للكاتب ناهض حتر
في الحادي والعشرين من تشرين الثاني المقبل ، تحل ذكرى مجيدة في تاريخ الأردن المعاصر ، بل قل العيد المئوي للحركة الوطنية الأردنية ، ففي ذلك اليوم سيكون قد مرّ قرن كامل على انتفاضة الكرك ضد الإدارة العثمانية !
أنا من الذين ساجلوا ، في غير بحث ومقال ، دفاعا عن الدور التقدمي الذي لعبته الإدارة العثمانية في شرق الأردن منذ العام 1840. فهي ـ وقد نبهتها غزوة ابراهيم باشا ، إبن حاكم مصر محمد علي ، إلى الأهمية الإستراتيجية لبلادنا ـ بدأت حملة لإعادة تنظيم الإدارة والخدمات والمواصلات والاتصالات وبسط الأمن وتشجيع الفلاحة والاستقرار في أنحاء شرق الأردن ، مما خلق الأرضية الاقتصادية والسياسية لوحدة البلد وتوطيد تركيبتها الاجتماعية ومجالها السسيو ثقافي . وقد أدت التفاعلات السريعة اللاحقة في القرن 19 إلى نشوء فائض زراعي وسوق محلي وتبادل تجاري مع العالم ، ولدت في سياقه نخبة أردنية من أبناء الفلاحين ـ البدو الميسورين ، تعلموا في دمشق واسطنبول والعواصم الأوروبية ، وشاركوا في مواقع قيادية في الجيش والإدارة الإمبراطورية ، كما عرفت البلاد النظام النيابي وأرسلت نوابها الى مجلس المبعوثان العثماني .
إلا أن هذا الوجه التقدمي من نشاط الإدارة العثمانية وبسط سيطرتها، كانت له تناقضاته ، ومنها زيادة الأعباء الضريبية ومساعي تجنيد أبناء شرق الأردن في الجيش العثماني للخدمة خارج البلاد .
والمساعي الأخيرة هي التي اصطدمت مع القوى الاجتماعية المحلية التي لم ترفض تجديد الإدارة وتنظيم البلاد ، ولكنها رفضت التجنيد لثلاثة أسباب ، هي :
(1) الارتباط بالموطن . وهو تقليد أردني قديم ينبذ الهجرة والاغتراب،
(2) الخشية من نقص القوى العاملة الضرورية في العمل الزراعي ،
(3) الخشية من استضعاف العشائر بتحويل فرسانها ومقاتليها الى جنود يخدمون خارج الوطن.
سامي باشا الفاروقي كان يقود حملة التجنيد. وهو الذي يتردد اسمه في الأهزوجة الثورية الكركية الشهيرة :
"يا سامي باشا ما نطيع
ولا نعدّ اعيالنا
لعيون مشخص والبنات
ذبح العساكر كارنا"
نشبت انتفاضة ( هية ) الكرك على أرضية تقليد قتالي يستميت في الدفاع عن استقلالية البلد . فمن المعروف أن الكرك نظمت مقاومة مسلحة باسلة ضد غزوة ابراهيم باشا . وقد شهدت هذه المقاومة حدثا بطوليا خلده ركس بن زائد العزيزي في عمل ادبي مخصص لفدائية شيخ الكرك ـ أنذاك ـ ابراهيم الضمور الذي ضحى بنجله ولم يسلم مفاتيح المدينة العصية على الغزاة .
كانت قيادة الهية كركية ، لكن خطوط المشاركة فيها امتدت الى عشائر الجنوب والبلقا . ومن المفارقات التاريخية أن السلطات العثمانية التي سهلت وحدة البلاد ، أوجدت الأسس لأول حدث سياسي وطني في تاريخ الأردن المعاصر .
وبالنظر إلى أن المطلب الرئيسي للإنتفاضة لم يكن جهويا ، بل وطنيا وشاملا ، وبالنظر إلى اتساع رقعة المشاركة في العمل الانتفاضيّ ، فإننا نعتبر 21 تشرين الثاني 1910 ، يوم إعلان الانتفاضة ، هو يوم ولادة الحركة الوطنية الأردنية .
من المفيد الإشارة ، هنا، إلى أن العناصر المتنورة في الإدارة الإمبراطورية العثمانية قد زادت من اهتمامها بشرق الأردن، وبدأت تنظر إليه كوحدة سياسية مستقلة ، خصوصا بعد مد الخط الحديدي الحجازي الذي ربط البلاد من الشمال الى الجنوب . وبالنسبة للكثيرين ممن يجهلون تاريخ بلدنا المعاصر، ويتباهون بجهلهم ، ويعتبرونه منطلقا للتحليلات التي تنتقص من شرعية الكيان الأردني ، سيكون مفيدا إطلاعهم على فرمان عثماني صدر قبل سايكس بيكو وسان ريمو بعقد كامل يتضمن تنظيم ولاية عمان ( أو معمورة الحميدية ـ نسبة إلى السلطان عبد الحميد ) التي كانت ـ ويا للمصادفة !!!! ـ تتبع الحدود الاجتماعية ـ السياسية التي أصبحت لاحقا قلب المملكة .
تقليد المقاومة والانتفاضة ظل ينمو في الكرك . فالمدينة التي قدمت كوكبة من الشهداء على مذبح الحرية في العام 1910 يتقدمهم الشيخ قدر المجالي ، ما فتئت أن أفرزت من صفوفها القائد التاريخي للحركة الوطنية ، زعيم المؤتمر الوطني الأردني الأول ، المعترَف بزعامته من قبل جميع المناطق الأردنية ، العام 1928، حسين الطروانة.
في الدورة الثانية من تجديد الحركة الوطنية في الخمسينات كانت الكرك على موعد مع النزعات الثورية للتيارين الشيوعي والبعثي. ومنها برز زعماء ، نذكر أعلاهم شأوا ، يعقوب زيادين.
وحين فرضت التطورات ، وقف ترئيس المجنسين ، وترئيس أول سياسي أردني ، كانت الكرك هي المدينة التي قدمت أحد ثلاثة رؤساء كبار ما يزال الأردنيون يعتبرونهم رموزا : الشهيد هزاع المجالي ( الكرك ) والزعيم سليمان النابلسي ( السلط ) والشهيد وصفي التل ( اربد ).
الكرك قدمت أشجع فرسانها للجيش العربي ، وقاتلت في فلسطين. وما تزال رايات الفارس حابس المجالي ترفرف في أفئدة العسكرية الأردنية .
ويذكر جيلنا هبة 89 . وهي استعادت تقاليد الكرك في تكثيف سياسي حديث لروح الانتفاضة التي تكررت العام 1996 في انتفاضة الخبز ، بينما شهد عقد التسعينيات أقوى حركة تضامن مع العراق في الكرك أيضا.
تستعيد المدينة مرة أخرى روحها الثورية مع حركة المعلمين العام 2010 التي كانت الكرك وما تزال في صلب مبادرتها وقيادتها . وقد أفرزت من بين أبنائها الكادحين قياديا نقابيا من نوع جديد هو مصطفى الرواشدة .
ونداء المتقاعدين العسكريين لقي في الكرك من الرجال والاستجابة ما يتسق مع روح المدينة الثورية .
مئة عام ... لم تهدأ الكرك ولم تتراجع عن تكريس وتجديد تقاليدها الشعبية والوطنية ، فحق لها إسمها الأردني القديم : خشم العقاب .
والكرك التي علمتنا الانتفاض ، هي نفسها التي علمتنا السخرية كتجل ابداعي للحضور الاجتماعي يتجسد في اللهجة والنكتة ، وعلمتنا الحب كتجل إلهي للحضور الإنساني في قصائد الهجيني، صانعة الوجدان الأردني ، حيث ينام الناس بينما القلب العاشق لا ينام ... يا سليمى !
مئة عام ...
مئة نجمة في سماء الانتفاضة ، في سماء الحركة الوطنية ، في سماء الطيبة والمرح والحب والكرم والأنفة...
مئة إطلاقة مدفعية في تحية الكرك ...
التعليقات (0)