متى وكيف أصبحت غزة مدينة فلسطينية؟
بدأ التاريخ اليهودي في غزة إبان الحكم اليهودي الحشموني على البلاد بعد الثورة اليهودية الحشمونية على الحكم اليوناني في القرن الثاني قبل الميلاد. واستمر الوجود اليهودي وقتها في غزة حتى تسنى للروم الاستيلاء على غزة وطرد اليهود سنة 61 قبل الميلاد. واعتبر الروم هذه السنة بداية لعدّ جديد للسنين معتبرين ذلك تقويما خاصا بمدينة غزة الرومانية.
وشهدت المدينة في فترة المشناة والتلمود، وبالتحديد في القرنين الثالث والرابع للميلاد، تغيرا جوهريا فيما يتعلق بالوجود اليهودي في المدينة، حيث نشأت بها جالية يهودية كبيرة، واكتسبت المدينة مجددا طابعا يهوديا، وظلت تظهر على أحد أعمدة الجامع الكبير في غزة نقوش باللغتين اليونانية والعبرية تحمل اسم حنانيا بن يعقوب، تعلوها صور للشمعدان، والشوفار، وحبة الأترج، وجميعها معالم يهودية بارزة، حتى قام بعض الغزيين بإزالة هذه النقوش بعد اندلاع الانتفاضة الاولى عام 1987. وكانت هذه النقوش قد اكتشفت خلال مسح أثري أجري عام 1870، ويعتقد ان كنيسا يهوديا قديما كان يقوم مكان المسجد.
وفي عام 324 للميلاد، حاول الامبراطور البيزنطي قسطنطين الملقب بالكبير، وهو القيصر الروماني الاول الذي يعتنق الديانة المسيحية، حاول إضفاء طابعا مسيحيا لمدينة غزة أسوة ببقية المدن الفلسطينية التي حاول البيزنطيون صبغها بالصبغة المسيحية، من خلال إقامة أكبر عدد ممكن من الكنائس المسيحية، الا ان خطته هذه باءت بالفشل بفضل وجود جالية يهودية كبيرة في مدينة غزة حالت دون إرساء قواعد الديانة المسيحية في المدينة. فلجأ قسطنطين الى إعادة بناء ما يسمى بغزة البحرية يبتغي من خلال فعله هذا خلق مدينة مسيحية جديدة خالية من اليهود، غير ان هذه المدينة سرعان ما تحولت هي الاخرى الى مدينة يهودية، ومرد ذلك الى اعتمادها على ميناءها التجاري، حيث لم يتمكن سكانها من تطوير هذا المرفق الا عن طريق الاستعانة بالخبرة اليهودية في هذا المضمار. فانتشر اليهود في غزة البحرية لتتحول هي الأخرى الى مدينة يهودية.
ومن بين المكتشفات الأثرية بالغة الأهمية في غزة البحرية كنيس يهودي تزينه أرضية من الفسيفساء الملون، وتعلو مدخل قاعته المركزية صورة للملك داوود يعزف على آلة وترية قديمة نقش فوقها وبالاحرف العبرية اسم داوود، وكتب الى جانبه "هذا ما تبرع به مناحيم ويشوع أبناء يشاي تجار الأخشاب لإعمار هذا المكان المقدس، تبرعنا بهذه الفسيفساء عام 569". ويقصدون التاريخ الذي أقرّه الرومان في غزة. وهذا يعني ان إعمار هذا الكنيس يعود الى أواخر العهد البيزنطي.
وفي أواخر العهد البيزنطي انتشرت القرى اليهودية الزراعية في نواحي غزة، وأقام موشيه العزّاتي أي الغزّي في المدينة مركزا لتحفيظ التوراة في القرن الثامن للميلاد، واشتهر من بين علماء غزة اليهود يشوعا نتان، وافرايم بن شماريا، وزارها الرحالة اليهودي عوفاديا البارتنوري في القرن الخامس عشر للميلاد وذكر انه وجد بها سبعين عائلة يهودية.
وفي القرن ذاته زارها رحاله يهودي آخر يدعى مشولام بن مناحيم الفولتوري وهو يهودي ايطالي، أقام في غزة خلال رحلة حج قام بها الى اسرائيل، وكتب في مذكراته "لقد حرّف العرب الاسم العبري عزة أي العزيزة وأصبحوا يسمونها غزة..تنعم عزة بتربة غنية وثمار جيدة وتنتشر بها البساتين.. يصنع اليهود خبزا ونبيذا ذو جودة عالية، واليهود هم الوحيدون الذين يصنعون النبيذ في البلدة دون غيرهم..تسكن في عزة اكثر من خمسين عائلة يهودية، غالبيتهم من الحرفيين، ومن بينهم الوجهاء والأعيان.. يوجد في البلدة كنيس يهودي جميل، ويمتلك اليهود كروما وبساتين.. لقد أكرموا وفادتي وأخص بالذكر الراب موشيه بن يهودا السفارادي والراب مئير السفارادي.. يقطن اليهود في أعالي البلدة حيث تقبع دار التوراه..".
ولا يزال سكان غزة حتى زمننا الحاضر يسمون الحي المرتفع في غزة "حارة اليهود".
وأما كنيسة الروم الكاثوليك التي تقوم اليوم على أحد مرتفعات المدينة في الحي اليهودي فقد بنيت على أنقاض كنيس يهودي قديم، وما تزال بادية للعيان بعض النقوش باللغة العبرية، وأبرزها عبارة بالعبرية تقول ".. يعقوب بن اليعيزر وأبناءه.. الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا المكان المقدس". وعلى عمود آخر كتب "أعانني الله على حج بيته في اورشليم".
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر شهدت الجالية اليهودية في غزة ازدهارا اقتصاديا وروحانيا ، وكانت في غزة محكمة يهودية شرعية ومدرسة دينية، وبرز من بين علماء اليهود الغزيين في تلك الحقبة يسرائيل نجارة مؤلف كتاب "التراتيل والترانيم الاسرائيلية"، ولا تزال ترنيمة "الله رب العالمين" التي وردت في كتابه هذا تقرأ حتى وقتنا الحاضر في جميع الطوائف اليهودية في ليلة السبت. توفي الراب يسرائيل عام 1625 ودفن في غزة، وخلفه في رئاسة المجمع الديني الأعلى ابنه موشيه نجارة.
وفي عام 1753 وصل الى غزة الرحالة اليهودي حاييم يوسيف دافيد أزولاي في طريقه من الخليل الى مصر، والذي ذكر انه شهد عيد البوريم اليهودي في غزة.
وأما حملة نابليون على فلسطين عام 1799 فقد جلبت معها نكبة ليهود غزة، وتم ترحيلهم الى خارج المدينة، ليتوجه معظمهم الى الخليل. ومع بداية حملة ابراهيم باشا على فلسطين وبلاد الشام أمر في عام 1835 بهدم الكنيس اليهودي القائم على أعلى التل في غزة واستخدام أعمدته لبناء قلعة في قرية المجدل، والمجدل هي قرية عربية قامت على أنقاض بلدة أشكلون اليهودية. وعندما علم المهجرون اليهود في الخليل بأمر هدم الكنيس أسرعوا الى غزة وحملوا ما تبقى من أبواب وزخارف وعادوا بها الى الخليل ليزينوا بها كنيس "سيدنا ابراهيم"، وثمة صور لهذه الزخارف الهندسية لا يزال يحتفظ بها اليهود من الفترة التي سبقت الأحداث الدموية التي تعرض لها يهود الخليل عام 1929، والتي قام في أعقابها السكان العرب باحراق الكنيس المذكور وأتت النيران على كل ما تبقى من زخارف وكتب مقدسة ذات قيمة دينية وحضارية عالية.
عام 1883 شهد عودة يهودية الى غزة، وكتب يحيئيل بريل محرر جريدة "لبنان" وهي أولى الصحف اليهودية التي صدرت في البلاد، وبعد زيارة أجراها في غزة، كتب انه خلال تجواله في شوارع غزة كان يشاهد "المزوزا" وهي من المعالم اليهودية البارزة، والتي لا يزال المرء يستطيع مشاهدتها على مداخل البيوت التي أصبح يسكنها غير اليهود.
وفي عام 1886 بلغ عدد العائلات اليهودية العائدة الى غزة ثلاثين عائلة، بالاضافة الى ثلاثة بيوت للعبادة "كنس"، وكانت هذه العائلات تستقبل الحجاج اليهود الذين يحلون ضيوفا عليها في طريقهم من مصر الى المدن اليهودية المقدسة أورشليم القدس والخليل وصفد وطبريا وغيرها.
ومع نشوب الحرب العالمية الاولى أقدم الأتراك على إخلاء غزة من سكانها ومن بينهم اليهود، ثم عاد اليهود الى غزة مع نهاية الحرب، الا أنهم تعرّضوا ثانية للتنكيل على يد السكان العرب مع اندلاع ما يسمى بثورة البراق عام 1929، ولم ينجُ يهود غزة الا بعد أن وُفرت لهم الحماية من قبل بعض العائلات العربية الوجيهه.
وبعد حرب عام 1967 عاد الوجود اليهودي الى غزة ضمن مجمّع سكني أطلق عليه اسم "غوش قطيف" أي "مجمّع الكروم"، الا ان الحكومة الاسرائيلية عادت وأخلت هذه المستوطنات عام 2005، ولا يزال هذا الوضع قائما حتى اليوم.
وخلاصة القول، ان الوجود العربي في غزة الذي بدأ في القرن السابع للميلاد مع انتشار الفتوحات الاسلامية، سبقه وجود يهودي بدأ في القرن الثاني قبل الميلاد، أي قبل حوالي 900 عام من الاستيطان العربي الأول في غزة ...
التعليقات (0)