مجرد رأى
بقلم / ثريا نافع
عندما يصل بعض الناس إلى مرحلة قصوى من تطور وعيهم، تصبح الحياة بالنسبة لهم، مفهومة وواضحة. يعيشونها بكامل وعيهم ، ويصبحون بحق جزءاً منها، يقبلونها على علاتها، يسيرون وفق خطها البياني بين صعود وهبوط بمنتهى الحكمة. يتقبلون من حولهم كما هم ، حياة الناس في شرعهم شيء يعنيهم وحدهم، حياة خاصة جداً ومتميزة جداً. تستمد قيمتها من الاجتهاد والاستعداد والتفوق طوال رحلة الوجود يوماً بعد يوم إلى أن نصل لذلك اليوم الذي لا غد له.
هذا هو الاسلوب الرائع والطبيعي في فن التعامل مع الحياة. يبث فيهم قوة خلاقة تصقل ذواتهم . وتعبر عما يعتمل بدواخلهم من اعتزاز فائق بأنفسهم من الصعب أن يمس، كما لا يزيد من قيمتهم أي احتفاء بهم. لأنهم قيمة قائمة بذاتها يرفضون أن تصبح آرائهم جزءا ً من الآراء التي يتداولها من حولهم.
ضغوط الحياة كثيرة وشديدة، تكون أحيانا بالغة القسوة، لذا فكثيراً ما ينتاب معظم الناس حالات من الضيق، وتخيم على نفوسهم الكآبة والتوتر دون سبب واضح. تتكاثر في الأعماق أسئلة، تطفو على الوجوه حيرة وتردد، وكل منا يحس نفسه نقطة غير متجانسة في بحر المخلوقات، ينأى بنفسه عن الجميع حيناً، ويعاود الاختلاط بهم حيناً آخر. مكابدتنا لمثل تلك المشاعر دلالة أكيدة على أن التفاعل حقيقي في بوتقة الحياة مع عناصرها المختلفة مما يصعّد معاناتنا، نبقى في حالة توتر وتأهب للدفاع عن أنفسنا في معركة حقيقية تدور في الخفاء بين الفرد وكل ما حوله، ومن حوله من أجل تغييره تستمر حتى حين نخلو لأنفسنا بعيدين عن الأصحاب والأحباب والمعارف.
والغالبية تسقط في وهم هذا الكم الهائل من الآراء والمعتقدات التي تتغير بتغير الظروف والأحداث مثل صراعات الموضة , لكن الصفوة تدرك أن الحياة معادلات يجب على الإنسان العيش ضمنها دون الانصياع لقوالبها الجامدة التي تحجر على إنسانيته وذلك بمحاولته الدؤوبة للوصول إلى نتائج يرتئيها لنفسه بعد خبرة وبحث وتقصي حتى تصبح معتقداً وأحياناً هاجساً.
ليس بالضرورة أن تكون هذه المحاولات للتغير علنية وبشكل مباشر أو مقصودة على طريقة افعل ولا تفعل ولا هي من الذكاء بحيث تغلف بشيء من الخبث إنها نوع من الحشرية حيناً والثقة المفرطة بالنفس حيناً آخر، تتسرب مع الأحاديث العادية حين نلاحظ شدة تعصب قائلها لرأيه وتتوضح أكثر في السلوك لندرك بعدها أن إحداث التغيير أمر وارد في مخيلتهم لأنهم يعتقدون أنهم الأقرب للصواب وقد تحمل نصائحهم شيئاً من حسن النوايا ولكنها بلا شك تحمل أيضاً الكثير من الغرور المرفوض حيث يدينك طالما أنك تفكر بشكل مختلف عنه.
لم يعد مبدأ "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" هو السائد بل أصبح أي خلاف في وجهات النظر مهما كان بسيطاً يؤدي للعصبية وللجدال لفرض الرأي الآخر، يقولون في الأمثال إن كل مخلوق لم يقتنع بما رزق ولكن بالمقابل كل منهم يعتقد أنه كان له الحظ الأوفر من حصافة العقل ورجاحته، لذا فيعتقد كل منهم أنه يتكلم من منطلق الوعي الكامل والخبرة الكاملة فلا يتورع عن الانتقاد القاسي لمن يخالفه.
أتمنى لو يدرك مثل هؤلاء الناس أن غيرهم كثيرون حريصون أن يكونوا أنفسهم كما يحبونها أكثر من حرصهم على محبة الآخرين لهم بعد إعادة تصنيعهم.
حقيقة نعيشها سواء من مر في حياتنا مروراً عابراً أو من أخذ حيزاً ما في تفكيرنا، من كبر في نفوسنا محبة أو من بقي مسخاً ملقى على قارعة دروبنا الكل دون استثناء بقليل من التذكر ندرك محاولاتهم لتغييرنا، تغيير سماتنا، جلدنا، رؤيتنا، فلسفتنا.
ولو اخذنا دليلا واحدا على ما سبق أن كثيرين ممن تزوجوا كان يحدوهم الأمل في تغيير الطرف الآخر بل وعقد العزم على ذلك وكذلك الأصحاب و.. وإلى ما لا نهاية جاهلين إن ما يريدونه من كل منا أن لا يكون هو. ذاك الإنسان المتصالح مع نفسه حين يجالسها في الوحدة الحتمية مع أواخر نهاره وبداية ليله فيكون راض عن نفسه يحتضنها بفرحة ويغرق حتى آخر مدى في صفاء عينيه ونقاء سريرته. كل ذلك يثبت ما قلته في البداية بأنهم قلة أولئك الذين يتقبلوننا كما نحن.
إن التغيير نحو الأفضل لا يأتي اعتباطاً ولا يأتي من فراغ بل إنه يحتاج إلى صبر ومثابرة على طلب المعرفة المحددة المصادر لمن يريدها أما هذا الذي أعنيه فهو يندرج تحت بنود النفاق الاجتماعي الذي يحتم التراوح بين كل الآراء في محاولة مكشوفة للاسترضاء. شيء مثل هذا في رأيي أمر في غاية الصعوبة. يحتاج لأدوات كثيرة وأصباغ وبراعة في المزج والخلط وقبل ذلك يلزمه الأسباب البينة على الأقل بينه وبين نفسه أو يلزمه على أقل تقدير القدرة على التلون والخلط وعلى الدجل والنفاق والجبن والكذب، والانهزام أمام الذات.
رفضك هذا التدجين، يعني رفضك تدويل مشاعرك، والحجر على أفكارك واحتكار ايجابياتك، رفضك أن تشعل من زيتك كل زواياهم المعتمة والغوص معهم في مغارات عفنة. ثق أن ثمن ذلك كله سيكون باهظاً ومعناه كبيراً يدعو للأسف والألم. معناه أن تعيش وحيداً. تقتات فضائلك وحدك، تمارس حريتك وحدك، تموت وحدك.
لا يهم ان أحزن أو أفرح من أجل ذلك، أضحك أو أبك لا ملامة علي او عليك فأنت وانا نثبت بأننا بصحة نفسية عالية وكل من حولنا يعاني من التشوه.
التعليقات (0)