مجرد سوء فهم!
د. أسامة عثمان.
لعل أخطر ما في «سوء الفهم», أنه يوقع الإساءة، حيث يريد الطرفان في عملية التخاطبِ الإحسانَ.
وليس سوءُ الفهم هو السبب الوحيد في النزاعات بين الناس, ولكنّ كثيرا منها مُسبَّبٌ عنه. يُساء الفهم؛ فتنشأ الخلافات, أو تتعمق الفجوات التي يصعب جَسْرها, وقد تندلع الحروب غيرُ المُسَوَّغة...
وأكثره يقع بعمليات التخاطب؛ متسببا عن رسالة كلامية غير مكللة بالنجاح, ومفتقرة إلى الوضوح، أو قد ينتج عن خلل يعتري متلقي الرسالة، وسُقْم أدواته، أو غفلة حواسه، أو تحكم هواه في فهمه، وعقله!
ونحن هنا لا نتحدث عن الكلام والنصوص التي تروم أهدافا أخرى غير الهدف الإبلاغي, كالأدبية- مثلا- التي كثيرا ما تُقوِّض الدلالةَ الواحدة للملفوظ اللساني؛ تَقصُّدا منها لتعدد القراءات, وإشراكا للمتلقي في صنع المعنى؛ ذلك أن الفرق كبيرٌ بين اللغة ذات الوظيفة الاجتماعية, واللغة ذات المهمة الجمالية.
فتلك النصوص, تقصد إلى تعدد الدلالة, ولا تتسبب بأي حَرَج، بذلك؛ لأنها تريد الدلالات المستفادة منها, ما دامت محتملة, أو تَقْبلها؛ فلا إشكال في ذلك, ولا سوء فهمٍ يَنْجُم.
ولكن سوء الفهم ينشأ في التخاطب الاجتماعي, بكل أطيافه وفروعه, وهو علامة عجز عند المرسل, أو المستقبل, أو هو نذير إخفاقٍ لعملية التخاطب؛ هذا إذا لم تكن سببا لنتائج عكسية ضارة.
فكما يكون سوء الفهم سببا في اتخاذ العدو صديقا؛ فإنه كثيرا ما يفضي إلى تحويل الأخ والصديق إلى عدو، وما هذا دَيْدن العقلاء؛ إذ هم يجتهدون في تكثير الأصدقاء, واستمالة الناس بدلا من استعدائهم دون سبب.
وليس غريبا أن يكون سوءُ الفهم مسئولا عن كثير من النزاعات على الصعيد الفردي, أو الجماعي, والدولي؛ لسبب معروف, وهو أن النشاط اللغوي المنطوي على المضامين الفكرية المتنوعة هو من أبرز النشاطات الإنسانية, وعليه الكثيرُ من التعويل في تكوين الرأي عن الآخرين, وتحديد المواقف منهم.
مُسببِّات سوء الفهم:
ويمكن أن ترتد ظاهرة سوء الفهم إلى أسباب عقلية, أو نفسية, وأحيانا يمتزجان معا, ومنها:
الآراء المسبقة التي تلغي فاعلية الرسالة اللغوية الحاضرة لصالح فهم مسبق مستقر وطاغ ومُعطِّل...
التعصب: الحب الشديد والبغض الشديد الذي يحجب نور العقل... ويعطل فاعلية التفكير في المعطيات الجديدة، أو يمنع من تقبل الحق من غير الجهة التي نحب, أو الجماعة التي إليها ننتمي...كما قال الشاعر:
إنارةُ العقلِ مَكسوفٌ بِطَوْع هوى وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويرا
وحبُّك الشيءَ يُعمي ويُصم.
عجز المُرْسِل, أو المُخاطِب عن توضيح كلامه, وإيصال مراميه, ومقاصده إلى المتلقي, وهذا يتطلب التزود بالمعارف اللغوية اللازمة, من علوم البلاغة, واللغة, وقد يطال هذا العيبُ بعضَ الناس, حتى لو تكلم اللهجة الدارجة؛ إذ قد يكون الخلل ناتجا عن حاجته إلى تقوية ملكة الكلام, والكتابة. كما قد تتطلب معالجةُ هذا القصورِ في التعبير التدرُّبَ؛ لامتلاك مهارات التواصل, وهي تجمع بالإضافة إلى المعارف اللغوية مهارات اجتماعية, وقدرات نفسية.
سوء التعامل مع الكلام والحديث من جهة المتلقي، حين يخطىء في إدراك تراكيب اللغة, ومفرداتها, والمعاني التي تحملها؛ لقصور في التلقي اللغوي...
التسرع والعجلة... ما قد يؤثر على دقة الفهم, أو تكوين الفهم قبل انتهاء المتكلم, أو المُرسِل من كلامه ورسالته... وهذا قد يشي برفض تقبُّل ما يقوله الآخر؛ إذ يعاجله بفهمٍ يريده المتلقي, أو يتوقعه.. ويحدث هذا في أثناء النقاشات والجدل؛ إذ ترى الطرف المتلقي, أثناء تكلم المرسِل، يسمع, ولا يستمع؛ إذ هو منشغل الذهن في تحضير الجواب لإسكات الخصم, أو إفحامه.
وكثيرا ما يُؤتى المخاطَب من قلة تفريقه بين مناحي الكلام, ومقاصده؛ إذ قد يظن التوصيف والتحليل رأيا لقائله...؛ فمثلا، لو قال قائل: "إن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم اليوم, ولا ندَّ لها بين الدول, حتى الآن" فإن قوله هذا لا يدل, بالضرورة, على سعادته بهذا المعنى, أو مناصرته لهذا الواقع الذي يصفه.
وتظل حالات سوء الفهم قائمة؛ ما دمنا بشرا، يعتري أحاسيسنا الوهمُ, وتخذلنا قدراتُنا في الربط والإدراك, وتتنازعنا الأهواءُ والعواطف؛ غير أننا, بالقطع, نستطيع التنبه, والاجتهاد, وتلافي ما نستطيعه من أسباب سوء الفهم, أو الحد منها.
التعليقات (0)