لوضع الأمور فى نصابها تنظيما للدخول والخروج الى مصر والقطاع"، مؤكِّدين أن "هذا الجدار مانع للمخطط الإسرائيلي باستخدام الفلسطينيين كرأس حربة بعد فشلهم فى استرداد أرضهم، بهدف اجبارهم على النزوح إلى سيناء وترك أرضهم".
وعلى الفور انتقدت حركة حماس و"الاخوان المسلمون"، و"حزب ولاية الفقيه" في لبنان، ومعظم المنظمات الواقعة في القبضة الايرانية والمتأثرة بجوّها الاعلامي والدعائي، الفتوى التي أصدرها مجمع الأزهر في القاهرة بـ "تحليل" الجدار الفولاذي الذي تقيمه مصر، معتبرين ان "لأحرى بمؤسسات الأزهر تجريم الحصار، وتحريم إغلاق المعابر".
وقبل ان نبدي رأينا في الموضوع، لابد من الاشارة اولا الى ثلاثة امور يجدر بنا معرفتها:
الامر الاول: ان "حرب الفتاوى" لا تفيد القضية الفلسطينية ولا تفيد الشعب الفلسطيني ولا المصري، والمنتظر من العلماء الاجلاء هو أن يكون دورهم الأساس جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، والسعي لإصلاح ذات البين بين أبناء الشعب الفلسطيني، من أجل انقاذه من التدخلات الخارجية، وقطع الطريق على أولئك الذين يزرعون الخلاف والشقاق ويثيرون القلاقل والفتن بين أبناء الأمة العربية والاسلامية، وإعادة أهل غزة إلى أحضان أمتهم وبخاصة مصر التي هي الحضن الأكبر لغزة.
الامر الثاني، هو: ان من يقتل الفلسطينيين صبرا، قبل العدو الصهيوني وقبل اي شيء آخر، هو انقسامهم وتقاتلهم الداخلي، الذي عبّر عن نفسه بأبشع صورة حين عاث الاخوة الاعداء فسادا في غزة، مع انقلاب حماس الدموي في حزيران 2007، وما رافقه من قتل متبادل، وإلقاء "للفتحاويين" من الشرفات، وإنزال "الحمساويين"العلم الفلسطيني ورفع علم حركتهم مكانه، ما اسفر عن سقوط 116 قتيلا على الاقل و550 جريحا خلال اسبوع واحد!!
ولعل الخطأ الذي وقع فيه الطرفان المتنازعان على السلطة، هو ان كل واحد منهما استقوى بأطراف خارجية على خصمه في الداخل، مع العلم ان هذه الاطراف الخارجية مهما اظهرت زورا ورياء انها في حالة خصام وعداء، الا انها في حقيقة الامر وجهان لعملة واحدة. ويقع اللوم هنا على حركة حماس قبل حركة فتح، كون الاولى بوعيها الديني(المفترض) قبل السياسي، ينبغي ان تكون مدركة ان القضية الفلسطينية من نوع خاص، بحيث يعتبر الخلاف حولها والوصول الى الاقتتال محرما دينيا وسياسيا، لانه ينهي القضية الفلسطينية، ويشتت قوى الشعب الفليسطيني في حروب داخلية بدل ان اتكون اطرافه موحدة في مواجهة قوى الاحتلال.
اما الامر الثالث، فهو: ان غزة الفلسطينية الواقعة على تماس مع الحدود المصرية، تقع منذ حزيران العام 2007 تحت سيطرة حركة حماس التي وقعت بدورها في قبضة المحور السوري-الايراني منذ استشهاد قادتها المهادنين لمنظمة فتح، والممانعين لأن تصبح حركتهم الجهادية تابعة لأي نظام حاكم في دول المنطقة، وكان آخر هؤلاء القادة "الاستقلايين" اذا جاز التعبير: الشيخ احمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، اللذين تمّت تصفيتهما على يد العدو الاسرائيلي عام 2004، لتنتقل الزعامة من بعدهما الى خالد مشعل وتقع حركة حماس في قبضة النظامين السوري والايراني، اللذين استخدماها لشق الصف العربي والاسلامي، وشجعاها بعد مدها بالمال والسلاح على الاستقواء على فتح والاستقلال بقطاع غزة. والامر نفسه اعتمدته اميركا واسرائيل مع حركة فتح، لينتهي الامر بشعب منقسم على ذاته ومشتت فوق شتاته، قسم منعزل في غزة وآخر في الضفة الغربية، والعدو الصهيوني يتفرّج فَرِحا مرتاحا، ويتدخل باعتداءات ارهابية هنا وهناك، وايران تزايد تقيّة، وتغذي الانقسام وتزيد الوضع تشرذما.
وبالعودة الى صميم موضوعنا نقول: ان الأصل في الافتاء ومثله القضاء، هو الاطلاع على كافة الجوانب للموضوع المراد بحثه، تحقيقا للعدالة والموضوعية والاصابة في الحكم على الامور، فضلا عن الضوابط الشرعية والقانونية التي يعرفها المختصون. ومن هذا المنطلق، فإننا نميل الى تأييد فتوى او وجهة نظر القائلين بجواز بناء الجدار الفولاذي بل والقائلين بالوجوب ايضا، للتعليلات التي ذكروها والتي نزيد عليها الاسباب التالية:
اولا: ان ضبط الحدود بين البلدان (بغض النظر عن واضعيها) ضرورة لابد منها لأي دولة تريد الحفاظ على امنها وامن شعبها، لذلك كان تحديد المعابر الحدودية وضبطها لناحية معرفة احوال وهويات الوافدين اليها والمغادرين منها وما يتم ادخاله واخراجه من والى البلد المقصود، من اولى أولويات البلدان الحريصة على امن وسلامة واستقرار مجتمعاتها. ذلك ان تحديد المعابر الحدودية مطلوب وضروري من الناحية الامنية قبل السياسية، حتى بين ولايات الدولة الواحدة الشاسعة على فرض عدم تقسيمها استعماريا، اذ يفترض ان يكون لكل ولاية جهازها الامني والاستخباراتي الذي يراقب نظامها ويحفظ امنها بالتنسيق مع اجهزة الولايات الأخرة، ومن شأن حصول اية فوضى في ضبط حركة الدخول والخروج ان يعرّض امن الولاية والبلاد بكاملها للخطر من قِبَل المتربّصين بها شرا.
ثانيا: ان الحدود المصرية مع قطاع غزة ليست حدودا عادية تدعو المصريين الى الاطمئنان، بل حدود تتقاسم السيطرة عليها اربع جهات هي: اسرائيل و"حماس" وسوريا، وايران صاحبة الاطماع التوسعية والطامحة لتصدير ثورتها وفكرها السياسي والعقائدي الى دول المنطقة، ولذلك فهي تتدخل في الشؤون العربية وتفسد الأمور وتشعل الفتن بين أبناء الوطن العربي والإسلامي تحت شعارات مذهبية مفرطة في التعصب والانغلاق، وتتسبب في مذابح وحشية لا يقرها شرع ولا دين، كما رأينا ذلك في العراق وفي افغانستان وباكستان وفي اليمن والسودان وفلسطين ولبنان... ومن حق مصر ان تتوجّس من تلك الحدود بعدما استباح "حزب ولاية الفقيه" الاراضي المصرية وافتتح له فرعاً فيها، يعمل على رصد وشراء شقق سكنية بالقاهرة، وتهريب أسلحة ومتفجرات، وتجنيد واستقطاب عناصر تأتمر به، بغرض تنفيذ مخطط تخريبي يمس الأمن القومي المصري، تحت ذريعة: "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة"، بحسب تعبير امين عام "حزب ولاية الفقيه" الذي اعترف في 10نيسان 2009، بمسؤولية حزبه عن الخلية الموقوفة على الاراضي المصرية، والتي ثبت استخدامها تلك الانفاق لتهريب اسلحة وعناصر من والى قطاع غزة.
وكذلك يحق لمصر ان تأخذ احتياطاتها، بعد مشاهدتها الحرب المشتعلة منذ اربعة اشهرعلى الحدود السعودية اليمنية، والتي تدور رحاها بين جيشي البلدين من جهة والحوثيين المدعومين من ايران من جهة ثانية، كما يحق لها التخوّف من تكرار المشهد نفسه على حدودها مع غزة، ان لم يكن مع حماس فمع اي تنظيم ارهابي قد ينشأ فيها على شاكلة الحوثيين في اليمن.
ثالثا: التأثير السوري والايراني على حركة حماس واضح بما فيه الكفاية؛ فالاوّل، قدّم لها المأوى السياسي لتفتح مكاتبها على اراضيه، مع العلم ان "حماس" من تنظيم الاخوان المسلمين المحظور في سوريا التي ينص قانونها على انزال عقوبة الاعدام بمن يثبت انتماؤه لتلك الجماعة. اما الثاني، اي النظام الايراني، فقد قدّم لـ"حماس" التدريب والمال والسلاح بنسب مدروسة جدا لاسباب معروفة لديه، ومعلوم ان من يقدّم المال والمأوى هو من يأمر وينهى.
وبالمناسبة، فإن الدور الذي يلعبه الايرانيون في فلسطين، يتلاقى مع مصلحة العدو الصهيوني الذي يريد الابقاء والمحافظة على الانقسام داخل البيت الفسطيني بين حركتي فتح وحماس من اجل اغتيال القضية الفلسطينية من اساسها، وتحويل الصراع من عربي-اسرائيلي الى عربي-عربي او فلسطيني-فلسطيني. واليوم، كما في كل مرّة، بعد أن اتفق الفريقان "فتح" و"حماس" على توقيع وثيقة الصلح بجهود مصرية مضنية، تدخلت إيران وأفسدت الأمر ودفعت "حماس" لعدم التوقيع على هذا الاتفاق.
ولعل اخطر فصول التدخل الايراني، كان في حرب غزة الاخيرة التي وقعت بسبب رفض حركة حماس تجديد اتفاق الهدنة مع اسرائيل، فاستأنفت اطلاق صواريخها بتوريط واضح من النظام الايراني، الذي لجأ اثناء تفرّجة على محرقة غزة التي دامت 22 يوما الى احط الوسائل واقذرها في حربه ضد العرب والمسلمين ، فاستغل دماء اهل غزة ومأساتهم وجراحهم وشهدائهم واطفالهم لزرع الكراهية وبين ابناء فلسطين وبين ابناء الامة العربية والاسلامية، و لم يكتف فقط بالخطابات الدعائية والتحريضية اثناء تلك المجزرة، بل اصدر مرشده الاعلى علي خامنئي في 28/12/2008، فتوى تمنع الايرانيين من التوجه الى غزة لمساندة الفلسطينيين والقتال الى جانبهم هناك!!
وان ما رافق تلك المحرقة من حملة خاضتها ايران مباشرة وبواسطة حزبها في لبنان،على النظام المصري سواء لناحية مطالبته بتشريع حدوده امام اهل غزة او لناحية تحريض قواه المسلحة على الانقلاب على نظامها، كشف لمصر وجود مخطط اسرائيلي للقضاء على القضية الفلسطينية من خلال تحريك الاوضاع في القطاع بغرض اعادة تسليمه الى مصر، وفي الوقت عينه الصاق الضفة الغربية بالأردن، وذلك بهدف تنصّل اسرائيل من مسؤوليتها كقوّة احتلال ومن حل الدولتين الذي تدعمه اميركا وترفضه اسرائيل، برميها الكرة الغزاوية في الملعب المصري، وهو مخطط طرحته اسرائيل منذ خمسين سنة ورفضته مصر، وقد تقاطع في اهدافه ووسائله مع الحملة على مصر التي تجد في تحصين حدودها وسيلة لافشاله.
تبقى الاشارة، الى ان بناء الجدار الفولاذي، وان كان حقا مشروعا لمصر للاسباب الآنف ذكرها، الا انه يجب ان يترافق مع تنظيم عمل المعابر الحدودية القانونية، بما يخفّف على الشعب الفلسطيني المحاصر معاناته في غزة، الذي يجب عدم تحميله تبعات قرارات وخيارات حركة حماس الخاطئة، بحيث يتم فتح المعابر القانونية على فترات لتلبية الاحتياجات الانسانية والاستشفائية والغذائية لسكان القطاع، دون تكريس الشقاق والانقسام بين الضفة الغربية وغزة.
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر 17/1/2010

3- الاحباط الشعبي لا يبرر الاحجام عن المشاركة

ان ثورة الارز وجمهور 14آذار، على موعد في 14 شباط القادم مع استحقاق حساس جدا ودقيق في مسيرة الحرية والسيادة والاستقلال.
ولعل اهمية الذكرى الخامسة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه هذا العام، انما تكمن في القرار الصائب والجريء الذي اتخذته قوى 14آذار، والذي استقر على احياء الذكرى بحشد جماهيري في ساحة الحرية كما درجت العادة في السنوات الاربع الماضية، مستبعدة ما تقدّم به البعض من اقتراح إحيائها باحتفال مركزي، الامر الذي جعل القوى الاستقلالية امام امتحان ذاتي واختبار شعبي يتوقف النجاح او الرسوب فيه على حجم المشاركة الشعبية التي ستتمكّن تلك القوى من حشدها، لنكون بذلك امام احتمالين:
1- فاما ان يجدد الجمهور السيادي ثقته وتأييده لقواه السياسية الاستقلالية عبر المشاركة الكثيفة التي اعتادها في السنوات الماضية، فتتكلل تلك الذكرى الوطنية بالنجاح المأمول، وتتابع تلك القوى مسيرتها بمعنويات عالية للحفاظ على ما تبقى من وجه لبنان ودستوره ونظامه.
2- واما ان يختار قسم لا بأس به من الجمهور الاستقلالي التعبير عن استيائه من اداء قادته عبر الاحجام عن المشاركة في الاجتماع السنوي، فتكون عندئذ الخسارة مزدوجة والانتكاسة مضاعفة، اذ سينضم الى انتكاسة تقهقر اداء قوى14آذار السياسي وسوء ادارة مسيرتها الاستقلالية، انتكاسة تقلّص حجم قاعدتها الشعبية الواسعة، ما لا يعني بداية نهاية تلك القوى وحسب، بل انهيار مشروع الدولة بشكل عام.
وبداهة، يمكن ملاحظة عقبتين اساسيتين من شأنهما ان تحولا دون نجاح قوى 14آذار في امتحانها المرتقب:
فالعقبة الاولى: هي الانعطافة الجنبلاطية التي صدم بها الجمهور الاستقلالي الدرزي قبل سواه في الثاني من آب2009، يوم اعلن النائب وليد جنبلاط انسحابه من قوى 14آذار معتبرا ان وظيفتها السياسية "قد انتهت"، ما شكّل ضربة قوية لفريق الرابع عشر من آذار، الذي يخشى ان يكون انسحاب الزعيم الدرزي واعادة تموضعه على مقربة من فريق8آذار، قد جرّده من قسم لا يستهان به من شعبيته في الوسط الدرزي، لاسيما بعد انتخابات الجامعة اللبنانية الاميركية (حرم بيروت)، التي جرت في10/12/2009، يوم حقق الطلاب الاشتراكيون فوز لائحة المعارضة على لائحة قوى 14آذار12- صفر!
اما العقبة الثانية: فتكمن في حالة الاحباط الشديد الذي اصاب قسما كبيرا من جمهور ثورة الارز وخصوصا اللاحزبيين منه، الذين شعروا بالمرارة والانزعاج الشديدين مع رؤيتهم انتصارهم التاريخي في 7حزيران يتبخر ويضيع، بسبب الطريقة الانهزامية التي خاضت بها قياداته استحقاق تأليف حكومة ما بعد الانتخابات، ما جعل الجمهور المحبط يتساءل: "ما الجدوى من مشاركتنا في 14شباط هذا العام بعدما سلسلة التنازلات المخزية التي افقدتنا ثمرة انتصارنا؟! وعلى اي مبادئ سيتحدث القادة؟! أعن الثلث المدمر الذي اعطوه؟! ام عن السلاح الميليشيوي الذي شرّعوه؟! ام عن تغيُّر لهجة بعضهم تجاه النظام السوري؟! ام عن خلافاتهم غير المبرّرة، والانقسام المعيب حول السلاح الميليشيوي في البيان الوزاري؟!".
وفي محاولة منا لتذليل هاتين العقبتين نقول ردا على اولهما: ان الزعيم الدرزي المنقلب على نفسه وعلى ناخبيه الذين منحوه اصواتهم في الانتخابات الاخيرة لحَمْله مبادئ 14آذار لا سواها، بانسحابه من صفوف قوى الاستقلال الثاني لم يستطع سحب الطائفة الدرزية بكاملها معه، فثمة قسم كبير منها ظل متمسكا بثوابت "ثورة الارز"، رافضا نسف سنوات نضاله المشرّف بتسليم عقله وقراره لزعيمه لكي يحرّكه كالعميان، ساعة مع العروبة وساعة مع ايران.
اما بالنسبة للمحبطين والمترددين في النزول الى ساحة الحرية في 14 شباط القادم، فنقول لهم: نحن نتفهّم ترددكم ونستوعب احباطكم الناتج عن خطأ القوى الاستقلالية برفعها السقف عاليا لطموحاتها وطروحاتها وتعهّداتها اثناء حملتها الانتخابية، في حين كان يجدر بها مصارحة جمهورها الاستقلالي بأمور خطيرة لا ينبغي اخفاؤها، وفي مقدمتها اعلامه مسبقا ان فوز القوى الاستقلالية في الانتخابات على اهميته البالغة، لن يؤدي بلبنان الى "العبور الى الدولة" على نحو الشعار الذي خاضت على اساسه الانتخابات، بل كل ما في الامر واقصى ما يمكن تحصيله، هو ان ذلك الفوز سوف يؤخّر بعض الشيء مشروع "العبور الى الدويلة" الذي بات الغاؤه شبه مستحيل، بسبب الاشواط الكبيرة التي قطعها منذ زمن بعيد والدعم الاقليمي الذي يتلقاه. ولعل ابقاء القديم على قدمه في الحكومة الجديدة وكيفية تأليفها، وبيانها الوزراي الذي كرّس اتفاق الدوحة، خير دليل على ذلك.
لكن، هذه الاخفاقات المتتالية والصدمات المتلاحقة، لا تبرر لكم التقاعس عن تلبية دعوة قواكم الاستقلالية لاحياء ذكرى 14 شباط، لان احجامكم هذا سيجعل من تلك الذكرى تؤتي نتائج عكسية على القوى السياسية التي تحمل مشروع 14آذار وعلى الوطن بكامله، وبدل ان يكون موعدا لتجديد العهد والقسم والثقة بالقوى الاستقلالية والثبات على المبادئ، سيكون موعدا لاعلان انتهاء هذه القوى بعد فقدانها القسم الاكبر من ثقة جمهورها الذي لم يلب طلبها عندما احتاجت اليه؛ وبالتأكيد سيكون المستفيد الاكبر من هذا الواقع المرير قوى الامر الواقع المسلحة، التي ستستفرد اكثر بقواكم السياسية، وستتمادى في محاولات تغيير النظام واحكام القبضة على لبنان بهمة مضاعفة ومعنويات عالية، وستدّعي صحّة ما تشيعه بعض اوساطها السياسية منذ مدّة من ان 14آذار قد انتهت شعبيا وسياسيا.
عليكم ان لاتربطوا مشاركتم بأداء قادتكم السياسي، فجميع المسيرات الاستقلالية خاضعة ومعرّضة للاخفاق في مواضع والنجاح في مواضع اخرى. ويجب ان لا يغيب عن اذهانكم ان الذكرى هي في المقام الاول تحية وفاء واكبار للتضحيات التي قدمها شهداء الاستقلال الثاني الذين قدموا اعز ما يملكون ايمانا منهم بمبادئ ثورتكم؛ نعم ثورتكم انتم، انتم من صنع 14آذار وسبق قادته في ميادين الشرف. اياكم والشك بأنفسكم وبالانجاز التاريخي الذي حققتموه في 14آذار 2005وحافظتم عليه طوال السنوات الماضية بتضامنكم وتوحدكم مسلمين ومسيحيين في الاستحقاقات المصيرية، لذلك فإحجامكم عن تلبية النداء في 14شباط لن يكون عقابا لقادتكم على ادائهم السياسي المتقهقر، بل عقابا لانفسكم وتفريطا بما تحقق من انجازات وتعطيلا لاستكمال المسيرة واعادة تصحيح مسارها.
وتذكروا دائما انكم الضمانة الاولى لاستمرارية ثورة الارز، فمهما عصفت الانقلابات والتخبطات في الجسم السياسي لقوى 14آذار، لا خوف على تفكّكها على الصعيد الشعبي، فلانتفاضة الاستقلال حماتها وحراسها الحقيقيون، وهؤلاء هم شعب 14 آذار: جمهور نوعيّ طليعيّ، ليس مجرد اعداد وارقام وجحافل سيارة تحرّك بالريمونت كونترول عن بعد وتسيّر بالتكليف الشرعي، وهو نفسه الجمهور الذي ملأ الساحات منذ 14 آذار 2005، وهو يعيد الكرّة كلّ سنة في 14 شباط وسيعيدها بإذن الله هذا العام، جمهور نخبوي آمن ويستمر في التمسّك بلبنان.
عبدو شامي
نهار الشباب وموقع القوات اللبنانية، نشر 4و8/2/2010

4- لماذا مفتي الجمهورية اللبنانية؟ ولماذا اليوم؟!

في لبنان، كما في غيره من البلدان العربية وبعض الدول الغربية، ثمة قسم لا يستهان به من افراد الطبقة الحاكمة واصحاب المناصب الرفيعة، متورط بملفات فساد او اجرام او اعمال مخالفة للقانون، الا ان هذه الملفات تبقى طي الكتمان غارقة في مجاهل التعتيم وغياهب النسيان، لا يتم فتحها واثارتها اعلاميا وقضائيا الا عندما يراد التخلّص من صاحبها او احراجه لاخراجه، اوابتزازه لارغامه على السير في مشروع ما برفقة سواه من الفاسدين.
وفي بلدنا لبنان، وتحت حجة "مكافحة الفساد"، تعرّضت احدى المحطات الاعلامية التلفزيونية المعروفة بانتمائها للمعارضة التي يقودها "حزب ولاية الفقيه"، لدار الفتوى التي تمثل المرجعية الدينية العليا الاولى والاخيرة للطائفة السنية في الجمهورية اللبنانية، وذلك عبر تأمين منبر اعلامي لشخصيات مشبوهة تنتمي للطائفة المذكورة، عملت على اثارة ملفات واظهار وثائق تدل على وجود هدر للاموال في دار الفتوى والاوقاف الاسلامية، وتدين مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني صراحة بالفساد المالي والاخلال بالامانة في ادارة شؤون طائفته، وتطالبه بالاستقالة، مغلفة اتهاماتها بمظاهرالغيرة والحرص على مصلحة طائفتها ومرجعيتها الدينية.
ولسنا هنا في وارد تبرئة مفتي الجمهورية من التهم المساقة اليه او ادانته، فذلك متروك للتحقيق والتدقيق المالي الذي اعلن عنه المجلس الشرعي الاعلى، الا ان المراد بهذا المقال محاولة تحليل واكتشاف سبب اثارة هذا الملف في هذا التوقيت بالذات، ولماذا وقع الاختيار على شخص المفتي قباني دون غيره من الشخصيات او المرجعيات الدينية؟!
بداية، يخطئ من يظن ان بإمكانه الوقوف على حيثيات هذا الموضوع والوصول الى التحليل الصائب لمختلف جوانبه دون ان يأخذ في عين الاعتبار المتغيرات السياسية التي عصفت بلبنان منذ اغتيال الزعيم السني والوطني والعالمي القوي الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وصولا الى تاريخ اثارة ملف دار الفتوى منذ شهرين تقريبا واعادة تحريكه اعلاميا بشكل مشبوه في الاسبوع الاول من شهر شباط الحالي... لأن تلك المتغيرات ودور مفتي الجمهورية في التعامل معها، هما بداية الخيط الذي سيدلنا ويوصلنا الى معرفة سبب اختيار الشخص وتوقيت اثارة ملفاته بغض النظر عن صحة ما اتهم به او بطلانه. ولنبدأ باستعراض اهم تلك المحطات المفصلية في تاريخ لبنان الحديث، وكيف واكبتها مرجعية المسلمين في لبنان:
1- ففي اليوم نفسه لعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انعقد اجتماع في دار الفتوى، وأعلن المفتي قباني: "أن المسلمين السنة في لبنان يشعرون أن قتل الرئيس الحريري يستهدفهم في وجودهم ودورهم وكرامتهم، وهم لن يكتفوا بالاستنكار، ولن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا ومعاقبتهم، وهم يعلنون أنهم قد نالهم من الضَيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يُحتمل". وكان هذا البيان بمثابة اعلان تحرّر المرجعية السنية من املاءات وضغوطات سلطة الوصاية السورية، وبداية التلاقي الاسلامي المسيحي العلني "المحرّم سورياً" على اهداف مشتركة، تلخصّت بشعارات "لبنان اولا"، والحقيقة والحرية والوحدة الوطنية.
2- تشكلت لجنة التحقيق الدولية، واندحر الاحتلال السوري عن لبنان، وجرت الانتخابات النيابية ربيع 2005، فاكتسحتها قوى 14آذار وبدأ "حزب ولاية الفقيه" يشعر بالانكفاء والعجز عن ملء الفراغ السياسي الذي احدثة انسحاب الجيش السوري، فقد كان الحزب الايراني يأمل -كما كان مفترضا- ان تنتقل الوصاية اليه، فبدأ محاولته الانقلابية لاستعادة السلطة بافتعال "حرب تموز2006"، التي كانت اشبه بمسرحية اداها ابطالها بمهارة، ليقدّم بعد انجلاء غبارها واسدال ستارها الوزراء الشيعة استقالتهم من الحكومة، ويتهم امين عام "حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة صراحة في 7/12/2006 بلعب دور التواطؤ والعمالة والخيانة ضد حزبه في حرب تموز، وأنها هي التي أوعزت لأميركا وإسرائيل بشنها على لبنان، وأعلن أن "المعارضة لن تخرج من الشارع قبل تحقيق الهدف الذي ينقذ لبنان"، وأن "أبواب التفاوض لا تزال مفتوحة لتشكيل حكومة وحدة وطنية"، ونبَّه أنه إذا أصرَّ الفريق الحاكم على رفضه "فإننا لن نقبل بعد مدة حكومة وحدة وطنية يرأسها أحد منهم، وسيتحوَّل هدفنا إلى إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية تُمهّد لانتخابات نيابية مبكرة". وختم واعداً جمهوره بـ "النصر مجدداً".
في هذه الأثناء، بدأت وفود من علماء أهل السنة والجماعة تتقاطر إلى السراي الحكومي، معزَّزة بأبناء الطائفة، بغية تأكيد دعمها حكومة الاستقلال الثاني؛ وصدر عن مفتي الجمهورية تصريح ناري بعد خطبة الجمعة في 8/12/2006، جاء فيه: "نريد أن نقول إننا نقف بكل قوة إلى جانب رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، ونعتبر أن إسقاط رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة وحكومته في الشارع هو خط أحمر لن نسمح بتجاوزه أبداً، وليعُد الجميع إلى المؤسسات الدستورية، فهناك العمل الديموقراطي وليس في الشارع".
وبذلك، نجحت حكومة الاستقلال الثاني في تحصين نفسها من أي محاولة غادرة لإسقاطها في الشارع أو بالقوة، وما ذلك إلا لربط الحكومة بأهل السنة والجماعة، وإرساء معادلة الخط الأحمر التي اعلنها المفتي بموقف تاريخي، وليس للدعم الأميركي الكلامي الخادع والمفرّغ من اي مضمون عملاني، كما يحاول البعض اشاعته. وخير شاهد على هذا الكلام، إقرار قائد المعارضة حسن نصر الله بصحته، فقد قال في 24/1/2007: "الذي منع حتى الآن، وهذا يجب أن يكون مفهوماً ومعلوماً في قراءاتنا لما جرى وما قد يجري، الذي حال دون سقوط هذا الفريق المتسلط، ليس الدعم الدولي الذي لم يحل دون سقوط أي نظام في المنطقة عندما أراد شعبه أن يسقطه، الذي حال دون سقوط هذه الحكومة اللادستورية، هو مناقبية ووطنية والتزام المعارضة، وحرصها على السلم الأهلي والعيش المشترك، وعدم دفع البلاد إلى أتون حرب أهلية...".
3- تابعت المعارضة محاولاتها الانقلابية، فدعت في23/1/2007 إلى إضراب عمالي عام استشعرت مع بدايته انه لن يُجدي نفعاً نظراً لقلة القطاعات العمالية المتجاوبة معها، فكان أن فرضته بالقوة جاعلة منه محاولة انقلابية جديدة على السلطة الشرعية اللبنانية، بلغت أقصى مداها في التحرك العنفي، والاعتداءات الميليشيوية على حريات اللبنانيين، وكانت حصيلة هذا اليوم الأسود ثلاثة قتلى وأكثر من 150 جريحاً، سقطوا على أثر مواجهات حصلت بين جمهور القوى الاستقلالية السيادية، وميليشيات وعصابات المعارضة.
وعلى أثر اشتداد وَطْأَة هذه الأعمال التخريبية، ووقوف الجيش منها موقف المتفرِّج، وجَّه مفتي الجمهورية رسالة إلى اللبنانيين أكد فيها: "أن محاولة إسقاط الحكومة من خلال الشارع، ومن خلال حصار بيروت، عن طريق العنف والتهديد والقهر، لن تمر، ولن نتركها تمر مهما كان الثمن"، وأجرى اتصالاً بقائد الجيش يومها ميشال سليمان طالباً منه وضع حد لتفاقم الأوضاع في الشارع. وكذا فعل الرئيس السنيورة وقوى 14آذار، الذين دعوا المواطنين اللبنانيين الذين انتفضوا على سلطة الوصاية، إلى الوقوف مجدداً دفاعاً عن وطنهم واستقلالهم وحريَّتهم، ودفاعاً عن حكومتهم الشرعية في وجه الانقلابيين.
لَبَّت جماهير الأكثرية دعوة قياداتها، فقد ألجأها تقاعس الجيش إلى التدخل، مانعة قوى 8 آذار من الانتصار في ذلك اليوم الأسود، وفتحت بعض الطرقات؛ لتعلن المعارضة مساءً انتهاء إضرابها، او محاولتها الانقلابية.
4- بعدما اثبتت القوى الاستقلالية اصرارها وجدارتها في الحفاظ على لبنان وحكومته من الوقوع في ايدي اصحاب المشاريع الخارجية، وذلك عبر افشال كل المحاولات الانقلابية السلمية منها والعنفية على حد سواء، وصلت المعارضة الى قناعة انها لن تتمكن من اسقاط الحكومة والسيطرة على السلطة الا بانقلاب عسكري دموي ميليشيوي مسلح، فأعدت له على مدى اشهر وكانت ساعة الصفر في7ايار2008، يوم اتخذ حسن نصر الله قرار ايقاظ الفتنة السنية-الشيعية، فاجتاحت ميليشياته بيروت بجحافلها الهمجية الحاقدة وعاثت فيها فسادا وخرابا وتقتيلا...
وفي خضم تلك الأحداث الخطيرة المتسارعة، وجَّه مفتي الجمهورية اللبنانية رسالة إلى الشعب اللبناني والعالم العربي والإسلامي، تضمَّنت أول موقف حاد من نوعه من الحزب الشيعي مباشرة، ومن إيران دون أن يسميها، فقد اتهم المفتي قباني الحزب مباشرة بأنه "تحول من مقاومة للاحتلال الإسرائيلي إلى قوة مسلحة لاحتلال بيروت وانتهاك حرماتها". ودعا "العالم العربي والإسلامي إلى وقف هذه الانتهاكات المفجعة"، معتبراً "أن لبنان يتعرَّض اليوم لمحاولة هيمنة حزب سياسي بدعم خارجي وتحت غطاء المقاومة". وأضاف: "إن هذا الحزب اختطف قلب العاصمة بيروت منذ أكثر من عام، وحوَّله إلى معسكر لمسلحيه، وها هو اليوم يختطف مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ويحاول أن يبتر الدولة اللبنانية لتمرير مراقبة المطار، وشبكة الاتصالات التي يقيمها متجاوزاً الشبكة الرسمية". وتوجه المفتي إلى أهل بيروت خصوصاً، ولبنان عموماً "للعمل على درء الفتنة المذهبية، والتمسك بوحدتهم الوطنية والدينية". وناشد قادة الحزب "أن يبادروا إلى سحب المسلحين من شوارع بيروت، وفك الاعتصام الذي يخنق العاصمة، وأن يتقوا الله في أهلهم وإخوانهم ووطنهم". وختم قائلاً: "فالمسلمون السنة، قد ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات والانتهاكات، واللبنانيون جميعاً لم يعودوا قادرين على تحمل مزيد من المغامرات السياسية والأمنية. فلبنان وطننا جميعاً مسلمين ومسيحيين، ونحن له جميعاً، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد".
كان لهذا الموقف الشجاع اثره على مجريات الاحداث، وايضاح ما يحدث في لبنان بصراحة متناهية للعالم العربي والاسلامي، مادفع نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى عبد الأمير قبلان في اليوم الثاني على الانقلاب الارهابي لعقد مؤتمر صحافي عقب اجتماع لمجلسه، وجَّه فيه انتقاداً شديد اللهجة لمفتي الجمهورية من دون أن يسميه، معتبراً "أن من ينطق باسم المسلمين مرجعياتهم الدينية الحريصة على وحدتهم، لا من يَدْعون إلى الفرقة، والتنابذ، ويمثل وجهة نظر ضيِّقة"، وأوصاهم بأن "يتقوا الله"!!
وكان الرد في ذلك اليوم بمحاولة اقتحام مبنى دار الفتوى في عائشة بكار، لولا أن جرى تدارك الأمر بعد وساطات عديدة، لكن لم يحل ذلك دون محاصرة واقتحام منزل مفتي الجمهورية الذي لم ينته الا بعد "شفاعة" احد جيرانه المعروف بانتمائه للقوى المعارضة ومشاركة ميليشياته في الانقلاب المسلح.
5- انهى الحزب انقلابه المسلح بعدما نجح في سوق القادة الاستقلاليين الى الدوحة بوساطة قطرية مشبوهة، حيث فاوضهم واضعا السلاح على الطاولة وفي الرؤوس، ونال كافة ما عجز عن تحقيقه بالوسائل السلمية.
وبرز في تلك الفترة، موقف جريء وشجاع لمفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، حيث قال في 17/6/2008 بعد تهنئته الرئيس الجديد ميشال سليمان في قصر بعبدا: "الأحداث التي وقعت في البقاع، وقبلها ما حدث في اجتياح بيروت والمناطق اللبنانية وفي الجبل، هي أعمال إرهابية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. لقد قرأنا عن الإرهاب كثيراً في الصحف في بلدان أخرى، ولكننا عشنا وشاهدنا هذا الإرهاب".
لم يتأخَّر رد "حزب ولاية الفقيه" على هذا الموقف الصريح والوطني للمفتي قباني، وذلك في خطاب ناري لنواف الموسوي في 21/6/2008، فقد دافع عن إرهاب حزبه في أحداث أيار عبر أسلوب قلب الحقائق قائلاً: "نحن لن ندافع عن أنفسنا حيال ما جرى في بيروت مطلع شهر أيار الماضي، فقد اعتُدِي علينا حينها ورددنا هذا الاعتداء بأعلى مناقبية يمكن أن تعرف في تاريخ لبنان، ويعرفها هذا الذي تحدَّث بالأمس، هو يعرف كيف تصرَّف من دخل داره مطمئناً إياه". وتابع متوجِّهاً إلى المفتي بالتخوين دون ان يسميه: "إن الذي سمَّى المقاومة إرهاباً هو العدو الإسرائيلي والإرهاب الأميركي، وإن من يطلق على المقاومة هذه التسمية يضع نفسه في الموقع الإسرائيلي-الأميركي...".
بعد استعراض هذه الحوادث المفصلية في السنوات الخمس الماضية، لعلنا بدأنا ندرك سبب استهداف شخص مفتي الجمهورية اللبنانية تحديدا دون سواه من المرجعيات، فقد لعب هذا الرجل دورا وطنيا فاعلا بامتياز في تلك الحقبة العصيبة والخطيرة من تاريخ لبنان، وكانت مواقفه معبّرة عن نبض الشارع السني بامتياز وموجهة له بحكمة شديدة ورشاد، حافظا على المسيرة الاستقلالية والوحدة الوطنية والشراكة الاسلامية المسيحية التي تشكل العمود الفقري لقوى 14آذار، ومكمن قوتها الرئيسي.
ومن هنا ندرك سبب الامتعاض الشديد والانتقاد اللاذع الذي انهال على المفتي قباني من قوى المعارضة واذناب التبعية والارتهان للمحور السوري-الايراني، عندما استقبل رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، الذي زاره في تشرين الاول 2006 صبيحة عيد الفطر في منزل الافتاء للتهنئة بالعيد، حيث اكّد الطرفين قولا وفعلا طي صفحة الماضي الاليم، وتمتين الوحدة الوطنية والعيش المشترك بعد الصفحة الجديدة التي فتحت مع ثورة الارز ترجمة لاتفاق الطائف، والتي حال الاحتلال السوري دون ترجمتها كما يجب، فقد كان يوهم مختلف الطوائف اللبنانية ان وجوده يحول دون نشوب الحروب فيما بينها، متبعا قاعدة "فرّق تسد".
وهذه مواقف تسجل بماء الذهب للمرجعية السنية الممثلة بدار الفتوى والمرجعية المسيحية الممثلة ببكركي، ولذلك فهي لا تزال تؤرق الانقلابيين الى اليوم، وهؤلاء لن يهدأ لهم بال ولن يهنأ لهم حال، الا برؤيتهم الشقاق يدب بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية، لأنه حينئذ تكون قوى 14آذار قد انتهت وانفرط عقدها، وانتهى معها مشروع الدولة السيدة والحرة والمستقلة.
والا، فإذا كان الامر بخلاف ذلك، ما الذي يفسر استهداف المؤسسة الدينية والطائفة الاسلامية السنية برمتها اليوم، تماما كما جرى استهداف البطريرك الماروني قبل اشهر، ومن على ذلك المنبر الاعلامي المعارض عينه، حيث تم فتح بعض الملفات التي تتهمه بالفساد المالي في ادارة اوقاف البطريركية؟! مع العلم ان استهداف البطريرك صفير لا يأتي الا بعد اطلاقه المواقف الوطنية المشرّفة التي لم تحد عنها الكنيسة يوما، سواء فيما يتعلق بسيادة لبنان او حصرية السلاح بالدولة او تنبيه المسيحيين واللبنانيين عموما كلما تعرّض وجه لبنان ودستوره ونظامه وعيشه المشترك للخطر والعبث بأيدي المحاور الخارجية التي وجدت واوجدت من يعمل لها في لبنان. مع التذكير مجددا اننا لا نبحث صحة تلك الاتهامات من بطلانها، سواء ما اثير منها ضد البطريرك او المفتي، انما نحلل الانتقائية في اختيار الاشخاص التي تفتح ملفاتهم.
ثم هل يجرؤ احد، او تلك المحطة التلفزيونية تحديدا التي تظهر حرصها على مكافحة الفساد في الدولة اللبنانية اينما كان، هل تجرؤ على فتح ملفات الفساد المستشري داخل المجلس الشيعي الاعلى او المحاكم الجعفرية، او خفايا قضية صلاح عز الدين، فضلا عن ملفات قادة "حركة امل" كمجلس الجنوب مثلا، وملفات "حزب ولاية الفقيه"، مثل دوره في رعاية وتأمين الغطاء الامني والسياسي لتجار المخدرات، او حتى محاسبته قضائيا على حوادث ايار الارهابية؟! الم نر كيف اخلي سبيل المقاوم الشرس والبطل المقدام الذي اطلق النار مع رفاقه في 28/8/2008على طوافة الجيش اللبناني فوق تلة "سجد" فأسقطوها واغتالوا الضابط الطيار سامر حنا، وذلك بعد تسعة اشهر على اعتقال احد افراد تلك الميليشيا وتوجيه تهمة القتل العمد اليه؟! وهذا غيض من فيض، والا فتعداد تجاوزات ذلك الحزب الخطيرة اكثر من ان تحصر او تعد.
هل ما يمنعهم من فتح تلك الملفات هو انتماؤهم للمعارضة وتبعيتهم لها؟ ام انهم يستوطون حائط دار الفتوى وبكركي نظرا للطريقة الحضارية والسلمية التي تتعاملان بها مع محاولات اسهدافهما والتطاول عليهما، وفي المقابل يهابون فتح ملفات المقامات الاخرى ويحسبون الف حساب لتفادي ما حدث عندما تناول برنامج فكاهي يعرض على شاشة الـمؤسسة اللبنانية للارسال عام 2006، شخصية حسن نصر الله، يوم نزل آلاف من مناصري الحزب إلى الشوارع في بيروت والمتن والجنوب، وعاثوا فيها فسادا وتخريبا مستنكرين ما اعتبروه مساساً بشخص "سيِّد المقاومة"، في محاولة منظمة لافهام من يهمه الامر أن من يملك السلاح قادر على اجتياح البلاد، واستباحة المناطق، والاعتداء على الدولة، وإشعال حرب طائفية، إذا ما تُعُرِّض لرمز من رموزه، وكرسالة أبعد إلى سلاحه الذي يصفه بالقداسة، وما هي الا قداسة وهمية وشعارات براقة زائفة، لتغطية مشروع الاستيلاء على الدولة بكافة مفاصلها.
لعلنا بهذا القدر، نكون قد عرفنا سبب اختيار شخص المفتي بالتحديد، الذي ارادوا اغتياله سياسيا بعد عجزهم عن اغتياله جسديا والحاقه برفاقه، مثل العلامة صبحي الصالح، والشيخ احمد عساف، والشيخ الشهيد المفتي حسن خالد، لانهم رفضوا تقديم واجب الطاعة لقوى الامر الواقع...
لكن ما سبب اختيارهم هذا التوقيت بالذات، لفتح ملفات المفتي وتصويب سهام الحقد على مقام دار الفتوى؟!
ان سر هذا التوقيت، يكمن في المرحلة التي دخل فيها لبنان بعد استحقاق تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009، تلك الحكومة التي نسفت نتائج الانتخابات وقلبت فوز قوى 14آذار هزيمة نكراء، مع رضوخها لمعادلة خطيرة ارساها "حزب ولاية الفقيه" منذ غزوة ايار الارهابية، تقوم على مقايضة الاستقرار الامني بالخضوع لشروط المعارضة،او بعبارة اوضح :الأمن مقابل الخضوع لشروط حملة السلاح والا... وبناء على ذلك انتزع الحزب الايراني الثلث المعطل وتشريع سلاحه في البيان الوزاري واعاد انتاج اتفاق الدوحة وتكريس اعرافه اللادستورية، مؤكدا ابتداء زمن الشيعية السياسية في لبنان.
يضاف الى هذه التسوية الظالمة في حق القوى الاستقلالية، التوافق السعودي- السوري الذي كان له اليد الطولى في ارسائها، وما استتبع ذلك من زيارة الرئيس سعد الحريري الى سوريا والانقلاب الجنبلاطي الذي سبقها والمصالحات الكثيرة الشكلية منها والحقيقة التي تمّت....فهذه الظروف مجتمعة، ادخلت البلاد في حالة هدنة بين فريقي 14 و8 آذار، وبالتالي خفت الصراع السني الشيعي على السلطة في لبنان والمنطقة بعدما نال الشيعة المحتكر تمثيلهم من قبل "حزب ولاية الفقيه"كافة مطاليبهم لهذه المرحلة، وبعدما عاد النفوذ السوري عبر حلفائه الى البلاد، وبالتالي بات التوقيت مواتيا والاجواء ملائمة لتصفية الحسابات مع من ساهم في اندلاع ثورة الارز بمده اليد بعد طول انتظار الى شريكه المسيحي، ودَعَم صمود الحكومة والفريق الاستقلالي واخّر حصول الفريق الشيعي على مطاليبه واهدافه، الا وهو الطائفة السنية ممثلة بمرجعيتها الدينية دار الفتوى، وذلك عبر فتح ملفات مفتي الجمهورية اللبنانية والتشهير به، بهدف الانتقام البارد من مواقف هذه الطائفة الوطنية في تلك المرحلة، واستكمالا لمخطط ضرب مواقعها الدينية والسياسية بهدف اضعافها واخضاعها للوصاية السورية من جديد، لكن هذه المرة بإدارة جديدة يتولاها "المقاومون الابطال" الذين لم يجلبوا للبنان سوى الامن والطمأنينة والسلام.
ذلك، لأنه لو فتح ملف المفتي في تلك المرحلة المتشنجة حيث كان الصراع في لبنان على اشده والشحن والاحتقان المذهبي في مرحلة الغليان، لوقف اهل السنة وسواهم وقفة واحدة مع المفتي واعطوا الحملة التي تستهدفه بعدا طائفيا مذهبيا نتيجة للصراع الدائر، ما سيفشلها بالتأكيد؛ اما وقد تغير هذا الواقع اليوم وخيّم الاستقرار الامني على البلاد، فقد باتت حظوظ نيل تلك الحملة الشعواء اهدافها المغرضة مضاعفة، واحتمال نجاحها شبه مؤكّد، خصوصا انهم وضعوا في الواجهة لاطلاق تلك الاتهمات وفتح الملفات شخصيات مأجورة نتمي اصلا للطائفة السنية، في محاولة لتحريك الرأي العام السني دون اثارة للحساسيات المذهبية.
وبناء على ما تقدّم، صدرت أوامر التطاول على مفتي الجمهورية من المخابرات السورية في ريف دمشق ليكون ضحية التسوية السعودية-السورية، وتبلغتها طغمة من المشايخ المرتزقة للمخابرات السورية والايرانية في لبنان، ومن رؤساء جمعيات لبنانية لا تخفي ارتباطها وتأييدها للنظام السوري و"حزب ولاية الفقيه"، ومعظم هؤلاء المعمَّمين من "تجمع العلماء المسلمين"، الذين يتقاضون رواتب مغرية يخصصها لهم الحزب. هذا فضلا عن بعض تجار السلاح السابقين، ورئيس حكومة سابق لم يبد يوما غيرته على طائفته ولا خدم مظلوما او صاحب حاجة طرق بابه، بل فاخر بعلمانيته وباع مذهبه من اجل حفنة من الدريهمات يريد ان يحرم منها ورثته الشرعيين لكي تستأثر بها ابنته بعد وفاته، فلم يجد لجهله بتعاليم دينه سوى التشيّع سبيلا للتهرب من القسمة الشرعية، مع العلم ان عملية بيع وشراء عند كاتب عدل في حياته تعفيه من ذلك كله!! ولو كان قصد اولئك شريفا، وارادوا مصلحة الطائفة فعلا كما يدّعون، لقدموا ملاحظاتهم في المجالس الخاصة ومنعوا اذاعتها عبر المنابر في حملة اعلامية مبرمجة.
ان وقائع الأحداث تشير الى محاولة إضعاف أهل السنّة والنيل من مرجعياتهم وإرضاخهم الواحدة تلو الأخرى، لمنعهم من التحرك عند الضرورة ولجم مواقفهم وتخويفهم، وتخوينهم حين تدعو الحاجة...فمن هنا وأمام هذا الفجور السياسي، ننبه للمخطط الذي يستهدف أهل السنّة ومن ورائهم لبنان، ويعمل لإثارة فتنة سنّية-سنيّة تشرذم الشارع السني، وضرب المرجعية السنية في هذا البلد، فليس المراد من هذه الحملة المفتي قباني فحسب، انما المراد والمستهدف هو منصب الافتاء، منصب مفتي الجمهورية اللبنانية، الذي ابدوا في الماضي رغبتهم بجعله مداورة بين السنة والشيعة، ويطالبون اليوم في الخفاء بمفت شيعي لبيروت بعد امعانهم في تشييعها حجرا وبشرا، هذا فضلا عن اقتران هذا المنصب ونسبته الى الجمهورية اللبنانية بشكل عام تماما كمنصب الرئاسة الاولى، وبالتأكيد من يريدون اخضاع لبنان لولاية الفقيه لا يناسبهم هذا اللقب ولا قوة هذا المنصب.
واليوم بعدما فُتح ملف المفتي، وشُكلت لجان التدقيق المالي في مؤسسات دار الفتوى والاوقاف الاسلامية، تقع المسؤولية على الرئيس سعد الحريري والمجلس الشرعي الاعلى وابناء الطائفة عموما، لايجاد المخرج المشرف والمناسب الذي ينجي الطائفة السنية من الاعصار الذي يجتاحها بأقل خسائر ممكنة، بناء على نتائج التحقيق سواء ادانت المفتي ام برّأته، وذلك بما يضمن الحفاظ على هيبة المرجعية الاسلامية وكرامة الطائفة، ويحمي دار الفتوى من الوقوع في ايدي من يريدون اخضاعها وتغيير مسارها السياسي والوطني الذي انتهجته منذ تحررها من الوصاية السورية.
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر 7/2/2010

5- جنرال الرابية وحوثي اليمن..وحدة مسار لشر مصير!

يعجب المرء من شدة التشابه بين الجنرال ميشال عون وزعيم الحوثيين في اليمن بدر الدين الحوثي، فكلاهما غرّر بجمهوره واتباعه ومؤيديه، وذهب بهم بعيدا جدا عن ثقافتهم ومبادئهم العقائدية والوطنية والتاريخية.
فبدر الدين الحوثي، يعد احد كبار علماء المذهب الزيدي في اليمن، وتحديدا في محافظة "صعدة" حيث يوجد أكبر تجمعات الزيدية في تلك البلاد.
ومع بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بدأت ايران الخمينية بتنفيذ اجندتها الهادفة لاختراق المجتمع اليمني بالمذهب الشيعي الاثني عشري الذي تدين به، فعملت على تجنيد عدد من الزيدية الذين تحولوا الى شيعة اثني عشرية او بقوا على مذهبهم الزيدي ولكن غرّر بهم، ليكونوا اداة وذراعا للنفوذ الايراني الاثني عشري في اليمن...
وكان على رأس هؤلاء المجندين: حسين بدر الدين الحوثي وابوه بدر الدين، اذ هما في الاصل من فرقة الجارودية وهي احدى فرق الزيدية، وقد انتقل الحوثي من الزيدية الجارودية الى الامامية الاثني عشرية مبكرا، وبعض من وقعوا تحت تأثير حملته يؤرخون العام 1997 كعام للانتقال الفعلي من الزيدية الجارودية الى الامامية الاثني عشرية.
وتطوَّر الأمر أكثر مع بدر الدين الحوثي، حيث بدأ يدافع بصراحة عن المذهب الاثني عشري، بل إنه أصدر كتابًا بعنوان "الزيدية في اليمن"، يشرح فيه أوجه التقارب بين الزيدية والاثني عشرية، في محاولة منه لاستمالة الزيديين واستدراجهم بغية تحويلهم الى الامامية او تطعيم عقيدتهم ببعض تعاليم الاثني عشرية، وبالتالي تحويل ولائهم من دولتهم اليمن الى ولاية الفقيه في ايران. ونظرًا للمقاومة الشديدة لفكره المنحرف عن الزيدية، فإنّه اضطر إلى الهجرة إلى طهران حيث عاش هناك عدة سنوات.
وعلى الرغم من ترك بدر الدين الحوثي للساحة اليمنية، إلا أن أفكاره الاثني عشرية بدأت في الانتشار، خاصة في منطقة صعدة والمناطق المحيطة، وهذا منذ نهاية التسعينيات، وتحديدًا منذ سنة 1997م، ولذلك قام علماء اليمن بالبراءة من الحوثي وحركته، في بيان اسموه "بيان علماء الزيدية" وردوا عليه دعاويه وحذروا من ضلالاته التي لا تمت للمذهب الزيدي بصلة.
وكان الحوثي وابناؤه ينضوون تحت "حزب الحق"، وهو حزب سياسي زيدي، ولكن بعد ذلك انفصل الحوثي عن هذا الحزب واسس تنظيم "الشباب المؤمن"، وهو الذي كان يقوم ولم يزل بأحداث التمرد والفتنة في منطقة "صعدة" شمال اليمن، بهدف فصلها عن الحكومة اليمنية واخضاعها لحكم الحوثيين لتشكل قاعدة ايرانية متقدمة في عمق الخليج على حدود المملكة العربية السعودية بما ترمز وتمثل.
ففي عام 2004، أعلن الحوثي خروجه على نظام الحكم والإنتفاضة المسلحة ضد الدولة لتدور بينهما عدة حروب، كان آخرها الحرب المندلعة بين الحوثيين والجيش اليمني منذ آب 2009، والتي ما لبثت ان امتدت الى الاراضي السعودية في تشرين الثاني، وهي لا تزال مستمرة الى اليوم وان بشكل متقطع بعد موافقة الحوثيين على وقف اطلاق النار في شباط2010.
وتقوم ايران بدعم هذا الحوثي ماليا وفكريا وعسكريا، وذلك نظير تصدير الثورة الخمينية الى اليمن.
اما في لبنان فقد وقع الاختيار الايراني على الجنرال ميشال عون لكي يكون "الوكيل الشرعي" المسيحي لسياسة ايران وسوريا في المنطقة، ومموِّهاً من الدرجة الأولى لكل خطوات "حزب ولاية الفقيه" الرامية الى السيطرة على لبنان وجعله قاعدة عسكريّة متقدّمة لإيران، ومنفذا على البحر الأبيض المتوسّط لولاية الفقيه.
فالجنرال عون الذي غادر الى منفاه الباريسي المرفه تاركا جنوده في ارض المعركة، بعدما حوّل المسيحيين الى قرابين والمناطق المسيحية الى ارض محروقة نتيجة خوضه حرب تحرير عارية من أي قوة متكافئة، وحرب الغاء مسيحية-مسيحية حوّلت المسيحيين الى مهجرين ومشتتين في اصقاع العالم، والى أعداء حاقدين على بعضهم البعض في الداخل...وبعد صعوده الى بكركي لإذلال سيده وتهجيره الى الشمال ليصبح تحت حماية مباشرة من الجيش السوري...عاد الى لبنان بصفقة كريم بقرادوني واميل اميل لحود التي جرت في نيسان 2005، ووافق عليها الرئيس السوري بشّار الأسد بمباركة "حزب ولاية الفقيه"، بحيث أعطوا فيها الموافقة على إسقاط جميع الدعاوى المقامة على العماد عون لكي يستطيع العودة، مقابل عدم معارضة الجنرال البرتقالي عند عودته سلاح الحزب الايراني، مع تأمينه الغطاء المسيحي لسياسات ايران وسوريا في لبنان.
ومنذ تلك العودة "المجيدة"، بدأ الجنرال يقوم بدور مشابه جدا لما فعله الحوثي في اليمن سياسيا، لكن هذه المرة كان الهدف اختراق المجتمع المسيحي وتمزيقه بالسياسة الايرانية، من خلال اعتماد استراتيجية "حزب ولاية الفقيه" وحلفائه في دمشق وطهران، وهي استراتيجية لا تفيد المسيحيين في شيء، لا على المستوى الثقافي او التراثي او العقائدي او الاقتصادي او حتى الأمني...والهدف الاخير لهذه الاستراتيجية هو إما جر لبنان الى حرب أهلية جديدة تنتهي بسيطرة الطرف الاقوى عسكريا، او فرض نظام شمولي لا يشبه لبنان التعددية والتنوع والمناصفة والعيش المشترك، الذي ينشده المسيحيون والمسلمون الذين رفعوا شعار: "لبنان اولا".
وتنفيذا لبنود الصفقة الباريسية، انسحب الجنرال العائد من قوى الرابع عشر من آذار التي تتبنى الخطاب التاريخي المسيحي الذي تحوّل الى خطاب عابر للطوائف بعد اعتماد المسلمين السنة شعار"لبنان اولا". ثم خاض انتخابات 2005متحالفا مع جميع القوى الموالية لسوريا في لبنان، ومستعملا شعارات زائفة خدع بها المجتمع المسيحي الذي اعطاه70%من اصواته، الا ان قوى 14آذار تمكنت مع ذلك من حصد اكثرية مقاعد البرلمان.
في 6شباط2006، قام الجنرال المنقلب على تياره بإبرام «اتفاق مار مخايل» موقعا وثيقة تفاهم مع "حزب ولاية الفقيه"، تميَّزت بتمثيلها خطاب الحزب الايراني بامتياز، ليعطيه بذلك غطاء مسيحيا واسعا نقله من حركة سياسية وعسكرية معزولة بفعل ثورة الارز وانتخابات 2005، الى حركة فاعلة ومؤثرة تتلطى وراء حليفها المسيحي كي تنفذ مخططها الانقلابي للسيطرة على لبنان بجميع مفاصله متسترة بثوب وطني متنوع يخفي حقيقتها الاحادية والطائفية البحتة.
بعد ذلك كرّت سبحة التجاوزات العونية الخطيرة خصوصا في حق المسيحيين، فقد استمر الجنرال في سياسة الانبطاح عند اقدام الحزب مقدما اوراق اعتماده الواحدة تلو الاخرى، فدافع عن السلاح الميليشيوي بشراسة خصوصا بعد "حرب تموز2006"، ثم شارك في انقلاب «23 كانون الثاني2007»، و اعتصم في قلب بيروت، و أسهم في شل البرلمان وتعطيل الانتخابات الرئاسية، كما برر لـ"حزب ولاية الفقيه" وضعه الخطوط الحمر بوجه الجيش قبيل معركة نهر البارد في ايار2007، و غطى غزوة أيار 2008 الإرهابية، واعلن النصرعقبها، وتوعّد الإستقلاليين بالمحاسبة، كما برّر اعلان 7ايار يوما مجيدا... وعمل جاهدا طوال تلك الفترة على تغطية سلسلة الاغتيالات والتفجيرات التي طاولت التيار السيادي والتي كانت تعرقل مسار المحكمة الدولية، وذلك من خلال تبرئته المجرم والقاتل، وإبعاد الشبهة عنه، وصولاً الى مطالبته بالتحقيق مع قيادة الجيش بسبب إرسالها طوافة عسكرية الى إحدى القرى اللبنانية، حيث اغتيل أحد أبرع طيّاريها بدم بارد.
لم يقف الجنرال عند هذا الحد، بل قدّم الشكر والتقدير لسوريا وايران بعد زيارته لهما نهاية عام 2008، وطالب الضحية بالإعتذار من جلادها اثناء زيارته دمشق التي نصبته بطريركا سياسيا وربما روحيا لمسيحيي الشرق، كما تنكّر للمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية.
ربيع2009، ذهب العماد عون الى الانتخابات النيابية بتمويل ايراني لحملته الانتخابية الاعلانية قدّر بنحو 6 ملايين دولار، ساعيا مع المعارضة المتحالفة مع سوريا وايران الى أكثرية نيابية تسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية ليتسنى لها تطبيق نظام ولاية الفقيه وتغيير وجه لبنان بغطاء شعبي وبرلماني...ثم بعد اكتساح قوى 14 آذار نتائج الانتخابات مجددا وتجريد الجنرال من نحو20%من شعبيته بفعل وعي المسيحيين، عمل عون على عرقلة الأكثرية ومنعها من تشكيل حكومة جديدة لا تملك فيها سوريا وايران الثلث المعطل، فنجح في مهمته، وتوجه الى سوريا اواخر عام2009 في زيارة شكر متبادل، شكر سوري على الدور المعرقل للجنرال، وشكر عوني على توزير صهره ومنحه حصة وزارية لايستحقها.
هذا على الصعيد السياسي. اما على الصعيد الديني المسيحي، فقد تحوّل الجنرال بعد عودته الى لبنان رأس حربة في التطاول على الكنيسة ورموزها، نيابة عن الحليف الذي لا تسمح له صبغته الطائفية القيام بذلك... كما جهد في تفتيت المجتمع المسيحي، مع التصويب على الطائفة السنية في لبنان وزرع بذور الكراهية تجاهها في نفوس اتباعه، ونصّب نفسه زعيماً للموارنة والمسيحيين، وجعل معركته في الانتخابات النيابية معركة "استرجاع حقوق المسيحيين" لاستجرار عطفهم ونهب اصواتهم. هذا، مع العلم ان الاجتماعات العامة لـتياره كانت تعقد بمعظمها ولا تزال في أديرةٍ كنائسية لهدف شد العصب المسيحي حول سياسته، وما هي بسياسته، بل سياسة "حزب ولاية الفقيه" وحلفائه الهادفة الى اختراق الكنيسة بالفكر السوري-الايراني عبر مؤسساتها وصروحها التربوية الجامعية والمدرسية، بعدما فشل في اختراق مواقفها الوطنية التي لم تحد عنها يوما.
وسيرا على خطى بدر الدين الحوثي، الذي أصدر كتابًا بعنوان "الزيدية في اليمن"، يشرح فيه أوجه التقارب بين الزيدية والاثني عشرية، في محاولة منه لاستمالة الزيديين واستدراجهم بغية تحويلهم الى الامامية او تطعيم عقيدتهم ببعض تعاليم الاثني عشرية وتحويل ولائهم الى ايران... قارب الجنرال عون في 27/12/2009، خلال حديث مطوّل له ادلى به لاحدى وسائل الاعلام بمناسبة عيد الميلاد وذكرى عاشوراء... قارب الجنرال بين ذكرى استشهاد الامام الحسين في عاشوراء لدى الطائفة الشيعية، "كميلاد للعدالة واستمرارية الوجود"، وميلاد السيد المسيح لدى الطوائف المسيحية، "الذي شكل فجرا جديدا في تاريخ الانسانية، كحالتين يعيشهما الانسان ويشعر بهما"!!
وقال العماد عون في حديثه لـ"الدار"، ان "عاشوراء طقس الآلام يشبه اسبوع آلام المسيح. ان شهادة الحق والسير في اتجاه تحقيق ذلك، يؤدي الى التضحية بالحياة، هذه التضحية وتلك المسيرة، يتشابه فيها الشيعة والمسيحيون. ففي اسبوع الصلب تمر القضايا الكبرى بالصليب، فمن دون آلام لا وجود للحرية والاستقلال".
ويضيف العماد ميشال عون في حواره "العاشورائي" قائلا:"...ان ارفع مستوى الشهادة، التي تنقل البشرية من حالة الى حالة، تعيش في عقل وشعور المسيحيين والشيعة. فعاشوراء والجمعة العظيمة طقسان متطابقان بشكل معنوي وعملي"!!
و"لدى الشيعة والمسيحيين قواسم اخرى مشتركة"، يقول "اللاهوتي العتيق" ميشال عون، "فعند الاثنين، هناك انتظار للمجيء الثاني. فالمسيحيون يؤمنون بعودة المخلص المسيح الذي رفع بعد صلبه الى السماء، والشيعة يؤمنون بظهور الامام المهدي المنتظر. هناك جزء ايماني (مشترك) لدى الطرفين. فالمجيء الثاني للمهدي والمسيح هو من اجل اقامة العدل، والمعنى الثاني ايضا لديهما في موضوع المجيء هو لمحاسبة الاشرار وكذلك الاخيار. لذا نحن،( كما يضيف العماد عون)، نشعر ان الدعوتين متلازمتان ولو ان المسيحيين والمسلمين او الشيعة بالذات في هذا الموضوع، نشأوا في بيئتين مختلفتين. لكن التبشير الديني او ظهور الاديان كان ينسجم مع عادات المجتمع في مكان ظهوره، الا ان الدعوة تبقى واحدة في مجتمعات مختلفة".
وختم الجنرال "عظته" معتبرا أن "الإمام الحسين ومسيرة التضحية تخطت حجم المجموعة، لتصبح رسالة اممية، فيما تخطت ايضا رسالة المسيح من الحالة القائمة الى المفهوم الاسمى(...) المسيح مسيرة تضحيات، كما الحسين، انهما رسالتان خلاصيتان".
وقد اثارت تلك المقاربة حفيظة القوى المسيحية في 14آذار، رفضا لمقارنة عون بين «يوم الجمعة العظيمة» عند المسيحيين ويوم عاشوراء عند الشيعة، واستدعى الامر تدخل رئيس مطرانية جبيل المطران بشارة الراعي، الذي اعتبر أن "تشبيه ذكرى عاشوراء بصلب المسيح في غير مكانه". ولا يخفى ما تنطوي عليه تلك المقاربة المشبوهة من دغدغة لمشاعر المسيحيين من خلال استحضار وقائع تاريخية من صميم تعاليمهم، بغرض دفعهم للاستسلام الفكري امام مغالطات تطرح بصورة حقائق، وذلك في محاولة لدمجهم عقائديا وايمانيا بثقافات ومعتقدات وسياسات لا تمت لهم بأي صلة، سعيا الى الالتفاف على قناعاتهم ومفاهيمهم الاصلية واختراقها، ومحاولة توظيفها في خدمة مشروع سياسي يتحفظ قسم كبير من المسيحيين واللبنانيين عليه.
في 9شباط2010، وفي عيد مار مارون، وفي الذكرى1600 على وفاته، تابع الجنرال المنقلب على مبادئه تغريره بجمهوره، وعمله على اضعاف كنيسته، واخذه المسيحيين بعيدا عن ثوابتهم الوطنية والتاريخية...فأوصل انقسام المسيحيين الموارنة وتفكّكهم الى مراحل خطرة ومتقدّمة، طالت هذه المرّة قديس الطائفة وشفيعها؛ فقد توجه العماد عون برفقة وفد كبير من تياره السياسي ومسيحيي 8آذار للاحتفال بعيد مار مارون الى "براد" السورية حيث ولد مؤسس الطائفة المارونية ودفن، في زيارة سياسية بامتياز متخفية بستار العودة الى جذور هي بنفسها انتقلت بكليتها منذ اواخر القرن السادس (على ما يجمع عليه المؤرخون) الى منابع نهر العاصي في البقاع اللبناني وجبال شمال لبنان، حيث هناك بدأت الهوية المارونية بالتجلي وتبلور معها الوجود الماروني، بأبعاده الرعوية والاجتماعية والسياسية...
وعلى اثر ذلك انقسم مشهد الاحتفال بين كاتدرائية مار جاورجيوس في بيروت حيث كانت المناسبة وكان القداس الاحتفالي الوطني الجامع، و"براد" السوريّة حيث تجمّع الابناء الضالون او "المسيحيّون الجدد"، وذلك في رسالة من النظام السوري للكنيسة المارونية في لبنان، بان ثمة مسيحيين موارنة تحديدا يقبلون بان تكون سوريا محجهم وقبلة ايمانهم... كما انها رسالة تمرّد من مسيحيي8آذار على رأس السلطة الكنسية المتمثلة بالبطريركية المارونية و بطريرك انطاكية وسائر المشرق مار نصرالله بطرس صفير، بأن ثمة من ابنائه مَن هو قادر على التنكر له ولكرسيه البطريركي، وصولا الى محاولة تأسيس لـ"نمط ايماني جديد مسيّس ومصلحي"، لا يتوانى او يتورع عن المتاجرة برمز الطائفة ومؤسسها، وجعله مطية لتحقيق مكاسب شخصية شخصانية ومحورية هدامة.
وفي 15 شباط 2010، سلّم الجنرال البرتقالي مهمة ارساء وتثبيت الخط "الايماني" الجديد المطعّم بالعقائد المستوردة الى تلميذه النجيب النائب نبيل نقولا، ليتابع محاولات تسخير الدين خدمة لمصالح سياسية وصولية رخيصة، وكانت آخر ابداعات ونظريات وفلسفات ذلك "الفقيه اللاهوتي الجديد"، تشبيهه مناسبة ذكرى شهداء "حزب ولاية الفقيه" بمناسبة الصوم عند المسيحيين، في خلال محاضرة القاها في الحفل الذي اقامه الحزب على مسرح مدرسة الحكمة في جديدة المتن التابعة للمطرانية المارونية، وذلك بعدما احتال الحزب على ادارة المدرسة التي اجّرته مسرحها على خلفية ادعائه تقيّة تنظيم لقاء تحت عنوان "الحوار المسيحي الاسلامي"، وليس الذكرى السنوية لشهداء الحزب، واذ بها تفاجأ بعد فوات الاوان انها تعرّضت لعملية خداع!!
وتابع النائب نقولا، ناهلا من معين روحانية وتعاليم الجنرال الذي اعتاد على تفصيل تاريخ المسيحيين على مقاسه، او على قياس تعاليم ايران وحزبها: "هذا الشهر بالنسبة للمسيحيين هو شهر المقاومة، مقاومة المسيح الذي قاوم الشر واليهود، وبالنسبة للمسيحيين نعتبر ان اول شهيد سقط ضد اليهود هو السيد المسيح"!!
وقد استدعت هذه المقارنه وهذا التشبيه، ردا من "الأب الدكتور يوسف مونس"، الذي اوضح ان كلام النائب نقولا سياسي بحت، ولا علاقة له برسالة المسيح. وتابع قائلا: "من هنا يجب عدم التوقف عند أي كلام يقصد به تأمين غطاء للفكر الديني(...). المسيح جاء مخلصا وليس مقاوما لأي طرف أو فئة، ولا يجوز تغيير الجوهر او التلاعب عليه، لأن كلام الكتاب المقدس مختلف تماما".
وعن مقاربة شهر الصوم بالمقاومة سأل مونس:" متى قالت الكنيسة إن شهر الصوم هو شهر مقاومة؟ فهذا الشهر له مدلولات لاهوتية وقراءة واحدة في الفكر الديني، ولا يجوز أن نقرأ معاني الصوم بعيدا عن فكر الكنيسة واللاهوت. ومن الخطأ أن ننجر إلى هذا الكلام، والأفضل ألا نتوقف عنده إذا كنا نتقن القراءة في الفكر اللاهوتي والكتاب المقدس، علينا أن نفهم ماذا تريد الكنيسة وماذا يقول الكتاب المقدس، وليتكلم الباقي بما يريد".
باختصار: نحن امام "مسيحيين جدد"، يقدمون الشخص على الحزب، والسياسة على المبدأ، والمصلحة على الكنيسة، والقصر على الوطن...فمنذ عودته الى لبنان، والجنرال يقوم بتربية اتباعه على "مسيحية جديدة"، تقوم على الايمان والمحبة والرجاء، لكن ليس بالمعنى اللاهوتي المعروف بل بمعان مغايرة؛ فالمحبة عنده تعني محبة السلطة، والايمان: ايمان بأن "حزب ولاية الفقيه" وسوريا وايران يشكلون رافعات تاريخية للوصول الى هذه السلطة. اما الرجاء في تعاليم الجنرال، فيكون حين يعمل "حزب ولاية الفقيه" وسوريا على انهاء كل مسيحي حرّ من أمام طريق العماد عون، إما من خلال الطريقة التي شهدناها في السنوات الخمس الماضية، وإما عبر الطرق التي رأيناها في الـسنوات الـ15 الماضية.
وبعد استعراض الدور الخطير الذي يلعبه رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون على الساحة المسيحية في لبنان، والذي يتلاقى ودور الحوثي في اليمن، سواء على الصعيد السياسي او الماروني الكنسي، لا يسعنا الا ان نطمْئِن الجنرال وحلفاءه، ان المسيحيين واللبنانيين عموما، واعون ومتيقظون لكل المحاولات الهادفة الى تزوير الوقائع والتاريخ، والتلاعب بمشاعر المواطنين ودفعهم إلى خيارات غريبة عن تاريخهم وتقاليدهم، لاسيّما تلك المراد منها تلاقيهم عقائديا وتحالفهم سياسيا مع الذين نكثوا بوعدهم وتنكروا لثوابت وطنهم، وراحوا يعلون شأن دويلتهم على حسابه.
وفي نهاية المطاف، عاقبة المكر السيّئ ان ينقلب على اهله، ولذلك نشهد منذ عام 2005 إلى الآن تدنيّاً ملحوظا في شعبيّة الجنرال، وتزايداً مطردا في شعبيّة القوى المسيحية المتمسكة بالثوابت الوطنية للكنيسة المارونية، وفي مقدمها "القوّات الّلبنانيّة" ومسيحيو14آذار.
عبدو شامي
موقع 14 آذار ومدونة ايلاف، نشر20 /2/2010


6- هل يصبح مفتي سوريا مفتي لبنان ايضا؟!

لا أحد يتغاضى عن الفساد، ولكن توقيت الحملة ضد مفتى الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قبانى، تنتمى أيضاً إلى خطة الفساد السياسى، المتمثل فى تنفيذ أجندة خارجية، هذا هو رأى مسؤول لبنانى كبير كان يتحدث بعد الاتهامات التى وجهها رئيس الوزراء السابق سليم الحص إلى المفتى، وقال هذا المسؤول: عندما نعرف أن الرئيس الحص حليف قوى لسورية، نفهم مغزى هذه الحملة التى تأتى فى سياق تصفية حسابات سورية ضد كل من دعا إلى خروج القوات السورية من لبنان، وفى الوقت نفسه، كشفت القضية عن خلل خطير، وهو إصرار الزعامات السياسية السنية على فرض هيمنتها على منصب المفتى، بحيث إن أى صراع بين هذه الزعامات ينعكس على المنصب الذى يجب أن يكون فوق التجاذبات السياسية .
وأول من بدأ الحملة ضد المفتى، محطة تلفزيونية مقربة من "حزب الله" والمعارضة، حيث وفرت فرصة لإثارة ملفات تدل على هدر أموال فى دار الإفتاء، ولكن الحملة فى الواقع بدأت فى نفس يوم اغتيال الرئيس الحريرى، بعد أن انعقد اجتماع فى دار الفتوى أعلن فيه المفتى قبانى أن المسلمين السنة فى لبنان يشعرون أن قتل الرئيس الحريرى يستهدفهم فى وجودهم ودورهم وكرامتهم، وهم لن يكتفوا بالاستنكار، ولن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا ومعاقبتهم، وهم يعلنون أنهم قد نالوا من الضيم ما يكفى، ومن الصبر ما لم يعد يحتمل، وكان هذا البيان بمثابة إعلان تحرر المرجعية السنية من إملاءات وضغوطات سلطة الوصاية السورية، وبداية التلاقى الإسلامى - المسيحى العلنى "المحرم سورياً" على أهداف مشتركة تلخصت بشعارات "لبنان أولاً" والحقيقة والحرية والوحدة الوطنية .
وعندما تشكلت لجنة التحقيق الدولية، واندحر الاحتلال السورى عن لبنان، وجرت الانتخابات النيابية فى ربيع ،2005 فاكتسحتها قوى 14 آذار وبدأ "حزب الله" يشعر بالانكفاء والعجز عن ملء الفراغ السياسى الذى أحدثه انسحاب الجيش السورى، فبدأ محاولته الانقلابية لاستعادة السلطة بافتعال حرب يوليو "تموز" 2006 ليقدم بعدها الوزراء الشيعة استقالتهم من الحكومة، وليتهم حسن نصر الله الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة صراحة بلعب دور التواطؤ والعمالة والخيانة ضد حزبه فى حرب يوليو "تموز"، وأنها هى التى أوعزت لأميركا وإسرائيل بشنها على لبنان، وأعلن أن "المعارضة لن تخرج من الشارع قبل تحقيق الهدف الذى ينقذ لبنان"، وأن "أبواب التفاوض لا تزال مفتوحة لتشكيل حكومة وحدة وطنية" ونبه أنه إذا أصر الفريق الحاكم على رفضه "فإننا لن نقبل بعد مدة حكومة وحدة وطنية يرأسها أحد منهم، وسيتحول هدفنا إلى إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية تمهد لانتخابات نيابية مبكرة" وختم واعداً جمهوره بـ"النصر مجدداً" .
وفى هذه الأثناء بدأت وفود من علماء أهل السنة والجماعة تتقاطر إلى السراى الحكومى، معززة بأبناء الطائفة، بغية تأكيد دعمها حكومة الاستقلال الثانى، وصدر عن مفتى الجمهورية تصريح نارى بعد خطبة الجمعة، جاء فيه: "نريد أن نقول إننا نقف بكل قوة إلى جانب رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، ونعتبر أن إسقاط رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة وحكومته فى الشارع هو خط أحمر لن نسمح بتجاوزه أبداً، وليعد الجميع إلى المؤسسات الدستورية، فهناك العمل الديمقراطى وليس فى الشارع" .
وبذلك نجحت حكومة الاستقلال الثانى فى تحصين نفسها من أية محاولة غادرة لإسقاطها فى الشارع أو بالقوة، وما ذلك إلا لربط الحكومة بأهل السنة والجماعة، وإرساء معادلة الخط الأحمر التى أعلنها المفتى بموقف تاريخى، وليس للدعم الأميركى الكلامى الخادع والمفرغ من أى مضمون عملى، كما يحاول البعض إشاعته، وخير شاهد على هذا الكلام إقرار قائد المعارضة حسن نصر الله بصحته، فقد قال فى 24/1/2007: "الذى منع حتى الآن، وهذا يجب أن يكون مفهوماً ومعلوماً فى قراءاتنا لما جرى وما قد يجرى، الذى حال دون سقوط هذا الفريق المتسلط، ليس الدعم الدولى الذى لم يحل دون سقوط أى نظام فى المنطقة عندما أراد شعبه أن يسقطه، الذى حال دون سقوط هذه الحكومة اللادستورية، هو مناقبية ووطنية والتزام المعارضة، وحرصها على السلم الأهلى والعيش المشترك، وعدم دفع البلاد إلى أتون حرب أهلية" .
تابعت المعارضة محاولاتها الانقلابية، فدعت فى 23/1/2007 إلى إضراب عمالى عام استشعرت مع بدايته أنه لن يُجدى نفعاً نظراً لقلة القطاعات العمالية المتجاوبة معها، فكان أن فرضته بالقوة جاعلة منه محاولة انقلابية جديدة على السلطة الشرعية اللبنانية، بلغت أقصى مداها فى التحرك العنفى، والاعتداءات الميليشيوية على حريات اللبنانيين، وكانت حصيلة هذا اليوم الأسود ثلاثة قتلى وأكثر من 150 جريحاً، سقطوا على إثر مواجهات حصلت بين جمهور القوى الاستقلالية السيادية وعناصر المعارضة .
وعلى إثر اشتداد وطأة هذه الأعمال التخريبية ووقوف الجيش منها موقف المتفرج، وجه مفتى الجمهورية رسالة إلى اللبنانيين أكد فيها "أن محاولة إسقاط الحكومة من خلال الشارع، ومن خلال حصار بيروت، عن طريق العنف والتهديد والقهر، لن تمر ولن نتركها تمر مهما كان الثمن"، وأجرى اتصالاً بقائد الجيش يومها ميشال سليمان طالباً منه وضع حد لتفاقم الأوضاع فى الشارع، وكذا فعل الرئيس السنيورة وقوى 14 آذار، الذين دعوا المواطنين اللبنانيين الذين انتفضوا على سلطة الوصاية، إلى الوقوف مجدداً دفاعاً عن وطنهم واستقلالهم وحريتهم، ودفاعاً عن حكومتهم الشرعية فى وجه الانقلابيين .
وبعد فشل كل محاولات المعارضة الانقلابية، توصلت إلى قناعة بضرورة القيام بانقلاب عسكرى فى 7 مايو "أيار" 2008 عندها وجه مفتى الجمهورية اللبنانية رسالة إلى الشعب اللبنانى والعالم العربى والإسلامى، تضمنت أول موقف حاد من نوعه من "حزب الله" مباشرة، ومن إيران دون أن يسميها، فقد اتهم المفتى قبانى الحزب مباشرة بأنه "تحول من مقاومة للاحتلال الإسرائيلى إلى قوة مسلحة لاحتلال بيروت وانتهاك حرماتها". ودعا "العالم العربى والإسلامى إلى وقف هذه الانتهاكات المفجعة"، معتبراً "أن لبنان يتعرض اليوم لمحاولة هيمنة حزب سياسى بدعم خارجى وتحت غطاء المقاومة"، وأضاف: "أن هذا الحزب اختطف قلب العاصمة بيروت منذ أكثر من عام، وحوَّله إلى معسكر لمسلحيه، وها هو اليوم يختطف مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريرى، ويحاول أن يبتر الدولة اللبنانية لتمرير مراقبة المطار، وشبكة الاتصالات التى يقيمها متجاوزاً الشبكة الرسمية"، وتوجه المفتى إلى أهل بيروت خصوصاً ولبنان عموماً "للعمل على درء الفتنة المذهبية، والتمسك بوحدتهم الوطنية والدينية"، وناشد قادة الحزب "أن يبادروا إلى سحب المسلحين من شوارع بيروت، وفك الاعتصام الذى يخنق العاصمة وأن يتقوا الله فى أهلهم وإخوانهم ووطنهم"، وختم قائلاً: "فالمسلمون السنة، قد ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات والانتهاكات، واللبنانيون جميعاً لم يعودوا قادرين على تحمل مزيد من المغامرات السياسية والأمنية، فلبنان وطننا جميعاً مسلمين ومسيحيين، ونحن له جميعاً، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد" .
ويقول السياسى اللبنانى البارز إن مواقف مفتى الجمهورية الممثلة لجموع أهل السنة فى لبنان، وضعته فى مرمى الأطراف المتضررة من الانسحاب السورى، وصار مستهدفاً، ويدلل هذا السياسى على موقف مماثل تعرض له البطريرك صفير الذى فتحت نفس المحطة الفضائية اللبنانية القريبة من المعارضة بوجهه ما زعمت أنه ملفات فساد فى الأوقاف المسيحية، رداً على مواقفه الوطنية التى تلتقى مع مواقف المفتى فى الدعوة إلى استقلال لبنان وسيادته والحفاظ على وحدته الوطنية .
ويقول السياسى اللبنانى البارز إن التطورات السياسية الأخيرة التى أدت إلى اتفاق الدوحة ونجاح "حزب الله" فى فرض معادلة مقايضة الاستقرار الأمنى بالمكاسب السياسية، وإلى سريان هدنة متوترة بين 14 آذار و8 آذار، فتحت الباب من جديد لعودة النفوذ السورى إلى لبنان، ووفرت الظروف لتصفية الحسابات ضد كل من ساهم فى ثورة الأرز والانسحاب السورى .
وأكد السياسى أن فتح ملفات الفساد، عبر محطة التلفزيون القريبة من المعارضة، بوجه المفتى قبانى، تأتى فى هذا السياق، وقال إن طبيعة القائمين على الحملة، من الرئيس الحص إلى رؤساء جمعيات دينية لبنانية مرتبطة بالمخابرات السورية، تكشف المستور من هذه المؤامرة .
وقال السياسى: إن المستهدف ليس القبانى بشخصه فقط، بل دار الإفتاء برمتها، ولم يستبعد هذا السياسى أن تضغط سورية لإلغاء منصب مفتى لبنان، ولتوسيع صلاحيات مفتى سورية ليصبح مفتى لبنان وسورية، بحجة أن البلدين وحدة جغرافية واحدة ولا داعى لوجود دارى إفتاء فى البلدين .
وأضاف: أن ما يتعرض له المفتى قبانى هو عملية اغتيال سياسى لا تختلف فى غرضها ومغزاها من الاغتيال الجسدى للمفتى الأسبق الشيخ حسن خالد، الذى اغتالته سورية، دون تمويه عمليتها بسبب مواقفه العروبية الشاملة، بينما كانت سورية تعتبر أن العروبة تمر فقط من دمشق، وبسبب اقترابه من الجنرال ميشال عون الذى كان يخوض فى ذلك الوقت حرب تحرير ضد السوريين، وقد سبق اغتيال المفتى خالد، تعرض دار الإفتاء ومنازله بانتظام لقصف بقذائف سورية، وهى حقيقة اطلعت عليها اللجنة الرباعية العربية .
عبدو شامي، مجلة الوطن العربي (دون ذكر الكاتب)
العدد : 1722 – تاريخ : 3/3/2010

7- كفى متاجرة بالشباب اللبناني

الاثنين 22شباط 2010، سقط مشروع قانون خفض سن الاقتراع في جلسة مجلس النواب مع امتناع 66 نائباً عن التصويت، هم نواب "المستقبل" و"القوات اللبنانية" وتكتل "التغيير والاصلاح "، فيما صوّت 34 نائبا الى جانب المشروع، هم نواب "حزب ولاية الفقيه" و"حركة امل" والبعثيين والقوميين والاشتراكيين.
وفور صدور نتيجة التصويت، التي كانت معروفة مسبقا وتصدّرت عناوين الصحف صباح ذلك اليوم، بدأت تتعالى اصوات نشاز تزايد على الممتنعين عن التصويت في احترام حق الشباب الوطني والمدني والسياسي الطبيعي بالاقتراع في الانتخابات البلدية والنيابية، وتتهمهم بأنهم "ضد الفتوّة والشباب"، لانهم "تنكّروا لوعودهم الانتخابية في خفض سن الاقتراع"، و"غدروا بالشباب الذي يشكّل عصب مهرجاناتهم وتظاهراتهم، فصوتوا ضده وضد انفسهم"! وذهب بعض المبالغين الى حد وصف تلك الجلسة الشهيرة بـ"حفلة الاعدام السياسي لأبناء الـ18،على ايدي الذين اوصلوهم الى الندوة البرلمانية"، معتبرين ان بعض النواب ممن امتنعوا عن التصويت "خجل من النظر في عيون أولاده وبناته عندما عادوا الى منازلهم"! وناشدوا الممتنعين ان " يتراجعوا ويقولوا الحق ويعملوا له ويحققوه بعيداً عن الانانية والشخصانية، خصوصا ان لبنان يقوى بشبابه وجميع اللبنانيين اخوة"!!
ومن ابرز مواقف هؤلاء "الغيارى" على حقوق الشباب، قول احد النواب المصوتين الى جانب المشروع: "كنا نتمنى أن نعلن اليوم أن زملاءنا والحكومة كانوا على موقفهم لإعطاء الشباب حقهم، ولكن بكل أسف أقول للشباب اللبناني بين سن الـ 18 و21: ان الكثير من الشعارات ومن المواقف قد سقطت في هذا المجلس النيابي من خلال موقف الرفض"... مشيراً الى ان "النظام الطائفي في لبنان أثبت أنه عصي على أي اصلاح"!!
فجأة دبّت الغيرة على الشباب اللبناني في نفوس هؤلاء "الابطال الاوفياء" الذين صوتوا الى جانب المشروع، وبدأوا يفاخرون بحرصهم على التطوّر وإعطاء الشباب حقوقهم، ويمنّنون الجميع بموقفهم "الشهم" في مجلس النواب، ظنا منهم ان الشباب في لبنان لا يدركون اسباب امتناع الممتنعين عن اقرار مشروع قانون خفض سن الاقتراع منفردا في تلك الجلسة، او انهم يجهلون الدوافع الحقيقية وراء حماسة المؤيدين والغايات التي ترسم سياساتهم. فيكفي لادراك مدى اخلاص هؤلاء الذين عرضوا على الاعلام عضلات غيْرتهم، ان صاحب التصريح الاخير الذي عزّى فيه الشباب وذم النظام الطائفي، ينتمي الى حزب طائفي حتى العظم، بل متطرف في الطائفية ومتوغل في متاهاتها، والدافع الاساسي وراء غيرته المصطنعة هو ان مشروع القانون يصب في صالح حزبه الذي يحتكر تمثيل الطائفة وقرارها، وكفى بذلك استخفافا بعقول الشباب اللبناني ومتاجرة بحقوقه ومشاعره.
الكل يعلم ان النظام السياسي في لبنان ليس قائما على أحزاب سياسية ديمقراطية صحيحة يجمع كل حزب منها مئات من جميع الطوائف اللبنانية بهدف تقديم الافضل لمصلحة الوطن، بل غالبية احزاب لبنان ذات طابع طائفي واحد، وابرزها على الساحة "حزب ولاية الفقيه"؛ فهو حزب طائفي بامتياز، استطاع احتكار تمثيل طائفته والاستئثار بقرارها، بفضل تلقيه دعما ماليا وعسكريا من دول لها مصالحها الخاصة التي تتعارض ومصلحة لبنان، ولذا نرى ذلك الحزب يقدّم مصالح داعميه على المصلحة الوطنية العليا. وبما ان ذلك الحزب بات يمثّل رغبا ورهبا الطائفة الاكثر عددا في لبنان، لا غاية له في هذه الايام الا احراج المجموعات اللبنانية الاخرى من خلال اصراره على تطبيق مشاريع حساسة تفوح منها رائحة الاستنسابية والانتقائية، طمعا بانتزاع مكاسب فئوية وشخصية وطائفية، ولو ادى ذلك الى اثارة المخاوف وتمزيق النسيج الوطني. واخطر ما يصر هذا الحزب على تطبيقه، هما مشروعان:
المشروع الاول: هو "انشاء الهيئة الوطنية العليا لالغاء الطائفية السياسية"، الذي يتلطون في طرحه خلف اتفاق الطائف الذي نص عليه في احد بنوده، متجاهلين باستنسابيتهم المغرضة البند الأول الاساسي في الدستور الذي ينص على استعادة الدولة لدورها وسلطتها وسيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، وحل الميليشيات وتسليم السلاح الى الدولة اللبنانية. وان امتلاك ذلك الحزب المسلح مشروعا دينيا يفاخر به وبامتداده الاقليمي، يؤكّد لنا ان مطالبته بتأليف تلك الهيئة ليست لوقف التعداد الطائفي وتعزيز الديموقراطية، وانما الهدف منها اقصاء الطوائف الأقل عددا عن الساحة السياسية، لانه اذا الغيت الطائفية من النصوص وبقيت في النفوس، فهذا يعني أن كل شخص سيصوّت لطائفته، وعندها ستهيمن الطائفة التي تضم العدد الاكبر، اي الطائفة الشيعية التي ينتمي اليها ذلك الحزب.
اما المشروع الثاني الذي يصر "حزب ولاية الفقيه" على اقراره، فهو خفض سن الاقتراع الى سن الـ18، الذي يبدو للوهلة الاولى خطوة اصلاحية حضارية، لكن عندما نعلم انهم يرغبون في اقراره بمعزل عن المشروع الذي يمنح المغتربين حق الاقتراع، ندرك انهم لا يزالون يعزفون على الوتر الطائفي والحسابات المذهبية الضيّقة، التي يتخذونها وسيلة للسيطرة على الحكم في لبنان والاستئثار بالسلطة.
اذ تشير الاحصاءات الى ان مجموع الناخبين المسلمين بين 18 و21 سنة هو 180,383ناخبا، أي ما نسبته 75,57% من مجموع اللبنانيين الناخبين من هذه الاعمار البالغ عددهم 238,683. يشكّل السنّة منهم 80,519 ناخبا، اي ما نسبته 33,73%، يقابلهم 85,595 من الشيعة، اي ما نسبته 35,86%. وفي المقابل، فان مجموع الناخبين المسيحيين في تلك الفئة العمرية نفسها، يبلغ وفقا للقوائم الانتخابية لسنة 2010 الحالية: 57,995 اي ما نسبته 24,30%.
وبالتالي، فإن اقرار مشروع قانون خفض سن الاقتراع بمعزل عن اعطاء حق الاقتراع للمغتربين اللبنانيين الذين يقدر عدد الناخبين منهم بما يقارب 600 ألف ناخب من بينهم نسبة كبيرة من المسيحيين المقيمين في الخارج، انما يعني المس بالصيغة اللبنانية التي يحميها اليوم التوازن الطائفي، وذلك عبر ضرب فريق طائفي معيّن يتألّف من المسيحيين على المدى القريب والسنّة على المدى البعيد، فضلا عن اقصاء فريق المغتربين عن المشاركة في الحياة السياسية لوطنهم والمشاركة في تحديد مستقبله، وما ذلك الا بسبب جموح ذلك الثنائي الشيعي و"حزب ولاية الفقيه" تحديدا نحو توسل الطائفية واكثريته العددية لتنفيذ مشاريع تتناقض مع التعددية والتنوع اللذين يتميز بهما النظام اللبناني.
ومن هنا، كان لا بد من اسقاط مشروع خفض سن الاقتراع في تلك الجلسة الشهيرة صونا للطوائف اللبنانية من ان تستبد بحكمها احداها، وحماية للنظام القائم في ظل هذا التنوّع اللبناني للطوائف الـ18، وحفاظا على ميثاق العيش المشترك والمناصفة الاسلامية-المسيحية، لأن اي مستقبل بغياب هذا التوازن معناه الدخول في ديكتاتورية الاكثرية اي حكم الشيعة، او التسريع فيه على الاقل.
ولا يقال ردا على ذلك: ان النواب الممتنعين عن التصويت اخطأوا بقرارهم، لأن الميزان الديموغرافي سيبقى يميل لمصلحة الطائفة الشيعية سواء جرى اقرار مشروع خفض سن الاقتراع تلازما وتزامنا مع مشروع اعطاء المغتربين حق الانتخاب، ام بدونه، او ان اصحاب الفئة العمرية ما بين 18و21 سنة سيتنخبون جميعهم بعد 3سنوات سواء اعطوا حق الاقتراع اليوم ام حرموا منه، فذلك منطق يفتقر الى الصواب وبعد النظر، لانه اذا قال لنا الاطباء مثلا ان المريض مصاب بمرض مميت ولا يتوقع له ان يعيش اكثر من سنة على ابعد تقدير، هل نقول لهم: لا داعي اذا لمحاولة علاجه فلنقتله الآن؟!
باختصار نقول: كان من الممكن فهم طرح مشروعي الغاء الطائفية السياسية وخفض سن الاقتراع منفردا عن اقتراع المغتربين، لو صدر عن جهات غير طائفية، اما صدوره عن الاحزاب الاكثر حشدا للمنتمين الى طائفة عبّأت اعضاءها تعبئة كاملة او شبه كاملة خدمة لمشروعها العابر للحدود، الى جانب نموها الديموغرافي الذي يفوق ديموغرافيا سائر الطوائف، فهذا يثير شبهة من الصعب تبديدها، توحي باتخاذهم تلك المشاريع وسيلة للسيطرة على الحكم، تبدأ باستباحة الحقوق والحريات لسائر الطوائف، وتنتهي بالانكفاء على النفس وتصفية المعارضين ضمن الطائفة السيّدة. ولنا في تصرفات النظام الايراني بعد الثورة الخمينية اوضح نموذج على ذلك.
لقد تاجروا بما يسمونه "مقاومة"، وبالقضية الفلسطينية، وزايدوا على الآخرين في عداوة اسرائيل وخونوهم، تاجروا بالتوطين، وباتفاق الطائف عند مطالبتهم بالغاء الطائفية السياسية، واليوم يتاجرون بالشباب اللبناني في خفض سن الاقتراع...فكفى مزايدة ايها التجار، كفى، كفى.
عبدو شامي
نهار الشباب وموقع القوات اللبنانية ومدونة ايلاف، نشر 3و4و12/3/2010

8- الهجمة على سليمان... حملة ستر ام حملة تشهير؟!

شن رئيس تيار التوحيد الوزير السابق وئام وهاب في 17 آذار 2010، حملة انتقاد شعواء على رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وصلت الى حد مطالبته اياه بالاسقالة، ومما جاء في كلامه: "إن ثمة عطلا أساسيا في رئاسة الجمهورية، وهذا الأمر أساسي في الشلل الحاصل على صعيد كل الدولة. فاليوم نفتقد الرئاسة القوية والرئيس القوي. ونظرية الرئيس التوافقي سقطت ولم توصل الى مكان، ربما حلت مشكلة خلال السنتين الأخيرتين. لكن هذه النظرية من الآن فصاعدا تعطل الامور أكثر مما تسهلها. نحن في حاجة الى رئاسة جمهورية تراقب كل الناس وكل المؤسسات، وتكون مسؤولة عن كل شيء. فالرئيس هو الرئيس الأعلى لكل المؤسسات، يجب أن يراقب كل التعيينات وكل عمليات الإهدار والتقصير. وإذا لم يعد قادرا على القيام بكل ذلك، فالاستقالة تصبح أفضل، لأننا لا نستطيع أن نكون في السنة الثانية للعهد وكأننا في أيامه العشرة الأخيرة".
واعتبر وهاب ردا على سؤال: ان "المسألة في الشخص (رئيس الجمهورية) لا في الصلاحيات. الرئيس السابق إميل لحود كان بدون صلاحيات وكان رئيسا شجاعا وقادرا على أن يمنع كثيرا من الأمور. لسنا مع رئيس يسمي نفسه توافقيا أو لا رأي لديه في كل ما يجري، أو يبقى على الحياد. لا يستطيع مسؤول أن يبقى على الحياد في كل ما يجري، يجب أن يكون له موقف واضح من كل القضايا، وإلا نشعر بأننا أصبحنا في آخر أيام العهد".
وفور صدور هذا التصريح الهجومي على ميشال سليمان، حظي رئيس الجمهورية بموجة ردود دفاعية واسعة عنه قادتها قوى 14 آذار بجميع اطيافها، وساندتها بعض المواقف المؤيدة الخجولة الصادرة عن قوى 8 آذار، ما شكّل رسالة مضادة لمحاولة التطاول على سليمان، بدت أقرب الى مبايعته مجدداً رئيساً توافقياً قبل شهرين من الذكرى السنوية الثانية لانتخابه في 25 ايار 2008.
وقد اتجهت معظم التحاليل السياسية، الى ان حملة التهجمات التي يتعرّض لها سليمان هي محاولة جديدة لاستهداف الدولة بجميع مؤسساتها، بدأت ملامحها واقعياً عقب زيارة الرئيس سليمان للولايات المتحدة في 13/12/2009، ثم تصاعدت مع دعوته الى عقد أولى جلسات الحوار المستعاد في قصر بعبدا في 9/3/2010، والتوقيت الذي اختاره للاعلان عنها؛ فقد اعلن سليمان تشكيل هيئة الحوار الوطني في 28/2/2010، اي بعد القمة الثلاثية (قمة الحرب)التي انعقدت في دمشق في 25/2/2010 وجمعت الرئيس سوري بشار الاسد ونظيره الايراني محمود احمدي نجاد وامين عام "حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله، الذي توجه الى العاصمة السورية بمواكبة من طائرات الاستطلاع الاسرائيلية التي لم تغادر الاجواء اللبنانية في ذلك اليوم، كما جاء الاعلان عن طاولة الحوار عقب مطالبة ملحة من قوى 14 آذار بعقدها، وبعد ان دعا الامين العام للامم المتحدة بان كي مون في 27/2/2010 رئيس الجمهورية صراحة الى معاودة جلسات الحوار الوطني حول استراتيجية الدفاع الوطني بغية التوصل الى اجماع وطني حول هذا الموضوع، فاختار سليمان يوم 9 آذار تاريخا لعقد اولى جلسات الحوار، الامر الذي خلّف استياء بحسب هؤلاء المحللين لدى السوريين وقوى 8 آذار.
كما رد بعض المحللين الحملة على سليمان، الى بعض الملابسات التي حصلت في جلسة الحوار الاولى، مع حذف بند من بيانها الختامي كان يتضمن كلمة المقاومة. فقد تنبه الرئيس فؤاد السنيورة، الذي تولى مع المدير العام في رئاسة الجمهورية السفير ناجي ابو عاصي مراجعة مسودة البيان التي اعدت في رئاسة الجمهورية، الى عبارة "حق لبنان بجيشه وشعبه ومقاومته في الدفاع عن لبنان"، التي ادرجت فيه فحَذَفَها. وعندما وزعت النسخ على المتحاورين، بادر رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد الى السؤال عن سبب حذفها، فجاء الجواب تباعا من مسيحيي 14 آذار الذين اعتبروا العبارة نقطة خلافية. فانتهى الامر بتدخل الرئيس سليمان طالبا شطب العبارة ما دامت لم تحظ بتوافق المجتمعين.
وقد تزامنت هذه الحملة ايضاً، مع تصعيد مماثل استهدف رئيس الوزراء سعد الحريري وافتعال ما سمي قضية "الاتفاق الامني" مع الولايات المتحدة الذي تبين ان اتفاقات مماثلة له عقدتها بلديات جنوبية تابعة لـ "حزب ولاية الفقيه" مع الجهة الاميركية عينها، ما شكّل قناعة لدى القوى السيادية ان الحملة على الرئاسة وبعض المؤسسات التي يتولاها عدد من الحلفاء السياسيين والحزبيين لسوريا، هي من اجل فرض شروط ومعطيات جديدة على اركان الحكم والمؤسسات في ضوء معطيات اقليمية باتت توفر لدمشق هامشاً اكبر في اطلاق يدها في لبنان مجدداً.
وفي المقابل، ثمة رأي آخر لم يجد له محلا في وسائل الاعلام، ينص على ان الحملة التي يتعرض لها رئيس الجمهورية ليست حملة استهداف وتشهير وتطويع، بل حملة ستر ودعم وتأييد لخطه السياسي المنحاز لفريق 8 آذار، والذي بدأ يتكشّف تدريجيا منذ اعتلائه سدة الرئاسة الى اليوم.
1- ففيما يتعلق بالزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية الى الولايات المتحدة في 13/12/2009، والتي عدها المدافعون عن سليمان اولى اسباب التهجم عليه، يمكن القول انها لا تستحق هذا القدر من الاهمية لجعلها سببا لاستياء سوريا وحلفائها من الرئيس اللبناني، فقد ركّز سليمان في جدول اعماله على ما يشبه اللغة او الخطاب اليومي لسلفه الرئيس اميل لحود طوال تسع سنين، اي "التوطين" وسلاح ما يسمى "المقاومة"، اللذين حمل لواءهما العماد عون كذلك بعد عودته من فرنسا. ولم يخرج سليمان عن السياق الذي فرضه عصر الوصاية في التعامل مع دمشق، فقد حرص على احاطة بشار الاسد بمضمون الزيارة واهدافها في اتصال هاتفي اجراه معه عشية مغادرته، وربما عبر قنوات اخرى غالباً ما يستخدمها، هذا فضلا عن زيارة التعزية التي قام بها الى سوريا في 18/12/2009، التي استغلها لاطلاع بشار الاسد على نتائج الزيارة التي قام بها الى واشنطن.
2- وكذلك، يمكن ان يعدّ مبالغا من اعتبر دعوة سليمان لمعاودة جلسات الحوار الوطني والتوقيت الذي اعلن فيه عن تأليف هيئتها، سببا لامتعاض قوى 8 آذار وبالتالي احد اسباب الحملة التي شنّها البعض ضد الرئيس؛ ذلك، ان كلا الفريقين، وخصوصا فريق 8 آذار، يعلم علم اليقين ان هذه الطاولة لا قيمة لها، وما سيتمخض عن جلساتها لن يؤثر قدر انملة على المشروع الخارجي الذي يسير فيه "حزب ولاية الفقيه"، الذي سيبقى مصادرا قراري الحرب والسلم من يد الدولة، ومحتفظا بسلاحه الذي ينعم بزيادة وتطوّر مستمرين ليس لمقاومة اسرائيل، بل لمقاومة الدولة اللبنانية واحكام السيطرة عليها. فطاولة الحوار اليوم، فضلا عن كونها مخالَفة وبدعة دستورية لتهريب المواضيع الحساسة من مؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء، ليست اكثر من "هايد بارك" للاطراف السياسية لكي تدلي بآرائها بكل صراحة حول الاستراتيجية الدفاعية وسلاح ما يسمى "مقاومة"، في حين لن يطبّق في النهاية سوى رأي قوى 8 آذار الذي تفرضه بقوة سلاحها. وهذا ما عبّر عنه عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب نواف الموسوي في 20/3/2010، عندما اكّد: ان "احداً لا يستطيع شطب المقاومة من حيث يجب ان تكون... ومن حاول شطبها من البيان الوزاري شطبته من الوزارة. ومن تسلل الى شطب المقاومة من بيان لا قيمة له شُطِب".
اضف في هذا السياق، ان قوى 14آذار لم تنظر بعين الارتياح الى المعايير التي اعتُمِدت في الهيئة المعدّلة، اذ جاءت بعد توسيعها من 14 عضواً الى 19 بمثابة تكبير لحصة قوى 8 آذار والمعارضة و"الوسطيين" على حساب الغالبية. فقد شكلت الهيئة واقعا من سبعة ممثلين لقوى الغالبية و14 آذار، وسبعة لقوى المعارضة و8 آذار، وخمسة وسطيين.
ومن هنا نخلص الى ان الاسباب التي ساقها المدافعون عن سليمان تعدّ ضعيفة وواهية وغير كافية، ليستدلوا بها على ان تهجمات بعض المفلسين سياسيا وشعبيا عليه والباحثين عن منبر اعلامي او موقف شاذ او متطرّف ليُعَوِّموا به موقعهم المندثر، امثال الوزير السابق وئام وهاب والرئيس عمر كرامي، انما تعبّر عن "استهداف مشبوه لرئيس الجمهورية وموقع الرئاسة، وتنم عن محاولة لاستئناف الهجوم على الاستقرار ومرتكزه الاساسي في الدولة"، او انها تعكس "عدم رغبة البعض في قيام دولة فاعلة وقادرة لأن قيامها سيكون على حساب بعض الاحزاب غير المستعدة لفقدان السلطة التي تتمتع بها حاليا".
وهنا، لا بد للسؤال الجوهري ان يطرح نفسه: فإذا لم تكن هذه التهجمات جزءا من محاولة اضعاف رئيس الجمهورية والتشهير به من قبل سوريا وحلفائها، كيف لها ان تكون محاولة لتأييده ودعمه وستره من قبل ذلك الفريق المتهم اصلا بمحاولة اضعافه؟!
الجواب على هذا السؤال ليس صعبا، لكنه يحتاج الى استعراض تاريخي لبعض مواقف سليمان وردود فعل قوى 14 آذار عليها، وعندها ستتضح الامور وتنقشع الرؤية وينجلي الغبار، مظهرا ان المراد من تلك الحملة هو دعم رئيس الجمهورية وتغطيته وتأييده بعد انكشاف امر انحيازه لقوى 8 أذار.
1- في 27 ايلول 2009، يوم كانت ازمة تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009 في اوجها، وقوى 14 آذار الفائزة بالاكثرية النيابية تواجه العراقيل السورية-الايرانية التي وضعتها المعارضة في طريقها من اجل الحؤول دون تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، اكد الرئيس ميشال سليمان في حديث لصحيفة "الحياة"، انه "لا يعتقد ان هناك أي دور سوري او ايراني في العجز عن تشكيل حكومة لبنانية"! وأن السوريين "ليس لديهم النية بالعرقلة أبداً، وكذلك الأمر ليس لديهم النية بالتدخل بالشؤون الداخلية اللبنانية"! وعن توزير الراسبين الذي عارضته قوى 14 آذار بشراسة، أكّد سليمان أن "عدم توزير الراسبين ليس دستوراً، وإذا كان عُرفاً فقد خُرق مرات عدة، والمصلحة الوطنية هي الأجدر بالالتزام بها".
وقد لاحظت مصادر مطلعة عبر صحيفة "اللواء" في29/9/2009، "أن الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية من موضوع توزير الراسبين في الانتخابات، أدى الى حالة إرباك على صعيد استشارات الرئيس المكلف الذي فوجئ بهذا الموقف والذي أعلن من دون تنسيق مسبق، لكن الرئيس الحريري آثر عدم الرد عليه حرصاً على مسيرة التعاون مع رئيس الجمهورية". وقد شد هذا الموقف عصب المعارضة ودفعها الى مزيد من التصلب والعناد في مطالبها التسلطية، اذ يعد ذلك بمثابة اعطاء براءة ذمة لسوريا وايران عبر قوله انهما لايتدخلان في الشؤون اللبنانية، وفيه ما فيه من تجاهل لارادة الناخبين لناحية عدم ممانعته توزير الراسبين بحجة انه ليس عرفا.
2- ومع انسداد افق تشكيل حكومة ما يسمى "وحدة وطنية" بسبب الشروط التعجيزية التي وضعتها المعارضة، برزت عدة اصوات استقلالية سيادية تطالب بتشكيل حكومة اكثرية، وكان من ابرز هذه المواقف ما ادلى به رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في 7/10/2009 عندما لم ير في مقابلته مع وكالة رويترز "ان فرص تشكيل الحكومة صارت كبيرة"، وقال: "انا ارى، ويا للاسف، ان الامور لا تزال مكانها ما دام الرئيس المكلف يصر على حكومة ائتلاف وطني والآخرون مصرون على شروطهم". وأوضح أنه "في غضون اسبوع او عشرة أيام، اذا لم يتبين ان هناك جدية في تشكيل حكومة ائتلافية، فيجب على رئيس الجمهورية ان يستعمل القلم الذي في حوزته. لا يمكنه أن يترك البلد من دون حكومة". وكان رد الرئيس ميشال سليمان على هذه الدعوة، تشديده في27/10/2009 خلال حديث إلى صحيفة "الأخبار"، على أنه "لن يوقّع إلا حكومة وحدة وطنية ميثاقية، متوقعاً حصول ذلك قريباً جداً". وقد صب هذا التصريح ايضا في الاتجاه الذي يخدم اطماع المعارضة، وزاد من منسوب ابتزازها فريق الاكثرية.
3- وعندما تكلّم رئيس الجمهورية عن ما يسمى "مقاومة" وكأن ثمة اجماعا عليها من اللبنانيين، في عيد الاستقلال 23/11/2009، وجه اليه الدكتور سمير جعجع في 10/12/2009 انتقادا مؤدبا ولاذعا، وذلك في معرض رده على موضوع تهجم البعض على زيارة رئيس الجمهورية للولايات المتحدة قائلا: "نحن من يجب أن تكون لديه بعض الملامة على بعض المواقف التي اتخذها الرئيس، خصوصا عندما تكلم في عيد الاستقلال وخلال عرض الجيش اللبناني عن المقاومة"، وأضاف "لا أعرف أي مقاومة، لانه عندما نتحدث عن مقاومة فذلك يعني أن كل الشعب اللبناني يجب أن يكون موجودا فيها، فنحن من يجب أن تكون لديه ملامة حول كيف انه يستمع الى الاميركيين، وكيف ان هذا الامر يتناسب مع المواقف التي يتخذها، والتي أعتبرها أنا شخصيا منحازة في اتجاه وجهة نظر الفريق الآخر، وهذا يتناقض مع ذاك".
4- في 23/1/2010، وتعليقا على الحملات التي تطاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، اعتبر جعجع "ان فخامة الرئيس هو من يعرض نفسه لهذه الحملات، بمعنى أنه كلما وضعوا امامه عرقلة ما أو شنوا هجوما عليه يحاول لايقاف هذه الحملات، ارضاءهم. وعندما وجدوا ذلك مناسبا لهم أكملوا على هذا المنوال "لقيوها تجارة ربّيحة"، اذ عندما يريدون شيئا منه يشنون حملة عليه. هذا من جهة،ومن جهة اخرى (اضاف جعجع)، هذا المسار، في رأيي، جعل رئيس الجمهورية يحيد عن موقعه التوافقي الذي كان فيه في الاشهر الاولى من عهده، فاذا رأينا مواقفه في كل المحافل العربية او الدولية او حتى في لبنان فهي اقرب الى الفريق الآخر، لقد اتى رئيس الجمهورية على اساس توافقي، وذلك يعني ان مواقفه يجب ان تكون الحد الادنى المتوافق عليه بين جميع اللبنانيين، وآسف لذلك واتمنى ان يأخذ مجددا موقعه التوافقي بغض النظر عن الهجومات التي يتعرّض لها من الفريق الآخر، لانه اذا اراد اعطاءهم تحت ضغط الهجوم عليه سيهاجمونه باستمرار".
5- في 5/2/2010، اعتبر رئيس الجمهورية ميشال سليمان "ان الدول وفي ظل هذه المتغيرات (ما بين عامي 2000و2010)، بدأت التفكير بالديموقراطية التوافقية التي تعطي الجميع دورا في الحياة السياسية حيث يبدو النموذج اللبناني في هذا المجال المثال الافضل من بين الانظمة الديموقراطية".وإذ لفت الى "أن ما حصل من تغيير بين عامي 2000 و2010 على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية جعل العالم يكتشف إشكالات الديموقراطية العددية التي تهمش وجود الاتنيات الأقلية ودورها، ويكتشف كذلك مساوئ تفلت النظام الرأسمالي من قيوده وضوابطه"، شدد على "أن النموذجين المتبعين في لبنان سياسياً واقتصادياً يشكلان عاملين أساسيين في ترسيخ الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي(..)".
ولا يخفى ما في هذا التصريح من تبن واضح وصريح لوجهة نظر المعارضة؛ فما يعرف بالـ"ديموقراطية التوافقية"، انما يعني ان تتنازل الاكثرية عن حقها في الحكم، ما يجعل الانتخابات النيابية دون جدوى. ثم ان مسألة فرض "التوافقية" التي يعيش اللبنانيون اليوم رهائن لها ليحكم لبنان على اساسها، تمس مباشرة النظام الديموقراطي البرلماني الذي جرى الارتضاء به مرجعاً وحكماً منذ عهد الاستقلال الاول وصولا الى دستور الطائف عام 1989. وفي قراءة متأنية لوثيقة "حزب ولاية الفقيه" السياسية التي اعلنها في 30/11/2009، يُلاحَظ انها لم تكرر فقط رفض الاعتراف بمرجعية اتفاق الطائف ميثاقا ودستورا، لكنّها جعلت الوطن معلّقاً على شروط، والدولة مشروعا مؤجلا بشروط أخرى، وذهبت إلى جعل الدستور نفسه معلقا تحت عنوان "الديموقراطية التوافقية" بديلا من "الديموقراطية البرلمانية".
ففي موضوع "الدولة والنظام السياسي"، رأت الوثيقة ان "المشكلة الاساسية هي الطائفية السياسية" وان "الشرط الاساسي لتطبيق ديموقراطية حقيقية يمكن على ضوئها ان تحكم الاكثرية وتعارض الاقلية هو الغاء الطائفية السياسية". وأضافت: "والى ان يتمكّن اللبنانيون من تحقيق هذا الانجاز(...)،فان الديموقراطية التوافقية تبقى القاعدة الاساس للحكم في لبنان (...) وتشكل صيغة سياسية ملائمة لمشاركة حقيقية من الجميع".
وبهذا الطرح او الفرض الذي ينسف اسس الطائف، يجعل الحزب نفسه رابحا في كلا الحالين، اذ "التوافق" (كما هو معمول به الآن) يعني فرض اوامره عل الاكثرية، والغاء الطائفية السياسية يعني تحكّمه بالبلاد بفضل سلاحه وتفوّق طائفته العددي التي يحتكر قرارها وتمثيلها، بلا حاجة الى توافق.
6- في 25/2/2010 رضخ الرئيس سليمان لضغوط إسرائيل و"حزب ولاية الفقيه" بإلغاء صفقة "الميغ" الروسية، وذلك بعد ان اجمعا على رفض تزويد سلاح الجو اللبناني بها. فقد "تمنى" سليمان على الحكومة الروسية اثناء زيارته روسيا، استبدال الهبة التي سبق ان وعدت بتقديمها الى لبنان صيف 2008، والمؤلفة من 10 طائرات "ميغ29"، بطوافات عسكرية من طراز "مي 24" المتطورة والتي تعتبر من اهم الطوافات العسكرية في الصناعة الروسية، وذلك لسد حاجة الجيش الملحة الى هذا النوع من المروحيات خصوصا مع تزويدها بصواريخ خاصة بها. وجاء طلب استبدال هذه الطائرات المقاتلة والقوية بأسلحة اخرى للجيش اللبناني، بحجة كلفة صيانة طائرات "الميغ" المرتفعة واثمان قطع غيارها، التي تنوء موازنة المؤسسة العسكرية تحت اعبائها.
وكان الجانب اللبناني استند في طلبه الى دراسة أجرتها قيادة الجيش عن طائرات "الميغ" بحيث تبين ان الحاجة الملحة راهناً هي الى هذا النوع من الطوافات العسكرية المجهزة بصواريخ ووسائل قتال دفاعية متطورة.
الا ان حقيقة محاولة سليمان ابعاد "كأس الميغ" الروسية عن شفتي عهده "الموصوم" بـ"الاعتدال والحيادية المفرطين" (بحسب ما افادته صحيفة السياسة الكويتية) لتمرير سنواته المتبقية في الحكم بأقل اضرار ممكنة دون ان يضطر لمواجهة احد لا في الداخل ولا في الخارج، تكمن في ان قيادة حسن نصر الله مدعومة سرا من قيادة الجيش السوري، ترفض رفضا قاطعا حصول الجيش اللبناني على مقاتلات جوية او اي نوع من انواع الاسلحة المتطورة التي يمكن لها ان تواجه منظومته الصاروخية وترسانته التقليدية في حال انقلاب الاوضاع في لبنان رأسا على عقب لغير صالحه، باقدام المجتمع الدولي على تقليم اظفار ايران النووية واقتلاع انيابها الذرية. وقد تلاقت رغبة الحزب الايراني وسوريا مع وجهة النظر الاسرائيلية، فقد قالت اوساط ديبلوماسية لبنانية في فيينا واكبت زيارة سليمان الى موسكو عن كثب، ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو كان "تمنى هو ايضا على الرئيس الروسي مدفيديف في موسكو قبل اسبوع من زيارة سليمان روسيا، "تأجيل" البدء بتسليم هدية الطائرات العشر الى لبنان حتى اواخر هذا العام، كيلا يُضطر سلاح الجو الاسرائيلي للاشتباك معها في حال التصدي له.
7- مع بداية شهر شباط 2010، بدأ يثار في الاوساط السياسية موضوع القمة العربية المقرر انعقادها اواخر آذار في ليبيا. فقد رأى المجلس الشيعي الاعلى في بيان اصدره في 4/2/2010، "ان مشاركة لبنان، على أي مستوى في القمة العربية المزمع انعقادها في ليبيا، تخلياً عن المسؤولية الوطنية تجاه جريمة إخفاء سماحة الإمام السيد موسى الصدر وسماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، كما يعتبرها تحدياً لمشاعر اللبنانيين من جهة، وتجاوزاً للقضاء اللبناني وأحكامه من جهة أخرى". ثم ما لبثت ان كرّت سبحة التصاريح التهديدية والترهيبية الصادرة عن "حركة امل" و"حزب ولاية الفقيه" للدولة اللبنانية لثنيها عن المشاركة في تلك القمة.
وفي 11آذار 2010، أبلغ رئيس الجمهورية ميشال سليمان مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها الخميس في قصر بعبدا، انه لن يشارك في القمة العربية التي ستعقد في ليبيا في أواخر الشهر الجاري،
وردّت صحيفة "الاخبار" ذلك الى "أخذه في الاعتبار مشاعر الطائفة الشيعية التي لا تزال تنتظر جلاء قضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، على ان يتم خفض تمثيل لبنان في القمة الى المستوى الأدنى".
وعدّ رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الموقف حسب "الاخبار" "انتصاراً سياسياً، لا في وجه أحد في لبنان، بل في وجه الحكم في ليبيا الذي يرفض متابعة الموضوع". وصرّح مصدر وزاري رافضا ذكر اسمه في 13/3/2010، ان سليمان "لن يشارك في قمة ليبيا على اساس ان فريقا من اللبنانيين طلب منه ذلك، وعلى رأسه رئيس المجلس النيابي نبيه بري".
ولعلنا بعد سرد هذه المواقف المنحازة لفريق 8 آذار والصادرة عن رئيس الجمهورية "التوافقي" بامتياز ميشال سليمان (مرشّح قوى 8آذار منذ عام 2007)، مضافا اليها ما صدر عن بعض اركان قوى 14 آذار من مواقف ممتعضة من خروج سليمان عن التوافقية التي انتخب على اساسها، لعلنا بعد ذلك ندرك ان الحملة التي شنها عليه وئام وهاب كانت من قبيل ما يعرف بـ "التأييد الانعكاسي"، الذي يستعمل عادة من بعض التنظيمات إمعاناً في سَتْر فرد من افرادها اذا خُشِيَ عليه من انكشاف امره، اذ تَعمَد قيادة التنظيم (المحور السوري-الايراني) إلى توجيه بعض المعروفين بالانتماء إليه (وئام وهاب) لمقاومة ذلك العنصر الذي يُراد سَتره (ميشال سليمان)، ولمهاجمة أفكاره وانتقادها بصورة لا تجرَح جوهر المذهب (المحور) الذي يُراد التبشير به وترويج مبادئه، أو لانتقاد تصرُّفاته الشخصية . وبذلك تضمن المنظَّمة توجيه الفكرتَين المتصارعتَين أو المذهبَين المتضادَّين صوريا، ضمن الخطوط المرسومة لهما، فتُمدُّ أحدهما بمقدار، ثم تُمِدُّ الآخر بمِقدار، وتُقيم بينهما تمثيليَّة الصراع بمقدار، ويجري كل ذلك وفق خطط مرسومة تحقِّق أهداف المنظمة.
هذا، وقد جرى توزيع الادوار على النحو التالي: ففي حين جُنِّد وئام وهاب وعمر كرامي ليكونا رأسَي حربة في الهجوم على سليمان، رأى الوزير محمد فنيش المنتمي الى "حزب ولاية الفقيه" ان "لا حملة على الرئيس سليمان، وهذا موقف شخص واحد واتخاذ موقف يكبر الامور". كما اعتبر الرئيس نبيه بري في 17/3/2010، عندما سئل في اي خانة يضع هذه الحملة؟ "ان هذا الموضوع يعطى اهمية اكثر مما يستحق، ويهمني ان اقول امرا فقط، انه على طاولة الحوار ليس فخامة الرئيس من طلب شطب كلمة المقاومة، انما هو من كان قد هيأ مسودة للبيان، فحرام التظلم".
وبالفعل، فقد آتت هذه المكيدة ثمارها، وذلك مع اتساع ردود الفعل على الحملة التي استهدفت الرئيس سليمان على نحو لافت، لتشمل اتجاهات سياسية مختلفة، فكانت اشبه باعادة مبايعة سليمان كرئيس توافقي بعد نحو سنتين من انحياز واضح مارسه لمصلحة قوى 8آذار، وتوجت هذه الردود في 18/3/2010، بموقف للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الذي قال: "كل مرة يفتشون عن احد ليتهجموا عليه، والآن جاء دور الرئيس سليمان الذي يقوم بعمله على افضل وجه"، مؤكداً ان "علينا ان نقف الى جانبه". كما كان لافتا موقف رئيس الهيئة التنفيذية لحزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع، الذي رأى ان المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية "تلقى ارضية خصبة داخل قوى 8 آذار، والا لما كان متيسراً للاشخاص الذين اطلقوا هذه الدعوات ان يقوموا بذلك". وتمنى "ألا تكون الاحزاب الكبرى في 8 آذار وخصوصاً "حزب الله" وحركة "امل" تقف في مكان ما خلف هذه الدعوات وهذا ما اشك فيه"، واصفاً الدعوات بأنها "أبعد من الذين يطلقونها".
ولعل خير ما نختم به هذا التحليل للاستدلال على مدى نجاح المعارضة في ستر انحياز رئيس الجمهورية، ربما تمهيدا وافساحا للمجال امامه لاتخاذ مزيد من المواقف المنحازة، التي لن يجرؤ ربما اركان قوى 14آذار على انتقادها صراحة اذا ظهرت بعد هذه الحملة المكيدة، قول احد الصحفيين: " هل يجب أن نشكر بعض المشككين بمسيرة الرئيس ميشال سليمان الوفاقية على تصريحاتهم ومقالاتهم التي أدت الى مبايعة جديدة ومساندة وتأييد سياسته الحكيمة والمعتدلة. إن ضريبة النجاح غالية، فالرئيس سليمان نجح في نقل لبنان من بلد مقسم الى بلد موحد بتأليفه حكومة اتحاد وطني. وها هو قد جمع جميع القيادات ومن جميع المناطق والطوائف والتيارات السياسية المختلفة تحت سقف بعبدا. فهل المطلوب ان يكون طرفاً حتى يرضي فئة دون أخرى؟ وهل انتخب ليكون رئيساً لفريق دون آخر؟ طبعاً لا، فالشعب اللبناني بفئاته المختلفة قال كلمته واجمع على رئيس وفاقي تكون له كلمة الفصل عندما تشتد الأزمات. إن هذه الهجمة على الرئيس والاجماع العام عليه تؤكد المثل الشائع "إن أمه صلت له في ليلة القدر"، وهذا صحيح فهذه الأم التقية، ربّت أولادها الاربعة وعلمتهم التربية الصالحة والسلوك المستقيم واحاطتهم بشغفها وحنانها. وقد اعطت لبنان واللبنانيين هذا النموذج الصارخ، الذي طبق عليه فعلاً وقولاً "القوة الهادئة" التي لا تهزها الرياح والعواصف العابرة و"يا جبل ما يهزّك ريح" كما يقول المثل الشائع. فتحية لها بمناسبة عيد الأم لأنها انجبت قائداً لمسيرة بلاده الى الشاطئ الأمين".
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر22/3/2010

9- الى الرئيس الحريري لمناسبة عيد البشارة


دولة الرئـيس سعد رفيق الحريري، اتوجه اليكم لمعايدتكم لمناسبة عيد البشارة الذي وافق مجلس الوزراء بناء على اقتراحكم، على اعتباره عيدا وطنيا وعطلة رسمية، "يعيّد فيه المسيحيون والمسلمون معا"، في 25 آذار من كل عام .
لكنني اثناء كتابتي هذه الكلمات، راجعت نفسي وتساءلت: اعايدك يا دولة الرئيس بعيد البشارة، نعم، لكنها البشارة بمن؟! أهي البشارة بالمسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، الذي رفع الى السماء عندما اراد اعداؤه قتله وصلبه، كما يعتقد المسلمون؟ ام هي البشارة بيسوع المسيح، الاله الابن، الذي ارسله الاله الاب الى الارض فولد من رحم العذراء مريم البتول ثم صلب ظلما ليكفّر عن خطيئة البشر، فمات مصلوبا ودفن ثم قام من بين الاموات، كما يعتقد المسيحيون؟!
دولة الرئيس، لا اخفي عليك ان الاحتفالات المشتركة بين علماء الدين المسلمين ورجال الدين المسيحيين بعيد البشارة، الذي يسمى عند الاباء المسيحيين رأس الاعياد او اصل الاعياد ونبعها، كانت اشبه بعملية تكاذب متبادل او قول للشيء ونقيضه في آن واحد، مما اوقع اللبنانيين الذين تابعوا هذه الاحتفالات على تنوّع طوائفهم في حيرة من امرهم، حتى ذهب بعضهم الى التساؤل عن الجدوى من جعله عيدا مشتركا بين الطائفتين الكريمتين في ظل هذا التناقض الواضح في نظرة كل من الديانتين للمسيح عليه السلام او حتى لامه مريم العذراء المطهّرة، نظرا لصعوبة او تعذر الفصل بينهما.
ففي حين كانت تلقي على مسامعنا فرقة ترانيم مسيحية ترنيمة بعنوان "يا ام الله"، كنا نستمع بعدها لانشودة اسلامية تؤكد الطبيعة البشرية (الناسوتية) للمسيح وامه مريم!
فهل يكفي لجعله عيدا مشتركا بين المسلمين والمسيحيين، مجرد ورود ذكر البشارة في القرآن والانجيل، بصرف النظر عن طبيعة المبشّر به؟! واذا كان ذلك كافيا، فلماذا لا نعتبر عيد الميلاد المجيد عيدا مشتركا بين الطائفتين اسوة بعيد البشارة، كونه ذكر في القرآن الكريم ايضا، وكذلك عيد الفصح كون رفع المسيح الى السماء موجودا في الديانتين كذلك، بغض النظر عن توقيت الرفع، اي سواء حصل قبل الصلب او بعده؟! ثم لماذا لا نلحق بهذه الاعياد الثلاثة، عيد الصليب، فالصلب ذكر في القرآن وان كان قد نفي عن المسيح واثبت لشبيهه؟!
ان الوحدة الوطنية والعيش المشترك يا دولة الرئيس، لا تكونان من وجهة نظري المتواضعة بأن يحضر المسلمون قداس الاحد، ولا بأن يشارك المسيحيون في صلاة الجمعة، كما لا يكونان بتحميل الاعياد اكثر مما تحتمل، او بالبحث عن نقاط مشتركة ومتشابهة في ظاهرها بين الديانتين في حين تكون متناقضة في حقيقتها وباطنها، ثم التمسك بهذا الظاهر واعتباره عنوانا جامعا.
الوحدة الوطنية من وجهة نظرنا، انما تتحقق وتتعزز بالتقارب الاجتماعي بين اتباع الديانتين الاسلامية والمسيحية في بلدنا الحبيب لبنان، وذلك من خلال التركيز على اشاعة آداب التعامل مع الآخر في الاسلام والمسيحية، وهي آداب نابعة من مفاهيم المحبة والتآخي والتراحم والتناصح التي تعبق بها تعاليم الديانتين، ثم العمل على ترسيخها في نفوس ابناء هذا الوطن، والحث على تمتين اواصر النسيج الوطني اللبناني، عبر انفتاح اللبنانيين على اختلاف طوائفهم بعضهم على البعض، وخروجهم من التقوقع الطائفي والانعزال المناطقي الى رحاب الوطن المتنوعة والواسعة.
فسر نجاح التقارب المسيحي-الاسلامي في لبنان، لايكمن في تحميل العقائد ما لاتحتمل كما حصل في عيد البشارة، بل في العمل على الجانب الاخلاقي في الديانتين، الذي يحض على المحبة والسلام والمسامحة والاحسان، واشاعته بين الناس، مع تحييد البعد العقائدي المعقد والشائك في كثير من جوانبه.
وانطلاقا مما تقدم، ولاننا نريدها وحدة وطنية صادقة ودائمة وراسخة، حبذا يا دولة الرئيس، لو كنتم قد استعضتم عن اقتراحكم ذاك، باقتراح تخصيص يوم وطني جامع ومشترك بين اتباع الديانتين، يحمل اسم "يوم او عيد الوحدة الوطنية والعيش المشترك"، على ان يمثل صورة جديدة وناصعة من صور الوحدة الوطنية في لبنان، بحيث يخصص للتزاور والتعارف والتآلف بين اتباع الديانتين، على صعيد العائلات والجيران والاصحاب، وبذلك تتمتن العلاقة الاخوية والاجتماعية والوطنية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، ويخرجون من حالة التقوقع الذميمة والمدمِّرة، النابعة من مفاهيم وافكار خاطئة يتم الباسها عباءة الدين احيانا، وهي مغالطات يعيش كثيرون من ابناء هذا الوطن العزيز اسرى ورهائن لها.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر1/4/2010

10- في ذكرى 13 نيسان: كلنا فريق واحد

بروح رياضية عالية واجواء ودية راقية، تقاذف السياسيون يوم الثلثاء 13 نيسان في الذكرى الـ35 لاندلاع شرارة الحرب اللبنانية، كرة الوحدة الوطنية والعيش المشترك على ملعب المدينة الرياضية في بيروت، في مباراة استعراضية دامت نصف ساعة، اكتشف خلالها اللبنانيون الوجه الآخر لسياسييهم البارزين. وعلى سبيل التندر والفكاهة تناقل الشارع الكروي اللبناني النوادر الآتية:
تلقى الرئيس سعد الحريري عروضا بمبالغ خيالية من ناديي "برشلونة" و"ريال مدريد" الاسبانيين، اللذين ابديا رغبتهما في انضمامه الى صفوفهما بعد الاداء الرائع الذي اظهره في مباراة "كلنا فريق واحد، فكان رد الكابتن سعد حاسما: "لبنان اولا". كما حُكِي عن استدعاء الرئيس الحريري للالتحاق بصفوف المنتخب السعودي (الذي يحمل جنسيته)، وذلك دعما للمنتخب بعد اخفاقه في التأهل لكأس العالم 2010.
اما النائب علي عمار عضو كتلة "الوفاء للمقاومة"، فقد تلقى فور انتهاء المباراة تكليفا شرعيا بالانضمام الى نادي "استقلال طهران" الايراني، نظرا الى المهارات الكروية التي يتمتع بها.
اما وزير "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، فتناقلت الاوساط الرياضية في الكواليس خبر تلقيه اتصالا هاتفيا من احد الضباط السوريين، للالتحاق في صفوف نادي "الجيش" السوري الذي يتصدر ترتيب دوري بلاده، كما تلقى عرضا مماثلا من نادي "استقلال طهران" الايراني، فجرى الاتفاق على أن يلعب ستة اشهر مع كل من الفريقين، محافظة على وحدة الصف.
الحزب الاشتراكي، تلقى نائبه اكرم شهيب الذي فاجأ الجمهور بنشاطه ولياقته البدنية العالية، دعوة للمشاركة في مباراة تكريمية تقام على شرفه في مدينة السويداء بسوريا لاعادة المياه الى مجاريها بين دروز سوريا ودروز لبنان، تأكيدا للمصالحة بين النائب وليد جنبلاط والقيادة السورية، لا سيما بعد اعتذاره للرئيس السوري عن التصريحات العدائية التي اطلقها خلال السنوات الاربع الماضية.
وفي مفاجأة من العيار الثقيل، طلب النجم الارجنتيني ليونيل ميسي المصنف أول عالميا، من النائب الكتائبي سامي الجميل الذي تمكن من هز شباك الفريق الابيض مرتين مانحا الفوز لفريقه الاحمر 2-صفر، اعطاءه دروسا خصوصية في مهارات وفنون ومراوغات كرة القدم، وذلك بعد الاداء الرائع الذي قدمه في المباراة.
وفي خطوة غير متوقعة، تلقى النائب علي بزي عضو كتلة "التنمية والتحرير" وحركة "امل"، عرضا من نادي "الاتحاد" الليبي للانضمام الى صفوفه كـ "ليبيرو" او قلب دفاع، في خطوة جريئة صنفت كبادرة حسن نية من العقيد القذافي تمهيدا لحل قضية اختفاء الامام موسى الصدر.
وقد تداول بعض النقاد الرياضيين، خبر استدعاء الامن العام حكم المباراة للاشتباه في انتمائه الى الموساد الاسرائيلي او السفارة الاميركية، بسبب تجرؤه على رفع البطاقة الصفراء في وجه احد لاعبي فريق اللاعب علي عمار في الشوط الاول من المباراة.
وعلى امل ان يطوي هذا المشهد الرياضي والحضاري صفحة الاقتتال الدموي الى غير رجعة، وان تنحصر اللعبة السياسية داخل الملعب الوطني اللبناني ويتوقف التسلل الى ما وراء الحدود، حفظ الله لبنان من كل سوء، والى اللقاء في مباريات مقبلة.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر22/4/2010

11- هل تكون الحرب طلقة الحزب الاخيرة للهروب من المحكمة؟!

تتجه معظم آراء المحللين السياسيين منذ مطلع عام 2010، الى اقتراب موعد صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، مع ترجيح صدوره قبل نهاية السنة الجارية. كما يكاد يجمع المحللون ان حربا اسرائيلية جديدة ضد لبنان، واقعة لا محالة خلال الاشهر السبعة المتبقية من هذا العام.
واذا ما تتبعنا الاسس التي بنى عليها المرجحون لحصول الحرب تحليلاتهم، سنجد ان فريقا منهم ينطلق في آرائه من ملف ايران النووي وارتباط "حزب ولاية الفقيه" العضوي والعقائدي والسياسي به، مرجحا اشتعال الجبهة اللبنانية اذا ما تعرّضت اسرائيل او اميركا لمفاعلات ايران النووية، كما لايستبعد هذا الفريق ابتداء الحرب من لبنان كضربة استباقية لتحييد الحزب والاستفراد بايران.
إلا ان ثمة فريقا ثانيا من القائلين بوقوع الحرب، مع تقديره للعوامل التي استند اليها الفريق الاول في تحليله، يستبعد فكرة اقدام اسرائيل او اميركا على ضرب النووي الايراني، لانه يرى انهما لا تزالان بحاجة الى الفزاعة الايرانية وذراعها العسكرية في لبنان للمضي في سياسة نهب اموال الخليج وتفتيت المنطقة الى دويلات طائفية ومذهبية، وقد يكون السماح لايران بامتلاك السلاح النووي عنصرا فعالا في تعزيز النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط وتحقيق اهدافه... ويعتقد هذا الفريق، ان لبنان سيكون ضحية عدوان اسرائيلي جديد بسبب ذريعة يقدمها "حزب ولاية الفقيه" للعدو الصهيوني من اجل افتعال حرب مدمّرة على لبنان، من شأنها ان تنجي الحزب وتهرّبه من الحقيقة "المرّة" والفضيحة الكبرى التي سيميط عنها اللثام القرار الاتهامي للمحكمة الدولية، الذي يتجه على ما يبدو لتأكيد ما اوردته صحيفة "لوموند" الفرنسية عام 2006 وتقرير مجلة "دير شبيغل" الالمانية عام 2009، من احتمال تورط الحزب الايراني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
اما خلفيات احتمال تورّط "حزب ولاية الفيقه" في جريمة العصر، وكيف يمكن لحرب اسرائيلية ان تهرّبه وتنقذه من القرار الاتهامي للمحكمة الدولية؟ فهما المسألتان اللتان سنحاول تبيانهما في الفقرات التالية.
بداية، لا بد من الاتفاق على ان قرار اغتيال شخصية عالمية من العيار الثقيل بحجم الرئيس رفيق الحريري، لا يمكن ان تنفرد به اي جهة دون الحصول على ضوء اخضر اميركي-اسرائيلي ولو تلميحا. لذا، فالمرجَّح أن تكون أميركا قد ورَّطت النظام السوري ومن عاونه في عملية اغتيال الحريري، بحيث يجري على أثرها تحقيق دولي يتيح للولايات المتحدة الضغط على النظام السوري لنيل بعض المكاسب منه، عبر جعل المحكمة سيفاً مسلطاً على رقبته، وصولاً إلى تغييره بالكُلِّية عندما تتخلى عنه حليفته إسرائيل (التي لا تزال تعتبر بقاءه جزءا استراتيجيا من امنها القومي)، فتأذن لأميركا بالتدخل عسكرياً للإطاحة به، وذلك بذريعة تنفيذ قرارات المحكمة الدولية بجلب أركانه الفارين من وجه العدالة.
اما خلفيات احتمال مشاركة الحزب الايراني في الجريمة الارهابية الى جانب النظام السوري، فمعرفتها تتطلّب منا استعراض بعض الاحداث التي تلت تاريخ 14 شباط 2005.
فور حصول جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، توجهت اصابع الاتهام مباشرة الى النظام الامني السوري-اللبناني المدار من القيادة السورية، وكان اتهاما شعبيا عفويا ومنطقيا، نتج عن الاجواء المتوترة التي سادت العلاقة بين الرئيس الحريري والقيادة السورية وازلامها في لبنان قبيل حصول الاغتيال، فقد تضاعفت قوة الحريري على المستوى الشعبي والطائفي والعالمي، لدرجة بات معها ايقاف هذا الرجل المعارض لأن يحكم لبنان من الخارج والمهدِّد لمشاريع سوريا وايران في لبنان والمنطقة، واخراجه من المعادلة السياسية اللبنانية على مشارف انتخابات 2005... بات ذلك امرا مستحيلا بغير التصفية الجسدية.
يومئذ، لم يوجه الشعب اللبناني ولا السياسيون الاستقلاليون، تهمة المشاركة في عملية الاغتيال لـ "حزب ولاية الفقيه"، باستثناء اصوات قليلة اكتفت بالتلميح دون ان تلقى اهتماما يُذكر، لكن الحزب الايراني بعد ايام قليلة من وقوع الجريمة ما لبث ان وجّه التهمة لنفسه بنفسه!
ففي 8 آذار 2005، بعد ثلاثة اسابيع على الزلزال الذي هز لبنان وشملت ارتداداته العالم بأسره، نظم الحزب تظاهرة حاشدة في ساحة رياض الصلح وسط بيروت، حملت عنوان "شكرا سوريا"، وجَّه خلالها حسن نصر الله عدّة كلمات شكر لسوريا قائلاً: "الشكر إلى سوريا حافظ وبشار الأسد، والشعب السوري الصامد المقاوم، والجيش العربي السوري المقاوم"، وأكّد ان "عرين الأسد في دمشق سيبقى عريناً لكل أسود لبنان...". يومها بدأت الشكوك والتأويلات والتساؤلات تدور في نفوس واذهان الشعب المفجوع باغتيال زعيمه الوطني والعابر للطوائف والقارات رفيق الحريري، خصوصا وان تلك التظاهرة التي حوت ازلام سوريا في لبنان استفزت مشاعر الشارع اللبناني عموما والسني تحديدا، واصبح معها السؤال المستبعَد مطروحا: هل يشكرون سوريا على اغتيال الرئيس الحريري؟!
تتابعت الاحداث واندلعت ثورة الارز في 14 آذار 2005، وجرت المطالبة بتحقيق دولي ومحكمة دولية لمعرفة حقيقة من قرر وخطط وموّل ونفّذ عملية اغتيال الحريري ورفاقه، وتقديمه للعدالة لمحاكمته.
كانت الامم المتحدة قد ارسلت لجنة لتقصي الحقائق وبدأت عملها في 24 شباط 2005، واصدرت تقررها في 25/3/2005 الذي أكَّد أن "الحكومة السورية تتحمَّل المسؤولية الأساسية عن التوتر السياسي الذي سبق اغتيال الحريري"، مقترحة تكليف لجنة تحقيق دولية، فأصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع في7/4/2005، القرار 1595، القاضي بتأليف لجنة تحقيق دولية مستقلة في اغتيال الحريري، مع إعطائها سلطات واسعة للتحقيق.
اندحر الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، واجريت الانتخابات النيابية فاكتسحتها قوى 14 أذار، لكن ذلك كله لم يعن استتباب الاوضاع وتمهيد الطريق امام احقاق العدالة وحسن سير التحقيقات، فقد بدأت حملة ارهابية منظمة استهدفت خيرة قادة ثورة الارز والمطالبين بتشكيل المحمكة الدولية. وهنا، بدأت قناعة تتبلور لدى الجمهور الاستقلالي وتزداد تأكيدا يوما بعد يوم، باحتمال تورّط "حزب ولاية الفقيه" الى جانب النظام السوري في العملية الارهابية التي اودت بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسلسلة الاغتيالات المبرمجة التي اعقبتها؛ وقد عزز ذلك الاحتمال الامور التالية:
اولا- فيما يتعلّق بتورط سوريا: حصلت عدة اغتيالات داخل النظام السوري لشخصيات سياسية وامنية كانت تدير الملف اللبناني لدرجة يتعذر معها صدور قرار اغتيال الحريري وتنفيذه دون مروره بقنواتها، وهي شخصيات طُلبت للتحقيق الدولي وجرى التحقيق مع بعضها اكثر من مرّة. ومن ابرز هذه الشخصيات رجلان: وزير الداخلية السوري والرئيس السابق للاستخبارات السورية في لبنان، اللواء غازي كنعان، الذي تمت تصفيته في مكتبه بتاريخ 12/10/2005، والعميد السوري محمد سليمان، المسؤول الأمني في القصر الجمهوري ومستشار بشار الأسد، والذي كان يعد اكثر نفوذا من رئيس شعبة المخابرات العسكرية آصف شوكت صهر الرئيس السوري، فقد اغتيل في 3 آب 2008 على يد قنَّاص "نظامي" كان يستقل زورقاً في مدينة طرطوس الساحلية.
وقد رُجِّح ان يكون اغتيال اللواء غازي كنعان والعميد محمد سليمان مرورا بمن نجهل تصفيتهم، مرتبطاً بتصفية النظام السوري لكل المتورِّطين بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لإخفائهم مع أسرارهم من وجه العدالة الدولية.
ثانيا- اما احتمال تورّط "حزب ولاية الفقيه"، فقد قوّته سلسلة احداث قام بها بغرض عرقلة قيام واقرار انشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الامر الذي يضعنا امام احتمالين قويَين: فاما ان يكون الحزب مشاركا فعلا في الجريمة، واما ان يكون بعرقلته تلك يتستر على المجرمين، وهذه احدى اوجه المشاركة.
1- ففي 12/12/2005، وبعد ساعات على اغتيال النائب والصحافي الحر جبران تويني صاحب القسم الشهير في ساحة الحرية، تلك الجريمة النكراء التي استدعت توزيع الحلوى واطلاق الاسهم النارية ابتهاجا في مناطق الثنائي الشيعي، قرر الوزراء الشيعة الاعتكاف وتعليق مشاركتهم في الحكومة، وذلك في الجلسة التي قرر فيها مجلس الوزراء التقدُّم بالطلب إلى مجلس الأمن لكي يُقرَّ إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي المعنية بقضية اغتيال الحريري في لبنان أو خارجه، مع الطلب إلى مجلس الأمن توسيع لجنة التحقيق الدولية، لتشمل جرائم الاغتيال ومحاولات الاغتيال الأخرى التي جرت بعدها. وقد اتُخِذ هذان القراران بالأكثرية، بعد أن اعترض وزراء "حركة أمل" و"حزب ولاية الفقيه" عليهما، ليُعلنا بعد تصويت الأكثرية تعليق مشاركتهما في الحكومة، ويدوم اعتكاف وزرائهما سبعة أسابيع، قبل أن تتخذ مرجعيتهما قرار العودة إليها استعدادا لمسرحية حرب تموز2006.
2- في 12تموز2006، افتعل الحزب الايراني حرب تموز التي اراد بواسطتها اتهام حكومة الاستقلال الثاني بالعمالة والخيانة، وبالتالي ايجاد مبرر قوي امام الرأي العام اللبناني والعربي والاسلامي للانقلاب عليها وهدر دمها، وبالتالي اخماد ثورة الارز وهي لا تزال في مهدها، والتخلص من الفريق السياسي المتمسك بمعرفة حقيقة من اغتال الشهيد رفيق الحريري وبعض قادة ثورة الارز، ووأد التحقيق الدولي واجهاض المحكمة الدولية قبل ولادتها، فضلا عن الهروب من مأزق وضغوط طاولة الحوار التي كانت قد بدأت بمناقشة موضوع سلاحه، بعدما اظهرت اطراف الاكثرية المعارضة للسلاح غير الشرعي خلال جلساتها وحدة في الموقف ورجاحة في المنطق، ما اوقع الحزب في احراج شديد. الا ان الفريق الاستقلالي صمد في وجه تلك المؤامرة، وتابع نضاله مدافعا عن قضيته بقوة شعبه وتصميم قادته، وبدعم كلامي كاذب من الولايات المتحدة الاميركية.
3- في 11/11/2006، تسلَّمت الحكومة مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي لكي يُقرَّ من الجانب اللبناني، فقرَّرت قوى 14 آذار طرحه سريعاً على طاولة مجلس الوزراء، وإقراره في جلسته المقرر عقدها يوم الاثنين 13/11/2006.
طلبت المعارضة تأجيل الجلسة بضعة أيام ريثما تُتِم درس المشروع لوضع ملاحظاتها عليه، علماً أن الحكومة كانت قد وزَّعت عليها مسودة المشروع منذ فترة كافية لدرسه، ما كشف الستار عن مناورة تقوم بها المعارضة لعرقلة إقرار المحكمة، فرفضت الحكومة طلب الإرجاء، ليعلن "حزب ولاية الفقيه" و"حركة أمل" مساء 11/11/2006، استقالة وزرائهما من الحكومة، في محاولة لوقف مسار المحكمة الدولية؛ فانفجرت الأزمة على نطاق واسع، واحتدم الخلاف أكثر مع إقرار الحكومة بأكثرية وزرائها مشروع المحكمة الدولية يوم الاثنين التالي.
لم يتأخر رد النظام السوري وحلفائه على قرار الحكومة البطولي، ففي 21/11/2006، وقبل ساعات على انعقاد جلسة مجلس الأمن الدولي لإقرار مشروع إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي، تم توجيه ضربة موجعة لثورة الأرز وحكومتها، باغتيال النائب والوزير الشاب بيار الجميل، الركن الأساسي في قوى 14 آذار، والقيادي الواعد في حزب الكتائب.
4- منذ حصول ذلك الانقلاب في مجلس الوزراء، اغلق الرئيس نبيه بري أبواب مجلس النواب بأمر من "حزب ولاية الفقيه"، منعاً للأكثرية من ممارسة حقها الديمقراطي في حكم البلاد عبر هذه المؤسسة الدستورية، خاصة فيما يتعلَّق بطلبها عقد جلسة برلمانية من أجل التصديق محلياً على النظام الأساسي للمحكمة ذات الطابع الدولي.
وبما أن التصديق على المحكمة محلياً وصل إلى طريق مسدود بسبب عدم اجتماع البرلمان بشكل رسمي، ورفض المعارضة تقديم تحفظاتها على النظام الأساسي لمناقشتها مع الأكثرية، وتفادياً لتأخير إنشاء المحكمة وتعطيل جهود الأمم المتحدة المتعاونة مع لبنان في شأنها، والتي تنتظر تصديقه على نظامها الأساسي، أرسل الرئيس فؤاد السنيورة رسالة إلى أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون" في 14/5/2007، أطلعه فيها على الواقع اللبناني المتأزم، وبيَّن له تعذُّر إقرار هذه المحكمة لبنانياً، طالباً إقرارها دولياً بقوله: "... في ضوء ما ذكرناه آنفاً، تعتبر الحكومة اللبنانية أنه آن الأوان ليساعد مجلس الأمن في جعل المحكمة الخاصة بلبنان واقعاً فعلياً، لذلك نطلب منكم وبإلحاح، أن تعرضوا على مجلس الأمن طلبنا وضع المحكمة موضع التنفيذ".
ومع تأكد المعلومات عن اتجاه مجلس الامن لاقرار انشاء المحكمة الدولية تحت الفصل السابع بعد رسالة الرئيس فؤاد السنيورة، كان لبنان على موعد مع ضربة سورية-إيرانية جديدة في 20 أيار 2007؛ فقد كمنت عناصر ارهابية تابعة لتنظيم "فتح الاسلام" (الذي تديره المخابرات السورية مباشرة) لافراد من الجيش اللبناني، في رسالة دم سقط للجيش خلالها 23 شهيدا ومئات من الجرحى. وعلى الفور عمد الجيش الى محاصرة مخيم "نهر البارد" الذي يتحصن فيه ذلك التنظيم وقائده شاكر العبسي، مطالبا بتسليم العناصر المعتدية، ومهددا باقتحام المخيم في حال عدم التجاوب مع طلبه.
سارع حسن نصر الله في خطاب متلفز إلى الإعلان بأن "القول بالاقتحام خطير، وبكل وضوح وصراحة، ولمصلحة لبنان أقول: مخيَّم نهر البارد، والمدنيون، والفصائل الفلسطينية، جميعهم خط أحمر"، محمِّلاً من يتخذ قرار الدخول إلى المخيم مسؤولية قراره، ونافياً أن يكون كلامه دفاعا عن "فتح الإسلام". وقد أعطى خطاب نصر الله هذا، دفعاً معنوياً إضافياً إلى "فتح الإسلام"، فقد حاول من خلاله ضرب معنويات الجيش، وإثارة فتنة بين الفلسطينيين وسُنة لبنان. غير ان حكومة الاستقلال الثاني اتخذت قرارها الحازم لمواجهة تلك العصابة الإرهابية، التي لا تمتّ إلى الإسلام ولا إلى الفلسطينيين بصلة، فاندلعت حرب مخيم "نهر البارد" في الشمال اللبناني، التي دامت 100يوم ولم تنته الا بعد صفقة بين المخابرات السورية واللبنانية، لإخراج الضباط السوريين وبعض العسكر السوري الذي بقي يقاتل داخل المخيم مع عصابة العبسي، وذلك مقابل فك الحصار وإنهاء الحرب.
غير ان محاولة اشعال المخيمات الفلسطينية وتفجير القنابل الموقوتة المتحصنة داخلها، لم تنجح في عرقلة المحكمة الدولية، فقد صدر القرار 1757 في 30/5/2007، وأقر مجلس الأمن بموجبه إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي تحت الفصل السابع بغالبية عشرة أصوات مقابل امتناع خمسة، كان ابرزها قطر صاحبة الدور المشبوه والملتبس في المنطقة. وقد أطلقت الأسهم النارية فور إعلان إقرار المحكمة، وتوجَّه الكثيرون إلى ضريح الحريري رافعين الأعلام اللبنانية، كما أضيئت الشموع في الساحات وعلى جوانب الطرقات.
5- في 25/1/2008، تلقى المصرون على معرفة الحقيقة في قضية اغتيال رفيق الحريري رسالة دامية جديدة، مع اغتيال الرائد وسام عيد، الذي يُعتبر من أبرز الضباط الفاعلين في قوى الأمن الداخلي، وفي لجنة التحقيق الدولية المتعلقة بجريمة اغتيال الحريري وما تبعها من جرائم، وذلك نظراً لخبرته العالية في كشف الشبكات الإرهابية، من خلال تقفي التواصل الهاتفي فيما بين أفرادها، وهذا ما حصل فعلاً في كشفه مجرمي تفجير "عين علق" المنتمين لتنظيم "فتح الاسلام". وقد تبيّن من خلال بعض التحليلات، أن إحدى تلك الشبكات كانت مرتبطة بـ"حزب ولاية الفقيه"، فتم إخفاؤها في مكان لا تطاله يد العدالة اللبنانية، وممنوع على لجنة التحقيق الدولية أن تصل إليه بسهولة، وهو ما سرّع عملية التصفية خوفا من اكتشاف عيد خيطاً يدل على تورُّط الحزب في أي من الاغتيالات والتفجيرات السابقة.
6- ومع اجتياز التحقيق الدولي مراحل مهمة ومتقدمة في الكشف عن هوية الارهابيين الجناة، وبعدما فشلت جهود عرقلة المحكمة الدولية التي باتت امرا واقعا لا مجال لانكاره الا مكابرة بعد اقرارها في مجلس الامن، تم اغتيال عماد مغنية، القيادي الامني والعسكري والرجل الثاني في "حزب ولاية الفقيه" في 12/2/2008، بتفجير سيارته في قلب مجمع المقرات الاستخباراتية في دمشق، الذي يعد مربعاً أمنياً بكل ما للكلمة من معنى. ورُجِّح هنا ايضا أن يكون اغتيال مغنية قد أتى في سياق تصفية النظام السوري وربما الحزب نفسه، جميع المتورطين بجريمة اغتيال الحريري من السوريين وغير السوريين، بغية إخفائهم مع أسرارهم من قبضة العدالة الدولية، مع اقتراب التحقيق الدولي من خواتيمه وإنشاء المحكمة الدولية. وقد أعلن السوريون عن تحقيق سريع وشفاف في مقتل مغنية، إلا أنهم ما لبثوا أو طووا الملف دون إعطاء أي معلومة عن الجهة المسؤولة!!
ومع تلك الاحداث المعرقلة للتحقيق والمؤخرة لقيام المحكمة الدولية، والتي يكاد المريب معها يقول خذوني، ومع اقتراب اعلان مدعي عام المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري قراره الاتهامي الظني، نشرت مجلة "دير شبيغل" الالمانية (والمعروفة بانتمائها سياسيا للخط الصهيوني) تحقيقاً في 23أيار 2009، ذكرت فيه "ان قوات خاصة تابعة لحزب الله خططت ونفذت الهجوم" الذي اودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في14 شباط 2005. وافادت ان ما نشرته "يستند الى معلومات حصلت عليها من مصادر قريبة من المحكمة (الخاصة بلبنان)، وتم التحقق منها عبر الاطلاع على وثائق داخلية".
وعلى الفور تلقفت الجهات الاسرائيلية ذلك التقرير بأهمية كبيرة، فأعلن وزير الخارجية الاسرائيلي أفيجدور ليبرمان: "انه بناء على تقرير "ديرشبيغل" يجب اصدار مذكرة توقيف بحق نصر الله ، وانه يجب اعتقاله بالقوة اذا لم يسلمه لبنان".
اما حسن نصر الله، فكان المستفيد الاكبر من تحقيق المجلة الالمانية وتعليقات الاسرائيليين، فقد اعطته ذريعة قوية وكافية لرفض القرارالظني اذا ما صحت المعلومات المنطقية الواردة بتورطه وحزبه في الجريمة، واعتبار المحكمة اسرائيلية؛ فقد نعى المحكمة الدولية في 25/5/2009، معلناً أن " ما كتبته "دير شبيغل" وما عقّب عليه الصهاينة نعتبره اتهاماً اسرائيلياً باغتيال الحريري، وسنتعاطى معه على انه اتهام اسرائيلي". وبهذا تكون المجلة الالمانية والتعليقات الصهيونية قد انقذت "حزب ولاية الفقيه" من تداعيات احتمال تورطه بالعملية الارهابية التي غيرت تاريخ المنطقة وهزت العالم بأسره، واعطته ما يشبه صك براءة.
في آذار2010، بدأت تشاع في الاوساط السياسية والاعلامية، تسريبات تشير الى امكانية اتهام المحكمة الدولية أفرادا من الحزب باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وجرى الحديث عن استدعاء لجنة التحقيق الدولية اعضاء في الحزب للتحقيق معهم.
لم يستطع "حزب ولاية الفقيه" التكتم على الموضوع اكثر من ذلك، خصوصا مع اتجاه المحللين لتأكيد تقرير "دير شبيغل"، فقد رد الامين العام لـلحزب في 31/3/2010 على موجة "التسريبات والاتهام السياسي" لحزبه في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كاشفاً استدعاء 18 شخصاً محازبين او مقربين من الحزب الى التحقيق الدولي، ومحذراً من خطورة استمرار "المسار الجاري" في التحقيق، عبر تفنيد طويل لرؤيته الى لجنة التحقيق والمحكمة الخاصة بلبنان. وقرن استمرار تعاون الحزب مع التحقيق بشرط منع التسريب ومحاكمة المسربين، ونبّه الى خطورة "محاولة تشويه" صورة الحزب.
وإذ لفت الى حصول استدعاءات في السابق، قال نصر الله انه "لم تتم اثارة كل هذا الضوضاء حولها كما حصل في الاسابيع القليلة الماضية". وكشف ان من الذين استدعوا "مسؤولا ثقافيا وأخاً آخر يعمل في اطار جهادي".
وقد وضع امين عام الحزب الاتهامات بتورط حزبه في عملية اغتيال الحريري في خانة "استهداف المقاومة التي من الطبيعي ان تكون مستهدفة أكثر من أي وقت مضى". كما اعاد التذكير بالاتهامات الاسرائيلية المثارة في السنة الماضية، وبتقرير مجلة "دير شبيغل" المرتبطة بجهات صهيونية، في محاولة منه للطعن مسبقا بأي قرار اتهامي قد يطال حزبه.
وامعانا في التعمية على المحكمة الدولية والتشكيك بمهنيتها وصدقيتها، اعتبر نصر الله ان مكتب المدعي العام الدولي دانيال بلمار والمحكمة الخاصة "هما المسؤولان الاولان عن كل ما يكتب وما ينشر (...) وهناك سيناريو يبدو انه موضوع لدى لجنة التحقيق يريدون ان يسيروا فيه، وتاريخ اللجنة حافل بالتسريب(...)، والحد الادنى هو التشويه والضغط على حزب الله واحراجه، او لاحقا محاولة اقامة صفقة ما مع حزب الله ترتبط بالمقاومة وبسلاحها". وحذر من "أننا لن نسكت على اي اتهام سياسي او اعلامي يوجه الينا، لان هذا اساءة الينا وتشويه لصورتنا، وحتى الاتهام السياسي قد تترتب عليه آثار كبيرة جدا على المستوى السياسي والاجتماعي والحياتي، وعلى مستوى لبنان والمنطقة".
وختم حديثه عن المحكمة ملوّحا بمقاطعة لجنة التحقيق الدولية قائلا: "اننا نريد التعاون لمواجهة التضليل ووفاء للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وانما على قاعدة اسقاط مسارات خاطئة في التحقيق (...) سنتعاون ولكن ليس في المطلق وسنرى المسار، واذا بقي التسريب مستمرا للتشويه والاستهداف فحق أن آخذ موقفا آخر". وفي تهديد مبطن بافتعال فتنة جديدة او 7 ايار جديد، خلص الى ان "الذين سيتهمون حزب الله سياسيا سيدفعون البلد حينئذ الى مكان صعب".
وهذه هي المرة الاولى التي يتناول فيها نصرالله ملف التحقيقات بهذا الاسهاب، اذ خصص لها اكثر من نصف المقابلة التلفزيونية التي اجرتها معه قناة "المنار" واستمرت نحو ساعتين ونصف ساعة.
لا شك ان الديباجة التي ركّبها الامين العام للحزب الايراني لدفع الاتهام القضائي والسياسي عن حزبه واجهد نفسه في عرضها على الاعلام، لم تنطل الا على شعبه؛ ويمكن دحض حججه وابطال مرافعته بالنقاط التالية:
1- ان المحكمة الدولية التي طعن بمهنيتها، مكونة من مجموعة كبيرة من القضاة والمحققين ينتمون الى اكثر من 30 دولة حول العالم تقريباً، وهم من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة في دولهم، وفي نهاية المطاف فإن أي قرار يصدر عن المحكمة سيكون ويجب ان يكون مبرراً ومعللاً، ومعززا بأدلة وشواهد لا سيبل الى دحضها، وبالتالي سيظهر ما إذا كان منطقياً أم لا، وإذا كان منطبقاً مع الوقائع أم لا.
2- وفيما يتعلق باقحام الحزب في القرار الاتهامي بغرض "تشويه صورة المقاومة"، فهو تعليل يثير الضحك لشدة ما يتضمنه هذا الكلام من استخفاف واستهزاء بالعقول، ذلك ان الشعب اللبناني تأكد منذ سنوات عدّة ان الذين بنوا قوّتهم العسكرية والشعبية التعبوية الضاربة تحت شعار "مقاومة اسرائيل"، كان هدفهم الحقيقي مقاومة الدولة اللبنانية لبناء دويلتهم المرتبطة بمشروع ولاية الفقيه الممتد من طهران الى لبنان على انقاضها، وكفى بالسابع من ايار 2008 الذي اعلنه حسن نصر الله "يوما مجيدا من ايام المقاومة في لبنان" شاهدا على ذلك.
3- واما ما زعمه نصر الله من وجود "سيناريو" لدى لجنة التحقيق يهدف "للضغط على حزب الله واحراجه، او لاحقا محاولة اقامة صفقة ما مع حزب الله ترتبط بالمقاومة وبسلاحها"، فهو ادعاء واه ومتهافت يفتقر الى المنطق؛ ذلك ان ازالة سلاح الحزب لا يحتاج من اميركا او اسرائيل الى اتهام توجهه اليه لجنة تحقيق دولية بغرض عقد صفقة معه او المساومة عليه، فالامر ابسط من ذلك بكثير، لان الشاحنات التي تنقل السلاح والصواريخ للحزب عبر سوريا وتوصله الى المخازن مرصودة بدقة ووضوح من قبل العدو الصهيوني، سواء عبر الاقمار الصناعية او الطائرات الاستطلاعية التجسسية او سواها من الوسائل التكنولوجية المتطورة، ولو اراد تدمير ترسانة الحزب الصاروخية لدمرها في مخازنها او في اماكن نشرها او حتى قبل تفريغها، وليس في تموز 2006 فحسب، بل قبله بأعوام عديدة، وبالتالي فإن ادعاء عجز اسرائيل عن مواجهة الحزب والقضاء على ترسانته واكتشاف اماكن قياداته عار عن الصحة وبعيد عن المنطق، اذ الامور كلها تحت السيطرة.
هذا، وقد لوحظ مؤخرا، ان الاوساط السياسية اللبنانية بدأت تفكّر جديا في كيفية التعامل مع اي قرار اتهامي قد يوجَّه الى "حزب ولاية الفقيه"، وفي هذا السياق يقول النائب المنتمي الى كتلة "لبنان اولا" و"تيار المستقبل" سمير الجسر، في حديث له بتارخ 15/4/2010 ردا على سؤال: "في حال اتجهت الشبهة في ارتكاب الجريمة نحو "حزب الله" كما يشاع فما الذي يحصل؟ يجب التمييز بين ان تتجه نحو "حزب الله" او نحو عناصر فيه لان الفرق كبير جدا، فعندما تتجه الشبهة نحو الحزب فهذا يعني ان هناك قرارا بالاغتيال وانا اشك في ذلك. اما اذا كانت متجهة نحو بعض العناصر فيمكن ذلك، لانه في كل التنظيمات هناك عناصر مخترقة".
بعد كل ذلك، من المؤكد ان الحزب قد ادرك تماما خطورة وضعه مع اقتراب اعلان القرار الاتهامي في جريمة العصر، وهو التفسير المنطقي للمرافعة التي ادلى بها حسن نصر الله من خلال قناة "المنار" على مدى ساعة ونصف الساعة، فالمحكمة الدولية التي سعى لعرقلة قيامها بشتى الوسائل السلمية منها والدموية امست حقيقة ناصعة وامرا واقعا، ولم يعد بامكانه الفرار منها الا بالعودة الى السؤال المطروح في عنوان هذا المقال: هل تكون الحرب طلقة الحزب الاخيرة للهروب من المحكمة؟!
قد يتسّرع البعض في الاجابة قائلا: ان افتعال "حرب" جديدة مع اسرائيل لن يكون بالنسبة الى الحزب سوى عملية هروب الى الامام، لان المحكمة حقيقة واقعة، وبالتالي عندما ينجلي غبار المعركة وتستتب الامور ويخرج احد الحزبيين من بين الركام معلنا "النصر الالهي"، ستعود العدالة الدولية لاتخاذ مجراها.
اجابة تبدو للوهلة الاولى واقعية ومنطقية، الا ان هؤلاء المتسرّعون غاب عنهم ان افتعال اي "حرب" جديدة سيضع البلاد تحت عدوان صهيوني غاشم، من المرجح أن يُسفر عن "حرب" ساحقة ماحقة، اشد دمارا من عدوان تموز عام 2006، لكون هذه الجولة الجديدة سوف تطال مقوّمات الدولة الأساسية ومؤسّساتها العسكرية والدستورية والقانونية، وبناها التحتية الرئيسية، على نحو ما توعّد به المجلس الوزاري لحكومة العدو، بعد صدور البيان الوزاري لـ"حكومة الدوحة الثانية" عام 2009، الذي نصّ على "حق لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته في تحرير أو استرجاع أراضيه..."، وحينها توعّدت اسرائيل باستهداف شامل لمقومات لبنان وتحميل الحكومة اللبنانية مسؤولية أي اعتداء تتعرّض اليه يكون مصدره الأراضي اللبنانية. ومن شأن اي عدوان مهول يستهدف مقومات الدولة كهذا، ان يسبب للبنان انهياراً اقتصادياً ومالياً وامنيا لا خروج منه، بعدما تعرّضت بنيته التحتيّة والفوقيّة للدمار الشامل، ما سيفقد الدولة مقومات بقائها ويتيح لـ"حزب ولاية الفقيه" "المنتصر الدائم" والبديل المتأهب والجاهز الذي بات يختزل الدولة ويتفوّق عليها، فرصة الامساك رسميا بجميع مفاصلها، وبالتالي إدارة البلاد في صورة نهائية.
وعندئذ، فإن المتضررين من صدور القرار الاتهامي سيهربون من المحكمة وسيعطلون مفاعيلها، من خلال منع المحققين الدوليين من التحقيق مع اي مواطن لبناني شمله قرار الاتهام، مطالبين باحالته على التحقيق او المحاكمة امام القضاء اللبناني، وقد يطلبون ايضا من الحكومة (حكومتهم) رفض مثول المتهمين والشهود امام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وكذلك سيعمدون الى وقف دفع حصة لبنان في تمويل المحكمة، وهي نسبة 49 في المئة من اصل 50 مليون دولار سنويا، علما انه قد تم حتى الآن تسديد حصته عن السنتين الاولى والثانية.
وبالتأكيد سيدعي الحزب بعد اسدال الستار على الفصل الجديد لمسرحية الحرب الاسرائيلية التي لعب فيها دور البطل المقدام، وبعد استعادته شيئا من الشعبية والتأييد في العالمين العربي والاسلامي، سيدعي انه استطاع بخوضه الحرب التي فرضت عليه و"انتصاره الالهي" فيها، تجنيب البلاد فتنة مذهبية سنية-شيعة بتوحيده اللبنانيين في مواجهة العدوان، معتبرا ان المدعي العام الدولي في المحكمة دانيال بلمار اراد بالتهمة الموجهة الى الحزب او بعض عناصره خدمة اسرائيل، ما كان سيستتبع حصول فتنة داخلية لا تبقي ولا تذر، لا يمكن لبنان تحمل تبعاتها لا الامنية ولا المذهبية ولا السياسية.
اما اسرائيل، فبالتأكيد لن تشارك في الحرب الا اذا تقاطعت مصالحها مع مصالح "حزب ولاية الفقيه" في اندلاعها، وستفيد منها للخروج او الهروب من ازمتها الداخلية حيث باتت السياسة مشدودة الى الاشخاص وليس الى المؤسسات، خصوصا مع صراع الديكة الدائر بين كل من رئيس الكيان الغاصب البروتوكولي شيمون بيريز، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع ايهودا باراك، لاثبات من هو زعيم اسرائيل الفعلي.
هذا، فضلا عن كون اسرائيل رافضة صيغة التعايش اللبناني وتسعى الى افشالها، لانها تمثل النموذج الحي والفريد الذي يكشف عنصرية الدولة العبرية، التي تعتبر ان لا قيام لدولة "يهودية" فيها ما لم تقم في المنطقة دويلات مذهبية او "فيديرالية طوائف"، تكون الدولة اليهودية العرقية هي الاقوى بين هذه الدول؛ ومن المعلوم ان لا قيام لمثل هذه الدولة في منطقة تقوم فيها انظمة ديموقراطية تحقق الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين شعوبها على اختلاف ميولها ومذاهبها؛ لذا، قد يكون من يعمل على ضرب هذا النموذج اللبناني من افرقاء الداخل، يهدف عن قصد او عن غير قصد لخدمة اسرائيل.
اضف الى ذلك، ان اسرائيل خائفة من لبنان المستقر في صورة دائمة على سياحتها واقتصادها ودورها الاقليمي. وعلى سبيل المثال، قبل شهرين من حرب تموز 2006، تفوّق عدد الحاويات التي استقبلها مرفأ بيروت على تلك التي استقبلها مرفأ حيفا بما يقارب عشرة آلاف حاوية، وكان لبنان موعودا بموسم سياحي منقطع النظير وبنسبة نمو تفوق الـ6%. ومن شأن اي خطر داهم ولو وهميا او مصطنعا تتعرّض له اسرائيل، ان يدر عليها اموالا طائلة من الصهاينة والداعمين لهم في العالم، ويكفي استدلالا على ذلك الرجوع الى ما أعلنه بنك إسرائيل المركزي في 14/1/2007، فقد كشف أن حجم الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل سجل رقماً غير مسبوق بلغ 21.1 مليار دولار نهاية العام 2006 الذي شهد "حرب تموز"، مقارنة بـ 9.9 مليارات دولار في العام 2005، و7.2 مليار دولار عن العام 2004؛ أي بزيادة 11.2 مليار دولار عن العام 2005، و13.9 مليار دولار عن العام 2004، وهما عامان اتسما بالهدوء على "الجبهة" الشمالية!!
بعد ذلك، اذا تقاطعت مصالح الطرفين لخوض عمل مسرحي جديد، فتوقيت العرض المناسب للحزب سيكون على الارجح قبيل صدور القرار الاتهامي للمحكمة الدولية او بعد صدوره بوقت قليل على ابعد تقدير، على ان تكون شرارة "الحرب" او ذريعتها، عملية استعراضية يقوم بها الحزب "انتقاماً" لعماد مغنية خارج الاراضي اللبنانية، او قد يعمد ابعادا لتهمة تقديم الذريعة عن نفسه الى استدراج تنظيمات ذات طابع اسلامي او فلسطيني او غض الطرْف عنها، للاشتباك مع اسرائيل من خلال قيامها بعملية مباشرة ضدها من مناطق الحزب، او باطلاقها صواريخ ولكن موجعة هذه المرة بحيث تصيب اهدافها بشيء من الدقة، موقعة قتلى وجرحى في الجانب الاسرائيلي.
وعلى اثر هذا العمل الهجومي، تتهم اسرائيل "حزب ولاية الفقيه" بالوقوف وراء "الاعتداء" الذي طالها، لتبدأ فصول عمل مسرحي مشابه لما حصل عام 2006، يجبر فيه الشعب اللبناني على لعب دور "الكومبارس" لكن بشكل جدي، ما سيستتبع سقوط آلاف اللبنانيين بين قتيل وجريح، وتدمير قرى وبلدات بأسرها ومعها مرافق عامة، بسبب تمدد الحزب الى خارج الجنوب والبقاع الشمالي وصولا الى جبل لبنان وقلب بيروت، لكن الفارق هذه المرة، ان القصف سيتركز على مقومات الدولة اللبنانية ومؤسساتها، مع تحييد منطقة جنوب الليطاني حيث تتواجد قوات "اليونيفيل"، وتجنيب مناطق الشيعة وقراهم الدمار إلا ما ندر.
وكالعادة، لن تصاب اسرائيل بأذى يذكر، باستثناء التضحية ببعض الخسائر طمعا في الحصول على مكاسب كبرى، كما لن تهزم اسرائيل "حزب ولاية الفقيه" ولن تقضي على مقاتليه وقياداته وترسانته بالتأكيد، بل على العكس من ذلك، فإن الدمار والخسائر ستمكنه من "إدارة" البلاد في صورة نهائية. عندها سيعلن "الانتصار الالهي" الجديد، الذي سيلغي مفاعيل المحكمة الدولية، وقد يكون ذلك "النصر" باباً لتغيير النظام اللبناني بما يتناسب وحجم الحزب الجديد.
في الانتظار، وما لم يحدث تغيير في المنطقة يقلب الموازين ويخربط الحسابات ويعيد خلط الاوراق، سيبقى الواقع اللبناني محكوما بسقوف تمليها المصالحة السعودية-السورية، وتتحكم بوتيرتها وتتولى ادارتها قوى الامر الواقع التي استطاعت ابدال اتفاق الطائف عمليا باتفاق الدوحة المفروض عنوة بقوة السلاح غير الشرعي والممدد له قسرا بالسلاح الميليشيوي عينه، وستبقى الدولة اللبنانية اسيرة للمحور السوري-الايراني الذي عزز سطوته ونفوذه على البلاد بواسطة حلفائه بعدما اطاحوا بنتائج انتخابات 2009، وانتزعوا الثلث القاتل وان بشكل مموه في حكومة "الدوحة الثانية".
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر25/4/2010

12- يومَ كشَف الإرهاب عن وجهه...الذكرى الثانية

كنا قد سمعنا وقرأنا عن الارهاب كثيرا في بعض البلدان، ولكننا عشنا هذا الإرهاب وشاهدناه حقيقة في بيروت ولبنان عموما، اثناء الاجتياح الدموي الذي تعرض له اللبنانيون في شهر أيار من العام 2008.
دخل العام 2008، مع تتابع مسلسل الاشتباكات والعمليات التخريبية والفوضوية المتنقلة، التي كانت المعارضة تفتعلها بين الحين والآخر بغية التنغيص على الحكومة والأكثرية، وتذكيرهما دائما بقدرتها على قلب الاوضاع بالقوة اذا لم ترضخ قوى 14 آذار لاوامرها. واصبح المخطط واضحا، الا وهو تفتيت البلد وافراغه من جميع مؤسساته الدستورية والاجتماعية والدينية، والانقلاب على الطائف، مع الاستمرار في إغلاق مجلس النواب، وتعطيل انتخابات الرئاسة، والتمادي في التطاول على المرجعيات الدينية.
تجاه هذا الواقع، ورغم معرفتها التامة بعمليات التسليح التي يقوم بها "حزب ولاية الفقيه"، رفضت قوى 14آذار اللجوء الى سباق تسلح مع المعارضة، وظل رهانها على الجيش والقوى الامنية لتكون حامية الشرعية، لكنها مع ذلك بقيت محتاطة في التنقل بين الالغام التي زرَعها لها الحزب، بهدف توريطها في مسألة ما، يعتبرها الضوء الاخضر لبدء انقلابه المسلح.
بيد ان حذر الحكومة لم يخدمها طويلا، فمع دخول شهر ايار تفاعلت قضية تجسّس "حزب ولاية الفقيه" على حركة المطار، وتمديِده شبكة اتصالات سلكية خاصة به، ما حدا بمجلس الوزراء في 5/5/2008 لعقد جلسة مراتونية، قرر فيها اعتبار شبكة اتصالات الحزب غير شرعية وغير قانونية، وتشكل اعتداء على سيادة الدولة، وملاحقة كل من يثبت تورطه بها، كما قرر إعادة قائد جهاز أمن المطار إلى ملاك قيادة الجيش، انتظارا لما ستسفر عنه نتائج التحقيقات. وجد الحزب في هذين القرارين ضالته، ليشن حملة عسكرية من الواضح أنها كانت معدّة سلفا وجاهزة، من اجل الاطاحة بحكم الاكثرية واسقاط الحكومة بقوة السلاح.
ففي السابع من ايار 2008، سقط القناع! لقد خطف "حزب ولاية الفقيه" الاضراب الفاشل الذي نظّمته قوى 8 آذار تحت ستار الاتحاد العمالي العام، ليستكمل محاولته الانقلابية ويمدد دويلته، عبر حرب ضد الاحياء الآمنة والمواطنين، خاضتها ميليشياته والتنظيمات الملحقة بها، فعُزِل المطار والمرفأ، وحوصرت العاصمة بيروت، التي لم تستجب للاضراب المشبوه. وصرح الانقلابيون: "الآتي اعظم، وستفتح ابواب جهنم على الحكومة العميلة".
ومع اعلان امين عام "حزب السلاح" الحرب على الحكومة حتى تراجعها عن قراريها، و"ان الفتنة وراءنا ولن نخشى منها"، وان "المعركة القائمة ليست فتنة سنية-شيعية، بل بين مشروع وطني مقاوم ومشروع أميركي، واي سلاح يستخدم فيها هو للدفاع عن النفس"، انفجرت موجات مسعورة من العنف المسلح، بظهور مجموعات من المسلحين المدججين بالرشاشات والقاذفات الصاروخية في احياء بيروت الغربية ذات الكثافة السنيّة، التي عاشت اياما لاهبة من الرعب والقلق، خصوصا مع استعمال الإرهابيين اسلحة صاروخية داخل الاحياء السكنية، ومع عمليات القنص والخطف، وتوقيف المواطنين، والتدقيق في هوياتهم، هذا فضلا عن اقتحام الابنية السكنية واحتلالها وتمركُز القناصين على أسطحها، وتنظيم عصابات النهب المسلحة وقطاع الطرق، التي سيطرت على معظم بيروت الغربية، بما في ذلك مؤسسات حكومية اساسية. وما لبثت الفتنة ان امتدت الى عكار وطرابلس والبقاع والجبل، حاصدة عشرات الابرياء.
هذا، وقد اعاد انقلاب الحزب المسلّح الى اذهان اللبنانيين امرين:
1- تذكروا الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، خصوصا مع شروع العناصر الميليشيوية باقتحام بيوت بعض الناشطين في "تيار المستقبل"، مصطحبين معهم احد الملثمين من اهل المنطقة لكي يدلهم على منازل اولئك "العملاء"، الذين كانوا يقتادونهم بعد تفتيش منازلهم وايساعهم ضربا إلى اقبية "الحزب" و"الحركة"، حيث يتم التحقيق معهم وايقافهم مدّة معينة. فقد حاكى الحزب بذلك ممارسات الجيش الإسرائيلي ايام الاجتياح.
2- كما ذكرهم ما فعلته هذه العصابات التي انتحلت صفة المقاومة، من اقفال لوسائل اعلامية وتنكيل بمحتوياتها، وتفجير واحراق مكاتبها، في عاصمة الثقافة والصحافة الحرة بيروت، ذكرّهم بالممارسات القمعية التي رافقت الثورة الايرانية عام 1979، حيث اقفِلت اكثر من خمسين صحيفة ووسيلة اعلامية في إيران، كما جرى تصفية بعض الشخصيات، لمجرد انها تخالف قائد الثورة في الرأي، او ترفض الخضوع لولاية الفقيه المطلقة وان تصبح بوقاً من أبواقها.
في الرابع عشر من ايار، وصلت اخيرا لجنة الوساطة العربية الى لبنان، وبعد جولات مكوكية على مختلف الاطراف، طلبت من الحكومة التراجع عن قراريها الشهيرين، ليُصار في السادس عشر منه لاقتياد قيادات 14 آذار الى الدوحة حيث حاورهم الحزب الإيراني واضعاً سلاحه على الطاولة، ووقّع معهم اتفاق الغالب والمغلوب، الذي انتزع فيه مطلبه المزمن بنيل الثلث القاتل في الحكومة، وقانون انتخاب يرى انه يعطيه الاكثرية.
ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف الحزب عن التذكير بـ7ايار"المجيد"، مُشعِرا مختلف الطوائف والقوى السياسية المعارضة لمشروعه ان عليها ان تختار بين امانها بالاستسلام لما يريد، وبين عدم استقرارها إن لم تقدّم له واجب الطاعة. واليوم نجح الحزب في احلال تسوية الدوحة المؤقتة مكان الطائف، فمدد امدها الى اجل غير مسمى، بعد انقلابه على نتائج انتخابات 2009، لاسيّما لناحية تثبيت بدعة الثلث المعطّل المتعارضة مع الدستور، واحلال بدعة "التوافقية" المفروضة بقوة السلاح مكان الديموقراطية البرلمانية التي يفترض ان تحكم على اساسها البلاد.
عبدو شامي
نهار الشباب وموقع القوات اللبنانية ومدونة ايلاف، نشر 3و6و7/5/2010


13- معادلة الثالوث الأخبث

عاد امين عام "حزب ولاية الفقيه" الى لغة التخوين التي باتت في السنوات الخمس الماضية من ادبيات حزبه الاساسية، فلا يكاد يخلو منها تصريح او خطاب، وان كانت خفّت وتيرتها بعد اتفاق الغالب والمغلوب الذي عقد في الدوحة عام 2008 تحت سطوة السلاح.
ففي خطابه الاخير الذي القاه بمناسبة ما يسمّى "عيد المقاومة والتحرير"، اطلق امين عام الحزب "الالهي" سلسلة مواقف وادعاءات انطوت على جملة من المغالطات، واللافت انها طرحت على انها من المسلّمات التي لا خلاف عليها ولا نقاش فيها، ما يؤكّد سيادة شريعة الغاب على العمل السياسي في لبنان، حيث امسى منطق الاقوى عسكريا هو المسموع والمطبق والمهيمِن، وان كان خاطئا وباطلا ويسير بالبلاد نحو الهاوية.
وان ما يهمنا الرد عليه من جملة المغالطات التي حواها ذلك الخطاب، مقولة ان:"كل من يفرّط بمعادلة الجيش والشعب والمقاومة يريد عن قصد وليس عن غير قصد ان يجعل لبنان مكشوفاً امام العدوان الاسرائيلي..."! ولعل نبرة التخوين الواضحة في هذا الكلام تؤكّد ضعف المنطق الذي يتحدّث به وعنه "حزب ولاية الفقيه"، ذلك ان سلاح التخوين الصدئ غالبا ما يلجأ اليه من اصيب بالافلاس السياسي وفقد صوابه، فاستعاض عن لغة المنطق والاقناع بلغة العمالة والتخوين، في محاولة يائسة للقنص السياسي على اصحاب المنطق السيادي والاستقلالي القويم، بأساليب مكشوفة ومفردات بالية اكل عليها الدهر وشرب.
فمعادلة "الجيش والشعب والمقاومة" انما فُرضت على الدولة بقوة السلاح، سواء في البيان الوزاري لحكومة "الدوحة الاولى" عام 2008، او في بيان حكومة "الدوحة الثانية" عام 2009، وما انتزع بالاكراه حكمه البطلان.
ثم ان معادلة الحزب الشهيرة مفرّغة من مضمونها العملي، اذ من بين العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها، ثمة عنصر واحد فعال يقابله عنصران غارقان في دائرة التغييب والتعطيل والالغاء.
1- فالجيش والقوى الامنية ممنوع عليهما التسلّح والانتشار على كافة الاراضي اللبنانية بالقدر الذي ينعم به "المقاومون الابطال"، وقد اثبتت القوى الامنية خلال غزوة ايار الارهابية عجزها عن القيام بأبسط مهامها في حفظ الامن على الاراضي اللبنانية، وظهر منها بعض الانحياز لقوى الامر الواقع الغازية، ولم تستطع حتى اليوم محو تلك الصورة القاتمة، لا سيما مع تكرار حوادث امنية ممثالة شابها تقصير امني واضح.
2- اما الشعب اللبناني فمغلوب على امره، ورأيه بموالاته ومعارضته مصادر ومعطّل من قِبَل القوى المسلّحة. فأكثرية الشعب اللبناني التي قالت بأعلى صوتها في انتخابات 2009 التي ارادتها قوى 8 آذار استفتاء على سلاحها او ما تطلق علية تسمية "المقاومة": "لا للسلاح الميليشيوي الخارج على الشرعية اللبنانية، ونعم لحصرية السلاح بيد الدولة"، هذه الاكثرية ألغِي رأيها ونسف قرارها اثناء تشكيل حكومة "الدوحة الثانية" وفي صياغة بيانها الوزاري، فشُرّع السلاح الميليشيوي وانتزع الثلث المعطل مجددا من خلال التهديد بـ7 ايار جديد. اما اقلية الشعب اللبناني فرأيها مصادر بالتكليف الشرعي والمال الطاهر والارهاب الفكري.
3- يبقى العنصر الوحيد الفعّال في تلك المعادلة-المغالطة، الا وهو ما يعرف بـ"المقاومة". فـ"المقاومة" على النحو الذي تقوم عليه اليوم، اي باحتكارها من قبل فئة طائفية ومذهبية من اللبنانين، لها ارتباطاتها العقائدية والعضوية بدولة اجنبية لها اجندتها الخاصة التي تتعارض وتوجهات الدولة اللبنانية...هذه "المقاومة" تتعارض واتفاق الطائف الذي انهى الحرب اللبنانية، خصوصا لناحية المادة 65 من الدستور التي تنص على حصر قرار الحرب والسلم في مجلس الوزراء. اضف ان اتفاق الطائف لا يتضمّن أي إشارة ولو تلميحا الى كلمة "المقاومة"، لا بل إن بنود وفقرات وثيقة الوفاق الوطني، خصوصاً البنود الاول والثاني والثالث تؤكّد على ضرورة بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية، ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية دون أي استثناء.
بناء على ما تقدّم، يتضح لنا ان مَن يفرّط بتلك المعادلة اذا سلّمنا بصحتها ويكشف لبنان امام العدوان الاسرائيلي، هو الحزب نفسه، سواء لناحية رفضه تسليم سلاحه للشرعية اللبنانية عملا باتفاق الطائف وتقوية للجيش الوطني، او لناحية تعطيله قرار غالبية الشعب ومصادرته قرار القسم الباقي منه، ومعاملته معارضيه بخطاب التخوين والعمالة، واستكباره على الدولة واستخفافه بدستورها وتخطيه مؤسساتها، وعرقلته قيام الدولة القوية والقادرة والعادلة. وان الحزب بتمدده العسكري على كامل الاراضي اللبنانية، يدرك جيدا انه في حال اندلاع "حرب" جديدة، سيكون الشعب والجيش هما أكثر من سيدفع الثمن، وإن حربا ساحقة ماحقة كهذه تدمر فيها الدولة بكافة مقوماتها لن تعود بالفائدة إلا على طرف واحد، انه الطرف الثالث في "الثالوث" الذي ابتدعوه في البيان الوزاري.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية، نشر 7/6/2010

14- الحزب يعلن القرار الاتهامي متّهِما نفسه ويخيّر الحريري بين التخلي عن المحكمة والعبث باستقرار لبنان وسلمه الاهلي

أثار خطاب الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله في 16تموز الماضي، والذي اعتبر فيه ان "القرار الظني المقبل للمحكمة الدولية مشروع إسرائيلي"، أثار سلسلة مواقف مستنكرة وصلت الى حد اعتباره "يضع لبنان مرة جديدة على طريق فقدان الاستقرار والانقسام الكامل، وربما منطق الحرب الأهلية"، فضلا عن اثارته "الشكوك لدى اللبنانيين في دور الحزب وتورطه في الاغتيالات منذ عام 2004، لكونه الوحيد الذي يرفع السقف ويتهم نفسه مسبقا ويشكك في المحكمة ويطلق التحليلات على عواهنها".
واقع الامر، ان خطاب نصر الله ترك المجال واسعاً لهذا الاستنتاج، كون هذا الخطاب اتسم بالتشنج شكلا ومضمونا، وبدا فيه الامين العام للحزب الايراني فاقدا لاعصابه، قلقا ومضطربا وخائفا، يوجه تهم العمالة والتخوين يمينا ويسارا (عملاء كبار وعملاء صغار وبيئة حاضنة!!)، وكأنه مجرم وقع فجأة ومن حيث لا يحتسب في قبضة العدالة، وايقن بظهور الحقيقة وسقوط اقنعة العفة والمقاومة والوطنية، بعدما ظن لفترة طويلة ان الهروب من العقاب ممكن. وإلا، فإذا كان الامر بخلاف ذلك، كيف عرف حسن نصرالله ان القرار الاتهامي للمحكمة الدولية سيطاله هو وحزبه، بل وبدا جازما بذلك؟!
في اعتقادنا، ان الشرعية الدولية تترسخ يوميا في كل العالم، فقد ثبت في السنوات الماضية ان المحاكم الدولية لم تكن محاكمات شكلية بل حازمة وجادة في إرساء العدل، لذلك انتفض الذين رسّخوا نهج الظلم في لبنان، واستشاطوا غضبا، عندما وجدوا ان عصر الافلات من العقاب الذي كان عنوان السنوات الـ35 الماضية قد ولّى، مع وصول المحكمة الدولية التي سقط على دربها خيرة قادة الرأي والفكر والسياسة في لبنان، الى ساعة الاعلان عن حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري ورفاقة وقافلة شهداء ثورة الارز.
لقد أصاب من قال: "إن من يخاف قرار محكمة هو المرتكب"، واخطأ من اعتبر ان "لا أحد يملك أي معلومات عن قرار المحكمة التي تعمل بصدق ونزاهة وشفافية وسرية تامة، قبل صدوره، وكل من يدعي انه يعرف فحوى القرار فهو مخطئ"، نعم، لم يصب من ظن ذلك، فليست لجنة التحقيق الدولي وحدها (بعد الله تعالى) التي تدرك معطيات التحقيق وتفاصيل الجريمة، وتعلم على ضوئها الى مَن ستوجّه التهم ما بين ايلول وكانون الاول المقبلين بحسب ما افاد رئيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أنطونيو كاسيزي في 17 ايار 2010...فالمجرم يشترك مع لجنة التحقيق في معرفة تلك المعلومات بأدق تفاصيلها، بل ويتفوّق على قاضي التحقيق في معلوماته، لأن القاضي ببساطة، يحاول اكتشاف تفاصيل وخلفيات وحيثيات الجرم الذي ارتكبه الجاني. وهنا، يجدر بنا التذكير، بأن الكلام على اتهام المحكمة الدولية لعناصر من الحزب سمعناه بدايةً من الوزير السابق وئام وهاب، وكرره لاحقا الوزير السابق ميشال سماحة، ومعلوم انهما من سفراء النظام السوري في لبنان ومن انصار الحزب، وهما الطرفان الذان تحوم حولهما الشبهات الرئيسية في الجرائم التي شهدها لبنان في السنوات الماضية.
وبالمناسبة، لم نر طرفين ممن يدّعون العداوة، يخدمان بعضهما بعضا مثل الحزب واسرائيل! ففيما يتعلّق بالمحكمة الدولية قدّمت اسرائل والصهاينة بشكل عام خدمات ثمينة جدا لـ"حزب ولاية الفقيه"، ابتداء بالتحقيق الذي نشرته مجلة "دير شبيغل" الالمانية (والمعروفة بانتمائها سياسيا للخط الصهيوني) في 23أيار 2009، والذي ذكرت فيه "ان قوات خاصة تابعة لحزب الله خططت ونفذت الهجوم" الذي اودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في14 شباط 2005... وما تبع ذلك من اعلان وزير الخارجية الاسرائيلي أفيجدور ليبرمان: "انه بناء على تقرير "ديرشبيغل" يجب اصدار مذكرة توقيف بحق نصر الله ، وانه يجب اعتقاله بالقوة اذا لم يسلمه لبنان"...فقد اعطت اسرائيل الحزب بذلك ذريعة قوية وكافية لرفض القرارالظني اذا ما صحت المعلومات المنطقية الواردة بتورطه في الجريمة، واعتبار المحكمة اسرائيلية. وقد تلقف نصر الله تلك الخدمة بالترحاب، فنعى المحكمة الدولية في 25/5/2009، معلناً أن " ما كتبته "دير شبيغل" وما عقّب عليه الصهاينة نعتبره اتهاماً اسرائيلياً باغتيال الحريري، وسنتعاطى معه على انه اتهام اسرائيلي".
واليوم، في 6تموز2010، توقع رئيس اركان الجيش الاسرائيلي اللفتنانت جنرال غابي اشكنازي، ان "يشهد لبنان صراعاً وتوتراً على خلفية النشر المزمع في ايلول للقرار الظني الذي سيصدر عن المحكمة الخاصة بلبنان التي تحقق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه". وكالعادة لم يضيّع "العدو اللدود" لاسرائيل حسن نصر الله فرصة استثمار تلك الخدمة الجديدة، فقد اعطى كلام اشكينازي صدقية كبيرة، واتخذ منه ذريعة لشن حملة على المحكمة الدولية. فبعدما ساق كلام الجنرال الاسرائيلي قال نصر الله: "هذا ما كانت اسرائيل تعمل عليه، وهو ايجاد فتن ليبقى الكيان الصهيوني في امان". فإذ كانت اسرائيل تحرص على زرع الفتنة في لبنان، ولا توفر فرصة لذلك، وهو ما يعرفه جميع اللبنانيين، الا يثير الاستغراب ان يستند نصر الله في حملته على المحكمة الدولية، على كلام المسؤول الاسرائيلي غابي اشيكنازي، الذي نجح من حيث المبدأ، في ذر بذور الخلاف في الداخل اللبناني، بعد اشاعة نصر الله احتمال اتهام المحكمة الدولية أفراداً من الحزب بالتورط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واطلاقه تهم التخوين والعمالة تلميحا وتصريحا تجاه اكثرية الشعب اللبناني المؤيدة للمحكمة الدولية، وفي مقدمها اهالي الشهداء عامة، والرئيس سعد الحريري الذي وصفه بـ"ولي الدم"على وجه التحديد. واذا كانت اسرائيل تراهن على ان القرار الظني سيؤدي الى فتنة داخلية، فالجهة التي ستحقق هذه الامنية هل ستكون الجهة العزلاء، ام الجهة التي تملك السلاح وتكدسه خلافا لاتفاق الطائف، لوضع اليد على الدولة اللبنانية؟!
استطراداً، بدا الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" يتكلّم مع جمهوره أو مع شعبه حصراً، الذي يصدّق كل ما يقوله له "السيّد" دون اعمال فكر او تدقيق او تمحيص، وكأنه كلام منزل او صادر عن معصوم، فلا يمكن تفسير الكلام غير المنطقي الذي يصعب ان ينطلي على عقول اللبنانيين والذي ساقه في خلال اعلانه عن القرار الاتهامي للمحكمة، بغير ذلك.
فكيف يمكن تفسير الربط المباشر الذي اقامه نصرالله، وللمرة الاولى بهذا الوضوح، بين كشف متهمين بالتعامل مع اسرائيل في قطاع الاتصالات في تموز الحالي، والقرار الاتهامي المحتمل للمحكمة الدولية، ليخلص الى اعتبار المحكمة "مشروعا اسرائيليا"؟!
من الناحية العملية، ان فرضية قدرة العميل شربل قزي على التلاعب بالـ"داتا"‏ لمصلحة اسرائيل، ينقضها بشكل ‏واضح اكتشاف عشرات شبكات عملاء الموساد عبر تحليل الـداتا نفسها، وابرز هؤلاء شبكة ‏اديب العلم وغيره التي اكتشفت حصراً من خلال تعقب اتصالاتهم وتحليلها، استنادا الى ‏داتا ‏الخليوي في الوقت نفسه الذي كان فيه شربل قزي يعمل للموساد؛ فلماذا لم يقم الموساد بواسطة عميله بمحو الداتا التي أدت الى كشف ذلك العميل نفسه وكل هؤلاء العملاء حماية لهم؟! ومن الذي قال ان المحكمة تستند في قرارها الاتهامي وتحقيقاتها فقط لداتا الاتصالات ليس إلا؟! يصعب على عقول من لا ينتمون الى فريق"أشرف الناس، واطيب الناس، واطهر الناس"، إيجاد تحليل او تفسير لهذا الربط، بل ان ذلك يتخطى قدراتهم العقلية والادراكية، وكل ما يمكن قوله انه كلام صادر عن مرتبك لا يعي ولا يصدق ما يتفوّه به من كلمات.
وفيما يتعلّق بـ"البيئة الحاضنة للعملاء" التي اشار اليها نصر الله محاولا تخوين قوى 14 آذار ورموزها، الذين كانوا يشكلون حكومة الاستقلال الثاني بعد انسحاب وزراء المعارضة منها، فهي "بيئة حاضنة" تتأرجح هويتها بين احتمالين: فإما ان تكون حاضنة هؤلاء العملاء الطائفة التي ينتمي اليها الحزب كون غالبية العملاء الذين اكتشفوا ينتمون اليها، وهذا احتمال لا يقبل به احد، واما ان تكون البيئة الحاضنة هي النظام السوري-اللبناني الامني المشترك، كون الغالبية الساحقة لهؤلاء العملاء تم تجنيدهم كما ورد في التحقيقات ما بين عامي 1991و2005، ولم يتم اكتشافهم في تلك الحقبة السوداء من تاريخ لبنان، الى ان جاءت ثورة الارز فكرّت سبحة اكتشاف شبكات العملاء وتوقيفها بالجملة، وهذا ما اشار اليه الدكتور سمير جعجع في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 20/7/2010.
اما فيما يتعلق بقول نصر الله: "ان القرار الذي اتخذته الحكومة في 5 ايار 2008 كان اسرائيليا"، داعيا الحكومة الحالية الى التحقيق والبحث عن رأس الخيط في قرار 5 ايار"، فالافضل له التراجع عن تلك المقولة اللهم الا اذا كانت زلة لسان، لانه بذلك يكشف للبنانيين ان اسرائيل قدّمت له خدمة وهدية لا تقدّر بثمن، بدفعها الحكومة اللبنانية، حكومة الاستقلال الثاني التي صمدت في وجه ارهاب الحزب ومحاولات اسقاطها السلمية والدموية، وفي طليعتها حرب تموز2006، دفعت بها لاتخاذ قرار وجد فيه الحزب ضالته بعد طول انتظار لشن انقلاب دموي ارهابي مسلّح على الحكومة اللبنانية وجمهور ثورة الارز الصامد والمناضل، واسقاط حكم الاكثرية، ومحاولة العبث باتفاق الطائف من خلال اجبار قوى 14 آذار على توقيع اتفاق الدوحة الذي فرض اعرافا جديدة مخالفة للدستور اللبناني، كالثلث المعطل مثلا، واعاد للحزب سلطته وسطوته على الساحة السياسية اللبنانية، بعدما جرفته ثورة الارز واضعفت نفوذه مع انسحاب الجيش السوري من لبنان. ولا نظن ان ثمّة ذريعة اهم واخطر واثمن من قرار 5 ايار 2008 (الذي اعتبر شبكة الحزب السلكية غير شرعية وغير قانونية، ودعا الى ملاحقة ومعاقبة من يقف وراءها)، كان يمكن للحزب ان يبرّر من خلالها قرار اجتياحه العاصمة والجبل واسقاط حكم الاكثرية بقوة السلاح. فهل يريد نصر الله اعلامنا ان اسرائيل هي من قدّمت له تلك الخدمة الغالية، منهية حكم الاكثرية، ومنفذة ما عجز عن تحقيقه هو بمفرده طوال 3 اعوام؟! ثم أليس نصر الله القائل غيرمرّة: "لولا 5ايار لما كان 7ايار".
لا داعي للاستفاضة في تحليل خطاب نصر الله الاخير اكثر من ذلك، فقد كان شديد الوضوح في ايصال الرسالة متعددة الاتجاهات، وكأن لسان حاله ومضمون كلامه يقول: "نحن متورطون في جريمة العصر وسلسلة الاغتيالات التي تلتها، والكرة الآن في ملعب رئيس الحكومة سعد الحريري الذي اصبح امام خيارين: إما ان يترك المحكمة تتابع عملها واما أن يحفظ استقرار الوضع في لبنان، فأيهما يفضل: معرفة واعلان من اغتال والده ومحاكمته، ام استقرار اللبنانيين"؟! هذا ما ترجمه السفير السوري وئام وهاب في 18/7/2010، عندما اعتبر ان رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري "يملك من الوعي ما يمنعه من الانحراف الى الفتنة"، مشيرا ان "لا خيار امامه الا ان يقول انه لخيارات لبنانية تتعلق بالسلم الاهلي والوحدة الوطنية، فقد اوقفنا التعامل مع المحكمة الدولية، وخصوصاً انها اسرائيلية ظلمت الناس وتعدت على كراماتهم"!!
المهم الآن محاولة تحليل واستشراف ما ستحمله المرحلة القادمة، مرحلة اعلان القاضي بلمار قراره الظني الاتهامي في جريمة 14 شباط 2005، الذي بات توقيته قريبا جدا، خصوصا بعد ما اوردته صحيفة "الفيغارو" الفرنسية في 19/7/2010، من معلومات لافتة لجورج ماليرونو، نقل فيها عن مصادر أمنية ان تمثيلاً لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت عام 2005، سيجري الخريف المقبل في قاعدة عسكرية جنوب بوردو في فرنسا، وأضافت ان احد المحققين انتقل أخيراً الى هذه القاعدة. وفي اتصال اجرته صحيفة "النهار" بمصادر مسؤولة في المحكمة الخاصة بلبنان، أكدت هذه المصادر صحة المعلومات التي أوردتها الصحيفة الفرنسية.
فهل سنشهد في المرحلة القادمة المفتوحة على جميع الاحتمالات واكثرها مأسوية، استقالة الوزراء الشيعة ومعهم الوزراء الممثلون للتيار الوطني الحر من الحكومة، اذا تضمّن القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الحريري اتهاما للحزب ما سيعتبرونه تسييسا، لاعطاء الاستقالة طابعا غير مذهبي؟ وماذا سيحدث حينئذ، هل سيتكرّر سيناريو عام 2006 عندما استقال الوزراء الشيعة من الحكومة والوزير يعقوب الصرّاف وادعى فريق 8 آذار عدم شرعية الحكومة، لانها فقدت تمثيل طائفة اساسية في البلاد؟ وهل ستنشب بعد الاستقالة حرب مع اسرائيل تقضي على مقومات الدولة اللبنانية، لتنتهي ببسط الحزب سيطرته التامة والكاملة على القرار اللبناني بجميع مفاصله بعد انهيار الدولة واستنجادها بالدويلة؟! والى أين ستتجه الامور اذا استقال "الوزير الضامن" الذي يمثّل الرقم 11 في الثلث المعطل القاتل، واعتُبِرَت الحكومة مستقيلة بحكم الدستور؟!
هذا سيناريو محتمل، وثمّة سيناريو آخر لا يقل خطورة عن سابقه، يذهب الى افتعال توترات امنية تربك الحكومة ورئيسها، قد تصل الى حد احتمال اندلاع " سبعين 7 ايار، او 7 ايار نهائي وحاسم" على حد قول بعض قياديي الحزب، تعلَن فيه الحرب على لبنان وسلمه الاهلي، فيتم ادخاله في أتون من الصراع العبثي المدمر، في محاولة للافلات من العقاب. وهذا احتمال لا يمكن تجاهله بعد خطاب نصر الله الاخير، وما تبعه من في 17 تموز من نشر صحيفة السفير معلومات تفيد ان النائب ميشال عون أبدى تخوفه من سيناريو دراماتيكي، يربط القرار الظني بحرب اسرائيلية، كما ابدى مخاوفه من أن يتقاطع القرار الظني والعدوان الاسرائيلي مع تحرك مجموعات عسكرية في الداخل اللبناني وخاصة في البيئة المسيحية، من أجل فرض أمر واقع جديد في المناطق المسيحية، وفي الوقت نفسه، تنبري بعض المجموعات الأصولية خاصة في المخيمات الفلسطينية، لرسم وقائع جديدة في ساحات محددة، ويصبح مشروع الفتنة في لبنان مفتوحا على أكثر من احتمال... وختم عون "ناصحا" نصر الله:"بتغيير قواعد اللعبة"!!
انه كلام خطير جدا بكل ما للكلمة من معنى، فقد كشف عن مكنونات جنرال الرابية الذي عجز عن مجاراة منافسيه في الساحة المسيحية بالعقل وقوة المنطق والخط السياسي، فأعلن افلاسه الشعبي والفكري والسياسي، مبديا استعداده للتخلص منهم ولو بالتصفية الجسدية وبسطوة السلاح، فدعا "حزب ولاية الفقيه" الى اجتياح بيروت مرة ثانية، ولكن هذه المرة وصولاً الى المناطق المسيحية! انه بذلك يشجع حزب ايران في لبنان ليتسلم البلد بالسلاح، وينهي كل استقلال سياسي وقرار حر عند اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، وفي طليعتهم "القوات اللبنانية"، التي مثّلت وتبقى الرقم الصعب في المعادلة السياسية اللبنانية.
ختاما، ما يمكن قوله هو ان جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليست مجرد جريمة عابرة في بلد أثقلته جرائم القتل السياسي والافلات من العقاب، بل هي جريمة كبرى على مستوى دولي، وما نشهده اليوم يعد استكمالا للخطّة نفسها والمشروع نفسه من قبل النظام السوري وحلفائه، فقبل 5 سنوات بدأت محاولة افشال انشاء المحكمة، واليوم دخلنا في محاولة اسقاط قرارها الظنّي، ووراء الهدفين هدف مركزي استراتيجي هو الانقضاض على النظام والدولة، وتحويل لبنان من نموذج حضاري الى جرم صغير ظلامي يدور في الفلك الايراني.
الكرة الآن باتت في ملعب الرئيس سعد الحريري، الذي عليه البت في الخيار الذي وضعه امامه نصر الله، علما ان الحريري اعلن مرارا انه سيقبل قرار المحكمة مهما كان، وكذلك فريق 14 آذار، الذي يثق بالمحكمة الدولية كل الثقة، وكذلك جمهور ثورة الارز الاستقلالي والسيادي والنخبوي، الذي لن يثنيه الابتزاز ولا الترهيب ولاالتهديد ولا الوعيد ولا التخوين ولا الاستكبار ولا الاستعلاء ولا التذاكي، عن معرفة حقيقة من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز.
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر 20/7/ 2010


15- الانفتاح على سوريا لا يعني "السورنة"

لا نؤمن بلبنان الا وطنا للحياة والتقدم والازدهار، وطنا حرا مستقلا لكل ابنائه مهما تنوعت اديانهم واختلفت آراؤهم السياسية... لبنان الديموقراطية الأكثرية... لبنان الواحة لحرية الرأي والفكر والمعتقد وسط صحراء عربية تعج بأشواك الانظمة الواحدة وتكتوي بلهيبها... لبنان الرسالة ولبنان النموذج ولبنان الحياة... هذا هو لبنان الذي نريده، وهكذا عرفناه مناضلا في سبيل الحفاظ على هذه الميزات. فماذا ألمّ بلبناننا في 13 تموز 2010؟
رفض الامن العام تجديد اقامة المعارض السوري مأمون الحمصي المقيم في لبنان منذ اربعة اعوام، وطلب منه مغادرة البلاد، وذلك الى وجهة وحيدة هي سوريا، وفق ما صرح به المعارض السوري لوكالات الانباء. وقال الحمصي الذي حصل في 26 ايار الماضي على وثيقة اعتراف بصفة لاجئ من المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة: "الرجولة تكمن في ان يدفع المرء ثمن خطئه عندما يهزم، وانا هزمت... انني لا ارى سببا لطردي غير الانفتاح اللبناني الاخير على سوريا ... لعله يجدر بلبنان، اذا قرر اعتماد خط سياسي جديد، ان يعدل دستوره وقوانينه التي تجعل منه اليوم واحة الحرية والديموقراطية في العالم العربي…لا شك في ان مصيري السجن...انا من اصحاب المبادئ، والمبادئ لها اثمان يجب ان ندفعها".
يا له من مشهد درامي "سوريالي" (اشتقاقاً من سوري) بامتياز! وقع المعارض السوري ضحية الانفتاح اللبناني الجديد غير الممنهج على سوريا، وغاب عنه قبل ان يلتجئ إلى لبنان، ان السياسة في هذا البلد لا تعرف الاستقرار ولا الثبات، فبعد 30 عاما من الوصاية السورية والاحتلال العسكري للبنان، هبّت رياح التغيير حاملة معها نسيما من الحرية ترافق مع اندلاع "انتفاضة الاستقلال" التي ارتوت بدماء الأحرار من أبرز قادة هذا البلد، لتزهر حرية وسيادة على أرض الوطن، وربما تفاءل المعارض السوري بربيع لبنان يومها، وظن انه سيبقى مزهرا على مدار الأيام والسنين، واذا به يفاجأ بهذا البلد يعود سياسيا خمسة أعوام إلى الوراء، مستعيدا خريفه الكئيب، وشتاءه الملبّد بغيوم النفوذ السوري وعواصفه الامنية.
ان أي لبناني لا يمكنه رفض علاقات طبيعية وندية بين لبنان وسوريا، ولا يمكنه ان يعترض على قمم وزيارات تفرضها المصالح المشتركة بين البلدين. لكن الصفحة القاتمة السابقة في هذا الملف، والتي تخلّلتها تجربة مريرة وتاريخ أسود مع نظام أمني له في ذاكرة اللبنانيين سيرة عاطلة تفوح منها روائح التسلط والفساد والهيمنة والاستغلال والاستقواء وتنظيم الحروب مع نظام حوّل لبنان من دولة الى ساحة...تلك الصفحة تستوجب حذراً كبيراً في كل خطوة يقدم عليها المسؤولون اللبنانيون، لا سيما التحرّكات التي يقوم بها رئيس الوزراء سعد الحريري، فما يجري منذ تشكيل الحكومة الحالية أواخر عام 2009 الى اليوم، يثير المخاوف الكبيرة من عودة ظواهر لم تفارق ذاكرة الناس عن عهد النظام الأمني السوري-اللبناني البائد. فها هي الزيارات الشخصية والخاصة باتجاه العاصمة السورية تستعيد نشاطها بقوّة بعد سبات طويل. أما الزيارات الرسمية فقد استرجعت حيويّتها هي الأخرى لكن كالعادة باتجاه واحد، فطريق بيروت-دمشق مزدحمة بالزوار، ولا حراك في الاتجاه المعاكس. نرى الرؤساء الثلاثة يجرون اتصالات واحيانا لقاءات مع القيادة السورية قبل وبعد اي جولة خارجية او اجتماع مهم يجمعهم مع احد القادة في العالم، لوضعها في جو المحادثات وربما اخذ بعض التعليمات، ولا نرى اي خطوة مماثلة يقوم بها الجانب السوري. واصبح الحنين الى سوريا يدفع بعض السياسيين الى الالتزام الكامل بما تمليه عليهم المخابرات السورية، خصوصاً اولئك الذين تناسوا كل الدماء التي سالت على ارض لبنان وسارعوا الى اعلان الولاء لسوريا.
نقولها بصراحة، لقد تخلّى لبنان اليوم عن هامش كبير من حرياته، وفرّط بتضحيات شعبه وشهدائه، فقدّم رأس المعارض السوري الذي وجد في هذا البلد الملجأ الآمن لحرية رأيه، على طبق من فضة للنظام البعثي في سوريا.
نحن نميز بين النظام السوري وبين الشعب السوري الذي يعاني بقدر ما نحن نعاني من هذا النظام. ليس لدينا مشكلة مع النظام السوري إذا عاملنا باحترام، وعلى اساس علاقات ندية متكافئة من دولة الى دولة، لكن حبذا لو يعلم المتعاطون بالشأن السياسي ان تحقيق تلك العلاقة الطبيعية والسليمة بين البلدين لا يكون بالاذلال والانسحاق والزحف، كما ان فتح نافذة على سوريا لا يعني اعادة تشريع الباب امام تدخلها في كل صغيرة وكبيرة في الشؤون اللبنانية الداخلية والخارجية. اما الانفتاح على سوريا فلا يعني بالتأكيد "سَوْرَنة" لبنان، من خلال تحويله من لبنان التعددية والتنوع والصحافة والثقافة والرأي الحر والتجربة الديموقراطية الحقيقية...لبنان ثورة ارز وانتفاضة الاستقلال، الى لبنان الحزب الواحد المتفرّد بالحكم، لبنان الذي يخشى التطوّر ويرفض الثقافة ويلعن التعددية ويقتات من الجهل والخنوع والتخلف، لبنان الثورة المرددة للشعارات البالية والصامتة المحدودة الآفاق، المبرمجة على الصراخ والتصفيق وتمجيد الحاكم، واعتقال كل من تجرأ على انتقاده ولو تلميحا ببنت شفة، في سرّه أو علنه أو على صفحات الانترنت.
لا نقول ذلك من دافع عدائي، بل من واجب احترام انفسنا وشعبنا وشهدائنا، الذي يلزمنا جميعاً ان نقيم دولة على مستوى هذه التضحيات وليس أقل من ذلك أبداً. كان الله في عونك يا مأمون، ولا تؤاخذنا بما فعله السياسيون منا، فقد كنا نود ان نكون امناء عليك اكثر من ذلك، ولا تقل: "هزمت" فالاحرار لا يهزمون.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر22/7/2010

16- وكأنه يقول: انا قتلت!

أثار خطاب الامين العام لـ "حزب ولاية الفقيه" حسن نصرالله، سلسلة مواقف مستنكرة وصلت الى حد اعتباره "يضع لبنان مرة جديدة على طريق فقدان الاستقرار والانقسام الكامل، وربما منطق الحرب الأهلية"، فضلا عن اثارته "الشكوك لدى اللبنانيين في دور الحزب وتورطه في الاغتيالات منذ العام 2004، كونه الوحيد الذي يرفع السقف ويتهم نفسه مسبقا، ويشكك في المحكمة ويطلق التحليلات على عواهنها".
واقع الامر، ان خطاب نصر الله ترك المجال واسعاً لهذا الاستنتاج، كون هذا الخطاب اتسم بالتشنج شكلا ومضمونا، وبدا فيه نصرالله فاقدا لاعصابه، قلقا ومضطربا وخائفا، يوجّه تهم العمالة والتخوين يمينا ويسارا (عملاء كبار وعملاء صغار وبيئة حاضنة!!)، وكأنه مجرم وقع فجأة ومن حيث لا يحتسب، في قبضة العدالة، وايقن بظهور الحقيقة وسقوط اقنعة العفة والمقاومة والوطنية، بعدما ظن لفترة طويلة ان الهروب من العقاب ممكن. وإلا، فإذا كان الامر بخلاف ذلك، كيف عرف حسن نصرالله، ان القرار الاتهامي للمحكمة الدولية سيطاله وحزبه، بل وبدا جازما بذلك؟!
في اعتقادنا، ان الشرعية الدولية تترسخ يوميا في كل العالم، فقد ثبت في السنوات الماضية ان المحاكم الدولية لم تكن محاكمات شكلية بل حازمة وجادة في إرساء العدل، لذلك انتفض الذين رسّخوا نهج الظلم في لبنان، واستشاطوا غضبا، عندما وجدوا ان عصر الافلات من العقاب، الذي كان عنوان السنوات الـ35 الماضية، قد ولّى مع وصول المحكمة الدولية، التي سقط على دربها خيرة قادة الرأي والفكر والسياسة في لبنان، الى ساعة الاعلان عن حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وقافلة شهداء ثورة الارز.
أصاب من قال: "إن من يخاف قرار محكمة هو المرتكب"، واخطأ من اعتبر ان "لا أحد يملك أي معلومات عن قرار المحكمة، التي تعمل بصدق ونزاهة وشفافية وسرية تامة، قبل صدوره، وكل من يدّعي انه يعرف فحوى القرار فهو مخطئ".
لجنة التحقيق الدولي ليست وحدها (بعد الله) التي تدرك معطيات التحقيق وتفاصيل الجريمة، وتعلم على ضوئها الى مَن ستوجّه التهم، فالمجرم يشترك مع لجنة التحقيق في معرفة تلك المعلومات بأدق تفاصيلها، بل ويتفوّق على قاضي التحقيق في معلوماته، لأن القاضي ببساطة، يحاول اكتشاف تفاصيل وخلفيات وحيثيات الجرم الذي ارتكبه الجاني. وهنا، يجدر بنا التذكير، بأن الكلام على اتهام المحكمة الدولية لعناصر من الحزب، سمعناه بدايةً من الوزير السابق وئام وهاب، وكرره لاحقا الوزير السابق ميشال سماحة، ومعلوم انهما من سفراء النظام السوري في لبنان، ومن انصار الحزب، وهما الطرفان اللذان تحوم حولهما الشبهات الرئيسة، في الجرائم التي شهدها لبنان في السنوات الماضية.
وبالمناسبة، لم نر طرفين ممن يدّعون العداوة، يخدمان بعضهما بعضا مثل الحزب واسرائيل! ففيما يتعلّق بالمحكمة الدولية، قدّمت اسرائل والصهاينة بشكل عام خدمات ثمينة جدا لـ"حزب ولاية الفقيه"، ابتداء بالتحقيق الذي نشرته مجلة "دير شبيغل" الالمانية (المعروفة بانتمائها سياسيا للخط الصهيوني) في 23أيار 2009، والذي ذكرت فيه "ان قوات خاصة تابعة لحزب الله خططت ونفذت الهجوم الذي اودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه"... وما تبع ذلك من اعلان وزير الخارجية الاسرائيلي أفيجدور ليبرمان: "انه بناء على تقرير "ديرشبيغل" يجب اصدار مذكرة توقيف بحق نصر الله، ويجب اعتقاله بالقوة اذا لم يسلمه لبنان"...فقد اعطت اسرائيل الحزب بذلك ذريعة قوية وكافية، لرفض القرارالظني اذا ما صحت المعلومات عن تورطه بالجريمة.
تلقف نصر الله تلك الخدمة بالترحاب، فنعى المحكمة الدولية، معلناً أن ما كتبته "دير شبيغل" وما عقّب عليه الصهاينة، هو اتهام اسرائيلي باغتيال الحريري، "وسنتعاطى معه على انه اتهام اسرائيلي".
استطراداً، بدا حسن نصرالله يتكلّم مع جمهوره أو مع شعبه حصراً، الذي يصدّق كل ما يقوله له "السيّد" من دون اعمال فكر او تدقيق او تمحيص، وكأنه كلام منزل او صادر عن معصوم، فلا يمكن تفسير الكلام غير المنطقي، الذي يصعب ان ينطلي على عقول اللبنانيين، والذي ساقه في خلال اعلانه عن القرار الاتهامي للمحكمة، بغير ذلك.
فكيف يمكن تفسير الربط المباشر الذي اقامه نصرالله، وللمرة الاولى بهذا الوضوح، بين كشف متهمين بالتعامل مع اسرائيل في قطاع الاتصالات في تموز الحالي، والقرار الاتهامي المحتمل للمحكمة الدولية، ليخلص الى اعتبار المحكمة "مشروعا اسرائيليا"؟!
يصعب على عقول من لا ينتمون الى فريق"أشرف الناس"، إيجاد تحليل او تفسير لهذا الربط، بل ان ذلك يتخطى قدراتهم العقلية والادراكية، وكل ما يمكن قوله، انه كلام صادر عن مرتبك، لا يعي ولا يصدّق ما يتفوّه به من كلمات.
وفيما يتعلّق بـ"البيئة الحاضنة للعملاء" التي اشار اليها نصر الله، محاولا تخوين قوى 14 آذار ورموزها، الذين كانوا يشكلون حكومة الاستقلال الثاني بعد انسحاب وزراء المعارضة منها، فهي "بيئة حاضنة" تتأرجح هويتها بين احتمالين: فإما ان تكون حاضنة هؤلاء العملاء الطائفة التي ينتمي اليها الحزب كون غالبية العملاء الذين اكتشفوا ينتمون اليها، وهذا احتمال لا يقبل به احد، واما ان تكون البيئة الحاضنة هي النظام السوري-اللبناني الامني المشترك، كون الغالبية الساحقة لهؤلاء العملاء تم تجنيدهم كما ورد في التحقيقات ما بين عامي 1991و2005، ولم يتم اكتشافهم في تلك الحقبة السوداء من تاريخ لبنان، الى ان جاءت ثورة الارز فكرّت سبحة اكتشاف شبكات العملاء وتوقيفها بالجملة، وهذا ما اشار اليه الدكتور سمير جعجع في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 20/7/2010.
خطاب نصر الله كان في غاية الوضوح لايصال رسالة متعددة الاتجاهات، وكأن لسان حاله يقول: "نحن متورطون في جريمة العصر وسلسلة الاغتيالات التي تلتها، والكرة الآن في ملعب رئيس الحكومة سعد الحريري الذي اصبح امام خيارين: إما ان يترك المحكمة تتابع عملها، واما أن يحفظ استقرار الوضع في لبنان، فأيهما يفضل: معرفة واعلان من اغتال والده ومحاكمته، ام استقرار اللبنانيين"؟!
المهم الآن، ما ستحمله المرحلة القادمة، مرحلة اعلان القاضي بلمار قراره الظني الذي بات توقيته قريبا جدا، خصوصا بعد ما اوردته صحيفة "الفيغارو" بان تمثيلً جريمة اغتيال الحريري، سيجري الخريف المقبل في قاعدة عسكرية جنوب بوردو في فرنسا.
فماذا سيجري وكيف سيتصرف رئيس الحكومة؟
الكرة الآن في ملعبه، وعليه البت في الخيار الذي وضعه امامه نصر الله، علما ان الحريري اعلن مرارا، انه سيقبل قرار المحكمة مهما كان، وكذلك فريق 14 آذار، الذي يثق بالمحكمة الدولية كل الثقة، وكذلك جمهور ثورة الارز الاستقلالي والسيادي والنخبوي، الذي لن يثنيه الابتزاز ولا الترهيب ولاالتهديد ولا الوعيد ولا التخوين ولا الاستكبار ولا الاستعلاء ولا التذاكي، عن معرفة حقيقة من اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية، نشر 22/7/2010

17- العدالة...لكي لا نغتالهم مرة ثانية

مما يدعو للاسف في بلدنا لبنان، ان الكلمات والعهود والمواثيق يمكن ان تفقد صدقيتها وتتبخر في اية لحظة، فتصبح مجرد حبر على ورق، او بضع كلمات لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به او الورق الذي دونت عليه، وما ذلك الا لان احد اصحاب التواقيع والالتزامات ممن يتقنون "فن التقية"، قرر قلب الطاولة على الجميع ونقض عهوده والتنصل من مسؤولياته، مستقويا على الدولة وعلى بقية الافرقاء بترسانته العسكرية.
فنقضا للاجماع الذي انعقد على المحكمة الدولية عام 2006 اثناء جلسات طاولة الحوار الوطني، ونسفا للبيانات الوزارية التي نصت على التزام لبنان بالمحكمة، نشهد للمرة الاولى منذ قيام المحكمة الخاصة بلبنان بموجب القرار رقم 1757 الصادر عن مجلس الامن في 30 أيار 2007، هجمة منظمة ومبرمجة ومركزة تستهدف المحكمة الدولية تمهيداً لإلغائها.
هذا ما بدأ به الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" في 16تموز الماضي، عندما اعطى الضوء الاخضر للجهوم على المحكمة في خطاب استباقي وتخويني خطير، وصف فيه المحكمة بـ"الاسرائيلية"، زاعما انها تتحضّر لاتهام عناصر من حزبه في قرارها الظني المرتقب صدوره في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري! وما لبث فريق 8 آذار ان تابع قائده في حملة تهويل وتخويف وترهيب موجهة الى قيادات وجمهور 14 آذار، تنذر بفتنة سنية-شيعية قد يشعلها صدور القرار ان لم يسارعوا الى اعلان تخليهم عن المحكمة، وتحذر الدولة بأجهزتها الامنية ومؤسساتها من التعامل معها، مهددة الجميع بـ7 ايار جديد سيكون نهائيا وحاسما هذه المرة.
ومهما يكن من امر، فالواضح ان فريق 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه"، قد اعد خطة جهنمية ودقيقة من اجل اجهاض المحكمة، ونسف أسسها حتى قبل ان تلفظ قرارها الظني.
في المقابل، نجد الفريق الاستقلالي والسيادي بجمهوره وقياداته امانته العامة، لا يزال ثابتا على مواقفه السابقة تجاه المحكمة، يبدي كامل ثقته بها ويرفض التشكيك بصدقيتها. ولعل ابرز تلك المواقف، ما صدر عن رئيس الحكومة سعد الحريري في 24تموز2010 الذي كان حازما في هذه المسألة، فقد اكد "ان قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسائر الشهداء باتت قضية وطنية لبنانية وعربية ودولية، وان الاجماع اللبناني على وجوب الالتزام بتحقيق العدالة هو مسألة غير قابلة للتأويل أو المساومة،(...) فكفى تأويلاً وكفى تهويلاً وكفى استنفاراً لعواطف الناس".
تؤكد قوى 14 آذار حتى الآن اصرارها على التمسك بالمحكمة والقبول بقرارها اذا كان مستندا لادلة مقنعة، لكن جولة سريعة في الماضي القريب لتلك القوى لا تدعو الى الاطمئنان! فقوى 14 آذار خضعت للابتزاز وقدّمت الكثير من التنازلات خوفا من استعمال السلاح غير الشرعي في الداخل، وتعريض السلم الاهلي للخطر، وذلك ابتداء من عدم تمكّنها من اسقاط الرئيس اميل لحود في الشارع ما بين عامي 2005 و2007، مرورا بعجزها عن انتخاب رئيس للجمهورية من فريقها بالنصف زائدا واحدا عندما اعتلى الفراغ سدة الرئاسة الاولى من اواخر عام 2007 الى منتصف عام 2008، وكذلك فيما خص ممانعتها انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية، او لناحية رفضها تشكيل حكومة ملغومة بالثلث المعطل... ثم قبولها بذلك كله بعد تسوية الدوحة، وتكراره عام 2009 بعدما فُرِض ذلك الثلث القاتل بشكل مضمر او مموّه في حكومة ما بعد الانتخابات، فضلا عن قبولها توزير الراسبين الذي عارضته لفترة، واعادة تشريعها السلاح الميليشيوي في البيان الوزاري، وكان سبق ذلك موافقتها على اعادة انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب رغم قفله اياه مدّة عامين تقريبا في وجه نواب الامة، معطِّلا بذلك الاستحقاقات الدستورية وعمل الدولة اللبنانية. ولا ننسى ان ذلك السلاح نجح في اخضاع النائب وليد جنبلاط للواقع السياسي الجديد بعد حوادث 7و11ايار الارهابية، فأعلن طلاقه مع القوى الاستقلالية واعتذاره من النظام السوري وتخندقه الى جانب ما يسمى"المقاومة".
والسؤال المطروح هنا: هل سيصمد الفريق الاستقلالي هذه المرة في وجه تهويلات وتهديدات الفريق المتخوف من اعلان الحقيقة؟! ايّا يكن الجواب، فما نستطيع قوله ان المحكمة انشئت بقرار دولي تحت الفصل السابع وباتت منذ ذلك الحين في قبضة المجتمع الدولي والامم المتحدة، وبالتالي لم يعد للبنان القدرة على تعطيل مسارها والا اصبح خارجا على الشرعية الدولية. لكن مع ذلك، يبقى امام قوى 14 آذار التزام اخلاقي وادبي تجاه قافلة شهداء ثورة الارز، لجهة معرفة حقيقة من اغتالهم ومحاكمته، لا سيما الذين سقطوا منهم على درب انشاء محكمة تضع حدا نهائيا للجرائم السياسية في لبنان، كالشهيدين جبران تويني وبيار الجميل، ومن هنا فإن اي تراجع او تخل عن العدالة وان كان غير مؤثر على عمل المحكمة، سيكون بمثابة اغتيال ثان للرئيس رفيق الحريري وسائر الشهداء الذين اغتيلوا بعده. فالعدالة العدالة، ليبقى لبنان، ولكي لا نغتالهم مرة ثانية.
عبدو شامي
مهار الشباب، نشر 9/8/2010

18- اسباب وخلفيات الحملة على القوات

منذ خروجه من الاعتقال الى يومنا هذا، كانت وستبقى ابواق وجوقات الشتامين والمخوّنين والموتورين، تتطاول مطلقة سهام حقدها على رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، وكانت آخر دفعة من تلك الاتهامات من توقيع الثلاثي الموكل اليه مهمة اعلان الرغبات الاقليمية وتبليغ رسائل الاطراف الداخلية المرتبطة بالولاءات الخارجية: وهاب وقنديل وفرنجية.
ففي 22/7/2010، ورداً على سؤال حول اشارة الدكتور جعجع الى احتمال عودة الاغتيالات في لبنان، قال الوزير السابق وئام وهاب: إن "ماضيه حافل بالتوقعات التي تتطابق دائماً مع قادة العدو...من يطلق هذا الكلام لديه خبرة كبيرة في هذا المجال وهو معتاد على هذا الموضوع، وأنا أحذر البعض منه، وهو في العام 1982 دخل في المؤامرة وشاهدنا كيف كانت النتيجة..."!
وفي 23/7/2010، قال النائب السابق ناصر قنديل: "ان خطة يعدها السفير السابق جوني عبده لايصال (رئيس الهيئة التنفيذية لـ"القوات اللبنانية") سمير جعجع الى رئاسة الجمهورية، بعدما تبنت هذا الترشيح واشنطن والقاهرة وباريس بتزكية شخصية من البطريرك صفير"، واشار الى "ان المستهدف الرئيسي من هذه الخطة هو رئيس الوزراء سعد الحريري"، وسأل الاجهزة الامنية والقضائية عن معلوماتها حول تدريبات مكثفة تجريها "القوات اللبنانية" في معسكرات اردنية؟ وعن علاقة بعض العملاء المعتقلين بالقوات، وسأل جعجع هل صحيح انه قال امام الرئيسين حسني مبارك ونيكولا ساركوزي انه يفضل التعامل مع فؤاد السنيورة كرئيس للحكومة، بدلاً من سعد الحريري الذي يصفه بـ"طفل الانبوب"؟!
واكتملت الجوقة مساء ذلك اليوم، ومن على منبر قناة "المنار"، حين شدد النائب سليمان فرنجية عندما سئل عن علاقته مع الحريري:على انه "لا يمكن أن يكون هناك علاقة ممتازة مع الحريري طالما هناك علاقة بينه وبين أشخاص من نوع رئيس الهيئة التنفذية في القوات اللبنانية سمير جعجع"، معتبرا ان الحريري "رويدا رويدا يرى أن علاقته بجعجع لم تعد مكسب". ولفت فرنجية الى ان جعجع كان يتحدث منذ أيام عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة فـ"هو طرد رئيس جمهورية وقتل رئيس حكومة"، وتابع قائلا: "الدولة التي تعفي عن مجرم مثل جعجع وتأكل حقوق الناس ليست دولة"، لافتا الى ان جعجع كان دائما لديه خلايا تعمل مع الموساد، كان "طربوش لمجموعة خلايا تتبع لمخابرات أجنبية".
ليس مستغربا ذلك الهجوم المنظم والمبرمج على الحكيم، وهو هجوم حاد وعنيف ومركّز استمر طوال الايام والشهور والسنين الماضية، وسيبقى مستمرا الى ان يتخلى الرئيس الحريري عن حليفه منذ العام 2005 "الحكيم"، ويستبدله بـالجنرال البرتقالي "عون"، وذلك للاسباب التالية:
1- لان "الحكيم" رفض الخضوع للهيمنة السورية والمُضي في تسوية ما بعد الحرب الأهلية، فدفع ثمن ثباته على مبادئه سجنا لمدة احد عشر عاما وثلاثة اشهر وخمسة ايام، امضاها تحت الأرض في سجن وزارة الدفاع، ولم يفرّ تاركا عائلته في القصر وجنوده في الميدان، وباع القضيّة، ليُمضي بعد ذلك خمسة عشر عاما في منفاه الباريسي المُرَفّه.
2- لان "الحكيم" كان الرقم الصعب في المعادلة السياسية اللبنانية قبل الطائف وبعده، واثبت بعد تحرره من المعتقل انه لا يزال على مبادئه وثوابته، لا يثنيه عنها ترغيب ولا ترهيب، حتى ايقن النظام السوري أن لا عودة له الى لبنان لادارته بأي شكل من الاشكال طالما أن "القوات اللبنانية" وسمير جعجع موجودان، بل ان المعادلة التي تمثّلها "القوّات" وجعجع اليوم من شأنها، إذا استمرّت، أن تمثّل حجر عثرة مزعجا جدا جدا امام مشروع "الإمبراطوريّة الإيرانيّة على المتوسّط"، الامر الذي يعرقل مخططات واطماع كثيرة موجهة ضد لبنان.
3-لانه يدرك حقيقة خصومه، ويُتقِن فنّ الحديث المنضبط والهادئ، الذي تتسرّب عبره الرسالة المراد ايصالها والنقد الساخر، فضلاً عن تحدّثه بارتياح واقناع ومنطق واتزان...، خلافا لمن تنتابه في تصاريحه النوبات الهستيرية، فيخرج عن حدود اللياقة والادب، ليتوعد بتقطيع الالسن وتكسير الايدي، ثم لا يجد سوى المتاجرة بمشاعر الناس ونبش قبور الماضي، لتعيير الآخرين بتاريخ اقلّ ما يمكن وصفه بأنه كان هو نفسه جزءا اساسيا منه.
4- لانه امتلك الجرأة على الاعتراف بأخطاء ارتُكبت في الحرب، وقدّم اعتذارا عميقا عن كل جرح او أذِيّة صدرت من جانبه، طالبا السماح والتعالي والمحبة...، خلافا لمن عاد ليكرر اخطاء الماضي واساءاته خلاله، وعمل جاهدا لنكء الجراح وذرّ الملح فيها، وغطى عصابات قطاع الطرق الهمجية اثناء اجتياحها العاصمة بيروت، ودافع عنها، ثم طلب من اللبنانيين تقديم الاعتذار لجلاّدهم الذي احتل بلادهم مدة 30 عاما، اذاقهم فيها شر عذاب، واغتال خيرة قياداتهم، و كبح احلامهم، وقيّد حرياتهم.
5- لانه مدَّ يده لشركائه في الوطن، واختار التحالف مع الدولة، وعمل على الدفاع عن سلطتها وبسْط هيبتها على كامل اراضيها، رافضا أي سلاح خارج على المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية...، على عكس من نَفَضَ يده من شركائه في الوطن والطائفة، ورفض المصالحة، وآثر التحالف مع الدويلة، ودافع بشراسة عن سلاحها، مُمْعِنا في تغطيته المتمادية لمشاريع تفتيت الوطن لمصلحة الدويلات والمربعات الامنية، التي تصادر قرار الدولة واستراتيجيتها وسلطتها وهيبتها، متحصّنة بترسانة عسكرية وصاروخية، لا تتوّرع عن توجيهها نحو صدور اللبنانيين عندما تدعو الحاجة، وكل ذلك تحت شعار "المقاومة".
6- لانه بات صاحب خطاب عروبي بحت، قدمه الحكيم في الذكرى الـ16 لحل "القوات"، فـ"القوات" التي تبدو في شباب متجدد هي مكسب وطني لكل من آمن ولا يزال بـثورة الارز، التي صنعت الاستقلال الثاني. لا بل اكثر من ذلك، فلقد فاجأ جعجع الحلفاء قبل الخصوم في المنعطف الداخلي والاقليمي الذي تجتازه البلاد بخطاب في منتهى الوضوح حول موقع لبنان في المنطقة المترجّح بين خطر اسرائيلي وتوظيف ايراني، مؤكداً التزام قضية فلسطين، التي كانت ولا تزال جوهر الصراع في المنطقة.
7- لان الممانعة المسيحية في وجه ما يعده الظلاميون، وما يتحضر له الفتنويون، وما يحيكونه من مؤامرات ضد لبنان، باتت بالدرجة الأولى متمثلة ومتجسدة في القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، وكذلك في الغطاء الوطني الكبير للحالة السيادية اللبنانية، بكركي، عبر سيدها الحالي البطريرك صفير.
يخطئ من يتعامل مع "القوات اللبنانية" اليوم بمنطق الماضي، والعبرة دوماً: من كان منكم بلا خطيئة فليعلن عن نفسه. نعم، قد يكون الدكتور جعجع اخطأ في غير مكان، وفي غير زمن من ازمنة الحرب الطويلة، لكنه في الحقيقة ليس الوحيد الذي ارتكب ما ارتكب، فمعظم الذين هم في السلطة اليوم ارتكبوا جرائم ومجازر وتصفيات، وخطفوا وذبحوا على الهويات، وصادروا الاملاك الخاصة والعامة ونهبوا الثروات، واقاموا الحواجز وانشأوا الكانتونات...، ولا داعي للسؤال عن المتورطين في اغتيالات طالت المؤسسة العسكرية، وفي حروب المخيمات، وحرب الجبل، واقليم التفاح، والاشرفية، وزحلة، وتهجير المسيحيين في غير منطقة، والمسلمين في ضواحي بيروت الشرقية... واللائحة تطول، فلماذا التركيز في نكء الجراح ونبش الماضي على هذا الرجل، وتحمليه احيانا كثيرة ما لم تقترفه يداه، في حين يتم تبييض صفحات وسجلات امراء الحرب واحزابهم الفاعلة على الساحة السياسية اللبنانية، الذين ارتكبوا ما ارتكبوا ولطخوا ايديهم بالدماء، في حقبة ماضية سوداء من تاريخ لبنان؟!
لماذا يعيّرون الحكيم بماض كلهم متورطون فيه؟! ألأنه الوحيد الذي نراه يتصرف على أنه رجل دولة من طراز رفيع، لا يرفع اصبعه ولا يصرخ في وجوه اللبنانيين مهددا بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل يخاطب الناس بهدوء وبعقلانية شديدة، وبمنهجية عالية ومنطق واقناع؟!
لماذا لا يريدون طي صفحة الحرب، ويصرون على ان يبقى الحكيم عدوا دائما؟! وكيف ستبنى الوحدة الوطنية بهذا المنطق الاستنسابي والانتقائي في التخوين والتجريم واعطاء صكوك البراءة والغفران؟! مع العلم ان جعجع هو الوحيد الذي حوكم وسُجن تحت الارض في وزارة الدفاع مدة 11 سنة، في ملفات سياسية مليئة بالتلفيقات، فيما كان شركاؤه في الحرب يتنعمون بخيرات وامتيازات سلطة ما بعد الطائف، التي استباحوا خلالها المؤسسات والقوانين وسخروها لخدمة مصالحهم الشخصية والفئوية والطائفية، فانتهكوا الحرمات وخنقوا الحريات، بدعم وشراكة من سلطة الوصاية آنذاك.
فاليوم بكل اختصار، ثمة محاولة سورية للإطباق على الواقع اللبنانى من خلال حلفاء النظام في الداخل تارة، ومن خلال تدخله المباشر تارة اخرى، بهدف رسم خارطة سياسية جديدة في لبنان يمحى منها فريق "14 آذار"... ولتحقيق ذلك، المطلوب من جميع ازلام سوريا في لبنان، تطويق سمير جعجع لتطويعه ولَي ذراعه، وذلك من خلال مهاجمته وافتعال كل المواجهات الممكنة معه، ومحاولة الايقاع بشتى الطرق بين جناحي القوى الاستقلالية، "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية"، ما سيؤدي الى فرط تحالف قوى 14 آذار وانهاء الشراكة الاسلامية-المسيحية، التي لولاها لما تحقّق شيء من انجازات ثورة الارز.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية، نشر2/8/2010

19- تمخض الجبل فولد فأرا يا سيّد!

انهى الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" الجزء الاول من مسلسل التشويق والاثارة البوليسي الذي عرضه على جميع شاشات التلفزة اللبنانية، في الفترة الممتدة ما بين 16تموز و9آب2010، وقد تضمن 5 حلقات كانت اشبه بمرافعات قانونية مليئة بالتخبطات والسقطات والعثرات ممن وضع نفسه مختارا في قفص الاتهام، محاولا بذلك اقناع اللبنانيين بوجهة نظر بدا واضحا انه شخصيا غير مقتنع بها!
ففي 9آب 2010، كان اللبنانيون والمعنيون في العالمين العربي والاسلامي على موعد مع مؤتمر صحافي اشعرت الهالة الاعلامية والاعلانية التي سبقت وواكبت انعقاده، انه سيشكل ذروة الخطة التي اتبعها نصر الله في حملته الهجومية والتصاعدية على القرار الظني للمحكمة الخاصة بلبنان. وجرى الترويج للمؤتمر الصحافي من قبل أوساط قوى 8 آذار على انه "سيكشف معطيات كفيلة بقلب مجريات التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولن يكون ممكنا بعد كشفها تجاهل القرائن التي سيكشفها، مما سيضع جميع المعنيين امام واقع جديد".
غير ان المؤتمر الذي استأثر باهتمام اعلامي وسياسي واسع انعقد في موعده المنتظر، وبدا دون المستوى الذي اعلن عنه والاهمية التي رُوّج لها، حتى صح فيه المثل العربي القائل: "تمخض الجبل فولد فأرا"!
فقد اطلق الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" قنبلة صوتية دخانية لا قيمة لها ولا تأثير على الصعيد الهجومي ولا حتى الدفاعي، تمثلت بمجموعة حوادث وافلام واعترافات حمّلها اكثر مما تحتمل وبنى بينها رابطا وهميا مفترضا للتأثير في قناعة الجماهير، الا انها مع ذلك ظلت معطيات لا ترقى لأن تشكل مضبطة اتهامية لاسرائيل التي يتمنى الجميع ان تكون وحدها الضالعة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعها من اغتيالات طالت خيرة قادة ثورة الارز، لا اي جهة داخلية او عربية شقيقة. وعلى كل حال، حسنا فعل نصر الله عندما سارع الى استخلاص ما قدمه في المؤتمر بقوله: "انا لا ادعي انني اقدم دليلاً قطعياً، بل قرائن ومعطيات تفتح آفاقاً جديدة للتحقيق للمرة الاولى مع اسرائيل".
هذا، ويمكننا تجزئة مؤتمر نصر الله الصحافي وآلية توجيهه الاتهام الى لاسرائيل، الى مقدمة واربعة اقسام اساسية:
1- في المقدمة، كشف ملف العميل احمد نصرالله الذي قال انه عمل عام 1993 على اقناع الرئيس رفيق الحريري بأن الحزب يخطط لاغتياله، والذي ظهر في شريط مصوّر يدلي باعترافاته لدى توقيفه عام 1996. وهذه القصة التي اختار نصر الله ان يجعلها في مقدمة مؤتمره، لا تشكل دليلا على اتهام اسرائيل، فالجميع متفق على انها العدو ومن مصلحتها الايقاع بين اللبنانيين، وهو ما اشار اليه نصر الله صراحة بقوله: " لم أعتبر أن ما قام به أحمد نصر الله دليلاً، فضلاً أن يكون دليلاً جرمياً". ومع ذلك، استغلّت هذه القصة المرفقة بفيلم مصوّر، لكي تشكل محفزا يبهر المشاهدين ويشد انتباههم ويهيئهم ليتقبلوا المعلومات التالية.
2- ثم تولى نصرالله في القسم الاول بعد المقدمة تفنيد اسباب اتهامه اسرائيل بالاستناد الى ملف المتعاملين معها والعملاء الذين "تم اعتقال غالبيتهم في عامي 2009 و2010"، مبرزاً نماذج من اعترافات لستة عملاء كلفوا بمهام متنوعة، وهي موجودة لدى الاجهزة الامنية الرسمية وتم تحويلها الى النيابة العامة. الا ان المهام والاعترافات المعروضة لم تمت بصلة الى عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري من قريب او بعيد، وغاية ما فيها، الاشارة الى وجود مجموعات تمتلك اسلحة ومتفجرات وخطوط خلوية، تعمل لصالح اسرائيل في لبنان، وهو امر معروف وليس بجديد. الا ان نصر الله حاول ايهام الجمهور بوجود رابط وثيق بينها وبين جريمة العصر، قائلا: "أنا أدعو الى ان تقوم جهة ما بجمع كل هذه الاعترافات والقيام بدراسة عميقة، وعلى من يريد الحقيقة في اغتيال الرئيس الحريري وغيره من الاغتيالات أن يبدأ من هنا وليس من شهود الزور".
3- ثم تناول في القسم الثاني موضوع الاستطلاع الجوي الاسرائيلي الذي وصفه بأنه "حجر الزاوية في كل ما تقوم به اسرائيل على الساحة اللبنانية". وكشف ان "المقاومة تمكنت عام 1997 من التقاط بث طائرة "أم كا" وهي تقوم بالتصوير وترسله الى غرفة العمليات في فلسطين المحتلة وأصبح هناك امكان ان تصل الصور في اللحظة نفسها الى غرفة عمليات المقاومة". وروى وقائع "عملية انصارية"، وجرى بث شريط يظهر صور طائرة الاستطلاع المتعلقة بها. وعرضت بعد ذلك صور جوية للاستطلاع الاسرائيلي لكل من قصر قريطم والطرق التي كان يسلكها موكب الرئيس الحريري اليه، وتم التركيز على صور التقطت "من زوايا متعددة وفي أوقات مختلفة"، كما عرضت صور جوية لطريق موكب الحريري الى منتجعه في فقرا، وكذلك الى منزل شقيقه شفيق الحريري في صيدا. وأشار نصرالله الى ان "هذه الصور والأفلام لا يمكن أن تكون على سبيل المصادفة".
ومع ان صور الاستطلاع الجوي الاسرائيلي تعتبر الدليل الاقوى نظريا من بين المعطيات التي قدمها نصر الله في مؤتمره الصحافي، الا ان هذه الصور معرّضة للطعن والانتقاد من عدة اوجه:
اولا: الصور مجتزأة و"ممنتجة"، عمد فيها الحزب الى حذف كافة الاماكن التي استطلعها العدو الاسرائيلي في لبنان خلال طلعته الواحدة، وهو بالمناسبة لا يترك قيد انملة الا ويستطلعه، وابقى على الصور الاستطلاعية للطرق والاماكن التي يسلكها الحريري في تنقلاته لايهام المشاهدين انها طلعات استطلاعية مستقلة وخاصة، تمهد لتنفيذ عملية الاغتيال.
ثانيا: الصور خالية من اي تأريخ، مع العلم ان الطائرات الاستطلاعية توثق افلامها باليوم والشهر والسنة والساعة والدقيقة والثانية، وقد بدا واضحا انها صور قديمة العهد تعود الى اواخر التسعينات، وذلك لخلو الكورنيش البحري من بعض الابنية الفخمة التي كانت مكتملة البناء عام 2005 او حتى قبله ببضع سنوات، باستثناء "بناية الاحلام" التي ظهرت في االشريط المصور. فهي صور بعيدة زمنيا عن تاريخ الاغتيال بما يقارب 5 سنوات على اقل تقدير وبالتالي يستبعد ان تكون جزءا من التحضير لعملية الاغتيال.
ثالثا: ليس صحيحا ان جميع الصور المعروضة تعود الى ما قبل عملية اغتيال الحريري كما ادعى نصر الله، ففيما يتعلق بطريق فقرا ومنعطف يسوع الملك، اظهرت الصور ان طريق يسوع الملك مفصولة الى خطين، مع العلم انها كانت خطا واحدا منذ انشائها حتى اوائل العام 2010 او اواخر العام 2009، حين تم مشروع ترميمها...هذا ما افاد به بعض اهالي المنطقة ونقله النائب انطوان زهرا الى وسائل الاعلام.
رابعا: ان التركيز على المنعطفات الذي استشهد به نصر الله ليربطه بعملية اغتيال الحريري، امر طبيعي ومعلوم بالنسبة لاي جهة تتمتع بخبرة واحتراف في عمليات الاغتيال واستهداف المواكب، ولا يقتصر على العدو الاسرائيلي وحده، وهذا ما اشار اليه نصر الله نفسه بقوله: " لأنه عندما يكون هناك موكب وسيارات مصفحة بطبيعة الحال عندما تصل (عندي خبرة لأنني كنت أركب بهذه المواكب)، عندما تصل المنعطف حكماً السيارات سوف تبطئ الحركة وهذا يسمونه المقتل. وبالتالي لا يمكن حصر الشبهة باسرائيل وحدها استنادا لتك الصور، هذا فضلا عن استطاعة اي جهة الوصول الى تفاصيل ادق واحدث من تلك التي اظهرتها صور طائرة الاستطلاع القديمة نوعا ما، من خلال خدمة "الغوغل ايرث" على الانترنت.
4- وتحدث في القسم الثالث عن حركة الاستطلاع الجوي وحركة سلاح الجو الاسرائيلي يوم 14 شباط 2005 تحديداً، فأشار الى تواجد طائرة "أواكس" "المجهزة بالقدرة على التنصت وعلى السيطرة الفنية وعلى قيادة العمليات"، من الساعة 10 حتى الساعة 2,30 مقابل السواحل اللبنانية وصولاً إلى بيروت، رافقها نشاط آخر لطائرة "استخبارات إشارة وحرب إلكترونية مقابل السواحل اللبنانية وصولا الى بيروت". ولاشك انها معطيات مجرّدة من اية قيمة جرمية او حتى فرضية اتهامية، لان مطلقها لم يقدّم اي دليل يؤكد تواجد تلك الطائرات في ذلك اليوم، فضلا عن ان احتمال استهداف موكب الحريري بصاروخ جو-ارض قد اثير من قبل لجنة تحقيق "برامرتس"، وتبيّن عدم صحته.
5- وفي القسم الرابع، عرض نصر الله ما اعتبره "القرينة الأخيرة" فأشار الى تواجد "العميل التنفيذي غسان الجد الذي كانت له علاقة باغتيال غالب عوالي في منطقة عملية اغتيال الرئيس الحريري في السان جورج يوم 13 شباط، وقدمنا هذه المعلومات الى الاجهزة الأمنية، وقد فرّ غسان الجد من لبنان قبل التمكن من اعتقاله عام 2009". وهذه ايضا قرينة واهية لم يقدم اي دليل على صحتها، وعلى فرض صحتها لا تشكل دليلا جرميا، اذ كما تواجد العميل الاسرائيلي في ذلك اليوم في منطقة الجريمة، كذلك تواجد عناصر من "حزب ولاية الفقيه" الذين تمكنوا من رصده هناك.
وبذلك أنهى الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" مرافعته الاخيرة التي جمع فيها ثلاثة ادوار معا: المحقق والمدعي العام والقاضي، دون ان يتمكّن من اقناع من لا ينتمون الى شعبه بامكانية توجيه اتهام صريح لاسرائيل باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبقيت وثائقه وافلامه قاصرة عن تغيير مجرى التحقيق والحقيقة.
يبقى، ان معرفة الحقيقة امر مهم جدا لبقاء لبنان وتحقيق امنه واستقراره، لكن الاهم تهيئة الناس نفسيا لتقبلها مهما كانت، ولعل الشيء الايجابي الوحيد الذي فعله نصر الله من خلال مرافعاته الخمس، هو تهيئة الناس للقرار الظني المرتقب صدوره عن المحكمة تفاديا لأية صدمة. فلينتظر الجميع بصمت القرار الظني الذي ستصدره المحكمة، وما سيستند اليه من ادلة اتهامية وجرمية وقرائن ومعطيات، وعندها لكل حادث حديث.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية ومدونة ايلاف، نشر 12/8/2010

20- من وحي المحكمة الدولية

بعد الزوبعة التي اثارها مسلسل الخطابات المتلفزة والمؤتمرات الصحافية والتصريحات النارية المشككة والطاعنة بالمحكمة الدولية، تبادرت الى الاذهان خواطر وتساؤلات:
1- في ما يتعلق بمسؤولية اسرائيل عن الاغتيالات، لماذا تكتّم "حزب ولاية الفقيه" على معطياته التي يرى انها تدين العدو الاسرائيلي بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري طوال السنوات الخمس الماضية، ولم يبح بها الا اليوم؟!
2- الا يعد ذلك التكتم تسترا على المجرم الحقيقي وتضليلا لمسار التحقيق، وجناية يعاقب عليها القانون تماما كشهادة الزور؟
3- لماذا اللجوء الى وضع هذه المعلومات بتصرف الرأي العام اللبناني من خلال مؤتمر صحافي، وعدم وضعها مباشرة بتصرف المحققين الدوليين الذين استمعوا الى عناصر في الحزب؟
4- الا يجدر بسوريا، بعد كشف الحزب عن معطياته، ان تتخذ موقفا منه لانه تركها طوال 5 سنوات تقريبا، تعاني في مهب عواصف الاتهامات السياسية والعزلة الدولية، على خلفية الاشتباه بتورطها في جريمة 14 شباط 2005، رغم امتلاكه من المعلومات ما في امكانه انقاذها من ورطتها وتوجيه التهمة نحو اسرائيل؟
5- لنفترض ان الحزب مقتنع فعلا بأن القرائن التي قدمها قوية الى درجة يمكن معها توجيه التهمة نحو العدو الاسرائيلي، هل سيقبل ويسلّم بقرار ظني يصدر عن المحكمة الدولية اذا كان مستندا الى قرائن ومعطيات بمستوى تلك التي عرضها امينه العام في مؤتمره الصحافي في 9 آب الماضي؟!
6- واذا كان واثقا حقيقة بقرائنه، فلماذا يريد إلغاء المحكمة التي يستطيع عبر التعاون معها إثبات براءته من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟!
7- لنفترض اننا صدقنا بتورط اسرائيل في جريمة العصر كما يريد الحزب اقناعنا، فما تفسير معارضته لاقرار المحكمة الدولية في مجلس النواب اللبناني واعتكاف وزرائه ثم استقالتهم من الحكومة واعتصامه الشهير الذي شل وسط العاصمة؟
8- واذا كانت اسرائيل هي التي قتلت رفيق الحريري وباسل فليحان، وخيرة قادة ثورة الارز وفريق 14 آذار، الا يكون الحزب صاحب هذه "القناعة" ملزما اخلاقيا وسياسيا بالاعتذار من اهالي الشهداء ومن فريق 14 آذار لأنهم كانوا دائماً عرضة لتهم التخوين والعمالة وحملات التهويل من اعلام الحزب وقياداته؟!
9- وبالانتقال الى ما يسمى "شهود الزور"، علما انه لا يمكن الحديث عن شيء اسمه "شهود زور" بالمفهوم القضائي قبل اعلان نتائج التحقيق والكشف عن سرية افادات الشهود... هل من المصادفة ان يكون كل من يصفهم فريق 8 آذار بشهود الزور سوريين؟
10- هل سيعتبر بمفهوم الحزب اولا والمحكمة ثانيا، النائب وليد جنبلاط او غيره من الشهود، اذا تراجعوا عن افادتهم امام المحقق الدولي شهود زور؟
11- ختاما، اذا كانت اسرائيل تراهن على ان القرار الظني سيؤدي الى فتنة داخلية، وهو ما يحذر منه الحزب يوميا في حملاته التهويلية والتهديدية، فالجهة التي ستحقق هذه الامنية هل ستكون الجهة العزلاء، ام تلك التي تملك السلاح وتكدسه خلافا لاتفاق الطائف، بهدف وضع اليد على الدولة اللبنانية؟!
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 26/8/2010

21- خلاصات برج ابي حيدر


وضعت "حرب" برج ابي حيدر اوزارها بعدما أسالت الدماء وخلّفت الخراب وهتكت الحرمات، كاشفة، مع ردود الفعل التي تلتها، مجموعة خلاصات:
1- ثبت بالتجربة والبرهان في اشتباكات "اللون الواحد"، ان السلاح الطائفي والمذهبي، يجعل التحالفات السياسية عاجزة عن ضمان عدم استعماله في الداخل او على الاقل ضد الحليف، فعندما "يجدّ الجدّ" لن يعترف ذلك السلاح الا بالولاء العقائدي المحض. فالاشتباك وان بدأ فرديا كما يزعم طرفاه، الا انه ما لبث ان اتسع ليصبح اشد زخما وعنفا من غزوات 7 أيار 2008 و11 منه، مع اطلاق عشرات القذائف الصاروخية على مراكز "الحلفاء"، واستهداف المساجد والمؤسسات المدنية بالقصف والقنص والحرق.
2- ان ما حدث في برج ابي حيدر لم يكن مجرّد اشتباك مسلح، بل كان حرباً فعلية. فقد شبّه النائب محمد رعد في 29/8/2010 الحادث بحرب تموز، قائلا في معرض انتقاده تفقد الرئيس الحريري منطقة الحادثة: "نحن لم نشهد جولة من هؤلاء لتفقد الاضرار بعد حرب تموز لا في الضاحية ولا في الجنوب".
3- ان سلاح "المقاومة" الموجود في بيروت ليس معدا لمقاومة العدو الاسرائيلي، بل لمقاومة العيش المشترك والشرعية اللبنانية والدولية، اذ كشف الانفلاش العسكري المنظم الذي استتبع "الحادث الفردي التافه"، وجود تركيبة عسكرية قتالية كاملة في قلب العاصمة، مستعدة للتحرك الفوري عندما تتلقى الاوامر وتسمح الظروف لوضع اليد على السلطة بكل مفاصلها. وهذا الكلام لم يعد مجرّد تحليل، فقد اكده النائب نواف الموسوي في 29/8/2010 من خلال الربط المباشر الذي أقامه بين وجود السلاح وبين صدور القرار الظني في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، اذ قال حرفيا: "ثمة من يستفيد من هذه الحادثة للتوصل الى إجراءات من شأنها غلّ أيدي المقاومة في الدفاع عن نفسها في ما لو صدر القرار الظني باتهامها".
4- ان القوى الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي، المسؤولة عن أمن المواطنين وسلامتهم، لا تزال مكبّلة وعاجزة عن ممارسة اي دور حازم وفعّال لضرب المخلين بالامن وحماية الآمنين في منازلهم واعمالهم، والامر حقيقة يجب البوح بها وان كانت مُرّة. فالقوى الامنية اكتفت بالتفرّج على النزاع بين الطرفين المتقاتلين بالسلاح الرشاش والقذائف الصاروخية في قلب الاحياء الشعبية، ولم يسمح لها بالتدخل الا بعد نحو ثلاث ساعات على اندلاع الاشتباكات، اي بعدما خيّم الهدوء على المنطقة وتوقف اطلاق النار واختفت العصابات المسلحة من الازقة! وكأن وظيفة القوى الامنية في عصر معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" المفروضة قسرا، تنحصر بكونها قوة فصل بين المتقاتلين وديوان صلح بين المتخاصمين، على ما يستشف من قول نائب الامين العام لـ "حزب ولاية الفقيه" الشيخ نعيم قاسم في 29/8/2010: "المسؤولية الامنية هي حصرا مسؤولية الجيش ونحن نحييه لانه تصرف بحكمة وان اراد البعض ان يجعله طرفاً. نحن نريد للجيش ان يبقى في هذا الموقع الشريف، موقع مقاومة عديسة وضبط الامن الداخلي، وهذه وظائف تنسجم تماما مع الجيش الوطني ومع معادلة الجيش والشعب والمقاومة".
5- ان مطلب "بيروت منزوعة السلاح"، يعبّر عن صرخة حق شعبية نابعة من قلب مدينة ضاقت ذرعا بالسلاح الميليشيوي بعدما عاث فيها الفساد واذاقها شر العذاب. لكن في ظل عجز القوى الامنية عن تحمّل مسؤولياتها، وبقاء بيروت محاطة بضاحية متخمة بسلاح لن يتورّع عن الزحف نحو قلب العاصمة بذريعة الدفاع عن نفسه، يجب ان ينسحب هذا المطلب والشعار على كل الاراضي اللبنانية.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 9/9/2010

22- ضريبة كان يجب تفاديها


"نحن في مكان ما ارتكبنا اخطاء. في مرحلة ما اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى". "هناك اشخاص ضللوا التحقيق وهؤلاء الحقوا الاذى بسوريا ولبنان (...) شهود الزور هؤلاء خربوا العلاقة بين البلدين وسيسوا الاغتيال ونحن في لبنان نتعامل مع الامر قضائيا".
هذا ما ادلى به الرئيس سعد الحريري الى صحيفة" الشرق الاوسط" السعودية ونشر في 6 ايلول 2010، لتظهر معه مرة جديدة وبفجاجة، حال الفوضى والتشرذم التي تعانيها "قوى 14 آذار" وامانتها العامة.
فبعد سنة تماما على تعليق حزب الكتائب عضويته في هذه الامانة ريثما يتم التجاوب مع مشروعه الاصلاحي لها، وذلك على خلفية تراكم الاخفاقات ووقوع الكتائبيين ضحية تسرّع الرئيس المكلف في تقديم تشكيلته الحكومية الى رئيس الجمهورية التي اسند فيها اليهم حقيبة الشؤون الاجتماعية عوضا عن حقيبة التربية التي طالبوا بها… وبعد الانقسام المخزي على البند المتعلق بالسلاح الميليشيوي في البيان الوزاري والذي لاقى اعتراضا وتحفظا من وزراء مسيحيي قوى 14 آذار وتأييدا من وزراء تيار المستقبل…ها هو اليوم الرئيس سعد الحريري يفاجئ الجميع بموقف انقلابي ذي شقين: الاول ينسف بموجبه الاتهام السياسي للنظام السوري بالضلوع في جريمة العصر والاغتيالات التي تلتها، والذي شكّل واقعياً صلب الخطاب السياسي لقوى 14 آذار طوال السنوات الخمس الاخيرة، والثاني يؤكد صحّة ما يروجه فريق 8 آذار من وقوع التحقيق الدولي في شباك التضليل من قبل شهود زور!
وهذا الاعلان الدراماتيكي اقل ما يقال فيه انه تنازل موصوف من الدرجة الاولى معنويا وسياسيا ومبدئيا، ومن غير الجائز ان يصدر عن القطب الاول في 14 آذار دون تشاور وتنسيق مع بقية الاقطاب والقيادات والامانة العامة.
نعتقد جازمين ان من يريد فرط عقد 14 آذار والتفريق بين جناحيها الاسلامي والمسيحي، انما يهدف الى تقويض مشروع الدولة السيدة والحرة والمستقلة، الا ان هذا لا يعني ان نسكت عن كل خطأ يصدر عن 14 آذار، ونحاول تبريره وترقيعه للجمهور خوفا من انفراط عقدها، لأن التستر على الاخطاء والتفرد بالقرار سيؤديان الى النتيجة نفسها. نعم، لقد اخطأ الرئيس الحريري بتصريحه ذاك لأسباب ثلاثة:
1- كلامه عن تبرئة سوريا وطي صفحة الاتهام السياسي لم يعلن بالتشاور مع بقية مكونات 14 آذار، ولم يتم تحضير القاعدة الشعبية لتقبله. فالشعب بحدسه وذكائه السياسي هو الذي اتهم قبل القيادات النظام السوري سياسيا بعملية الاغتيال، وبنى اتهامه على تحليل منطقي وقرائن حسيّة مستعينا بأجواء دموية قاتمة رافقت 30 عاما من الاحتلال، وممارسات استفزازية وتهديدات للشهيد سبقت ارتكاب الجريمة، ولسان حال الجمهور السيادي ان لا رجوع عن الاتهام السياسي ولا اعتذار قبل اعلان نتائج التحقيق الدولي.
2- كلام الحريري عن وجود "شهود زور ضللوا التحقيق" انقلاب على موقف 14 آذار وكتلته النيابية، فقد استقر الرأي خلال انعقاد الاجتماع الاسبوعي لكتلة "المستقبل" النيابية برئاسة الحريري في 20/8/2010، على ان "لا شيء اسمه ملف شهود الزور. فشاهد الزور هو من يحلف اليمين امام قاضي المحكمة ثم يتراجع. وهذا ليس واقع الحال الذي يثار حوله الموضوع. اضافة الى ان التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه هو سري ولا أحد يعلم ماذا قال هذا الشاهد او سواه".
3- تصريح الحريري اضر بالمحكمة الدولية واساء الى المدعي العام الدولي دانيال بلمار، الذي أوضح موضوع ما يسمى "شهود الزور" في مقابلة خص بها موقع "ناو ليبانون" في 1/9/2010، مؤكداً أن المحكمة لن تعتمد كلام محمد زهير الصديق. وتساءل بلمار: "من وصف هسام والصديق بأنهما شاهدا زور؟". وأضاف: "لم يسبق لي أن استخدمت هذا التعبير. حتى الآن هو غير متّهم، مثله مثل الصديق". فكيف للرئيس الحريري بعد هذا الكلام الفصل، ان يتحدث عن شهود زور ضللوا التحقيق؟!
وبناء على هذه النقاط الثلاث نستنتج ان كلام الحريري ليس نابعا من محض قناعته الشخصية، بل يمكن اضافته الى الكؤوس المرة التي يتجرّعها منذ اعتلائه منصب رئاسة الحكومة، في سياق الانفتاح غير المدروس وغير المنظم على سوريا، وفي اجواء متطلبات التوافق السعودي-السوري، التي ربما تلقى الحريري آخرها في السحور الدمشقي الذي جمعه بالرئيس السوري في 29 آب الماضي. اضف ان موقف الحريري يحمل في طياته رضوخا لابتزاز حلفاء سوريا وايران، لتشكيله تجاوبا مع نداء الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" الذي طالب القيادات السياسية في 14 آذار في 22 تموز الماضي بـ "مراجعة حقيقية ونقد ذاتي صريح مع أنفسهم ومع اللبنانيين جميعا نتيجة السياسات التي اتخذتها والتي كانت ستودي بلبنان والمنطقة الى الهاوية" بحسب زعمه، مذكّرا بأن النائب وليد جنبلاط هو "الوحيد الذي كانت لديه الشجاعة للمراجعة والنقد الذاتي وبشكل قاس أحيانا"! وقد أتى اعتراف الحريري بخطأ الاتهام السياسي وبشهود الزور، رداً إيجابياً على دعوة الحزب، وخطوة متقدمة على الدرب الجنبلاطي المؤدي الى "بيت الطاعة"، وهو النموذج المطلوب احتذاؤه من جميع "المذنبين" تكفيرا عن "خطاياهم" السيادية والاستقلالية.
باختصار، ان الرئيس سعد الحريري وقوى 14 آذار يدفعان ضريبة قبولهما باعتلاء الحريري سدة الرئاسة الثالثة. ومن هنا، ندرك صوابية الاصوات التي ارتفعت بعد انتخابات حزيران 2009، ناصحة النائب سعد الحريري بعدم تبوّؤ منصب رئاسة الحكومة، نظرا الى ما سيفرضه عليه مركزه الجديد من ادخال تعديلات غير مرغوب فيها على خطابه السياسي، فضلا عن زيارة قاسية ومؤلمة لسوريا التي وجّه الى نظامها اتهاما سياسيا باغتيال والده، وذلك في وقت لاتزال "ثورة الارز" فتيّة ومستهدفة، تحتاج الى مواقف ورعاية ذلك الزعيم السني الشاب...
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر16ايلول2010

23- احقاقا للعدالة ورفضا للظلم

ما اصعب الظلم، وما اقساها لحظة يتعرض فيها الانسان للظلم، وما اصعب ان تظلم وانت لست بظالم، وما اقسى ان تظلم وانت بريء. نقولها من حرقة قلب لان تجربتنا مع الظلم مريرة، ومعاناتنا معه كبيرة، فقد عايشنا هذا الشعور طيلة 30عاما من الاحتلال، و15 عاما من تسلط نظام امني لبناني-سوري مشترك حرّم الحلال واشاع الضلال، فما ترك صيحة حق الا اسكتها، ولا دعوة إلى حرية الا قمعها، ولا نزعة استقلال الا اضطهدها، الى ان بزغ فجر "ثورة الارز" التي اخرجت الشعب من سجنه الكبير الى رحاب وطن صغير يناضل للحصول على كامل حريته وسيادته واستقلاله بلا انتقاص او تقتير.
وفي وقت نشاهد رموز حقبة الظلم يعوَّمون ويتوعدون ويهددون ويشتمون ويزمجرون ويتبجحون ويهوّلون، وازاء اشتداد الحملة الانقلابية الهادفة الى الغاء ما تبقى من مفاعيل "ثورة الارز" ومنجزاتها، واجهاض المحكمة الدولية قبل ان تضع مقرراتها، ولاننا طلاب حق وعدالة وفي رضانا بالظلم استحالة، لا يسعنا احقاقا للحق ورفضا للظلم الا ان نشدد على الثوابت الآتية:
1- لا نرضى بظلم العدالة، بان تطبق منقوصة او مجتزأة من خلال الاكتفاء بكشف المجرم دون محاسبته.
2- كما لانرضى بظلم المحكمة الدولية وابلستها، عبر اتهامها بالامركة والاسرلة، هكذا جزافا من غير دليل.
3- ولا نقبل ان يظلم القرار الظني من خلال نعته بالظالم والمفبرك والمسيّس والفتنوي والتآمري والفخ الاسرائيلي... ففي نهاية المطاف إن أي قرار يصدر عن المحكمة لن يكون مشابها للافلام الهزلية التي شاهدناها في التاسع من آب الماضي، بل سيكون ويجب ان يكون مبرراً ومعللاً، ومعززا بأدلة وشواهد وبراهين دامغة لا سبيل الى دحضها، وبالتالي سيظهر ما إذا كان منطقياً أم لا، وما إذا كان منطبقاً مع الوقائع أم لا، فلا يجوز اطلاق النار على القرار الظني ومهاجمته قبل معرفة محتواه.
4- لا نرضى بظلم اي طرف داخلي او خارجي اذا وُجه اليه الاتهام بقرار ظني عار من الموضوعية والمهنية، وفارغ من الادلة المقنعة والبراهين القطعية، وسنكون حينئذ اول الذين سيرفضون هذا القرار، فلا لعدالة يظلم فيها بريء.
5- لا نرضى بظلم شهدائنا ولا بقتلهم مرتين، من خلال قبولنا بطمس الحقيقة والمساومة على العدالة التي انتفضوا من اجل تحقيقها، والتنازل عن المحكمة التي استشهد بعضهم على درب اقرارها سعيا الى طي هذه الصفحة السوداء من الاغتيال السياسي في لبنان. فلا عدالة لاحياء يظلم شهداؤهم.
6- لا نرضى بظلم الدولة ونظامها والعمل السياسي، عبر ابقاء هذا الوطن مستباحا دون عدالة بعدما بات هناك اخيرا محكمة ستقاضي من اغتال ومن قتل لاسباب سياسية وارهابية. فما دامت الجريمة السياسية مشرعة في لبنان دون حساب ولا عقاب، لا يمكننا ان نبني نظاما ديموقراطيا حقيقيا يصون الحقوق ويحفظ الحريات.
7- نرفض ان تظلم "ثورة الارز" وثوارها، من خلال التهديد بنسف منجزاتها والتطاول على جمهورها وتسفيه نضاله لتحقيق منجزاتها وفي طليعتها المحكمة الدولية، فجمهور انتصر للسيادة والاستقلال والحقيقة والعدالة والوحدة الوطنية في14آذار 2005، لا يستحق الا كل احترام وتقدير، ولن تستقر نفوسه قبل ان يعرف حقيقة من ارتكب مسلسل الاغتيالات التي دامت ثلاثين عاما في لبنان حاصدة خيرة رجالاته وقادته.
ما اشبه ايلول2010 بايلول2004 يوم صدر القرار 1559، ففي هذه الايام العصيبة، يوضع الاستقلاليون مجدداً امام الخيارات الصعبة، فيدعى الجمهور السيادي للتخلي عن قياداته المتمسكة بالمحكمة الدولية تحت طائلة المسؤولية: "هل تريدون ان تكملوا معهم بعد كل هذه التجربة؟ انتم احرار فتحمّلوا المسؤولية". ويتم تحذيره من "أن مرحلة ما بعد القرار الظني لن تكون كالتي قبلها وأي مجموعة في لبنان قد تلتزم القرار الظني سيتم التعامل معها على أنها واحدة من أدوات الغزو الاميركي-الاسرائيلي وسوف تلقى ما يلقاه الغازي". ويوضع امام معادلة: "اما الغاء المحكمة وإما الحرب"! حيال ذلك كله، الحاجة اليوم بأمسّها لرص الصفوف صونا للسلم الاهلي ورفضا للظلم ودفاعا عن العدالة وسعيا لاحقاقها، وكلنا على اقتناع بأن المظلوم سينتصر ولو بعد حين، ونار الظالم ستحرقه اضعاف اضعاف ما كوى بها المناضلين، واذا ظن الظالمون ان باستطاعتهم الفرار من عدالة الارض، فأين سيفرون من العدالة الالهية عدالة السماء؟
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر30/9/2010

24- الفرق بين الحق والزور استقالة

تركز قوى 8 آذار حملتها الانقلابية لضرب المحكمة الدولية لبنانيا على ملف ما تسميه "شهود الزور"، متهمة فريق 14 آذار وشخصيات بارزة فيه بفبركة هؤلاء الشهود وتلقينهم ما ادلوا به من افادات لتضليل التحقيق الدولي.
ولا ريب ان ملف "شهود الزور" ان سلّمنا بوجودهم خاسر قضائيا وفارغ قانونيا وغير قابل للولادة اصلا، لأن مكوناته التي يفترض انها افادات الشهود "المزورة" لا تزال في عهدة المحكمة الدولية التي ترفض الافراج عنها قبل اعلان نتائج التحقيق حفاظا على سريّته. لكن بعيدا عن المعنى القانوني لذلك المصطلح، هل ارتكبت قوى 14 آذار فعلا جرم شهادة الزور في السنوات الماضية كما تزعم القوى الانقلابية؟
نعم، لقد اقترفت القوى الاستقلالية مكرهة جرم شهادة الزور! فعندما وقّعنا على اتفاق الدوحة الذي منح قوى 8 آذار الثلث القاتل وفرض اعرافا جديدة مخالفة لاتفاق الطائف، كنا شهود زور. وعندما شرّعنا السلاح الميليشيوي في البيان الوزاري عام 2008 وجددنا تشريعه عام 2009، كنا شهود زور. وعندما قبلنا بحلول ما يسمى "الديموقراطية التوافقية" مكان الديموقراطية البرلمانية الاكثرية، كنا شهود زور. وعندما سمحنا للقوى الخاسرة بعد انتصارنا في انتخابات حزيران 2009 بتحييد دستور الطائف ونسف ابسط مفاهيم النظام الديموقراطي واعادة انتاج اتفاق الدوحة وتمديد مفاعيله، من خلال الموافقة على تأليف حكومة ابقت القديم على قدمه سواء فيما يتعلق بإعادة فرض الثلث المعطل وإن بصيغة مموّهة، او فيما خص اعادة تشريع السلاح الميليشيوي وتوزير الراسبين في الانتخابات، ومع ذلك اسميناها "حكومة وحدة وطنية"، كنا شهود. ثم عندما اعدنا اتنخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب رغم قفله اياه زهاء عامين معطلا الحياة الدستورية في احرج الظروف واشدها مصيرية، كنا ايضا شهود زور. واذا بقينا نوهم انفسنا وجمهورنا اننا لا نزال اكثرية في التشكيلة الحكومية الحالية، لن نكون الا شهود زور.
فمع انسحاب النائب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار في 2 آب2009، وتأكيده على تموضعه الجديد في صميم قوى 8 آذار يوما بعد يوم، لم يعد للقوى الاستقلالية في "حكومة الدوحة الثانية" المشكّلة وفق صيغة الـ15-10-5 سوى 12 وزيرا (وربما 11وزيرا اذا ما اعتبرنا ان الوزير محمد الصفدي لم يعد في صفوفها بعد مواقفه بشأن القرار الظني المتماهية مع القوى الانقلابية)، مقابل 14 وزيرا لقوى 8 آذار مع احتساب الوزير "الضامن" المموّه،(وربما 15 بعد إضافة الوزير الصفدي). اذ بعد تندّم جنبلاط على اعوام النضال المشرفة ووصفه اياها بـ"الغربة المقيتة في تاريخه وتاريخ الجبل"، وأسفه على مساهمته في انشاء المحكمة الدولية، وتطاوله مرارا على مسيحيي 14 آذار سواء عبر وصفهم بـ"الـيمين الغبي" او"الفينيقي"، لم يعد بالامكان احتساب وزرائه الثلاثة ضمن حصة القوى الاستقلالية وان ادعى الف مرة انه لا يزال حليفا لرئيس الحكومة. وبالتالي علينا الاعتراف اننا بعد شهادات الزور المتكررة بتنا مجرد واجهة تمويهية لسلطة تسير وفقا لاجندات محاور خارجية لها مشاريعها العقائدية المناقضة للصيغة اللبنانية.
واننا اذا تأملنا هذا الواقع الأليم، سندرك ان حلفاء سوريا وايران تمكنوا من وضع اليد مجددا على الدولة اللبنانية، على الصعيدين الامني والحكومي على اقل تقدير. ففيما يتعلق بالاول، ها هم يصوبون سهامهم على شعبة المعلومات في قوى الامن الداخلي لانها الجهاز الامني السيادي الوحيد المتبقي في لبنان؛ وفيما يتعلق بالثاني، اعادوا الحكومة الى ما قبل عام 2005 عندما كان رئيسها رفيق الحريري والطاقم الوزاري المحسوب عليه محكومَين بإملاءات الوصاية السورية في رسم السياسات ووضع المعايير، لكن مع فارق تحوّل هذه الوصاية الأحادية الى وصاية سورية-ايرانية مشتركة. والآن لم يعد امام الفريق الانقلابي المسلح لكي يستعيد الامساك بالدولة بشكل كامل ونهائي سوى معركة اسقاط المحكمة الدولية لبنانيا، التي يعني فوزه فيها القضاء على آخر ما تبقى من مفاعيل "ثورة الارز" ومنجزاتها، وربما استغلوا الازمة المتولدة حول المحكمة لجرّ لبنان الى وضع دستور جديد يتناسب مع تعاظم حجم الطائفة الشيعية التي يحتكر قرارها "حزب ولاية الفقيه" سياسيا وعسكريا وديموغرافيا. وهذا احتمال مطروح بقوة بعد قول عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب نواف الموسوي في17/9/2010: "أتوجه الى كل من يسمعني في لبنان والخارج من أفراد ودول وأجهزة أمنية ومخابرات أنه في لبنان اليوم، لا يوجد إنقلاب أو صراع بين المعارضة والمقاومة وجميل السيد وبين الدولة والقضاء والأمن كما يحلو لبعض من أفراد فريق السلطة والقضاء أن يقولوا(...) ان الصراع اليوم هو على موقع لبنان".
فإذا صدر القرار الظني المرتقب في قالب قطعي ودامغ ترتضيه العقول ويتلقاه كل منصف بالاذعان والقبول، ومع ذلك اصر الفريق الانقلابي على المكابرة رافضا القرار ومتهما اياه بالتسييس والمؤامرة، واخذته العزة بالاثم فنفذ تهديداته مستخدما سلاحه الفتنوي والفئوي مجددا في الشارع، فايقظ الفتنة واشعل نارها ونفخ فيها وشل المؤسسات الرسمية ونشر الفوضى وخطف الدولة واوصلنا الى الطريق المسدود، معلنا ان لا رجوع عن انقلابه الا باستصدار قرار حكومي بالاجماع يعلن فيه لبنان رفضه القرار الظني وان المحكمة مسيّسة وانه غير معني بها... فحينئذ يصبح الفريق الاستقلالي –ومن ضمنه الرئيس الحريري– مدعوا الى وقفة عز وشرف وصدق مع الله والشهداء والوطن والضمير، وفاء لقضيته وثورته وصونا لكرامة شهدائه وحفظا لمكانة الرئاسة الثالثة، من خلال اختياره التمسك بشهادة الحق واتخاذ القرار الشجاع بالاستقالة من الحكومة بدلا من الاذعان المذل لطلب الفريق الانقلابي باغتيال الشهداء مرتين، والوقوع في شهادة الزور مجددا، لكن هذه المرة على سقوط الدولة باسقاط العدالة وتشريع الجريمة السياسية امام كل من عجز عن مجاراة خصومه في العمل السياسي فقرر اللجوء الى الحذف الجسدي.
وعندئذ فلتشكل قوى 8آذار وحلفاؤها بحجمهم الجديد حكومة تتخذ لهم ذلك القرار الذي لن يقلب الحقيقة في عقول الاحرار، ولتعد قوى 14آذار الى موقع المعارضة متعلمة من اخطاء الماضي ومستبدلة روحه الانهزامية بثقافة الشجاعة والادارة بواقعية، والتنظيم والوحدة والرؤية الاستراتيجية، والقيادة الواعية والاهداف المحددة بدقة وموضوعية، ولتحاول اعادة انتاج ثورتها بخطاب استنهاضي جديد، متبنية منطق استكمال المواجهة السلمية المشرّفة على كلفتها الامنية الباهظة وان انتهت بانهزام، بدلا من الرضوخ للحالة الميليشيوية بالتنازل المخزي مقابل العيش باستقرار ممزوج بذل واستسلام.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية وموقع ليبانون ديبايت، نشر15و16/10/2010

25- شبعنا تضليلاً..جميل السيد!

في 29نيسان2009، اعلن قاضي الاجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان دانيال فرانسين ان "المدعي العام دانيال بيلمار أمر بالافراج فورا عن الضباط الاربعة (جميل السيد ومصطفى حمدان وريمون عازار وعلي الحاج) واتخاذ الاجراءات اللازمة لضمان سلامتهم". ولفت فرانسين الى انه "بعد النظر في الملف، تبين ان الاسباب ليست كافية للاستمرار في احتجازهم، وقرر الطلب من القضاء اللبناني إخلاء سبيل هؤلاء الأشخاص مع ضمان أمنهم".
وبناء على قرار المحكمة، اخلي سبيل الضباط الاربعة المشتبه بتورّطهم في "جريمة العصر" في 29 نيسان 2009، اي بعد 44 شهرا على احتجازهم الذي تمّ في 30 آب 2005، لتنطلق مع تخليتهم عاصفة كبيرة من التداعيات السياسية والحملات الهجومية التي شنّتها المعارضة على القوى الاستقلالية، منظِّمة احتفالات حاشدة للضباط المفرج عنهم في محاولة منها لتبييض سجلاتهم الزاخرة بالممارسات القمعية والارهاب الامني والفساد، وسط احتضان لافت لهم من نواب "حزب ولاية الفقيه"، الذي شنّ اعنف هجماته على السلطة وقوى 14 آذار والقضاء اللبناني، متوعّدا قوى 14 آذار بـ"ثمن سياسي كبير".
ومنذ اخلاء سبيلهم، تعمد وسائل اعلام قوى 8آذار الى اظهار بعض هؤلاء الضباط بشكل منتظم ومنظم على شاشاتها، حيث يتظلمون ويتباكون ويتوعدون ويصرخون ويشتمون ويضللون الرأي العام، ولا سيما منهم اللواء جميل السيد، الذي يستأثر بالقسم الاكبر من المساحة الاعلامية ولا يكتفي به، بل يعقد بين الفينة والفينة مؤتمرات صحافية ماراتونية تفتقر الى ابسط قواعد واخلاقيات ولياقات التخاطب بين الناس، وفيها ما فيها من الاسفاف وقلب الحقائق والتضليل الذي خبره هذا الضابط ومارسه باتقان طوال سنوات خدمته تحت إمرة سلطة الاحتلال السوري، وخلال فترة تزعمه النظام الامني السوري-اللبناني المشترك.
واللافت في حركة جميل السيد الاعلامية، اذا استطاع المرء متابعتها متحمّلا سماع الكلمات النابية، ومتكبدا عناء الانصات للاساليب الكلامية المتدنية والبالية، انّ هذا الضابط المخلى سبيله يحاول اظهار نفسه بمظهر الحمل الوديع وصاحب السجل الابيض الناصع والتاريخ المجيد المشرّف، الذي افتُرِيَ عليه فجرى توقيفه ظلما وعدوانا وانتقاما مدة 3 سنوات و8 اشهر لاسباب سياسية وكيدية بحتة!
اما الطريف في تلك الحملة الاعلامية والاعلانية، فيكمن في ان الناظر الى اداء جميل السيد التمثيلي وحركاته التعبيرية وانفعالاته الايمائية، والسامع لمرافعاته التضليلية المتمحورة حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يخيّل اليه ان هذا الرجل كان من مناصري الرئيس رفيق الحريري ومن اشد المتحمسين لخطه السياسي ونهجه الاقتصادي في تلك المرحلة، لا بل يكاد يصدق ان هذا السيد اشد حرصا وغيرة على دماء الرئيس رفيق الحريري من عائلته وولده سعد، وانهم ربما تآمروا على الشهيد فدبروا عملية اغتياله، ثم البسوا التهمة الى الضباط الاربعة، وتآمروا على سوريا وحلفائها وازلامها والوطن!
وبات واضحا منذ عملية اخلاء سبيله في نيسان 2009، وصولا الى مؤتمره الصحافي الشهير الذي عقده في 12ايلول2010، ان المدير العام السابق للامن العام جميل السيد المسيّر من قبل النظام السوري و"حزب ولاية الفقيه" في لبنان، الذين اتخذوا منه اداة لاطلاق شرارة مشروعهم الانقلابي على لبنان والمحكمة الدولية، انما يتوسّل في حملته الدعائية والتضليلية الكذب ثم الكذب ولا شيء سوى الكذب، سيرا على منهجية "جوزيف غوبلز" وزير الدعاية في الحكومة النازية، الذي اشتهر بمقولة "اكذب، اكذب، فلا بد ان يعلق في الأذهان شيء منه"؛ او بعبارة اخرى "كرر الكذبة مهما كانت كبيرة فتصدقها الجماهير"!
ولكي لا يصبح الكذب والتضليل وتكرارهما المبرمج والمنظم حقيقة وصدقا في اذهان الناس، لا بد من ايراد الحقائق التالية لجلاء الصورة وتنقيتها من الغبار الذي يحاول جميل السيد واسياده ورفاقه اثارته في اعين الرأي العام، محاولين تعميته عن رؤية الامور على حقيقتها المجردة.
ففيما يتعلق بتاريخ جميل السيد مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري: منذ العام 1992 سخّر النظام السوري السيد لمضايقة الحريري وابتزازه وعرقلة مشاريعه، فأقحم نفسه في كل صغيرة وكبيرة في مساره العام وحياته الخاصة، لدرجة جعلت الرئيس الشهيد يستجير بالرئيس حافظ الأسد وكبار معاونيه للتخلص من تلك مضايقات، لكن دون جدوى لأن السيد ببساطة كان ينفذ تعليمات اسياده.
ومن الاساليب المؤذية التي كان يتبعها السيد لمحاربة الحريري ومحاولة تحجيمه، تولّيه شخصيا مهمة تحريض بعض الصحافيين في الاعلام المرئي والمكتوب الذي كان بمعظمه ممسوكا من قبل السيد واللواء غازي كنعان، لبث وكتابة معلومات مفبركة لا اساس لها من الصحة ضد حكومة الحريري وشخصه ومشروعه الاقتصادي والاعماري، وكان جميل السيد يومها نائباً لمدير المخابرات في الجيش. وقد نجح السيد مع قائد الجيش المعين اميل لحود في تشكيل ثنائي متناغم ضد الهراوي والحريري، تمهيدا للمجيء بإميل لحود من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية على حصان أبيض، فتولى السيد ذلك التمهيد بأضخم حملة إعلامية تتحدث إيجاباً عن مآثر الجيش وقائده، وتذم الطبقة السياسية وتشهّر بها، مصوّرة لحود على انه المخلّص المنتظر!
وبالفعل وصل لحود الى رئاسة الجمهورية واذاق الرئيس الحريري بمعاونة السيد الذي عين مديرا عاما للامن العام الامرّين، فتابع الثنائي مهمة التضييق على الحريري وعرقلة مشاريعه وتعطيل ادائه الحكومي بغية تطويعه او اغتياله سياسيا، فكان يعتكف تارة ويستقيل تارة اخرى. وقد بلغت الحملة التي بدأت ضد الرجل منذ العام 1993 اوجها مع صدور القرار 1559 (الذي يمثل النسخة الدولية للدستور اللبناني) والتمديد القسري للرئيس لحود، حين هدد الحريري في العاصمة السورية، ثم اتهم بالعمالة والخيانة ومورس التضييق على مؤسساته وبعض العاملين فيها، وكأنها عملية تمهيدية لاغتياله الجسدي الذي تمّ في 14 شباط 2005.
اما بالنسبة لاكذوبة تعرّض الضباط الاربعة للظلم المدفوع بكيدية سياسية ادت الى استمرار اعتقالهم من 30 آب2005 الى 29 نيسان 2009، وادعائهم ان اخلاء سبيلهم يعني تبرئتهم من المشاركة في جريمة اغتيال الحريري، فيرد عليه بالنقاط التالية:
1- ان قرار توقيف الضباط الأربعة لم يكن تعسفيا او اعتباطيا او سياسيا كما يحاول هؤلاء ايهامنا، بل أتى بعد توافر شبهات مدعومة بقرائن وإفادات شهود، على ضلوع أشخاص معيّنين من بينهم الضباط في ارتكاب الجريمة، ومن تلك الشبهات والقرائن التي بقي بعضها غير معلن حفاظا على سرية التحقيق نذكر: الكيفية المريبة في تعاطي الضباط مع الجريمة بعد حصولها، ولا سيما فيما يتعلق بالتلاعب في مسرح الجريمة، وطريقة التعامل مع شريط ابو عدس، ومحاولات أخذ التحقيق الى مكان آخر، وموضوع الحجاج الاوستراليين.
وفي هذا السياق، كشف الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية المستقلة ديتليف ميليس لصحيفة المستقبل في 8أيار2009، أن التوصية التي أصدرها بإيقاف الضباط الاربعة لم تكن مبنية فقط على الإفادات الموقعة من الشاهد زهير الصديق فحسب، بل كانت مستندة أيضاً إلى إفادات أخرى لشهود آخرين، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر، إفادة "الجنرال.ح"(لا يكشف اسمه )وإفادة" شاهد موثوق به "حدّثه عما قاله له العميد مصطفى حمدان حول النية بإرسال الرئيس رفيق الحريري "في رحلة ". ويشير ميليس إلى أن التوقيف كان احتياطياً وأملته المعطيات التي اكتشفها فريقه لدى مداهمة منازل الجنرالات الأربعة، مقدماً في هذا السياق مثلين، أولهما يتصل باللواء جميل السيد الذي كان يضع في منزله مبلغ خمسين ألف دولار أميركي الى جانب دزينة من جوازات السفر، وثانيهما يتصل بالعميد مصطفى حمدان الذي كان ينوي السفر في اليوم نفسه الى الولايات المتحدة الأميركية.
2- واذا كانت لجنة التحقيق الدولية لم تظلم الضباط الاربعة من خلال التوصية بإيقافهم، فهي لم تظلمهم ايضا باستمرار توقيفهم مدة 44شهرا قبل ان تفرج عنهم المحكمة. ذلك، ان توقيف الضباط في البداية كان خاضعا للقانون اللبناني الذي سندا للمادة 108 من قانون اصول المحاكمات الجزائية التي لا تربط عملية توقيف المدعى عليه الموقوف بمهلة زمنية محددة في حال الإعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل، بل تجعل مدة التوقيف مفتوحة الى ان تظهر البراءة او ينتهي التحقيق بالتمكن من توجيه التهمة اليه وادانته. وهذا هو النظام الفرانكوفوني المعمول به في لبنان، ويقابله النظام الانغلوسكسوني الذي تتبعه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والذي لا يسمح بالتوقيف الاحتياطي لأكثر من 90 يوماً، (شهر واحد مع قابلية تجديد مشروطة لمرتين كحد أقصى).
وبالتالي، عندما افتتحت المحكمة الدولية عملها في آذار 2009، وتسلمت رسمياً من لبنان مسؤولية الموقوفين في 8 نيسان 2009، باتوا خاضعين لقانونها في التوقيف الاحتياطي ، ونظرا لعدم كفاية الادلة لم يكن بوسع المدعي العام طلب الإبقاء على التوقيف، لأنه ينبغي أن تتم إدانة الموقوفين في غضون 90 يوماً، فجرى الافراج عنهم. وهذا ان دل على شيء، فهو يدل على عدم تسييس المحكمة ولا سيما ان قرار الافراج خدم بتوقيته الواقع على مشارف الانتخابات النيابية قوى 8 آذار التي وظفته واستثمرته في حملتها الانتخابية.
وبالمناسبة، تجدر الاشارة الى انه خلال وجود الرئيس رفيق الحريري في رئاسة الحكومة، حاول تعديل المادة 108 من قانون اصول المحاكمات الجزائية بتحديد سقف زمني محدد لها، قائلا انه لا يجوز ان يبقى التوقيف الاحتياطي الى ما شاء الله. وبالفعل اقر قانون التعديل في مجلس النواب عام 2001 وكان يومها القاضي عدنان عضوم نائباً عاماً تمييزياً، الا ان اميل لحود وجميل السيد رفضا هذا التعديل واجبرا بمعاونة غازي كنعان مجلس النواب على الالتئام لاعادة تعديل المادة وجعلها دون سقف زمني محدد في جرائم الإعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل. وكان السيد يفتخر دائما بانه استطاع جمع مجلس النواب في 24ساعة ليقوم باعادة تعديل المادة، وها هي قد طبقت عليه فذاق السم الذي طبخه وانقلب السحر على الساحر.
3- ان ما يتبجح به جميل السيد عن وجود براءة ساطعة له وللضباط الاربعة بدليل قرار المحكمة الافراج عنهم ليس دقيقا على الإطلاق، على اعتبار أن أي قرار بهذا المعنى لم يصدر بعد عن المرجعية الصالحة في المحكمة الخاصة بلبنان، فالمحكمة لم تصدر قراراً لا بالحكم عليهم ولا ببراءتهم، وانما افرجت عنهم لأن "الأدلة والمعلومات لم تكن كافية لادانتهم" كما ذكر القاضي فرانسين في29/4/2009.
وبما ان التحقيق لم ينته بعد، فإن اطلاق سراح الضباط الأربعة لا يعني بحد ذاته البراءة، لا بل من المرجح استدعاء المحكمة الدولية لهؤلاء الضباط عند بدء المحاكمة العلنية وفقاً للتحقيق إما بصفتهم شهوداً، أو مسؤولين عن أمن لبنان في مرحلة اغتيال الرئيس الشهيد، أو مشتبها بهم، أو مدّعى عليهم. وهذا ما اكّده القاضي بلمار يوم تخليتهم، اذ لفت الى امكان استدعائهم في حال ثبوت ادلة تستدعي اتهامهم؛ فقد شدد في 29/4/2009 على "ضرورة ألا ينسى الشعب أن التحقيقات لا تزال جارية(...) وأن الخيوط التي تقود التحقيقات كثيرة". وتابع "ليس على الشعب أن يفهم أن التحقيقات أكبر من قضية الضباط الأربعة وحسب، بل عليه أن يفهم أيضاً أنه لو قادتني أي من خيوط التحقيق اليهم (الضباط الموقوفين) مدعومة بالأدلة الكافية والدامغة، فسأكون أول من يطلب توقيفهم وإدانتهم".
فإلى جميل السيد ورفاقه الضباط نقول: شبعنا تضليلاً، وكفى ادعاء للعفة، فلو كان في حقبة الوصاية السوداء مكان للعدالة، لكان السجن اولى بكم جزاء ما اقترفته ايديكم بحق لبنان وشعبه.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية، نشر 26/10/2010

26- لقاء عين التينة 2 وأضعف الإيمان

في الثاني من شباط 2005 اجتمع نحو ستين معارضا للاحتلال السوري من قوى واحزاب وحركات سياسية مختلفة في فندق البريستول، طالبوا برفع الهيمنة السورية عن لبنان، واستعادة السيادة، وضرورة إيجاد تسوية مشرّفة مع سوريا على قاعدة الانسحاب الكامل للجيش السوري من لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف، وإنهاء الأزمة الخطيرة التي نشبت بين السلطة اللبنانية والشرعية الدولية اثر صدور القرار 1559 الذي يشكل في حقيقته النسخة الدولية للدستور اللبناني. وقد عرف هذا التجمع السياسي الاستقلالي في تلك المرحلة بـ"لقاء البريستول".
حشدت سوريا حلفاءها في لبنان للوقوف في وجه هذه المعارضة الوطنية، فَولد "لقاء عين التينة" في 7 شباط 2005، بدعوة من رئيس مجلس النواب نبيه بري، وضم اليه عددا كبيرا من رموز الوصاية السورية وازلامها في لبنان. وصدر عن المجتمعين بياناً اعلنوا فيه رفضهم إقحام سوريا في الجدل الداخلي، ولفتوا إلى أن دمشق تقف على مسافة واحدة من جميع الاطراف، وشددوا على معزوفة "وحدة المسار والمصير"، ورأوا ان الانسحاب السوري الكامل من لبنان أمر تحدده مصلحة البلدين ويُبنى على أساس مواجهة التحديات الإسرائيلية. وعمد اركان هذا اللقاء الى كيل تهم التخوين والعمالة والخيانة الى المعارضة الوطنية التي كان يقف الى جانبها الرئيس رفيق الحريري، متهمين الاخير بالوقوف وراء القرار 1559.
ولم تمض ايام قليلة على ولادة هذين اللقاءين، حتى ضرب لبنان الزلزال السياسي والارهابي الاقوى في تاريخه الحديث، مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وهي الجريمة التي لا نزال نعيش هزاتها الارتدادية حتى اليوم.
وفي 14 تشرين الاول 2010، وفي صباح اليوم الثاني على زيارته التفقدية للقاعدة العسكرية البحرية التي اقامها نظامه على الشاطئ الشرقي للمتوسط ، أقام الرئيس الايراني احمدي نجاد فطورا في مقر اقامته بفندق "فينيسيا"، ضم عددا من الزعماء السياسيين المنتمين والمقربين الى قوى 8 آذار، وهي الشخصيات الرئيسية نفسها التي شكلت "لقاء عين التينة" سابقا، لكن مع تعديلات بارزة فرضتها التموضعات السياسية الجديدة، وتمثلت بحضور العماد ميشال عون والنائب وليد جنبلاط.
وكان لافتا في ذلك الفطور امران: اولهما انه لم تدع اليه اي شخصية من قوى 14 آذار. وثانيهما، ان الكلمات التي تخللته تركزت في مجملها على المحكمة الدولية والقرار الظني المرتقب الذي يقلق قوى 8آذار ويخيفها الى درجة الذعر، وهو ما يجعلها تصفه بالمؤامرة الاسرائيلية وتكيل للمتمسكين بالمحكمة تهم العمالة والخيانة، الامر الذي اعادنا بالذاكرة الى الايام القليلة التي سبقت "جريمة العصر" وكأننا امام "لقاء عين التينة 2"، الذي يحشد قواه هذه المرة ليس لمواجة القرار 1559 وحسب، بل لمواجهة العدالة والحقيقة وانهاء آخر مفاعيل ثورة الارز المتمثلة بالمحكمة الدولية، بغية وضع اليد في شكل كامل على الدولة بعدما انقلبت موازين القوى لمصلحة الدويلة. ولا يستبعد في هذا السياق، ان تعمد تلك القوى الانقلابية الى نقل طبيعة الخلاف في البلاد من ازمة سياسية و"اخلاقية" حول المحكمة الدولية، الى أزمة حكم ونظام يُعرَض فيها الطائف على طاولة البحث.
فهل اعطيت اشارة الانطلاق لهذه الخطوات الدراماتيكية في الزيارة التاريخية للرئيس الايراني قبيل صدور القرار الظني، و"البشرى" التي حملها معه الى ذراعه المسلح في لبنان، المشار اليها في عبارة "اهلا وسهلا حامل البشرى" الواردة في مقدمة النشيد الذي نظمه "حزب ولاية الفقيه" ترحيبا بنجاد في "معقل الامجاد"؟!
ما يظهر جليا حتى الآن، ان القوى الانقلابية لا تريد الانسحاب من الحكومة، ولا دفع رئيسها الى الاستقالة، لانها ببساطة تسعى الى استصدار قرار حكومي يعلن فيه لبنان تسييس المحكمة وانه غير معني بها، وتطمع بأن يذيّل ذلك القرار الانتحاري بتوقيع الرئيس الحريري الذي لا يقدّر بثمن، لأنه "ولي الدم" في الجريمة الاساسية التي انشئت المحكمة من اجل كشف مرتكبيها ومحاكمتهم.
وفي وقت اخذت فيه الحملة الانقلابية لاعادة لبنان الى الحقبة السوداء منحى خطيرا، مع صدور مذكرات التوقيف السورية، واعلان الرئيس الايراني من لبنان ولادة محور يمتد من طهران الى بيروت، ووصف رئيس الوزراء السوري قوى 14 آذار بـ"الهيكل الكرتوني"، قد تكون القوى الاستقلالية مطالبة اكثر من اي وقت مضى بالعمل الفوري على اعادة لمّ شمل امانتها العامة عبر المبادرة الى طي صفحة الخلاف مع احزاب الكتائب والكتلة الوطنية والتجدد الديموقراطي، والتحضير للقاء "بريستول2"، تضع فيه خطة متكاملة وواقعية لسبل الصمود والمواجهة في مرحلتي ما قبل وما بعد صدور القرار الظني المرتقب، وهذا اضعف الايمان.
عبدو شامي
نهار الشباب، نشر 28/10/2010

27- نداء من اجل لبنان

"علينا أن نعمل معاً على تجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية التي انبعثت على نحو لم تشهده البلاد من قبل، وحماية أنفسنا من تكرار التجارب المأسوية التي عشناها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وذلك بعودتنا جميعاً الى الدولة وبشروط الدولة، لا بشروط طائفة أو حزب".
"ان الشيعي هو الوحيد" الذي ليس لي معه "مشكلة" خلافاً لـ"السني الذي شتمني عندما دعمت المقاومة(...). ان المستهدف هو سلاح حزب الله الذي لغاية اليوم لم يشترك في الصراعات المحلية"!
موقفان متناقضان بشكل كامل صدرا في 5/11/2010. الاول، فاح عبيره عن اللقاء المسيحي "الآذاري" والوسطي الذي احتضنه الصرح البطريركي، وشدد في بيان حمل عنوان "نداء من اجل لبنان" على التمسك بثوابت بكركي التاريخية. والموقف الثاني اوبأ به الاجواء النائب ميشال عون خلال زيارته لجمعية "المرسلين اللبنانيين الموارنة" في جونية.
يبدو ان الجنرال عون لا يريد ان يضع حدا للتدهور السريع الذي تعاني منه صحته الشعبية في المجتمع اللبناني والمسيحي على وجه الخصوص. فبعد حروبه العبثية التي احرقت البلاد وشرّدت المسيحيين بين مهاجرين ومهجّرين، وبعدما نجح في اخذ بعض المسيحيين بعيدا جدا عن خياراتهم وثوابتهم الوطنية والتاريخية بتحالفه مع مشروع الدويلة، ها هو ينحدر الى اعتماد خطاب طائفي مكروه وممجوج ومثقل بالمغالطات والشحن الطائفي، خطاب من شأنه ان يزرع الحقد والكراهية بين ابناء الوطن الواحد، بدءا من المسيحيين المقسومين بين من جعلهم العماد عون يكرهون الطائفة السنية، وبين من هم خائفون من التغيرات الآتية مع تهديدات دويلة "حزب ولاية الفقيه".
ايها الجنرال، ان الشيعة في لبنان لا يختصرون بـ"حزب ولاية الفقيه" وان احتكر الأخير قرارهم رغبا ورهبا، فقسم كبير من الطائفة الشيعية لا ينتمون الى "الحزب" ولا الى "الحركة"، بل هم كقوى 14 آذار يريدون السيادة والحرية والاستقلال والمحكمة الدولية والدولة والطائف... ولكنهم لا يجاهرون بمعتقداتهم السياسية خوفا من قوى الامر الواقع المسلحة وغياب مظاهر الدولة وسيادتها عن مناطقهم.
ثم ان نظرية "ولاية الفقيه" التي ابتدعها الخميني، لا تلقى التأييد لدى معظم رجال الدين الشيعة العرب، واذا كان من حق الحزب الذي تتحالف معه ان يؤمن روحيا بـ"ولاية الفقيه"، فليس من حقه بالتأكيد ان يربط لبنان بمشاريعها التوسعية في المنطقة.
نعم، امر طبيعي ان لا يكون لديك مشكلة مع "حزب ولاية الفقيه" الذي منحت مشروعه الفئوي غطاء مسيحيا منذ عام 2006؛ أليس سلاحه "المقاوم" من اهداك حصة وزارية دسمة لا تستحقها، فضلا عن توزيره اقاربك الراسبين في الانتخابات؟!
كلا يا جنرال، ان "السني" لم يشتمك عندما دعمت ما يسمى "المقاومة"، بل انتقدتك احزاب وتيارات سياسية سيادية واستقلالية تنتمي الى حركة سياسية عابرة للطوائف نجحت في طي صفحة الماضي بدمائه وآلامه ومآسيه من اجل مستقبل موحّد واعد، انتقدَتْك على خيار سياسي خاطئ اتخذتَه بتحالفك مع تنظيم مسلح خارج على الشرعية اللبنانية، يعمل على تنفيذ مشروع شمولي عابر للحدود ومناقض للصيغة اللبنانية، وهو لا يتورّع عن توجيه سلاحه الى صدور اللبنانيين لفرض وصايته على قرارهم وتعطيل مؤسساتهم الديمقراطية والدستورية عند كل استحقاق دستوري تواجهه البلاد، وهو ما نراه اليوم بالنسبة للمحكمة الدولية. ألم تقرأ ما صرّح به احد الجنرالات المتقاعدين المحسوبين على حلفائك، عندما حدّد لكل منطقة في لبنان المدة الزمنية التي يحتاجها حزبه لاحكام السيطرة عليها حال صدور القرار الظني المرتقب؟
عن اية مقاومة تتحدث ايها الجنرال، أعن مقاومة 1/6/2006 التي اجتاحت المناطق اللبنانية على خلفية عرض إحدى المحطات برنامجا فكاهيا تناول شخصية أمين عام "حزب ولاية الفقيه"؟ ام عن مقاومة احتلت وسط بيروت التجاري مدة 16 شهرا تقريبا؟ ام عن مقاومة اليومين الاسودين في 23و25/1/2007، ام عن مقاومة 27/1/2008في مار مخايل، ام عن مقاومة 7و11ايار2008في بيروت والجبل، ام مقاومة 28/8/2008 في "سجد"، ام مقاومة 28حزيران 2009 في عائشة بكار، ام مقاومة 24 آب2010 في برج ابي حيدر، ام مقاومة 18/9/2010 في حرم المطار، ام مقاومة 27/10/2010 المتخصصة باقتحام عيادات الطب النسائي في الضاحية؟! أليس من ارتكب كل هذه الآفات هو "حزب ولاية الفقيه" الذي "لغاية اليوم لم يشترك في الصراعات المحلية" على حد زعمك؟!
ايها الجنرال، لقد آن اوان نبذ الخطاب الطائفي والعودة الى ثوابت الكنيسة الوطنية والتاريخية. فالرأي العام اللبناني بشكل عام والمسيحي بشكل خاص، يتابع بقلق شديد الاخطار المحدقة بالكيان اللبناني وتغير ملامح وجه لبنان، كما تؤرّقه الحوادث الارهابية المذهبية والطائفية التي يشهدها العراق، وكان آخرها تفجيرات كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد. والشعب اللبناني برمته قد ضاق ذرعا بالخطاب الطائفي والتخويني، وبمنطق الاستقواء على الدولة وتجاوز مؤسساتها وفرض ارادة الرأي الواحد عليها، وهمه الشاغل مد اليد الى شركائه في الوطن من اجل العمل معاً لانقاذ لبنان من الاخطار، وتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية، والعودة الى مشروع الدولة الذي يحمي الجميع. فحبذا لو يكون خطابك السياسي منسجما مع هذا التوجه، ولا اظن ذلك يتحقق الا اذا تخلينا عن اطماعنا الشخصية ونزعاتنا السلطوية وتذكرنا ان لبنان وطننا جميعا، ونحن له جميعا، مسلمين ومسيحيين.
عبدو شامي
موقع القوات اللبنانية وموقع ليبانون ديبايت، نشر13و16/11/2010

28- من كيسينجر إلى نصر الله

في آخر إطلالة إعلامية للأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله، اعتمد على رسالة قال ان وزير خارجية اميركا السابق هنري كيسينجر بعث بها عام 1976 الى عميد "الكتلة الوطنية" الراحل ريمون إده. بالطبع لم تكن هذه رسالة كيسينجر، وإنما رسالة وهمية من نسج خيال الصحافي سليم نصار، الذي ما لبث ان اوضح قصة كتابته رسالة كيسينجر من خلال مقال مطوّل نشر بتاريخ 20/11/2010 في جريدة النهار.
في الواقع، ان رسالة كيسينجر الوهمية تلفت انتباه القارئ المتابع بل وتنال اقتناعه لصحة أغلب ما ورد فيها. ولا عجب في ذلك، فقد صيغت الرسالة بأسلوب محترف جدا مستقى من السياسة الصهيو-اميركية المتبعة في المنطقة، لكن العجب العجاب ان يكون مضمون الرسالة التي وصفها نصرالله بأنها "تكتَب بماء الذهب"، ودعا شباب 14 اذار المسيحيين الى قراءتها والتمعن فيها، انما ينطبق على السياسة التي ينتهجها حزبه في لبنان! وهو ما دفعني الى كتابة رسالة وهمية ثانية موجهة هذه المرة من كيسينجر الى نصر الله، ردا على ما اورده في خطابه الأخير، حيث يقول كيسينجر:
"بالإشارة الى خطابك المؤرخ في 11/11/2010، يؤسفني اعلامك يا سيد حسن انني لم اكن اتوقع منك الوقوع في هذه السقطة المعيبة التي هزّت صدقيتك امام جمهورك بنسبتك هذه الرسالة إليّ، ولا سيّما انك تملك اكبر مركز ابحاث في لبنان، فضلا عن ترسانة اعلامية من صحف واذاعة وتلفزيون وانترنت، لا يخلو ارشيفها من معلومات كفيلة بكشف زيف الرسالة التي استشهدتَ بها.
ألم يخالجك أي شك عندما تسلّمْتَ النص من احد مساعديك وقرأت ما قرأت فيه، ان هناك مبالغات تستدعي التأمُّل والمراجعة؟! أظن ان القراءة المتأنية كافية لاكتشاف المزالق القانونية التي تضمنَتها الرسالة، باعتبار انه من الصعب عليّ كتابة نص يدينني ويعرضني للمحاكمة في المستقبل.
لن اطيل عليك باللوم والعتاب، بل سأنتقل الى مضمون الرسالة الوهمية لكي اثبت لك ان ما حذّرتَ منه مردود عليك!
لقد حذّرتَ- استنادا الى ما نُسِبَ إلي- من انني "أفكّر في خلق دويلات شبيهة بإسرائيل بعدما فشلت في اقناع الدول العربية في الصلح الانفتاحي وقبول هذه الدولة الجديدة كجزء من المنطقة". لكن مهلا يا سيد، أليس ما تقوم به انت وحزبك في لبنان يندرج في هذه السياسة بشكل او بآخر. نراك تسعى للسيطرة على لبنان وتحويله الى دويلة طائفية خاضعة لولاية الفقيه في ايران، وذلك من خلال المخططات المباشرة وغير المباشرة لتغيير وجه لبنان عبر تغيير تركيبته المرتكزة على التعايش، ونسف معطياته الديموغرافية والاجتماعية بواسطة التسلل المنظم نحو مناطق محددة وشراء اراض فيها ذات مواقع استراتيجية خدمة لمشروعك السياسي "الالهي" وسعيا وراء انتاج اشكال جديدة من الحضور المناطقي، وإقامة التجمعات السكنية ومخازن السلاح والصواريخ، بهدف إلغاء التنوّع وربما تفتيت لبنان وتقسيمه، وإقامة دويلة ولاية الفقيه على الساحل الشرقي للمتوسط بقرار ايراني.
لقد اثار دهشتي أثناء قراءتك الرسالة التي "تستحق ان تكتب بماء الذهب" على حد وصفك، تحذيرك من قولي الموهوم "إن الأحداث الدامية التي افتعلناها في لبنان، أمّنت لنا ارضية مثالية لتقسيم النفوس الموحّدة وتدمير صيغة التعايش في ذلك الوقت بين المسيحيين والمسلمين، وإحداث خلل أساسي في النظام الديمقراطي في المنطقة". وهنا، استمهلك مرة ثانية ايها السيد لكي اسألك عن الحوادث الارهابية الدامية التي افتعلها حزبك في 7 و11 ايار 2008 ووصفتها بـ"المجيدة" وذهب ضحيتها اكثر من ثمانين قتيلا في مختلف الاراضي اللبنانية... ألم تشكّل ارضية مثالية لتقسيم النفوس الموحّدة، وايقاظ العصبيات النائمة، وتدمير صيغة العيش المشترك في لبنان؟! وماذا عن اختراقك المجتمع المسيحي وتمزيقه بالسياسة الايرانية من خلال الجنرال ميشال عون، الذي اعتمد استراتيجية حزبك وحلفائه في دمشق وطهران، وهي استراتيجية لا تفيد المسيحيين في شيء، ولا نرى هدفا لها سوى جر لبنان الى حرب أهلية جديدة تنتهي بسيطرة الطرف الاقوى عسكريا، او فرض نظام شمولي لا يشبه لبنان التعددية والتنوع والمناصفة والعيش المشترك، الذي ينشده المسيحيون والمسلمون الذين رفعوا شعار: "لبنان اولا".
قلتَ يا سيد: "ان اول من يتحمل مسؤولية اقامة دولة ضعيفة ذيلية في لبنان هو السياسات الاميركية"، وذلك تعليقا على قولي في الرسالة الوهمية للعميد اده "ان لبنان اصبح عبئاً على الغرب لكثرة ما أعطت حريته من افكار كانت تُستعمل ضدنا وليس ضد دول المنطقة، لهذا قررتُ إلغاء هذه الحرية في لبنان وجعل نظامه نظاما ذيليا، وأنتَ تعلم (يا عميد) ان طمس النظام اللبناني لعامين هو امر ضروري للتوصل الى التسويات في هذه المنطقة". وانا اقول لك يا سيد ان ما يضعف لبنان اليوم هو مشروع "حزب ولاية الفقيه" الذي بات عبئاً على الجمهورية، فهو يتذرع بالخطر الاسرائيلي للاستمرار بالتسلح بمختلف أنواع الاسلحة التي ثبت بما لا يقبل الشك في أيار2008 انها معدّة للاستعمال في الداخل اللبناني لفرض وانتزاع مكاسب سياسية وطائفية داخلية وخارجية. أليس ما يضعف الدولة في لبنان اليوم ويحولها الى دولة ذيلية هو تمنعك عن وضع سلاحك في إمرتها وتعاظم قوة حزبك الذي بات يملك من القدرات والمقومات ما يفوق قدرات الدولة اللبنانية برمتها، ما يمكنه من توسيع وتركيز دويلته على أنقاض الدولة اللبنانية المسحوقة، و بالتالي بسط سلطته او تسلطه على الدولة بشكل كامل، وجعلها ذيلا لإيران وتابعة لسياستها وخاضعة لتدخلاتها؟
لنكن صريحين يا سيد، ألم يُفرَض اتفاق الدوحة بعد طمسكم انتم النظام اللبناني مدة عامين من خلال شل الحكومة وقفل المجلس النيابي وتعطيل الاستحقاق الرئاسي، بغية التوصل الى تسويتكم المنشودة؟!
واذا كنتُ انا "انظر من زاوية المصالح الاميركية والمصالح الاسرائيلية(...) واخلاصي هو لاسرائيل ولا يعادله الا اخلاصي لزوجتي وبلادي الثالثة اميركا" كما نُسِبَ إليّ في خاتمة الرسالة الوهمية، ألستَ انت يا سيد من قالها بوضوح: "اني افتخر ان اكون عنصراً في حزب ولاية الفيقه"، مؤكدا لمن يهمه الامر ان حزبك ليس تنظيما مستقلا بل هو فصيل ضمن قوى تقودها طهران وينفذ قرارات تصدر من إيران، أي من دولة الولي الفقيه؟
ختاما، ادعوك يا سيد الى التمعن في مضمون هذه الرسالة، فلعلك ماض وحزبك في تنفيذ محتوى الرسالة الافتراضية الوهمية التي حذّرت منها في خطابك الاخير من حيث تدري او لا تدري. واسمح لي ان اعاود تذكيرك تفاديا لوقوعك في خطأ جديد، بان ما كتب اعلاه رسالة افتراضية وهمية من نسج خيال كاتب هذا المقال، ولا تمت اليّ انا هنري كيسينجر من قريب او بعيد بصلة".
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت، جدار السعودية، نهار الشباب مختصراً، مدونة ايلاف، موقع "ياهو مكتوب"، مدونة السوري الجديد، موقع "يقال دوت كوم"، موقع "عاجل دوت كوم"ابتداء من 21 /11/2010

29- أرعبهم قلمه فكسروه

كثيرون هم شهداء الكلمة الحرة والرأي والتعبير في لبنان، لكن تبقى لسيرة وشهادة الاستاذ جبران تويني مكانة مميزة وتحية خاصة.
تعرفت الى هذا الصحافي الحر من خلال كتاباته واطلالاته الاعلامية، وقد وقف صوته وقلمه لمقاومة الوصاية السورية والتدخل السافر في الشؤون اللبنانية الداخلية والخارجية. وبالنسبة إلي، يبقى في طليعة انجازات جبران تويني السياسية والصحفية التي كانت حافلة بالمغامرات، تأسيسه ملحق نهار الشباب عام 1993، فاتحا امام الشباب فسحة حرة للتعبير عن مشاكلهم وآرائهم في القضايا السياسية والاجتماعية بحرية ندرت في ذلك الوقت وعزّت في تلك الحقبة السوداء. ولا ععب في ذلك، فقد كان جبران مؤمناً بأن الشباب هم ثروة لبنان الحقيقية، وان استسلام شباب لبنان وحده ينهي لبنان.
ولعل احدى أكثر النقاط اضاءة في سجل جبران الذهبي، مشاركته الفاعلة في "لقاء قرنة شهوان" الذي اسّسه المسيحيون الاستقلاليون في نيسان من العام 2001، وعرف بالمواقف المتشبثة بالحرية والسيادة والاستقلال، وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، في مواجهة من كانوا يكرّرون يوميا معزوفة: "وحدة المسار والمصير"، ويبررون للقوات السورية وجودها في لبنان على انه "شرعي وضروري ومؤقّت". وقد شكل هذا اللقاء احد مظاهر الترجمة العملية لنداء المطارنة الموارنة التاريخي في 20 أيلول من العام 2000، الذي طالب بشكل واضح وصريح بالانسحاب السوري من لبنان.
في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ لبنان، كان جبران في مقدّم الأحرار والمحرِّض الأوَّل على السيادة والحرية والاستقلال، من خلال افتتاحياته الشهيرة، ولا سيما الكتاب المفتوح الذي وجهه من خلال مقالاته الى الرئيس السوري بشار الأسد.
كانت مقالات هذا الصحافي الحر تنقض على رؤوس مخالفيه واخصامه كالصواعق، ليس لاعتماده اسلوبا هابطا متخما بالتجريح والقدح والذم والنيل من الكرامات، انما بسبب مدرسته المميَّزة في الصحافة التي لا تؤمن بالاستدارة والخنوع والمسايرة والمداهنة والمجاز والإيحاء، بل تُصرُ على وضع الإصبع على الجرح قائلة للأبيض أبيض وللأسود أسود، بأسلوب مفعم بالحرية والعنفوان والشجاعة من دون مواربة.
ومما يلفت النظر في حياة جبران، قوّة ايمانه بقضيته وصلابة عقيدته الوطنية بضرورة الاستمرار في الكفاح حتى النهاية مهما كلف الامر من تضحيات. وفي هذا السياق، يحضرني قوله في احدى الندوات عندما سأله احد الطلاب: جرأتك تخيفنا ألا تخيفك؟ فأجاب جبران: "اخترت ان اكون صحافيا لأقول الحق وكي لا اخاف، واعرف اني اخاطر ولا آبه، تماما كالعسكري الذي يناضل على الجبهة". نعم، كان جبران يناضل على الجبهة ايمانا منه ببزوغ فجر الاستقلال الثاني وسطوع شمس الحرية يوما ما.
في 14شباط2005، اغتيل الرئيس رفيق الحريري وانطلقت شرارة "انتفاضة الاستقلال" التي كان جبران نبضها الحقيقي ومن الممهدين لها والعاملين على تسعير نارها لكي تحرق بلهيبها آثار 30 عاما من القمع والاحتلال والاستغلال، مضيئة لثوار الارز طريقم نحو الحرية والسيادة والاستقلال.
في 14 آذار2005، ظلل العلم اللبناني ساحة الحرية التي احتضنت تظاهرة تاريخية مليونية؛ وكان أركان المعارضة يتوالون على المنبر لالقاء كلماتهم الاستقلالية الواحد تلو الآخر. نظر جبران من زجاج مكتبه في مبنى "النهار" الى ذلك الحشد المليوني الذي استفز قلمه وحسه الوطني، فأمسك قصاصة من الورق ودوّن عليها جملة معبرة جديرة ان تكون نشيدا وطنيا. توجه عريس "ثورة الأرز" نحو الساحة فاعتلى منبرها وألقى كلمة معبّرة وختمها طالباً من الحشود أن يردِّدوا وراءه قسمه الشهير الذي استعر معه لهيب "ثوار الأرز"، وارتجّت به ساحة الحرية: "نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحَّدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم".
وهنا، لا يغيب عن ذاكرتي كم كان عريس ثورة الأرز متحمسا وصادقا ومتواضعا في قسمه، فقد رفض ان يكون مجرد ملقِّن للجماهير وأبى إلا ان يردّد قسمه معهم لكي لا يفوته شرف هذه المناسبة ونبل هذه المعاهدة، فأقسم مرتين وأقسموا مرّة واحدة.
هزت هذه التظاهرة أركان النظام الامني اللبناني-السوري المشترك، ودخل حلفاء سوريا في حالة انكفاء وترقُّب سياسي، وبدأت انتصارات ثورة الأرز ونتائجها الباهرة تتوالى، وانسحب الجيش السوري من لبنان في 26نيسان2005. لكن اعداء الحرية والسيادة والاستقلال لم يسمحوا لفرحة ثوار الارز بالاكتمال، فكرّت سبحة التفجيرات والاغتيالات واخذ مسلسلها فصولا دموية مرعبة؛ فاغتيل منظر ثورة الارز الصحافي الحر سمير قصير، واغتيل جورج حاوي، ونجا الوزير الياس المر من محاولة اغتيال بأعجوبة، وكذلك فراشة ثورة الارز الاعلامية مي شدياق التي فقدت طرفيها الأيسرين في 25 أيلول 2005. وقد كان جبران من أشد المتألِّمين والمصدومين من استهداف مي، فرفع الصوت صارخاً في وجه القتلة والمجرمين، وتحداهم على شاشات التلفزة قائلاً: "لماذا تعمدون إلى أذية فراشة؟! نحن السياسيين! اضربونا نحن! لماذا لا تجرئون على ضربنا وتفجرون فراشة؟!".
تلقّى جبران معلومات جدية من لجنة التحقيق الدولية والأجهزة الأمنية اللبنانية تؤكد انه مهدد بالاغتيال، فرأى ضرورة الانتقال المؤقت الى باريس ريثما تبرد الأجواء، فأخصامه باتوا يضمرون له الحقد الشديد في صدورهم، ويتحيّنون الفرص للإيقاع به اخمادا لذلك الصوت الداوي الذي صدح بالحق ولا سيما في ساحة الحرية في 14 آذار 2005، وذاك القلم الثاقب الذي كان يقض مضاجعهم باستمرار لخرقه جميع الحجب واسقاطه المحرمات تلو المحرمات.
لم يكتف المجرمون بنفيه الاختياري بل ارادوا المزيد، فكالوا الى جبران التهم وخوّنوه واطلقوا الشائعات المغرضة: "هرب من المواجهة" و"انشغل بقصة غرامية"، فاستفزوا حسه الوطني ووفاءه لقضيته، فقرر العودة الى بيروت متجاوزا كل محتمل من الغدر به بأي طريقة كانت، وما ذلك الا رغبة منه في متابعة المسير والاجتماع برفاق الثورة والتفاهم معهم على متابعة البرنامج النضالي. وكانت عودته في ذلك العهد المحموم والمشحون بالحقد وحب الانتقام من رجالات انتفاضة الاستقلال ومفكريها، عملا مغامرا جرئيا غير مستغرب من جبران تويني، وهوعمل ان دل على شيء فإنما يدل على صدق الوطنية ونبل الغاية التي يكافح من اجلها سواء كان في بلده او في المنفى القسري.
وجد المجرمون الفرصة سانحة للظفر به واسكات صوته وقلمه. فبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على عودته غير المعلنة مسبقاً من باريس إلى لبنان، امتدت يد الغدر والارهاب الى الصحافي الحر جبران تويني فاغتالته في 12/12/2005 اثناء توجهه بسيارته صباحا الى عمله في صحيفة النهار، في واحدة من أبشع عمليات الاغتيال واشدها إجراما، كشفت مدى الحقد الذي كان يضمره له مبغضوه الذين وزّعوا الحلوى وتبادلوا التهاني، ابتهاجاً بالخلاص من هذا القلم والصوت المدوي.
وهكذا، اختتم الشهيد حياته الصحفية والسياسية التي كانت في الواقع وقفا على عقيدته وايمانه، وحسبه ان يكافأ على ذلك باستشهاده في سبيل بلاده وقضيته، فاختتم حياته الصحفية والسياسية ضاربا المثل الأعلى في الاستشهاد والفداء، حتى صار مثالا لكل صحافي جريء. اما والده غسان وعائلته وبناته، فاستقبلوا حكم الموت وقدر الأحرار بشجاعة نادرة ورباطة جأش، معلنين بأعلى صوت ومن أعلى منبر: "جبران لم يمت والنهار مستمرة".
نعم، نجح الإرهابيون في كسر قلم جبران تويني الذي لطالما أرعبهم، واسكتوا صوته الذي قض مضاجعهم، لكنهم لم يتمكنوا من تجفيف حبره الذي ارتوت منه أقلام بناته وتلاميذه وزملائه ومحبيه، وامتلأت به محبرة كل صحافي حر.
عبدو شامي
موقع ليبانون ديبايت والقوات اللبنانية، نشر 16و17/12/2010

30- 2010 عام الاعتذار وترقّب القرار

دخلت سنة 2010، وفي اعتقاد معظم المحللين انها ستشهد اعلان القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبعها من اغتيالات حصدت ثلة من خيرة قادة "ثورة الارز". ونظراً لوجود فريق متخوِّف من اعلان الحقيقة إلى حدِّ الذُعر، كان لمرحلة ترقُّب صدور القرار الاتهامي اثرها السلبي على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد طيلة تلك السنة.
وقد حفل العام 2010 بعدد لا بأس به من الحوادث المهمة مقارنة مع العام 2009. وكان محور حوادث العام بلا منازع، حملة التهويل والتخويف والترهيب التي شنّها فريق 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه"، ضد قيادات وجمهور 14 آذار والرأي العام العالمي، جازما بأن القرار الاتهامي سيطاله، ومنذرا بفتنة سنية-شيعية قد يشعلها صدوره إن لم يُسارعوا الى اعلان تخلّيهم عن المحكمة، ووقف تمويلها وسحب القضاة اللبنانيين منها، ورفض القرار الاتهامي مسبقا، بصرف النظر عن الأدلة التي سيستند إليها.
والى جانب هذا الحدث الرئيس، يمكن اختيار حدثين آخرين كان لهما وقع مؤثر على المشهد السياسي اللبناني.
الاول، كان المصالحة بين الرئيس السوري والنائب وليد جنبلاط. فمنذ مؤتمر "البوريفاج" الشهير في 2آب 2009، الذي أعلن فيه انقلابه على تاريخه الاستقلالي وسنوات النضال المشرّفة التي أمضاها مع 14آذار، كان جنبلاط يواصل استدارته علّ "توبته" تلقى القبول. وقد قبلت فعلا في 31/3/2010، حيث استقبله الرئيس بشار الاسد في دمشق، وذلك بعدما تلا جنبلاط "فعل الندامة" عبر قناة "الجزيرة"في 13/3/2010، قائلا:"صدر مني في لحظة تخلٍّ كلام غير لائق وغير منطقي بحقّ الرئيس بشار الاسد(...)، هل يُمكنُه تجاوز تلك اللحظة وفتح صفحة جديدة؟ لست ادري!". وتطرق إلى ذكرى استشهاد والده فقال:"اليوم ستختم هذه المرحلة. آنذاك قلت أسامح ولن انسى، اليوم اسامح وانسى"!
وقد انهت هذه الزيارة التاريخية، قطيعة دامت زهاء ست سنوات، في ما اعتبر تعزيزاً للمكاسب السياسية السورية في لبنان.
أما الحدث الثاني، فكان من نصيب الرئيس سعد الحريري. ففي مقابلة اجرتها معه صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، ونشرت في 6 ايلول 2010، اعتذر الحريري من سوريا عن اتهامه إياها سياسياً باغتيال والده، كما اعترف لقوى 8 آذار بوجود "شهود زور" في التحقيق الدولي قائلاً: "نحن في مكان ما ارتكبنا اخطاء. في مرحلة ما، اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى". "هناك اشخاص ضلَّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان (...). شهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدَين وسيَّسوا الاغتيال، ونحن في لبنان نتعامل مع الامر قضائياً".
وكان لذلك التصريح انعكاس سلبي على القوى الاستقلالية، فقد عُدّ تنازلاً موصوفا من الدرجة الاولى معنوياً وسياسياً ومبدئياً، وهو لا شك مرفوض من القاعدة الشعبية الاستقلالية، ولا سيما اننا لا نزال في مرحلة التحقيق الدولي والمحكمة لم تلفظ قراراها الاتهامي بعد.
وقد اتخذَت حملة ملف ما يسمى "شهود الزور" منحى اشد زخما وعنفا، مستندة الى اعتراف الحريري بوجودهم، فأخذت القوى الانقلابية تطالب صراحة بتحويله إلى المجلس العدلي عبر مجلس الوزراء، وإقرار تفاهم سياسي داخلي لتنظيم عملية إبطال مسبق لأي قرار اتهامي مهما كانت الادلة التي سيستند اليها.
وكان من نتائج هذه الحملة أن وُضِعَت الحكومة أمام معادلة قديمة-جديدة فرضها التوازن السلبي والفريق المعطِّل، تتمثل في تحويلها رهينة لملف "شهود الزور"، بما يعني شلّها تحت وطأة الضغوط المتصاعدة لبت هذا الملف، ومنعها من معالجة أي جدول أعمال قبل حسم هذا الموضوع. وكذلك تم تعطيل جلسات هيئة الحوار العقيم، التي تبحث موضوع الاستراتيجية الدفاعية.
وبهذا الجو التعطيلي المتشنّج، مضى عام 2010 دون أن يشهد صدور القرار الظني خلافاً للتوقعات التي سادت خلاله، إلا أن تحاليل أهل الخبرة وإن خابت بالنسبة لتوقيت صدور القرار، فقد صدقت فيما يتعلّق بالشأن الحكومي والعلاقة مع سوريا.
إذ خلافاً لأجواء التفاؤل المضخّمة والمزيَّفة، وما وُصِفَ بـ"النيّات الحسنة"، التي طغت على الخطاب السياسي عقب الإعلان عن ولادة الحكومة ما سمّي "الوحدة الوطنية" أواخر عام 2009، فقد أثبتت الأخيرة عجزها وفشلها في تحقيق أي إنجاز يُذكَر، سواء على صعيد الملفات الشائكة كملفي التعيينات والموازنة وتمويل المحكمة الدولية، أوعلى صعيد أولويات وهموم الناس، كملفات الماء والكهرباء، التي اتخذت الحكومة منها عنواناً عريضاً في بيانها الوزاري.
فكانت "حكومة الدوحة الثانية" إعلاناً صارخاً لفشل ما أطلقوا عليه تسمية "الديموقراطية التوافقية"، وحكومة "الوحدة الوطنية".
أما على صعيد العلاقة مع سوريا، فقد ترجمت حوادث العام وخصوصا مذكرات التوقيف السورية المتعلقة بقضية "شهود الزور" المرفوعة من قبل اللواء جميل السيد في القضاء السوري، والتي طالت فريق الحريري بشكل مباشر، امتعاضاً سورياً من سلوك الاخير الذي لم ينفّذ الاستدارة المأمولة منه بعد زيارة دمشق الأولى، إن لجهة انسحابه التدريجي من قوى 14 آذار بدءا بالتمايز عن طروحاتها، وصولا إلى إطلاقه رصاصة الرحمة على التيار الاستقلالي، بفرط تحالفه مع "القوات اللبنانية".
واننا اذا تأملنا هذا الواقع السياسي والحكومي الاليم، سوف ندرك أن لبنان ينزلق يوما بعد يوم نحو مرحلة ما قبل 2005، الامر الذي سيؤدي حكما الى عودة الوصاية. فقد تمكّن حلفاء سوريا وإيران من وضع اليد مجددا على الدولة اللبنانية، على الصعيدين الامني والحكومي على اقل تقدير.
والآن، لم يعد أمام الفريق الانقلابي المسلّح لكي يستعيد امساكه بالدولة بشكل كامل ونهائي، سوى معركة اسقاط المحكمة الدولية لبنانياً، التي يعني فوزه فيها القضاء على آخر ما تبقى من مفاعيل "ثورة الارز" ومنجزاتها.
فهل سيبقى الفريق الاستقلالي صامدا على تمسّكه بالمحكمة مهما نتج عن قرارها الظني المرتقب من تداعيات، أم سينجح الفريق الآخر في انقلابه؟ هذا ما سيجيب عنه العام 2011.
عبدو شامي
مدونة ايلاف، نشر31/12/2010





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !