دقائق قليلة قبل الهجوم الذي استهدف مقر المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو"، نشر المشرفون على صفحة المجلة في موقع التواصل الإجتماعي " فيسبوك" تدوينة تحمل متمنياتهم لمرتادي ومحبي الصفحة مرفوقة بصورة كاريكاتورية لقائد تنظيم داعش "أبو بكر البغدادي". رمزية البغدادي هنا أصبحت أكثر دلالة بعد المجزرة التي أودت بحياة اثني عشر شخصا، بينهم ثمانية صحافيين من العاملين في المجلة الساخرة الذائعة الصيت.
العاملون ب" شارلي إيبدو" تلقوا تهديدات بالقتل منذ سنة 2006 عندما أعادت الصحيفة نشر الرسوم الدانماركية الشهيرة التي أججت غضبا شعبيا عارما في العالم الإسلامي بسبب إساءتها للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سنة 2011 خصصت الصحيفة الساخرة عددا خاصا إختارت له عنوان: " الشريعة إيبدو"، وتضمن مقالات ورسوم ساخرة على خلفية تنامي الإسلام السياسي في بعض الدول العربية في خضم ما كان يعرف ب" الربيع العربي". حينها تعرض مقر المجلة لهجوم بالزجاجات الحارقة، وكانت تلك أول محاولة فعلية لتنفيذ التهديدات ضد العاملين بهذه الصحيفة. لكن يبدو أن المتربصين بالأسبوعية الفرنسية كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة للإنتقام من القائمين عليها. وواضح أن الذين استهدفوا مقر المجلة في هذا الوقت قد خططوا بشكل دقيق للعملية، لأن ما جرى كشف عن قدر كبير من الإحترافية. لذلك من الطبيعي أن تتجه أصابع الإتهام مباشرة إلى التنظيمات الإرهابية الإسلامية، خصوصا وأن التقارير المتعلقة بهذا الحادث المأساوي تنقل على لسان أحد المهاجمين قوله بأن العملية انتقام لرسول الله.
استهداف الصحيفة الفرنسية بهذا الشكل يعد ضربة جديدة وقوية للإسلام المتسامح والحضاري الذي لا يراد لصوته أن يعلو فوق صوت التكفير والعنف والقتل والسبي. والذين يدعون أنهم يدافعون عن دينهم أو ينصرون نبيهم بهذه الطريقة البشعة، إنما يسيئون للإسلام ويقدمونه للعالم كدين يرعى الإرهاب ويدعمه. وهم بهذا السلوك الهمجي الذي أصبح في السنوات الأخيرة قاعدة لا اسثثناء، يقدمون المبررات لتنامي موجة العداء ضد المسلمين. إنهم يصنعون الكراهية، ويغنون أناشيد الحقد والتطرف، ويضربون القيم الإنسانية المشتركة في الصميم. وكل من يعتبر مجزرة "شارل إيبدو" بمثابة رد فعل على مواقفها المعلنة بخصوص الإسلام والمسلمين، يعد مشتركا في الجريمة، فهذا الهجوم الهمجي على صحافيين لا يملكون إلا الريشة والقلم للتعبير عن آرائهم في بلد ديموقراطي يحترم حرية التعبير ويتسع لكل الأعراق والأديان. هذا السلوك العدواني إذن لا مبرر له، ولا يمكن لكل صاحب ضمير حي أو منطق سليم أن يقبله أو يستسيغه.
إن الإرهاب لن يساهم إلا في إضفاء مزيد من القتامة على الصورة النمطية التي ترسخت لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين. ومن يريد نصرة هذا الدين أو يفرض احترام الآخرين لشعائره ورموزه الدينية لن يتمكن من ذلك عبر التفجير والقتل، بل يجب عليه التعبير عن مظاهر التسامح والتعايش والخير والإنسانية في الإسلام من خلال السلوك العملي وليس عبر الشعارات والأقوال التي لا تتحول إلى أفعال. وإذا كانت الصحيفة "المنكوبة" قد أساءت حقا إلى الإسلام، فإن المشرفين عليها ينطلقون من قناعات خاصة يوجهها خط تحريري لا يعترف بالخطوط الحمراء، لأنه يعتبر أن الحق في التعبير عن الرأي هو من صميم الحرية التي ناضل من أجلها الفرنسيون فكرا وسلوكا خلال عصر الأنوار والثورة. ومن حق من يرفض هذا التوجه أن يعبر عن نفسه من منطلق " حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين"، غير أن الرد على الإساءة يجب أن يكون من نفس السلاح حتى تستوي الكفة: الكلمة في مواجهة الكلمة، والكاريكاتور في مواجهة الكاريكاتور... فالحوار هو التعبير الحضاري عن التعددية والإختلاف. أما استهداف الصحافة بالشكل الذي تعرضت له " شارلي إيبدو" فهو في العمق سلوك عدائي موجه ضد الرأي الآخر، ويعبر عن ثقافة منغلقة وأحادية، وهو محاولة لتكميم الأفواه والأقلام. إنه عداء لحرية التعبير... ومع ذلك فإن الإرهاب لن ينجح أبدا في مسعاه.
محمد مغوتي. 07 يناير 2015
التعليقات (0)