مواضيع اليوم

مثقف الكرسي

نزار يوسف

2013-10-31 10:31:07

0

 

من كتابي ( هوية الفكر العربي المعاصر ) / فصل مثقف السلطة و مثقف الكرسي / ص 473 .

 

 

إن قضية و مفهوم مثقف السلطة و السلطان ، يقودان إلى مفهوم آخر متشابه ، و ذو جدلية فكرية قد أشكلت على معظم الدارسين و الباحثين ، و هو مفهوم ( مثقف الكرسي ) الذي مثل حالة معاصرة لم توجد قبل القرن الماضي ، كمفهوم واضح مستقل .

و تعريف مثقف الكرسي هو .. ذاك الشخص المتحصل على ثقافة معينة ، علمية أو فكرية ، و أُعطيَ بموجب ذلك ، منصباً ( و ليس موقعاً ) مختص بالفكر و الثقافة و العلم ، حكومياً عاماً كان ، أم رسمياً اجتماعياً ، أم علمياً و من وجوه ذلك .. وزير ثقافة - مدير مركز ثقافي - رئيس مجلس ثقافي - رئيس تحرير صحيفة ، حكومية أم خاصة - رئيس تحرير قسم من أقسام صحيفة أو قناة إعلامية - كاتب عمود مقالات ثابت - محكّم زمني ثابت لمسابقات فكرية - مسؤول فكري في دار نشر عامة أو خاصة ... الخ . و العكس غير صحيح ، أي ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء هم مثقفوا كرسي . و مثقف الكرسي هو المسؤول الأول و المدير المتحكم بمنصبه هذا الذي يعد بالنسبة إليه ، إقطاعية خاصة ، رأيه فيها هو المهيمن و كلمته هي السائدة . و مثقف الكرسي هذا ، يعتبر أن أية محاولة للاقتراب من منصبه هذا ، مهما كان نوعها ، مباشرة أم غير مباشرة ، هي خطر داهم بالنسبة إليه ، يجب التعامل معه على هذا الأساس ، كما أنه في غالب الأحيان يعتمد أسلوب الهجوم الوقائي للدفاع عن منصبه هذا ، فيقوم بقصف و تدمير و إقصاء ، مادي أم معنوي ، لأي مثقف آخر يتوسم فيه ملامح و صفات الذكاء و المعرفة و الخبرة و العلم ، بمجرد اقترابه منه ، فقط لمجرد الخوف من أن يحل محله ذات يوم .

و مثقف الكرسي هذا ، ليس بالضرورة أن يكون مثقف سلطة و سلطان ، أو تابع لهما بشكل من الأشكال ، لكنه يمكن أن يكون كذلك في الوقت نفسه ، فهو إذن .. شخص له أكثر من لون و وجه ، و أكثر من صورة و شكل .

مثقف الكرسي ، مقارنة مع مثقف السلطة ، هو أكثر سوءاً و أذىً ، و أحياناً أكثر إيراداً لحقائق واهية مغلوطة ، و ثقافة مشوهة ذات تبعية سياسية و دينية ضيقة و محدودة . كيف لا و هو في أقصى حالاته عبارة عن مجرد مثقف كرسي له منصب لكن لا موقع له في الحياة الفكرية و الثقافية . فهو مستعد لعمل أي شيء لأجل الكرسي ، و هو صورة سيئة من صور أولئك الشعراء المتحلقون كالذباب حول فتات مائدة السلطان في العصر العباسي ، أو كالسباع الضارية ، يهر بعضها على بعض و يكيد بعضها لبعض ، و ينقم بعضها من بعض لمجرد أن يقرب السلطان أو الأمير ، أحدهم ذراعاً و يبعد الآخر شبراً ، أو يعطي و يوصل أحدهم قنطاراً و يمنع الآخر مكيالاً .

مثقف الكرسي في عصرنا الحالي ، هو إنسان نصف مثقف ، و أحياناً نصف جاهل أو نصف متعلم ، لماذا ؟؟؟ لأنه سخّر حياته و ثقافته لأجل الكرسي الذي هو عليه ، فهو يطلب الكرسي لا العلم و المعرفة ، فيستخدم الأخيرين لأجل الأول . و هو مستعد لأن يفعل أي شيء ، و يزوّر أية حقيقة ، و يحوّر أية ثقافة و أي فكر ، فقط لأجل أن يرضي من وضعه على هذا الكرسي ، حتى يبقيه عليه لا يزيحه و لا يستبدله بمثقف آخر . و هو لا لون له و لا عقيدة إلا لون الكرسي الذي يجلس عليه . و إذا انتقل إلى كرسي آخر ، يغير من فوره ، لونه و فكره و عقيدته إلى لون الكرسي الجديد و عقيدة و اتجاه من طلبه إليه و وضعه عليه . و إذا التقى بمثقف آخر و أحس منه دراية و خبرة و ثقافة تضاهي ما هو عليه أو تزيد ، توجس منه ضراً و تأبط لأجله شراً ، معتبراً أنه قد ينافسه على الكرسي الذي هو متربع عليه . فيعمد على الفور إلى سد الطرق و المنافذ أمامه ، و يسعى جاهداً لإحباطه ، و أحياناً يفعل ذلك ، غيرة و حسداً ، فهو يعرف أن ثقافته ربما قد تكون محدودة ، و أنه في وجه من وجوهه ، إنسان شبه أمي ، عاجز عن تأليف كتاب واحد . فإذا كان عضواً أو رئيساً للجنة تحكيم ، أفشل كل متسابق يتوسم فيه الثقافة و الفكر و العلم ، و أحبطه . و إذا كان رئيساً لتحرير صحيفة أو موقع نشر ، أحبط كل كاتب مثقف صاحب مقال و موضوع نيّر جيد . و هكذا هلم جر .

فإذا كان لمثقف السلطة و السلطان ، ما يشفع عقائدياً له في فعله ، فإن مثقف الكرسي لا شفيع له في فعله . و إذا كان مثقف السلطة و السلطان ، يشار إليه بالبنان و يتعرض للنقد و الانتقاد ، فإن الآخر يختبئ في الظلام بمنأى عن أعين النقاد ، أو يتوارى خلف كذا قناع و قناع . كما أن مثقف الكرسي قد يكون في بعض الأحيان ، أشد خطراً و ضرراً من مثقف السلطة ، لأن أثره يكون مخفياً و غير ظاهر للعيان ، و دوره التخريبي قد لا يدرك من قبل الأفراد العاديين أو ذوو الثقافة و الوعي المتوسطين .

عود على بدء .. فإن كل من مثقف السلطة و السلطان ، و مثقف الكرسي ، هما بالمنطوق السلبي ، وجهان لعملة واحدة هي عملة التبعية و الاستبداد و تزييف الحقائق . فالأول يتبع السلطة الحاكمة ، و الثاني للسلطة الاعتبارية المؤسساتية صاحبة الكرسي الأساس و مالكته التي وضعته عليه ، و هي سلطة دينية أو مالية أو اجتماعية . و قد تكون هي نفسها ، السلطة السياسية . و تالياً .. هما مقيدان بما يملى عليهما من الأعلى ، كلٌ حسب مولاه و رئيسه . فتصبح و الحالة هذه ، الثقافة و الفكر غير معبّرين عن الواقع الحقيقي للدولة و المجتمع و إرهاصات الواقع السياسي و الاجتماعي و المالي المعيشي ، و حتى الأخلاقي ، بل حالة لما تريده السلطات المفرزة لهؤلاء ، بأنواعها كافة ، و أداة و أنموذج لقلب الحقائق و عكسها . فإذا كانت هذه السلطة تنتهج سياسة الاستبداد و القهر و الرأي الواحد ، أو سياسة مضللة مشبوهة ، أو موجهة لأهداف و مشاريع و مناهج معينة ، و لو بشكل غير مباشر ، فإن دور هؤلاء المثقفين الأتباع ، هو شرعنة ذلك كله ضمن قالب فكري متجانس ، و إطار ثقافي عام تخرج منه و تتحلق حوله الثقافات و المنظومات الفكرية الدائرة في فلكه أو المحتاجة إلى فضائه .

غالباً ما يتميز فكر مثقف السلطة بأنه فكر أحادي متموضع على حامل السلطة و صراطها ، و محشور بزاويتها فقط . و فضلاً عن ذلك ، يتهيأ لهذا النوع من المثقفين ، كل أشكال الدعم و المساندة و الحضور الإعلامي المميز ، و إسباغ نوع من الشهرة التي تتحول فيما بعد و مع مرور الزمن و تفاني المثقف في خدمة السلطة و السلطان إلى درجة الضبع الخالص ، تتحول إلى حالة كاريزمية تكون في معظم أحوالها ، حالة زائفة جوفاء لا تستند إلى أي أساس علمي عقلاني ، و يصبح هؤلاء هم أصحاب الحلقات الحوارية في القنوات الفضائية التلفزيونية ،  وهم المحاضرون في الندوات و المراكز الثقافية التابعة لسلطة الدولة ، و يتم تحويل هؤلاء إلى حالة فكرية متورمة منفوخة ، و يُطلق على الواحد منهم أسماء مثل .. الكاتب المحلل أو الباحث الاستراتيجي أو المفكر . و يُنسب له مواقع و مناصب وهمية لا تحتم المصداقية ، كأن يقال عنه .. رئيس المركز الاستراتيجي للأبحاث و الدراسات و العلوم الإستراتيجية ، أو مدير الشبكة الإستراتيجية الفكرية العالمية الكونية ، و ما إلى ذلك من أسماء و صفات و مواقع ، هي أشبه بما يسمى ( الشركات الوهمية ) . بينما في واقع الحال ، لا تجد لأحدهم و لو كتاب فكري واحد ، أو تبحث في سيرته الذاتية ، فلا تجد له تاريخاً و باعاً في الفكر أو الثقافة ، و كل ما لديه هو فكر سلطوي أحادي ، يمجد السلطة و السلطان ، عبر سنين طوال منذ بدء خدمته في سلك السلطة ، بطريقة ببغائية مكررة ، نمطها واحد لا يتغير .

إن كل ما سبق تناوله حول هذا النمط من المثقفين بصورته السلبية ، يعبر عن حالة فكرية شاذة مجتزئة من سياقها التاريخي و الزمني و الثقافي ، حيث تنتفي كل الحوامل و المساقط ، للمناهج الحقيقية الثقافية و الفكرية الأخرى في المجتمع و تندمل متقوقعة مغيَّبة ، متوارية عن الذهنية الفردية فيه ، بينما تتمدد قفيرة السلطة الفكرية و الثقافية في الواجهة الإعلامية و الفكرية للمجتمع ، مبتلعة كل ما عداها . و بالمقابل من هذا كله ، نجد التعتيم و الإقصاء على كل من هو ليس بمثقف سلطة و سلطان ، حتى و لو كان المثقف الحق الأصيل ، صاحب الثقافة و الفكر المعياريين ، و صاحب الكتب و المؤلفات ، فهو بالغالب الأعم محروم من الامتيازات و العطاءات و الدعم المادي و المعنوي ، مضروب عليه طوق تعتيمي لا يظهر بسببه في إعلام أو صحافة أو قنوات تلفزيونية أو برامج ثقافية أو ندوات حوارية ، و يكون في حالة إملاق و إفقار مادي ، يضطر خلاله أحياناً لمد اليد و الاستجداء للحصول على مسكن يؤويه أو دواء يشفيه أو حتى طعام يبقيه . و بالتالي تكون الساحة لمثقف السلطة و السلطان ، و مثقف الكرسي و الإيوان ، فهو الواجهة و هو الكل بالكل ، و هو صورة و هوية الفكر العربي المعاصر ، و بالأخص ، الإعلامي منه .

إن الخطورة في مثقف السلطة و أحياناً الكرسي ، هي أنه يصل في مرحلة من التماهي مع السلطة الحاكمة و العبودية لها ، إلى التشبع بمفرداتها الخطابية و صبغتها السياسية ، فيتقمص دورها في غالب الأحيان ، و يجعل من نفسه سلطة فكرية ثقافية على من هم حوله من مثقفين و أفراد مجتمع ، فيمارس عليهم سلطة أبوية استبدادية معنوية بشكل أو بآخر . و ما أكثر هؤلاء في يومنا الراهن و فكرنا المعاصر .

 

نزار يوسف

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !