هل يشيخ الإنسان ـ أى إنسان ـ لمجرد أنه يتقدم فى العمر؟! وهل إحساس أى بنى آدم بطعم الشيخوخة فى فمه، أو بملامحها على وجهه، متوقف على انتقاله من مرحلة فى حياته، إلى مرحلة أخرى، يكون قد بلغ فيها عدداً محدداً من السنين؟!
فؤاد سراج الدين، زعيم الوفد الراحل، مات فى الرابعة والتسعين، وكان إلى ما قبل رحيله بـ٤٨ ساعة، يملك عقلاً يقظاً إلى حد يدهشك، وكانت عنده أجندة لكل عام جديد فى عمره، وكان يسجل فيها بانتظام أدق الأشياء وأبسطها، وكان يكتب فيها، يومياً، ماذا أكل وماذا شرب، وماذا اشترى على مدار اليوم حتى ولو كان الذى اشتراه قيمته لا تزيد على جنيه واحد، وكان يجلس وينام فى غرفة واحدة واسعة، ويدير دنياه العامة والخاصة على اتساعها من تلك الغرفة التى لم يكن يغادرها إلا لطارئ،
وقد ذهبت إليه يوماً، أعرض عليه مقالاً عن الأستاذ هيكل، كان لابد أن يراه قبل نشره فى «الوفد»، بوصفه رئيس مجلس إدارتها، وأدهشنى أنه راح يقرأ المقال بعناية، كلمة كلمة، وبهدوء عجيب وصبر أعجب، وكأنه يقرأ للمرة الأولى، وكان وقتها فى الثانية والتسعين!.. وكان صوته فى التليفون صوت شاب فى الثلاثين، وكان إذا تهيأ وارتدى ثيابه متجهاً إلى مكتبه فى الحزب فإنه يبدو وكأنه عريس، بأناقته، وشياكته، ووقاره فى الوقت ذاته!
وكان الدكتور عبدالقادر حاتم، ولايزال يبدو فى كل مرة أصادفه فى حفل عام، أو أسمع صوته هاتفياً، وكأنه ـ أعطاه الله الصحة والعافية ـ لم يغادر الأربعين، حين كان وقتها فى تلك السن، يدرس الاقتصاد السياسى، ويحصل فيه على الماجستير، ثم الدكتوراة، ليظل رائداً فى الإعلام المصرى، ثم الإعلام العربى، على حد سواء، وقد جاء إلى الدنيا فى العام نفسه الذى ولد فيه عبدالناصر والسادات، بما يعنى أنه الآن فى الثانية والتسعين أطال الله عمره، ولايزال فى ذكرى أكتوبر، من كل عام، يعيد للمصريين شرح الطريقة التى استطاع بها فى أثناء الحرب عام ٧٣، باعتباره قائماً بأعمال رئيس الوزراء، نيابة عن السادات، أن يخدع إسرائيل، كما لم يخدعها أحد من قبل فى تاريخها، ولايزال يهتم بالشأن الدولى، كما يهتم بأى وردة فى حديقة بيته!
ومنذ شهر، كان القطب الإخوانى المستنير فريد عبدالخالق قد حصل على الدكتوراة، وهو فى الرابعة والتسعين، ولم تمنعه هذه السن المتقدمة من أن يعكف فى مكتبه، ويذاكر، كما يفعل أى طالب منتظم فى دراسته، حتى إذا أحس الرجل بأنه قد استعد جيداً، ذهب إلى الجامعة، واستقر فى مقعده بين يدى أعضاء اللجنة المشرفة على الرسالة، فأجازت حصوله على هذه الدرجة العلمية، فى وقت ليس بينه وبين المائة سنة إلا سنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة!
فما المعنى؟!.. المعنى أن الإنسان قد يولد شيخاً، ويظل كذلك فى طفولته، ثم صباه، وشبابه، وقد يكون قد تجاوز السبعين، أو الثمانين، أو حتى التسعين، ورغم ذلك يظل يحس بأنه يولد شاباً كل يوم من جديد!
أما الفيصل فى الموضوع، فهو «اهتمامك بالأشياء»، الذى إذا عاش معك، وظل يلازمك، فأنت شاب، وعندك أمل، ولو تجاوزت المائة، وإذا افتقدت «الاهتمام بالأشياء» تبدد أملك، وصرت شيخاً، ولو كنت فى العشرين!!
التعليقات (0)