مواضيع اليوم

مجتمع العلمانية الشاملة

روح البدر

2009-06-15 05:34:34

0

مجتمع العلمانية الشاملة


رغداء زيدان
حاول عبد الوهاب المسيري رحمه الله تفسير كثير من الظواهر التي نراها اليوم على أساس النظرة العلمانية الشاملة (والتي أسماها أيضاً العلمانية الطبيعية/ المادية, أو العدمية), والتي يعني بها كما ورد في كتابه الرائع والمفيد (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة): " بأنها رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته لا تفصل فقط الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته إلى أن يتم نزع القداسة تماماً عن العالم : الإنسان والطبيعة" (انظر العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة, دار الشروق, القاهرة, ص 472)

 

هو يقول إن هناك تداخلاً كبيراً وتعقيداً في المسألة (مسألة تفسير الظواهر تلك) ولا يمكننا التعميم ولكن يمكننا ملاحظة أشياء كثيرة تمس حياتنا, وتجعلنا نبحث عن الطريقة التي تحدّثنا وتنهضنا دون أن نقوّض الإنسان فينا.

لقد تحدث عن علمنة الجسد واللباس والطعام وما إلى ذلك. هو يقول إن الإنسان يميل إلى الفردانية في المجتمع العلماني (طبعاً الحديث كله عن العلمانية الشاملة التي تساوي نزع القداسة وتؤدي إلى النظرة العدمية) وهذا الإنسان المادي يسعى لتحقيق شيئين أساسيين هما المنفعة واللذة, لذلك فإن الأمور تُقاس على أساس المنفعة المجردة فتفقد الأشياء خصوصيتها وإنسانيتها, ويصبح الجنس مثلاً بضاعة ككل البضائع وممكن أن نرى من يمارسه كعمل حيادي, بل إن الغربيين صاروا يمارسون الجنس العَرضي الذي يُؤسس على شكل تعاقد, فهناك حاجة للذة بين اثنين مثلاً, لا يهمهما من بعضهما إلا الجسد, الذي يصبح مجرداً ومباحاً محيداً عن إنسانيته, أشبه بآلة لتحقيق اللذة بأقصى منفعة ممكنة, مما جعلنا نسمع عن أشكال وأفعال جنسية غريبة (المسلسلات والأفلام الغربية تعرض مثل هذه الممارسات, وإن كان بشكل صرنا نتلقاه كأنه أمر عادي ممكن حدوثه ببساطة. مثلاً مسلسل يحكي عن يوميات طبيب في مستشفى وصل إليه مريض مصاب بأزمة قلبية وهو مقيد بقيد كالذي يُقيد به المجرمون مع عشيقته المسحوبة معه لأنها عجزت عن فك القفل!. أتساءل ما هي المتعة في أن يقيد الطرفان نفسيهما هكذا؟!)

فالغاية هي اللذة بعيداً عن الخسارة, بغض النظر عن الجوانب الإنسانية الأخرى التي لها علاقة بالمحبة أو الإعجاب أو التراحم.

وعندنا في مجتمعاتنا التي دخلها كثير من هذه الأمور, صرنا نسمع مشايخ وفقهاء يفتون حول أشكال وممارسات (حلال) وكأنها مطلب حق وشرعي للزوج (غالباً) بعيداً عن الفطرة الإنسانية التي خلق الله الناس عليها والتي جعلت الجنس كواحد من الأفعال التي تزيد المودة والمحبة بين الزوجين وتهدف إلى استمرار الحياة وتكوين الأسر.

يقول المسيري إن المجتمع كلما زادت نسبة تعلمنه تزيد حاجة أفراده إلى الجنس, وترتفع فيه معدلات الإثارة وتظهر حالات وصور من الشذوذ الجنسي التي تهدف لتحقيق أقصى درجات اللذة المتخيلة. ذلك أن المجتمع المادي العلماني الشامل يهدف إلى تحقيق الاستهلاك واللذة كما قلنا, لذلك تصبح كل الأمور قابلة للتسليع, وبالتالي فإن درجة عرض الجنس والمثيرات ترتفع كثيراً لتسويق الجسد الباعث للذة من أجل استهلاكه.

والمتابع لما يُعرض في التلفزيون أو في وسائل الاتصالات الأخرى أو في الإعلانات التجارية يجد هذا الكم الهائل من المثيرات التي تُسوّق الجسد وتسلعه, وتوجه التفكير الإنساني نحو الاستهلاك الساعي وراء اللذة كهدف مترافق مع المنفعة (أكبر منفعة + أكبر لذة)

بين طلابي وطالباتي (وهم الفئة العمرية المراهقة التي تتعرض لمثيرات كثيرة في وقت النمو العاطفي غير الموجه وغير المنضبط وغير الخبير وغير المميز بين الصحيح والخاطئ) كان أكثر ما يشغلني في المدرسة هو تزايد اهتمام البنات والشباب على حد سواء بالجنس الفج الذي يُغلّف بغلاف الحب, (لكن المضحك أن الحبيب قابل للتغيير بصورة سريعة وعجيبة جداً مما يعني أن الهدف ليس الإشباع العاطفي بل الإشباع الجسدي).

طبعاً سيقول قائل إنه أمر طبيعي في هذه السن النامية, وهذا صحيح, ولكن ما أتحدث عنه ليس مجرد الاهتمام الطبيعي الذي اعتدنا عليه ولكنه الاهتمام المبالغ فيه والفج غالباً, والذي يبتعد كلياً عن الحب والاهتمام العذري الفطري الذي خلقه الله في الإنسان.

والسبب الأساسي برأيي هو هذا الكم الكبير من التأثيرات الوقحة القبيحة المادية واللاإنسانية التي يتعرض لها المراهق في مجتمعنا. هذه التأثيرات التي تعادي أول ما تعادي المجتمع نفسه, وهو المجتمع المحافظ الذي يرفض هذه العلاقات ويؤثمها إلا إذا كانت ضمن إطارها الشرعي المقبول اجتماعياً.

مرات كثيرة كنت أستغرب هذا الاهتمام الكبير جداً بالجنس الآخر من قبل البنات أو الشباب, لدرجة أن أموراً صغيرة كانت تُستغل لمجرد الفوز بنظرة (عندنا في المدرسة حائط فيه فتحة صغيرة لا تتجاوز مقعر الكف كانت البنات تتسابقن للنظر منها إلى باحة الذكور!)

وكنت أتساءل هل هناك إثارة في الأمر؟ هل هناك انعكاسات جسدية على البنات مثلاً؟ برأيي أنه لو كان هناك انعكاسات جسدية على مراهقة لم يسبق لها خوض التجربة الجنسية فإنها لن تكون أكثر من استنفار عاطفي لا تعرف البنت نفسها تفسيره, وبالتالي فهو يدفعها للقيام بتصرفات صبيانية توقعها في مشاكل كثيرة كلنا نعرفها.

الآن لو اتفقت مع المسيري رحمه الله في تحليلاته وهي معتبرة كما ترون, كيف يمكن لي كمربية أن أتعامل مع هذا؟ هل يمكن أن أمنع؟ أنصح؟ أسأل, أرشد؟.... ماذا يمكن أن أفعل, (سألتني مرة طالبة لا يتعدى عمرها ثلاثة عشر عاماً مستنكرة مني مطالبتها بعدم التفكير بالزواج وهي في هذه السن الصغيرة, وسبب تحدثي معها في هذا الموضوع هو أنها أحضرت كتباً عن الزواج والعلاقات الزوجية للمدرسة وبدأت بعرضها على زميلاتها, قالت لي لماذا تمنعونا من التجربة؟ أنتم ألم تكونوا مثلنا! قلت لها والله ما كنا مثلكم! ضحكت مدّرسة زميلة عندما أخبرتها بهذا, وقالت لي والله ما كنا مثلهم لقد تزوجت وأنا لا أعرف ماذا سيحصل بيني وبين زوجي!.

قد يتساءل أحدكم لماذا أشغل نفسي بأمر كهذا يوضح الاختلافات بين الأجيال ويعكس تطور المجتمع؟ وأجيب بأن انحصار تفكير الشباب الصاعد بالجسد فقط سوف يؤدي إلى قتل الإبداع الإنساني فيه, وسوف يصبح مجتمعنا مجتمعاً مادياً كل شيء فيه قابل للتسليع (كما وصف المسيري رحمه الله). ومن يستمع لحكايا جده وجدته وأمه وأبيه يلاحظ كيف أنهم يترحمون على أيام ماضية كانت تسود فيها علاقات إنسانية غابت في أيامنا هذه, ليس لأن تلك الأيام كانت أكثر بساطة كما يحلو للكثيرين تبرير ذلك, بل إن من عاش في تلك السنوات العجاف التي كان يسود فيها الفقر والجوع والقلة يعرف أن السبب ليس بساطة تلك الحياة وسهولتها, بل إن السبب هو سيادة علاقات إنسانية طبيعية غابت في أيامنا هذه بسبب معدل العلمنة الشاملة الذي يرتفع باستمرار يوماً بعد يوم منذراً بنزع القداسة عن كل شيء حولنا وإحالة الفرد والطبيعة إلى مجرد سلعة قابلة للعرض والاستهلاك!

 




 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !